Tuesday, 26 August 2025

في مئوية ميلادِه: وجدانُ (محمد الموجي) الديني في لحنَين


     

 في الرابع من آذار/ مارس 2023 حلّت الذكرى المئوية لميلاد الموسيقيّ المجدِّد المرحوم محمد الموجي. وممّا يَبعث على

 الأسف أن يُحتفلَ بذكرى الركن الظاهر من أركان العمل الفنّي دون الأركان الباطنةِ الآصَل في إنتاج ذلك العمل. هكذا يأخذ الممثّلون نصيبَ الأسَد من الاحتفاء الشعبيّ والرسميّ في حياتِهم وبعدَ مماتِهم، بوَصفِهم الركن الظاهر في العمل الدرامي، وكذلك المُطربون بوَصفهم الأظهَر في الأغنية. ويتوارى الشعراء الغنائيّون والملحّنون كما يتوارى الكُتّاب والمُخرجون. وقد مثَّلَ محمد الموجي مع كمال الطويل وبليغ حمدي ثلاثيًّا وضع لمساتٍ جديدةً في صرح الأغنية المصرية والعربية، وسواءٌ آتّفقنا مع مشاربهم التلحينية أم اختلفنا، وسواءٌ أراقَتنا أم لم تَرُقنا، فإنّ بصماتِهم تبقى واضحةً ومهمّةً، ومنجزَهم يبقى جديرًا بالقراءة والالتفات إليه.

     وصحيحٌ أنّ إنجازَ الموجي الأشهر كان ما لحّنه من أغانٍ طويلةٍ لأمّ كلثوم ("للصبر حدود" مثلًا)، وقصائد لعبد الحليم حافظ، لاسيّما قصيدتَي نزار قبّاني "رسالة من تحت الماء" و"قارئة الفنجان" الجديرتَين بدراسةٍ مستفيضةٍ لنَهج الموجي التلحينيّ فيهما، لكنّ الأغنية الدينية تحملُ من رُوح الفنّان نفَسًا يصعبُ أن نلمسَه بكامل تجسُّدِه في غيرِها من الأنواع الغنائية. ولذا سنتناول نموذجَين منها في هذا المقال الاستعاديّ القصير.

* أوقدوا الشموس:

https://www.youtube.com/watch?v=ZnSu0JSCkOI

     لحّنَ الموجي هذه القصيدةَ من شِعر طاهر أبو فاشا للسيدة أم كلثوم لتشدو بها في مسلسل إذاعي عن رابعة العدوية عام 1954، ثمّ تحوّل المسلسل إلى الفِلم الشهير الذي أخرجَه نيازي مصطفى عام 1963. وضع أبو فاشا الكلمات في أشطر قصيرة في وزن "فاعلُن فَعُولْ"، وهو اختيارٌ عَروضيٌّ يدفعُ المتلقّي إلى تأمُّل ما تكتنزُه الجُمَلُ القصيرةُ من معانٍ كبيرة. يبدأ اللحن بمقدمةٍ في مقام الحجاز على درجة دو، تؤديها الجوقة النسائية بآهات على خلفية الوتريات، ويساندها الناي. وهي مقسّمة إلى أشطر قصيرة يبدأ كلٌّ منها من النغمة التي انتهت بها سابقتُها، صاعدةً المقام من قراره إلى جوابه. ويتضافر هذا التصرُّف اللحني مع مقام المقدمة الممسوس بالحُزن الرصين في الإيحاء برحلة مجاهدة النفس التي خاضتها شهيدةُ العشق الإلهي ومراحلِها المتعاقبة إلى أن فاضَت رُوحُها إلى بارئها. ثم ما تلبث الآهات أن تتبدّل وتتجسّد في كلماتٍ "أوقدوا الشُّموسْ/ انقُروا الدُّفوفْ/ موكِبُ العَروسْ/ في السَّما يَطوفْ". ثمّ يكونُ جسرٌ قصيرٌ في مقام الراست على درجة (فا) تعزفه الكمنجات، لتتسلّم أمّ كلثومٍ عائدةً باللحن إلى مقامه الأصلي (الحجاز) وهي تشدو بـ"الرضا والنُّور/ والصَّبايا الحُور/ والهوى يَدور/ آنَ للغريبْ/ أن يَرى حِماهْ/ يومُه القريبْ/ شاطئٌ الحياةْ" ليستقرّ مع صوتِها القويّ الواثقِ المُعجِز جوُّ التأمّل الرصين الممسوس بالحُزن، ثم تتحول إلى فرحة مقام الراست التي هيَّأَنا لها ذلك الجسر القصير الذي تسلَّمَت به اللحنَ من الجوقة، وذلك حين تبدأ في "والمُنى قُطوفْ/ في السما تَطوفْ/ انقُروا الدُّفوفْ" على خلفية الكمنجات والكونتراباص، مع مسانداتِ الناي المتّقِدة، فتُخرجُنا بذلك إلى فرحة العُرس السماويّ بصعود رُوح العارفةِ بالله. تتكرر المقدمة بالآهات من الجوقة، ثمّ يتكرر الجسر القصير في مقام الراست، قبل أن تتسلّم أم كلثوم قائلةً "يا حبيبَ الرُّوح/ تائهٌ مجروحْ/ كلُّهُ جُروحْ" في مقام الحجاز، حيث تصعد في الشطرَين الأوَّلَين من "فا" إلى "سي بيمول" لتهبط في الشطر الثالث "كلُّه جروح" من "دو الجواب" إلى "فا" هبوطًا موحيًا بما في جروح رحلة الدنيا من تعبٍ ووهَن. ثم تتحول إلى الراست على درجة "فا" مجدَّدًا مع "لائذٌ بالباب/ شوقُه دَعاهْ/ والرِّضا رِحابْ/ يَشملُ العُفاةْ" لتُخرجَنا ثانيةً من تعب الرحلة الدنيوية إلى فرَح العودة إلى الله وقَبول الله للّائذِ ببابِه وعفوِه عنه. أمّا الغصن الأخير من الأغنية "طافَ بالسلام/ طائفُ السلام/ يوقِظُ النِّيامْ/ عهدُه الوثيقْ/ شاطئُ النجاةْ/ أولُ الطريقْ/ هو مُنتهاهْ" فقد وضعَه الموجي بالكامل في مقام الراست مكرّسًا ذلك الفرحَ الكامنَ في خلوة الصوفيِّ بربِّه، وهو فرحٌ يجعل الدموعَ تَطفرُ شوقًا إلى التحرُّر الكاملِ من الجسد والعودة إلى الله الذي هو أولُ الطريقِ ومُنتهاه، ويقوّي الموجي هذا الأثرَ المُبكي فرَحًا بركوز الفواصل الآليّة بين أشطُر "عهدُه الوثيق/ شاطئ النجاة/ أولُ الطريق/ هو منتهاه" على درجة "لا نصف بيمول" كما لو كان المقامُ هو "هُزام على درجة لا نصف بيمول" رغم أنه لا يَخرج إلى هذا المقام حقًّا، والهُزامُ مقامٌ مُبكٍ بطبعِه. ثم يتكرر المذهب أخيرًا "والمنى قطوف" والمقدمةُ بالآهات تنشِدُها أمُّ كلثومٍ والجوقةُ معًا، ليكون أولُ الطريق هو منتهاه على الأصعِدةِ كافّة.

     والخلاصةُ أنّ اللحنَ يَنطق بحساسية الموجي المُفرِطة للكلمة، ورهافة شعوره بالمعاني الدينية، فضلًا عن صنعتِه اللحنية المتفردة.

* يا خالق الزهرة:

https://www.youtube.com/watch?v=iRX1ZpznYCw

     هي أغنية ضمن مجموعة مناجَياتٍ شدا بها عبد الحليم حافظ من كلمات عبد الفتاح مصطفى ولحن الموجي وتوزيعه عام 1968، تبدأ جميعًا بالمقدمة نفسِها في مقام الهُزام يعزفُها الكونتراباص منفردًا، بطريقة متقطّعة بالطبع Staccato مع مصاحبة إيقاعية، ما يعطينا شعورًا بأنّ المناجاةَ خارجةٌ من قلبٍ نابضٍ، كما نتصوّر حُزنَ المقام حزنًا على كلّ غفلةٍ عن آيات الله التي تتغنّى بها هذه المناجَيات. وفي هذه الأغنية بالذات ينتقل اللحن بغتةً من المقدمة الجامعة للمجموعة إلى المقدمة القصيرة الخاصة للأغنية، يعزفُها الناي في مقام عجَم عُشَيران، أي أنه سلّم كبير مرتكز على درجة "سي بيمول"، وسريعًا ما يتسلّم منها حليمٌ الغناء مكررًا لفظ الجلالة بين نغمتَي "لا" و"مي بيمول"، وهكذا يهيمِن جوُّ الفرَح من البداية الخاصة للأغنية، وهو فرَح قلب المؤمن الناظر في آيات الله دِقِّها وجِلِّها، ثمّ ينطلِق حليمٌ في خطَّين متوازيَين حسبَما أرادَ توزيعُ الموجي، حيث يُنشِد في السلّم نفسِه في منطقتَي قرارٍ وجوابٍ "يا خالق الزهرة في حضن الجبل من فوق/ لونها ومنظرها آية للجَمال والذوق" تلك الكلمات التي صاغَها الشاعرُ في البحر البسيط "مُستَفعِلُنْ فاعِلُنْ مستفعلُنْ فعِلُنْ" المتجذّر في الوعي الإيقاعي العربي. ونحن نعرف أنّ صوت حليمٍ أقربُ إلى المنطقة المنخفضة الغليظة، أي أنه بتصنيف الأصوات الغربيّ أقربُ إلى الباص Bass، فيما يؤدّي هنا الخطّ العاليَ أو الجَواب بمهارة. والمهمّ أنّ هذا التوازي الذي قرره الموجي يُشعرُنا بأنّ هذا الذي يُناجي اللهَ مأخوذٌ بما يرى من آياته لدرجة أنّ لسانَه يسبقُه وينطلِق مناديًا ربَّه فيما قلبُه منشغلٌ بالمناجاةِ سِرّا. وفي المقام نفسِه يمضي حليم منشدًا: "تطلع وتدبل على دمع الأمل والشوق"، ثم يتحول إلى مقام الصَّبا على درجة ري مع جملة "لا يدرى بيها ولا يعلمها غير الله" إلى قولِه "سبحانك يا ربّ سبحانك" في جوٍّ من اللوعة يكرسُه هذا المَقام، كأنها لوعةٌ على وحدة المخلوق بين الموجودات، فهو في النهاية كمٌّ مهمَلٌ مهما بدا جميلًا، إلا في عين اللهِ خالقِه اللطيف الخبير الذي أذِن له بالوجود فوُجِد ثمّ أذِن له بالموت فمات.    

      والشاهد هنا أنّ حساسية الموجي تتجلى في اختياره التوزيعيّ المتمثل في الخطّين الأدائيين المتزامنَين لصوت حليم، وهو اختيارٌ لم يجئ عبثًا وإنما أدى وظيفةً تعبيريةً ربما لا نَعيها في التلقّي الأوّل وعيًا كاملًا، إلا أنها تجِد طريقَها إلى وجداننا في يُسر. هذا فضلًا عن النقلات المَقاميّة المحسوبة التي تَخلُق الكلماتِ خَلقًا آخَر، وتجسِّمُها تجسيمًا أكادُ أُراهن على أنّ شاعرَنا عبد الفتاح مصطفى قد عجِبَ له حين استمعَ إلى اللحن.

     رحم الله أولئك الذين اشتركوا في صُنع هاتين التحفتين الموسيقيتين الخالدتَين، ورحمَ أستاذنا الموجي الذي مازالَ فنُّه باعثًا على التأمل والتفكير ومُثريًا للوجدان.

نُشِر في موقع (عربي 21) في مارس 2023

محمد سالم عبادة

الأحد 13 شعبان 1444ه – 5 آذار/ مارس 2023 

في ذكرى وفاتِه 12 سبتمبر 1993: مِن ألحان (بليغ) الإسلامية للنقشبندي

 


     لا يرتبط اسم (بليغ حمدي) في وجداننا بتلحين القصيدة الفصيحة، كما لا يقفز إلى أذهاننا بداهةً حين نستحضِر الأغنية الدينية المصرية. إلاّ أنّ غرامه بالتجريب ورهافة إحساسِه النغميّ، إضافةً إلى ما يُشاعُ عن رغبة الرئيس الراحل أنور السادات في أن يتعاونَ لحنُ (بليغ) مع صوت النقشبندي، أدّت هذه الأمور إلى خروج باقةٍ من أكثر الأغاني الإسلامية فَرادةً في تاريخ الأغنية الدينية المصرية.

·        مولايَ إنّي ببابِك:    

https://www.youtube.com/watch?v=3X-V8y3aRHg

     في البدء تنقر الدفوف والرّقّ إيقاع المصمودي الكبير الرصين، ثم تدخل الجوقة مع الوتريات والناي في مقام البياتي على درجة (لا) حيث يُترَك غناء المَذهب للجوقة بطُول الأغنية، ويقسّمُه (بليغ) تقسيمًا دراميًّا واضحًا، فالمفتَتح "مولايَ إني ببابكَ قد بسطتُ يَدي" يُراوِح حول جذع المَقام - بين درجَتَي (صول) و(مي) – ليقفِز إلى الفرع في أعلى المقام مع سؤال الحيرة "مَن لي ألوذُ به" بين درجتَي (صول) الجَواب و(ري)، ليعود مطمئنًّا إلى الجذع وإلى درجة الركوز (لا) مع انتهاء الحيرةِ وتقرير ألاّ ملجأَ إلاّ الله "إلاّكَ يا سنَدي".

     على هذا المِنوال نسجَ (بليغ) ألحانَه الخمسةَ عشرَ للشيخ النقشبنديّ. لا يمكننا أن نصِف أيًّا من هذه الألحان بالصعوبة. إنها موغِلةٌ في البساطة، لكنها بالغة الجَمال. الأغاني قصيرةٌ إجمالاً، ولا نلمح فيها أثرًا لنقلاتٍ مقاميّةٍ، ولا لأي شكلٍ من ِأشكال الهندسة التوافُقيّة (الهارمونية) أو الطِّباق (الكونترابنط) إلاّ أقلَّ القليل، لكنّها حلوةٌ إلى درجةٍ عبقرية.

     لا أتخيّل أنّ الكثير يمكن أن يُقال عن صوت النقشبندي القدير. كان في حنجرته صندوقٌ مُصَوِّتٌ مضبوطٌ ضبطًا ربَّانيّا. ربما ليس في طلاوة صوت الشيخ (نصر الدِّين طوبار) – وهو قمّةٌ أخرى من قمم الإنشاد والابتهالات المصرية – إلاّ أنه متّصِلٌ اتّصالاً وثيقًا بوِجدان المصريين الدّينيّ، بفخامتِه ومَداه العريضِ المتجاوِب مع ما دأب المصريون على الشعور به من هيبةٍ أمامَ مخاطبَة الله. ولعلّ أقربَ مُعادِلٍ له في وعيي الشخصيِّ هو صوتُ المرحوم الشيخ (إبراهيم جلهوم) حين كان يخطبُ الجمعةَ في مسجد السيدة زينب بالقاهرة، باعثًا الهيبة والتوقيرَ في صدور مستمِعِيه.  

     وقد تميَّزَ أداء النقشبنديّ بتَسَرُّبِ قواعد تجويد القرآن إليه بدرجةٍ كبيرةٍ، فنلاحظ حين يقول "ومَن يَعُذ بِكَ لن يَشقَى إلى الأَبَد" أنه يُدغِم نون (لن) في ياء (يَشقَى) كما تقضي بذلك قاعدةُ التجويد، لكنه لا يفعلُ مثل ذلك في "ومَن يَعُذْ"، ولا يُدغِمُ كذلك نون تنوينِ من (عائِذٌ) في واو (وَجِلٌ) في الشطر السابق "بِنُور وجهِكَ إنّي عائذٌ وَجِلٌ".

     كما نلاحظُ أنه يتعاملُ مع المُدود بحرّيةٍ في إضفاء العُرَب، فيراوح حول النغمات الأساسيّة وهو يهبِطُ درجات مقام البياتي، كما يتّضِحُ في الأداء الأول لمَدّ الألِف في كلمة (رِضاك) من شطر "تحلو مرارةُ عيشٍ في رضاكَ..."، لكنّه لا يلجأ أبدًا إلى ترعيد المُدود – بمعنى تغيير طبقة الصوت عُلُوًّا وانخفاضًا كما يفعلُ مُطربو الأوپرا فيما يُسمَّى عندهم بأثر الترعيد tremolo – وهو الأثرُ الذي يحذّرُ منه العلماءُ بتجويد القرآن. ونلاحظ هذا التصرُّف الأدائي في الأداء الثاني الصاعد لكلمة (رضاك).

     بيد أنّ هنا نقلةً مقاميّةً في أداء "مَن لي سِواكَ ومَن سِواكَ " حيث ننتقل إلى العجَم الفرِح، ليعلِن (بليغٌ) بذلك عن الفرَح بحضور الوحدانيّة وانتفاء الملجأ إلا عن الله، عائدًا إلى دفء البياتي مع "كلُّ الخلائقِ ظِلٌّ في يَدِ الصَّمَد". أما النقلة المقامية الثانية فهي مجرد انتقالٍ من البياتي إلى فرعٍ له هو مقام الشُّورِي مع أداء لفظ الجلالة في قولِه "هل يرحَمُ العبدَ بعدَ اللهِ مِن أحدِ؟" حيث يلجأ إلى هبوط سُلّم جنس الحجاز، موحيًا بالإشفاقِ من حالِ مَن ييأسُ من رحمةِ الله. وفي هاتين النقلَتين القصيرَتين يتضافرُ إحساسُ (بليغ) المُرهَفُ بمقتضى الكلام مع أداء النقشبنديّ الفخم القدير ليحفِرا معًا في وِجداننا معنى هذا الاستفهام الإنكاريّ.

     إلا أنّ ملمحًا مهمًّا في أداء الجوقة هو تخلّيها عن مقتضيات النُّطق الفصيح، فهم ينطقون الذالَ في (ألوذُ) زايًا، ويقعون في أخطاء من هذا النوع في كثيرٍ من الأغاني.

 

·        (عليك سلامُ الله):

https://www.youtube.com/watch?v=Hn09Zby2wyQ

      نسمع صوت الجيتار في المقدمة الآلية، ولعلّ هذا الظهور يلخّص عظمة الخطوة التي خَطاها (بليغٌ) بالإنشاد الإسلاميّ، حيث جنّد آلةً ارتبطَت في الوعي العامّ بالأغنية الغربية الحديثة في خلفيّة مُنشِدٍ يخاطبُ النبيّ صلى الله عليه وسلَّم. هو إقدامٌ يذكّرُنا تجنيد المرحوم د. جمال سلامة للپيانو في أغانيه الإسلامية، فضلاً عن استعانته فيها بإمكانات التأليف التوافُقي (الهارموني) والطِّباقي (الكننترابُنطي). تنساب الموسيقى في مقام الحِجازكار على درجة (ري).

     بخلاف (مولايَ إني ببابك) التي صاغَها الشاعر عبد الفتاح مصطفى في البحر البسيط وظهر فيها خطأٌ عَروضيٌّ غريبٌ في شَطرها الافتتاحيّ، فقد كان الأصوب إيقاعيًّا أن يُقالَ "مولايَ إني ببابِكُمْ بَسَطتُ يَدِي" مثَلاً، صاغَ شاعرُنا الكبيرُ هذه القصيدةَ في البحر الطويل "عليكَ سلامُ اللهِ يا خيرَ مَن دَعا/ وأصدقَ مَن لَبَّى وأخَلَصَ مَن سَعَى". وقد قدَّرَ (بليغٌ) أنّ أثرَ اللحن المسكونِ بالشَّوق - نتيجة اختيار المقام الذي جذعه وفرعه جنس الحجاز – سيكون أبلغَ إن أنطَقَ الجوقةَ بلفظ الجلالة وحدَه مرَّتين قبل أن تؤدّي عبارة (سلامُ الله) قافزةً من (صول) إلى (سي بيمول) ثم هابطةً (لا – صول- فا دييز – مي بيمول – ري) لتستقرّ على ركوز المقام.

     وبعد أن يُنشِد الشيخُ "وأعدَلَ مَن ساسَ الحياةَ على الهُدى/ وأحزم من راضَ الخُطوبَ وأشجعَا./ سلاماً رسول الله ما هبَّ مسلمٌ/ وكبَّرَ باسمِ اللهِ جهرًا وأَسمَعا."، يتحول المقام في الفاصل مع عزف الناي منفرِدًا إلى الراست على درجة (صُول).

     والغريبُ أنّ الشيخ يُسقِطُ واو العطف من بداية البيت الثاني "وهبَّ رجالٌ للصلاة ونسوةٌ/ صُفوفًا وُقوفًا في حِمَى اللهِ خُشَّعَا/ إلى قِبلةِ البَيت العتيقِ عيونُهم/ إذا رُتِّلَ القُرآنُ تَنهَلُّ أَدمُعَا."، وهو ما يَشي بأنّ الخطأ العروضيّ الشهير في "مولاي إني ببابكَ" ربّما كان من تدخُّل (بليغ) لا أصليًّا فيما كتبَه الشاعر.

     يعودُ المقامُ بعد قوله "نقيمُ على الإيمانِ والعِلمِ صَرحَنا/ إذا السَّلمُ نادانا أو الرَّوعُ جَمَّعا" إلى الحجازكار في قوله "عليكَ سلامُ اللهِ يا خيرَ مَن دَعا/ وأصدقَ مَن لَبَّى وأخَلَصَ مَن سَعَى".

·        (أُخُوّة الحَق):

https://www.youtube.com/watch?v=svSjctgAY4g

     تبدأ بمقدمة قصيرة للوتريات والجيتار، ويُسكِت (بليغٌ) آلات الإيقاع تمامًا طيلةَ الأغنية. تدخل بعدها الجوقة منشِدةً في مقام الحجازكار على درجة (دو) ما صاغه الشاعر في البحر البسيط "أخوَّةُ الحَقِّ باسمِ اللهِ هادِينا/ ظَلَّت على الدَّهر مِن أغلى معانينا". لكن هنا تتغلّب رغبةُ (بليغ) الجامحة في التجريب على إخلاصِه للكلمات، فيَلوي نُطقَها العربيَّ وتُلغي الجوقة ألف المَدّ الأولى في كلٍّ من (هادينا – معانينا) مكتفيةً بفتحتَي الهاء والعين على الترتيب. وتكون النتيجة لحنًا جميلاً في ذاتِه، بعيدًا عن الكلمات، ولنا أن نجرّب ونضعَ على هذه الجملة اللحنية المُنذِرة التي ترددها الجوقة أيّ كلماتٍ، وسنكتشفُ أنّها لا تنقُصُ شيئًا من جمالِها، وذلك أنها مقطوعة الصِّلةِ أساسًا بقصيدة (عبد الفتاح مصطفى)! وما يزيدُ الأمر غرابةً أنّ النقشبنديّ يخطئ خطأً نحويًّا بيّنًا هو الآخَر حين ينصِب كلمة (نبيّ) في "آخَى نبيُّ الهُدى ما بينَ صُحبَتِه"، وحقُّها الرفعُ على الفاعليّة!

 

     من هذا المرور السريع يتّضح لنا أن تجربة (بليغ حمدي) في تلحين الأغنية الدينية - كما تجسّدَت في تعاونه مع الشاعر عبد الفتاح مصطفى والمُنشد الشيخ النقشبندي – هي تجربةٌ أثبتَت بالتأكيد نجاحَها، بدليل ذيوع بعض أغانيها على الألسُن وتجذُّرها في الوعي الجمعي الديني للمصريين. ولعلّ أهم خصائص تلك التجربة انسيابيّة ألحانِها وبساطتُها ومقدرة (بليغ) على إخراج جُمَلٍ لحنيّةٍ حلوةٍ في ذاتِها وجديرةٍ بالبقاء. إلاّ أنّ من خصائصها السلبيّة قلّة اهتمام (بليغ) بأن يُعطِيَ اللحنُ الكلمات حقَّها من النُّطق الصحيح، وهو ما تجلّى خاصَّةً في مذهب (أخوّة الحقّ)، وفي عدم إشباع ياء (إنِّي) في (مولاي إنّي ببابِك). ربما يكون ضعف علاقة (بليغ) بالقصيدة الفصيحة هو سبب هذا الأمر، قِياسًا إلى علاقة سلفَيه الكبيرَين (رياض السنباطي) و(محمد عبد الوهّاب) بها. إلاّ أنّ التجربة في مجملِها تستحقُّ ما أحرزَته من بقاءٍ كما تستحقُّ دراسةً أكثر استفاضةً لبيانِ نقاط قوتها وضعفها.

محمد سالم عبادة

10 سبتمبر 2021

    نُشِر في موقع (عربي 21) في سبتمبر 2021