Monday 10 November 2014

سادنُ الرَّمل .. قراءةٌ تُكَذّبُ نفسَها في ديوان (خالد بودريف)



   ماذا في الرَّمل ليُسدَن؟! هل من قداسةٍ ما؟ هل هي أبديّةُ وجودِهِ ولانهائيّةُ حباتِهِ المتناثرةِ في الصحراء؟ أم هو تفلُّتُهُ من يدِ من يحاول القبضَ عليهِ وحركتُهُ الدائبةُ وصيرورتُهُ المَهيبة؟
   لا يفجأنا (خالد بودريف) في مقدمة ديوانه حين يؤسسُ علاقتَهُ بأسلافهِ- كما هي عادةُ الشعراء - من سدنةِ الكلامِ بإيراد اقتباساتٍ من كلامهم .. يبدأ بمحمود درويش "إذا كان ماضيكَ تجربةً فاجعلِ الغدَ معنىً ورُؤيا" .. وهو الاقتباسُ الأكثرُ تفاؤلاً، حيث يتوسّطُ بشارل بودلير مترجَمًا "أحسُّ برعشةٍ عندما أسمعُ غصنًا واهنًا يسقُط"، ثم ينتهي بتوماس إليوت "الزمنُ الصحيحُ غائبٌ والمكانُ الصحيحُ غائب". كأنَّ رسالةَ (درويش) الساعيةَ لإثباتِ الوجودِ تفقدُ حُمولتَها من الثقة برعشةِ (بودلير) في سماعه سقوطَ الغصن الواهن، ليصل (بودريف) إلى قناعتِهِ اليائسةِ مع رسالة (إليوت)، حيثُ لا سبيلَ إلى إثباتِ وجودٍ حقيقيٍّ طالما أن الزمان الصحيحَ والمكانَ الصحيح غائبان .. لهذا، كان لابُدَّ أن تكون الرسالةُ في حالِها الأخيرةِ سِدانةَ الرَّمل، بما هي اعترافٌ بالضياع في خضم اللانهائيةِ وانجرافٌ حتميٌّ في تيارِ الصيرورة ..
   القسم الأولُ من الديوان (روحُ الصحراءِ) يشتمل على ثلاث قصائد (قافيةٌ لامرأةٍ لم تولد بعدُ) و (سادنُ الرمْلِ) و (بابٌ على الريح/أو: سريالية البُعد الرابع) .. هُنا الشاعرُ مُلقىً في صحرائه .. لا يحاورُها أبدًا وإنما يتحدثُ إلينا عن نفسِه الممزَّقةِ بين انتمائها الصحراويِّ ونزوعِها إلى عالَمِ ما وراءَ الصحراء .. ففي القصيدة الأولى احتياجٌ - لا يسأمُ الشاعرُ من تكرار الإفصاحِ عنهُ – إلى امرأةٍ مستحيلةٍ تستطيعُ انتزاعَهُ من جوف الصحراءِ "أحتاجُ لامرأةٍ بمنتصفِ الربيعِ، لنهرِ أحلامٍ يسيرُ معي على أوتارِ عُودِ الفجرِ ..." "أحتاجُ لامرأةٍ تضمُّ ضُلوعَ أتربةِ المكانِ لتُشرقَ الأشجارُ والأطيارُ والأنهارُ في كلِّ النساءِ العاشقاتْ" "أحتاجُ لامرأةٍ لِيَعبُرَ مَن معي نهرَ الحياةِ إلى حياةِ النهرِ ...." .. هي امرأةٌ خلاصٌ، ليس له وحدهُ وإنما للجميع، عيدٌ لأولِهِم وآخرِهِم .. وفي القصيدة الثانيةِ التي تحملُ عنوانَ الديوانِ مفتتحٌ عبقريٌّ "تؤكدُ الأرضُ لي أنّي هُنا وَحدي .. وأنَّ مَن هم معي لم يعرفوا قصدي" .. فهو ثانيةً يذكرُ قبيلاً مجهولاً بقوله (مَن مَعي)، وهو يبحثُ لهم عن خلاصٍ في القصيدةِ الأولى، ويبيّن لنا في الثانيةِ نبوَّتَه فيهم التي جحدوها ولم يفهموها .. يفتؤُ يحدثُنا عن نفسِهِ وتاريخِها في الأبياتِ التالية حتى نكاد ننسى ذِكرَ الرملِ والصحراء "أنا الغريبُ وسِرُّ الوقتِ في بدني – وكنتُ أصغرَ طيرٍ في مهبِّ يدِ الريحِ التي علَّقَت صقرًا على غِمدي – مدحتُ طفلاً صغيرًا كان يسكنُني – وكنتُ أحملُ بالُونَ الطفولةِ في .. يدي وكانت دروبُ الشوكِ كالوردِ – وكنتُ أصغرَ طفلٍ.....إلى آخره".. ثم يستيقظُ من سكرتِهِ بنفسه في قوله "الآنَ ما كبُرَت في الرملِ قافيتي .. إلاّ لِتُسبَى جهاتُ الرملِ بالأيدي" .. فهو يعيدُ نَسْبَ نفسه إلى الرملِ، بل وينسبُ إليه شِعرَهُ الذي لم يكن إلا طريقًا ليعرفَ الآخرونَ ما الرملُ ويقبضوا عليه بأيديهم مثلَهُ ويذوقوا مرارةَ تفلُّتِه .. يحاول الشاعرُ قربَ نهايةِ القصيدةِ أن يُوجِدَ مبررًا لذويهِ ليقرأوا ما كتبَ فيقول "لتنهضَ الأمةُ الثكلَى بلا كسلٍ .. لابُدَّ أن تقرأ الأجيالُ ما عِندي – هنا أنا سادنُ الرملِ الذي لعبَت .. به مفاتيحُهُ في الريحِ بالبُعدِ – لمن سأتركُ صحراءً تخرّبُها .. معاولُ المدنِ الخرساءِ كالنهدِ؟!" .. وكأنَّ مفردةَ الصحراءِ في هذه الأبياتِ تخلّت عن دلالتِها الميتافيزيقية بما هي وطنُ الصيرورةِ واللانهائية، لتعودَ إلى دلالتها المباشرةِ في الأطالس الجغرافيةِ علَمًا على ذلك الجزء المترامي الأطرافِ من العالَم العربيّ! ويختتم الشاعر قصيدته بقوله "كرامةُ النفسِ أن أحيا بها معَ مَن .. لا يلعبونَ مع الأوطانِ بالنردِ" .. ألاحِظُ هنا انتقالاً عنيفًا من الصور معقدَة التركيبِ التي يزخر بها النصُّ في بدايته ووسطه - والتي يجنحُ إليها الشاعرُ ليُلقيَ في رُوعِ متلقيهِ إجلالَ المعاني الثواني والظلال الميتافيزيقية لكلامه – إلى لغةٍ بسيطةٍ وصورٍ مستعادةٍ من التراث الشعريّ الكلاسيكيّ الجديد ليربط الجمهور بقصيدته ..
   في القسم الثاني من الديوان (معابرُ على جسرٍ من ورق) والمشتمل على ثلاث قصائد أيضًا (كلُّ شيءٍ ليس لي – أسطورةُ المدينة المغلَقَة – صفحتان على ضفة الصمت) يتخفف الشاعرُ من الحديثِ المُسهبِ عن نفسه الملقاة في الصحراءِ وعن ضميرِ (أنا)، لتأخُذَ الأفعالُ زمامَ الحديثِ فيقول في القصيدة الأولى "حين أصنعُ من جدولٍ ينحني بي على السفحِ حَبلاً – حين أشهدُ مَوتيَ قبلَ غنائي على قبركِ الورقيِّ – حين أمشي على الماء" .. إلى آخر المقاطع .. هي محاولةٌ تبدو حقيقيةً للخروج من الصحراء، لكنَّها محكومةٌ بخيبةِ المسعى التي يجسّدُها الختامُ الرائعُ لقصيدته الثانية (أسطورة المدينة المغلقة) حيث يقول: "إنَّ القصيدةَ تُثمِرُ .. لكنَّ أشكالَ الثمارِ غريبةٌ سوداءْ .. كالفحمِ عادتُهُ متى أشعلتَ جمرتَهُ رمى – بعد انطفاءٍ – فوقَ ماءٍ جُثّةً لا تُزهِرُ" .. وهو ما يتجاوبُ ومفتتحَ القصيدةِ ذاتِها حيث يقول: "لا شيءَ ينتظرُ الغريبَ هُنا، فما هذي المدينةُ في ملابسِها الغريبةِ بين أحبابي سوى أسطورةٍ ملأت بأرصفةِ التشرُّدِ من مقاماتِ التسكُّعِ في حدائقِها اليتيمةِ كوكبًا بالدمعِ والأغلالْ" .. فهو يصادرُ على مطلوبٍ تحاول القصيدةُ إثباتَهُ وتنجَحُ، وهو أنّ المدينةَ التي يحاول مدَّ معابره إليها على الورقِ مغلقةٌ في وجهه لا أمل يُرجَى من ورائها ..
   في القسم الثالث والأخير من الديوان (كتابُ العَراء) ينطقُ الشاعرُ متصالحًا مع صحرائه حتى أنه يتوجهُ بالحديثِ إلى ناسٍ يبدو أنهم هم عينُ مَن قَصَدَهم في القصائدِ الأولى بإشارته (مَن معي)، فيقول في قصيدة (أيُّها الراقدون/ دعوةٌ إلى بناء صروحٍ ممردةٍ بالحكمة): "أيها الراقدون على وطنٍ نائمٍ بين أحضانِ وحشِ لُوِيتانَ – أيها الراقدونْ .. مالكم بين أحلامكم بين أرصفةِ اليأس والمُبتغَى، بين أضرحةِ الموتِ والمُشتَكَى تركُضُون؟ - .... إلخ"، وهو يحتفي بالهمّ العربيّ كما ينبغي لشاعرٍ عُروبيٍّ أن يفعل فيقول:"ليس لي بينكم في الممالكِ عرشٌ لأحكُمَ كيفَ أريدُ .. وكيفَ تريدونَ فالحاكمُ العربيُّ شريدٌ طريدُ" ويقول: "لم تميطوا الأذى عن نساءِ القبيلةِ، عن نهرِكم في الحياةِ" ..
ويُهيبُ بهِم أن يقرأوا ما لديهِم وهو ربما يكون عين ما عنده حين قال في (سادن الرمل): "لابد للأمّة الثكلى ... إلخ) فيقولُ هنا: "ما مررتُم على مدُنِ السهرَورديِّ حيثُ هياكلُ نورٍ تضيءُ الطريقَ لأرواحِكُمْ" ويقول: "ما قرأتُم كتابَ الطواسينِ في بيتِ حلاّجِكُمْ" ويقولُ في القصيدة التالية (سفيرُ الضوء): "اقرأ كتابَكَ مرّةً لتعيرَهُ .. قلبي مضيءٌ لو قرأتَ سُطورَهُ – اقرأ كتابَكَ لا هوامشَ بيننا .. واكتُب لكلِّ القارئين سُرورَهُ – اقرأ متى شئتَ الكتابَ سُويعةً .. إنَّ الكتابَ يَخُطُّ فيكَ مصيرَهُ" .. هي حالةٌ من العودة إلى الصحراءِ/ العَراء بالرُّوحِ واكتشافِ جذور الذات الشاعرةِ الضاربةِ فيها، لكنّها أقربُ إلى الصحراءِ الجغرافيةِ مِن الصحراء الميتافيزيقية التي تحدّثنا عنها أوّلاً، حيثُ لا يسعُنا هنا إلاّ أن نترك إحدى الصحراوين في الظلّ ونُبرزَ الأخرى إلى النور .. ويبدو أنَّ الأمرَ من البدايةِ يتعلّقُ بتلكَ الصحراءِ الجغرافيةِ، وأنّنا قد بنَينا افتراضَنا على وهمٍ تصورناهُ من اقتباساتِ الشاعر في مفتتحِ ديوانِه!
   يؤيدُ هذه النتيجةَ مجيءُ القصيدة الختامية (بقايا البيت القديم) على هذا النحو من الحمولة العاطفية الطافحةِ من الحنينِ إلى المجدِ الذي كانَ، حيث يبدأُها: "مررتُ على البيتِ بيتِ أبي حيثُ كان يقيمُ لأزيَدَ من خمسةٍ وثلاثين عامًا" ويُنهيها: "أصارحُ نفسي وقد غابَ عنّي أبي .. لماذا البناءُ يُصِرُّ على العيشِ في زمنٍ قَصُرَت فيهِ أرواحُنا عن شموخِ المنازلِ رغمَ الوداعِ الأخير؟!" .. هو ديوانٌ دائريُّ البِنيةِ من التمرد على الانتماء لصحراء العروبةِ ومدّ الجسور إلى ما سواها ثم التصالح مع ذلك الانتماء والإغراق في إثبات تجذُّرِهِ في نفس الشاعر. 

محمد سالم عبادة

17/9/2014

No comments:

Post a Comment