Friday 23 October 2015

قراءة في رواية (كلام) لمحمد سالم عبادة - للشاعرة الصديقة/ دعاء فتوح



الإبداع إناء يمتلئ بالمعنى، و"كلما افترق عمّن يتحدثون لغته، ظل بلا لسان، وإن كان لديه ألف صوت" مثلما قال مولانا جلال الدين الرومي، فوجب على العمل الإبداعي الذي يطمح إلى البقاء أن يتحدث بلغات عدة تتناسب مع تنوع مستويات تلقيه الذي يختلف باختلاف المتلقي.

(كلام) رواية للشاعر والقاص والروائي محمد سالم عبادة. تحمل في طياتها سمة الكلمة التي يختلف فهمها وتأويلها باختلاف طريقة تلقيها، فهي نموذج مثالي للنص الذي يوحي بأكثر مما يقول صراحة!!

بعد قراءتي الأولى لها غرقت في موجة ضحك هستيري لا أعرف سببه، فأنا أمام أربعة شخوص منقسمين إلى أربعة فصول، كل فصل يحمل اسمًا لواحد منهم بمصاحبة كلمة أو أكثر:

أولاً/ مختار (ترنيمة)
ثانياً/ صلاح (الإثم وردة ذهبية)
ثالثاً/ نادر (اقترب المقت)
رابعاً/ عادل (وهبتُ لنصل فأسيَ أمَّ رأسي)

في حوالي مائة صفحة من القطع الصغير وبلغة مكثفة للغاية، تعرف أنهم ثلاثة أطباء ومتخصص في علم الاجتماع يعملون في مجالات مختلفة، وهم شعراء يكتب كل منهم نوعًا مختلفًا من أنواع الشعر، تعرف ذلك من نماذج صغيرة لأبيات شعر قُرئت في أمسية جمعتهم، فهم أعضاء جماعة أدبية تسمى (كلام)، ويحبون جميعاً (رحاب) التي لم تظهر إلا كصورة منعكسة في حدقة عين كل واحد منهم لتعكس ذاته. عند فشلهم جميعا بالارتباط بها، تنتهي الرواية بانتحارهم!!

فلماذا أضحك إذاً؟!
أبحث في عقلي عن أحداث الرواية الرئيسة، فلا أجد غير يوم الأمسية الشعرية، الذي نعيشه أربع مرات مختلفة باختلاف رؤية كل واحد منهم لذلك اليوم العارض!!

أعود مرة أخرى لآخر فقرة في الرواية فأجد (عادل) يحدث نفسه قبل الانتحار:
"اليوم.. (كلام) أنثى.. (كلام) لا يُفعَّل.. أنا أنثى.. طبنجة ليس لها من الفعل إلا ماسورتها.. حشوت خزانة المسدس.. أنا عارية تماما.. ها أنذا.. أفتح صوت الكمبيوتر لآخره.. أضحك كما لم أضحك من قبل..
We are the champions
الماسورة تدغدغني.. وأضحك.. سأضغط الزناد، وأتوقف عن الكتابة.."

من الواضح أن تلك الماسورة كانت تدغدغ نفسي، لهذا كنت أضحك مثل (عادل)!!
أدرك الآن أن عقلي يحتاج إلى قراءة أخرى لفهم الأبعاد (النفسية/ الاجتماعية/ الثقافية) لهم.

·       الأبعاد النفسية

في الفصل الثالث يوجد مفتاح فهم الأبعاد النفسية لكل شخصية من الأربعة، (نادر) أستاذ علم الاجتماع المتعالي، والذي أمقته فعليا، وأسعد كثيرا بانتحاره –يُشعرني بلزوجة عرق صيف وجب التخلص منها بحمام بارد!- يُلقي محاضرة عن أسباب الانتحار وفق وجهة نظر (دور كايم)*(1)، فنحن أمام شخوص رسمها الكاتب منتحرة بالفعل، فكل واحد منهم يمثل نموذجا من نماذج (دور كايم) الأربعة، و(رحاب) ما هي إلا رمز لعلاقة كل واحد منهم بالمجتمع الثقافي:

أولاً/ مختار (ترنيمة)، انتحار أناني:
فهو يحب رحاب كما يحب الله، ولكنه لا يقترب منها أو يتفاعل معها، حب لا يعرف سبل التواصل، فهو ذلك المسرع في صلاته لكي يلحق بحلقة ذكر صوفية ليتواصل فيها مع الله!!. كما أنه يشعر بانعدام انتمائه لمجتمعه الذي يأخذ جوانب عدة هي (الله/ رحاب/ صديقه المقرب نادر)، يقول مختار قبل انتحاره:
"اليوم سقط آخر في الحضرة بجواري.. لن يصيبني الدور أبدا."

ثانيا/ صلاح (الإثم وردة ذهبية)، انتحار إيثاري:
ينغمس (صلاح) في التجريب (الجنسي/ الثقافي) على مستويات عدة من المجتمعات (رحاب (وسط ثقافي)/ دينا (وسط العامة)/ سارة، وجورو ناناك (أوساط ثقافية وأدبية غربية)) ولكنه نهم وشره لا يستطيع التوقف، يكتب صلاح:
"الإثم وردة ذهبية/ نصلها يجرح سكون الكون الرتيب/ لكنني لا أستطيع أن أستمر في امتصاص رحيقها.."

فيضحي بعلاقته بـ(رحاب/ الوسط الثقافي) عندما يدرك أنها ستكون أفضل مع صديقه الأقرب (عادل). فيقول (صلاح) موجها حديثه لـ(عادل):
"أنت تنتمي لنفس المجتمع الذي تنتمي إليه (رحاب) يا (عادل).. تشارك فيه كواحد من أبنائه البررة وتغترف من نهر تقاليده، لكنك تفعل ذلك بوعي مطلق بقصوره الذاتي وتخلفه.. ستكونان معا زواجاً مثالياً إن قُدِّرَ لعاطفة ما أن تولد بينكما..)

ثالثا/ نادر (اقترب المقت)، انتحار فوضوي:
يحدث تحول عنيف في حياة نادر بزواجه من (رحاب)، فهو يفتقد الوازع الأخلاقي، وتزوجها فقط لأن شكل جسدها بدا له جميلا من الخلف!، فهو يراها سطحية وغير جديرة به، وعند محاولته الولوج فيها، يخفق في إقامة علاقة جنسية معها، فيتضاعف إحباطه وينتحر.

رابعا/ عادل (وهبت لنصل فأسي أم رأسي)، انتحار مصيري:
فهو يحب الأنثى للأنثى لدرجة أنها تتلبسه فعليا، فلا يستطيع الفكاك من الانصهار النفسي معها ليصبح هو (أنثى/ رحاب) فيصبح عبدا، وعبوديته تلك عائقا يقف أمام زواجه منها.
يقول (عادل) بعد غضب (رحاب) منه: "كانت غاضبة مني للغاية.. لا أطيق ذلك يا (رحاب).. أنا عبدك الطفل.. أنا مكسور بين يديك.."

·      الأبعاد الاجتماعية والثقافية

في فهمنا السابق للأبعاد النفسية، كان الكاتب قد ألقى لنا بوجهة نظر (دور كايم) في سياق أحداث الرواية وكأنها معلومة عارضة، ولكننا اكتشفنا أنها كانت كقطع (بازل) صغيرة عند تجميعها نرى صور واضحة لأسباب انتحار كل واحد من أبطال الرواية، فأنت أمام رواية تفاعلية، تريد من قارئها تجميع قطع (بازل) تخلق في كل محاولة لترتيبها عالمًا جديدًا يساعد في بناء تأويل جديد لعوالم شخوصها..
فهل تركت الأبعاد الاجتماعية والثقافية دون قطع (بازل) خاصة بها؟

بعد بحث خلف تاريخ كل كاتب أو مفكر تأثرت به إحدى الشخصيات تجد نفسك أمام:

أولا/ مختار (ترنيمة)، انتحار أناني، معادل موضوعي:
لشخصية (فيرتر) الذي ينتحر حين يكتشف أن قصة حبه باءت بالفشل، في أحداث رواية (آلام فيرتر) للروائي الألماني (جوته).

ثانيا/ صلاح (الإثم وردة ذهبية)، انتحار إيثاري، معادل موضوعي:
لشخصية الفنان التشكيلي الفرنسي (جوجان)، الذي اتخذه (سومرست موم) بطلا لروايته (قمر بستة بنسات) والتي أتى ذكرها بشكل عارض في الرواية، مثل (آلام فيرتر)!
فرائد الرمزية الآن (جوجان) تعرض لنقد شديد من معاصريه من النقاد والفنانين،  بسبب رفضه لمدرسة التجسيم الإغريقية، وسعيه للموائمة بين الواقع والخيال، وفشل في محاولة انتحاره  يناير 1898!!

ثالثا/ نادر (اقترب المقت)، انتحار فوضوي، معادل موضوعي:
لشخصية الفيلسوف الألماني (شوبنهاور)، الذي عُرِف بالعدمية والتشاؤم، فكان يرى الحياة شرًّا مُطلقا.

رابعا/ عادل (وهبتُ لنصلِ سيفيَ أُمَّ رأسي)، انتحار مصيري، معادل موضوعي:
لشخصية الشاعر والروائي الانجليزي (أوسكار وايلد) -صرح الكاتب بوجود الشبه بينهما بشكل مباشر- الذي حظي بتشجيع ومحبة معاصريه، ولكنه نُبذ وسُجن بسبب حكم المجتمع عليه أخلاقيا لـ(مثليته الجنسية)، ودافع وقتَها (وايلد) عن نفسه:
"إن الأعمال الفنية لا يمكنها أن تكون أخلاقية أو غير أخلاقية، هي فقط تكتب بشكل جيد أو بشكل سيء."

·      رمزية المجتمع

لا نستطيع فهم أبطال رواية (كلام) بمعزل عن رؤيتهم الخاصة عن المحفز والدافع  الرئيسي في الرواية لانتحارهم (رحاب/ أو مجتمعهم الثقافي)، أنت أمام ثلاثة أنواع من المجتمعات، لا نتعرف عليها بشكل واضح إلا من خلال أكثر الأبطال انفتاحا على العلاقات، بكلمات بسيطة منه يمكننا التأويل إلى ما لا نهاية، يقول (صلاح): "الحب ضفيرة من الروح والعقل والجسد"، ونكتشف رؤيته لرموز تلك المجتمعات (دينا/ رحاب/ سارة)، فنجد أن:

- دينا/ مجتمع العامة (بيضاء كالثلج-الروح/ بضة كالقطن-العقل/ ثرثارة كالمرأة-الجسد)
- رحاب/ مجتمع المثقفين (بيضاء كالسحاب-الروح/ بضة كالبالون-العقل/ ثرثارة كالماء-الجسد)
- سارة/ مجتمع غربي (بيضاء كالورق-الروح/ بضة كالدفتر-العقل/ ثرثارة كالقصائد-الجسم)

·      المفارقة أساس البناء

المفارقة هي الأساس الفعلي الذي اتكأت عليه السمات الشخصية لأبطال الرواية:

(مختار)
- شكله/ "جسد مترهل وكرش واسع وأرداف مكورة في تمام مضحك!"، إلا أن روحه تشبه الشتاء القارص الذي يصطك في بعضه من الألم.
- منجزه الأدبي/ "ربما أنا أغزر أصدقائي إنتاجا وأكثرهم تنوعا.. إلا أنني الأقل جماهيرية."
- مهنته/ "مشكلة حقيقية أن يداهم الروماتزم طبيب الروماتزم فيضطر إلى اعتزال مرضى الروماتزم!"

(صلاح)
- هو من طبقة اجتماعية عالية، وعلاقته بمجتمع البسطاء (دينا) تبدو ظاهريًّا تعاطفًا ومساندةً له، فيبحث لها عن عمل فيجعلها خادمة له، ثم يستغلها جنسياً.
- نظريا يبدو كفصل ربيع يزهر في حياة مجتمع البسطاء (دينا) فيقول: "أحاسيس البسطاء يجب أن تظل أفضل من أحاسيس النخبة.. وتصوراتهم يجب أن تظل أكثر مباشرة من تصورات أولئك.. ما يسميه (مختار) (نشازاً) في أصوات هؤلاء المطربين، يسميه عشاقهم (بحة).. وما يعتبره (نادر) سطحية في التناول اللحني وحتى في الكلمات، هو عين بساطة هؤلاء.. أما (عادل) فهو يتفهم هذا رغم أنه لا يحبه..".
ثم نجده يقول عندما فضلت (دينا) البقاء في المنزل وعدم حضور الأمسية الشعرية: "رائعة (دينا).. تعرف مكانها كما ينبغي.. وتتركني وشأني!"، فهذه هي وجهة نظره الحقيقية عن تلك الطبقة.

(نادر)
- يتعالى على رحاب ويتهمها بالسطحية ولكنه يتزوجها.
- يتزوج رحاب بسبب شكل جسدها الذي يعجبه، ولكنه يفشل في إقامة علاقة جنسية معها.
- يتعالى على عقلية مجتمع البسطاء ويرى أنه يعيش في طوره "الثيوقراطي" من أطوار الحياة العقلية، وينتحر على صوت الأغنية الشعبية "هنروح المولد".

(عادل)
- طبيب نساء، وسيم ولطيف كنسمة خريف دافئة تجتذب الفتيات الجميلات من سنه، ولكنه فعليا يتساقط جنسيا كأوراق الشجر فيميل إلى الكبيرات في السن.
- يحب ماهية (رحاب) وكونها أنثى، وليس رحاب بذاتها لذلك يريد أن يَكُونَها!!
- ينتقد أخلاق العبيد ويكون مثالاً فجًّا لها في علاقته برحاب!!

·      الخلاصة

أنت أمام رواية شاعر استفاد تمام الاستفادة من لغة الشعر المكثفة، وكان قديراً في توظيف مخزونه الثقافي عن تيار الوعي الثقافي بأوربا في القرن التاسع عشر، فنجده بوعي أو بدون وعي، قد أحالنا لتلك الحقبة التاريخية من تاريخ الأدب الإنساني.
وعلى غرار (إبْسِن) وضع في نصه فجواتٍ دلاليةً وجب على القارئ مَلؤُها، عن طريق المزيد والمزيد من العصف الدماغي!!

أنت فعليًّا أمام مقطوعة موسيقية تتحدث لغاتٍ عِدّة، فيمكنك تأويلها في (كلامٍ) متحرك ليبقى حياً.

"كلام" رواية صدرت عن دار نشر (أكتب) 2013، وحائزة على المركز الثاني بمسابقة الساقية 2013، والجائزة الثانية بمسابقة نادي القصة لنفس العام.
__________________________________

*(1) (إميل دور كايم، 15 إبريل 1858 - 15نوفمبر 1917)، أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث وأول من قال بأن الانتحار يأتي كظاهرة اجتماعية، بعكس ما كان شائعا بأنه ظاهرة نفسية.
 ...................................

نُشِرَت هذه القراءة في عدد الأحد 18 أكتوبر 2015 من (أخبار الأدب) المصرية تحت عنوان (مقطوعةٌ موسيقيةٌ تتحدثُ لغاتٍ عِدّة).