Monday 2 November 2020

هاپي هالوين: لماذا ينبغي أن نرتعد خوفًا في عيد كل القديسين؟

 

     في قصّته (جرملسهاوزن Germelshausen) يحدثنا الروائي الألماني فريدرش جرشتِاكر Friedrich Gerstäcker (1816-1872) عن قرية ملعونة تحمل اسم القصة، خُسفت بها الأرض، تظهر يومًا واحدًا كل قرن من الزمان، ويعود أهلها إلى الحياة. تبدأ القصة بأن بطلها الفنان التشكيلي (أرنولد) يخرج في رحلة استكشافية في خريف أحد أعوام الأربعينيات من القرن التاسع عشر. وخلال رحلته يقطع بالصدفة البقعة التي كانت جرملسهاوزن تحتلّها، فيقع في حب (جِرترود) إحدى فتيات القرية، ويشاء القدَر أن يبتعد عن القرية الملعونة في اللحظات التي تعود فيها القرية للخسف ويواري أهلها التراب، ويظل أرنولد محكومًا عليه بافتقاد حبيبته إلى الأبد.

     كان لاختيار الخريف دلالة تتصل برمزه إلى السقوط ونهاية موسم الحصاد وبداية الجزء المظلم من السنة، وهي دلالة تتوافق مع فكرة القرية الملعونة التي تظهر يومًا ثم تعود للسقوط بكل ما فيها ومن فيها.

     بشكل شخصي، مضى أكثر من نصف عمري على قراءتي هذه القصة، ولم أكن وقتها أعرف شيئًا عن الهالوين، كما لم تذكر القصة أي شيء مباشر عنه. غير أن تصاعد غزو الهالوين لمحيطي الثقافي أعادني إلى جرملسهاوزن، ولا غرابة في ذلك. فالهالوين (ليلة عيد كل القديسين All Hallows Evening) محدد باليوم الأخير في أكتوبر ليمتدّ إلى الثاني من نوفمبر، أي أنه قلب الخريف. والأيام الثلاثة هي ليلة كل القديسين ثم يوم كل القديسين (1 نوفمبر) ثم يوم كل الأرواح All Souls Day (2 نوفمبر) حيث يُحتفَل بكل الموتى المسيحيين الأبرار الذين غادروا الحياة إلى مرحلة المَطهر Purgatory تبعًا للعقيدة الكاثوليكية. ويرى كثيرون – مثل (نيكولاس روجرز في كتابه: الهالوين من طقس وثني إلى ليلة احتفالية Halloween From Pagan Ritual to Party Night) أن تاريخ الاحتفال بهذا العيد يعود إلى أصول غاليّة Gaelic وثنية متجذرة في تراث الأيرلنديين والاسكتلنديين، تحديدًا إلى عيد نهاية موسم الحصاد وبداية الشتاء، والمسمى في لغتهم (ساوين Samhain). والمعروف أن طقوس هذا العيد الغاليّ الوثني كانت تضم الألعاب النارية البدائية التي كان يُفترض أن لها قوة حامية من الأرواح الشريرة، وكان الوثنيون يتركون طعامًا وشرابًا خارج ديارهم استرضاءً للأرواح الهائمة العابرة في هذا اليوم من عالَم الموتى إلى عالم الأحياء، إلى غير ذلك من الطقوس التي مازالت حيةً في الهالوين المسيحي.     

    والسؤال الأساسي لهذا المقال: لماذا تحول الطقس المسيحي -المحتفي بالقدّيسين وشهداء المِلّة وأرواح كل الموتى المسيحيين الأبرار- إلى عيد عالمي للرعب؟! وبصياغة أدَقّ: لماذا احتفظ هذا الطقس بمَظاهِره الوثنية وزاد عليها كثيرًا من التنويعات كزيارة الأماكن التي يُقال إنها مسكونة أو التي صُمِّمت لتحاكي الأجواء المرعبة للأماكن المسكونة، رغم إدراجه منذ قرون طويلة في الأعياد التي أقرّها القانون الكنسي؟ 

* زواج القداسة والرُّعب:

     يعتقد الروائي والمدوّن (مايك ديوران Mike Duran) أن القداسة والرعب مرتبطان تمامًا ببعضهما في الرؤية المسيحية للعالَم. وهو يبدأ جدالَه بإحالتنا إلى عدة مفاهيم صاغها اللاهوتي والفيلسوف الألماني الباحث في مقارنة الأديان رودلف أُتُّو Rudolf Otto (1869-1937). أهم هذه المفاهيم هو الألوهي Numinous وهي كلمة اشتقها من كلمة لاتينية هي Numen تعني الألوهية أو الحضور الإلهي.    

https://www.mikeduran.com/2012/08/08/holiness-and-horror/

     الألوهي عند (أُتّو) هو أهم ما يميز الخبرة الدينية، وهو أن يجد المرء نفسه إزاء حضور لا شبيه له، (كامل في آخَريَّتِه Ganz Anders) – ويعني بذلك أنه حضور مفارق لما يمكن أن يتعقَّلَه المرء، وليس ثَمّ مشترَك بينه وبين غيره من خبرات المرء اليومية – فيثير هذا الحضور رهبة عظيمة في نفس الإنسان. ثَمّ مفهومان آخَران محوريان عند (أُتّو) هما السر الرهيب Mysteria Tremendum والسر الجذاب Mysteria Fascinans حيث يصف بهما ذلك الحضور الذي لا شبيه له، إذ إنه لإلغازه وعظمتِه وفرادته واستعصائه على الإحاطة به سرٌّ رهيب، وهو لنفس هذه الحيثيات سِرٌّ جذاب لا يستطيع المرء فكاكًا من جاذبيته.

     عودًا إلى (مايك ديوران)، يعتقد (ديوران) أن هذه المفاهيم الثلاثة متحققة غاية التحقُّق في اللاهوت المسيحي بالتحديد أكثر من غيره. وأَجِد نفسي أوافقه الرأي. فالتصور الذي على عليه مدار العقيدة في معظم الفِرَق المسيحية هو حلول المُطلَق اللامحدود في البشري المحدود، وهو تصوُّر مُلغز فريد مُستعصٍ على التعقُّل الكامل، ولذا فهو يجعل من شخص المسيح سرا رهيبًا لا يشبهه شيء في رهبته ولا في جاذبيته. وفوق ذلك، فتبعًا للتصور المسيحي، لقد قتلنا – نحن البشر – هذا الإله المتجسد الحالّ في الإنسان، قتلناه بأيدينا، فأي رعب يمكن أن يفوق ذلك؟

     * إضاءة قديمة من كيركجور:

     بعض القراءات الفلسفية يعتبر الفيلسوف واللاهوتي الدنماركي الكبير سُرِن كيركجور Kierkegaard (1813-1855) أبًا للوجودية، ولاسيما الوجودية المسيحية. وما يعنينا هنا هو قولٌ ما، قام أهم مرجع معاصر لفلسفة كيركجور – وهو (هوارد هونج) أستاذ الفلسفة الراحل بكلية سانت أولاف St. Olaf College للدراسات الكلاسيكية بجامعة مينسوتا – قام بنسبته إلى الفيلسوف الدنماركي الكبير: "حين ينظر المرء إلى الأدوار التاريخية للأديان في رحلتها عبر العالم، يجد الأمر على النحو التالي: المسيحية هي المالك الحقيقي الذي يجلس في العربة، واليهودية هي الحُوذيّ الذي يقود العربة، أما المحمدية Mohammedanism فهي سائس للخيل، لا يجلس مع الحُوذيّ، بل يجلس في الخلف."

https://evergreenessays.blogspot.com/2006/05/did-kierkegaard-offer-anything-on.html

     بالتأكيد يمكن أن نبرر رأي (كيركجور) بأنه منطلِق من رؤية متمركزة أوربّيًّا Eurocentric، مما يضفي على رأيه صدقًا نسبيًّا، فالدور الذي لعبه الإسلام في أوربا يُعَدُّ – بمقتضيات الحِسّ المشترَك – هامشيًّا إذا ما قُورِن بدور التراث اليهودي المسيحي Judeo-Christian Tradition. لكن أمرًا آخر له علاقة بفلسفة (كيركجور) يُعَدُّ في رأيي دعامة هذا الرأي السلبي في دور الإسلام، وهو أمر له انعكاسه على موضوع ارتباط القداسة بالرعب، لاسيّما أنّ مواضع أخرى في كتابات (كيركجور) تَشي بأنه كان على قدر من الاطّلاع على الدين الإسلامي.

     يتّضح هذا الأمر حين نراجع مؤلَّف كيركجور الشهير المعنوَن (خَوفٌ ورِعدَة Frygt og Bæven) الذي كتبه باسم مستعار هو (يوحنّا الصمت Johannes de Silentio) سنة 1843. استعار كيركجور العنوان من الآية الثانية عشرة من الإصحاح الثاني من (رسالة بولس إلى أهل فيلپِّي): "إِذًا يَا أَحِبَّائِي، كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ، لَيْسَ كَمَا فِي حُضُورِي فَقَطْ، بَلِ الآنَ بِالأَوْلَى جِدًّا فِي غِيَابِي، تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَة." والتي ربما كانت بدورها إحالةً إلى بدايات المزمور الخامس والخمسين من العهد القديم: "يمخضُ قلبي في داخلي، وأهوالُ المَوتِ سَقطَت عليّ. خوفٌ ورِعدَةٌ أتَيا عليَّ، وغَشِيَني رُعبٌ. فقلتُ ليتَ لي جناحًا كالحمامةِ، فأطيرُ وأستريح." المهم أن (كيركجور) في هذا الكتاب يناقش حكاية تضحية نبي الله إبراهيم بابنه (إسحاق) كما يذكرها الإصحاح الثاني والعشرون من سِفر التكوين. تقول الرواية التوراتية إن إبراهيم لم يخبر أحدًا بأمر الله له، فتحمّل عبء الإيمان وحده، ووضعه إيمانه في موقف تتخاصم فيه الأخلاق التقليدية مع الدِّين، ووصل رعب الموقف إلى منتهاه. وهنا نتذكر تعليق أستاذنا د.زكريا إبراهيم على مذهب كيركجور في الحب الإلهي، في الفصل السادس (العبادة) من الباب الثاني (أشكال الحب) من كتابه (مشكلة الحُبّ): "أصحابُ هذا المذهب وفي مقدمتهم كيركجوريعتبرون الألم بمثابة الجو الطبيعي الذي يحيا فيه الكائن المتدين. فليس المؤمن بالشخص المطمئن الواثق الغارق في فيض علةوي من السعادة، بل هو شخص معذَّب قلِق يحيا في صراع مستمر مع اللامتناهي ويجد نفسَه دائمًا في غمرة التناقض."

     الشاهد أن الخبرة الإيمانية الحقّة عند كيركجور محفوفة بالألم والعذاب والخوف والرِّعدة. فإذا قارنّا برواية التوراة عن تضحية إبراهيم برواية القرآن، سنجد تفصيلةً صغيرةً مختلفة، هي أنَّ إبراهيم في القرآن يقول لابنِه: "يا بُنَيَّ إنّي أرى في المنامِ أنّي أذبَحُكَ فانظُر ماذا تَرَى." هنا يتقاسَم إبراهيم الأمرَ الرهيب مع ابنه، فلا يحمل عبئه الثقيل وحده رغم نبوّته، كما تحرص الرواية القرآنية على أن تضيّق الهُوّة بين الأخلاق التقليدية والدين في وصفِها لهذا الابتلاء، لكي يظلّ الدين منبعًا للأخلاق حتى في أحلك المواقف. هكذا نجد لطف الإله بالضعف البشري موجودًا حتى في ثنايا مثل هذا الاختبار الرهيب. وإذَن، فإمكانية ارتباط الخوف والرعدة بالخبرة الإيمانية في الإسلام أقلّ منها بالفعل في المتّصِل اليهودي المسيحي، ولذا جاز لـ(كيركجور) أن يقول ما قال، متّسِقًا مع ما يراه، منطلِقًا من تربيتِه في الثقافة المسيحية.

     والحقّ أن الحِس المشترَك يخبرنا كذلك بالفارق الكبير في (المحتوى الرهيب) – إن جاز التعبير – بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة، ففي اليهودية نجد شعب إسرائيل يحمل تابوت العهد معه كشرط لحضور السكينة الإلهية (شخينَه שכינה)، فالرّبّ حاضر بينهم بشكل شبه ملموس. في المسيحية يخطو الحضور الربّاني خطوة أبعد، فيتجسد الرب بالفعل بشريًّا كمخلوقاته، وهو حلولٌ من شأنه أن يعمّق الرهبة والاستعصاء على الفهم والإحاطة. أما في الإسلام فقد ظلّت هناك دائمًا هُوّة غير معبورة بين الرب والمخلوق بفِعل التّعالِي المُطلَق للرّبّ، مما يلطف كثيرًا من أثر الحضور الرهيب Numinous الذي حَدّثَنا عنه (رودلف أُتُّو). وحتى حين يصبح مجرد ذكر الله في الإسلام مدعاةً للرهبة والوجَل، نكتشف أن هذه الرهبة هي مجرد مرحلة قصيرة تنتهي إلى الاطمئنان: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ." "ألا بذِكرِ اللهِ تطمئِنُّ القُلوبُ."

* الهالوين مرةً أخرى:

     بالتأكيد توجد في الثقافات غير المسيحية قصص مرعبة عن الموتى وأشباحهم وعالَم ما وراء الطبيعة، إلا أنه بغَضّ النظر عن رجوع الموقع الذي يحتلُّه هذا القَصَص في الثقافة المسيحية الغربية إلى آلة الإعلام الجبارة في أوربا وأمريكا، فموقع مثل هذا القصَص في الثقافات الأخرى لا يكاد يغادر الهامش، بينما هو من المسيحية الغربية في قلب المتن كما يُطلِعنا رأي كيركجور عن الخوف والرعدة، ومفهومُ (أتُّو) عن السر الرهيب الجذاب، وأخيرًا رؤية (مايك ديوران) عن اقتران الخبرة الدينية بالرعب. وإذا عُدنا إلى بقعتِنا من العالَم، فربما يتكشف لنا أن هامشيّة الرعب والأسرار المقدسة في الممارسة الدينية الإسلامية تُغري المسيحي المتدين بالنظر إلى الإسلام باعتباره أقرب إلى (لا أدرية) و(شكلانية سطحية Formalism)، فالمسلم لا ينشغل كثيرًا بماهية الله وكيفيته من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى لا تنطوي الممارسة الإسلامية الشائعة بطقوسها على قِيَم الرهبة والرِّعدة التي لا تعرفُ نهايةً، وإنما هي دائمًا مرحليّةٌ كما قلنا.     

     وربما لهذا نجد أجراس الكنيسة حاضرةً في تنويعاتٍ كثيرةٍ في أدب الرعب الأوربي الأمريكي، منذرةً بظهوراتٍ مخيفةٍ مفارقةٍ للخبرة الإنسانية اليومية، حاملةً معها رهبة المقدَّس وحضورَه المستعصي على التعقُّل، وهو ما يحدثُ مثَلاً في بدايات القصة التي افتتحنا بها حديثَنا (جرملسهاوزن). ولا نجد في أدبنا العربي مثلاً أن الأذان يلعب هذا الدور على الإطلاق!

* علمنة كل القديسين:

     ختامًا، كان عالم الاجتماع الألماني (ماكس ڤيبر) يرى في كتابه (مقالاتٌ مجموعةٌ في علم اجتماع الدِّين Gesammelte Aufsatze zur Religionssoziologie) أن القوة المحركة لتوسع الرأسمالية الحديثة – وبالتالي الحضارة الحديثة كلّها – ليست فقط كما يرى (ماركس) متعلقةً بآليات الإنتاج ومنشأ رءوس الأموال، وإنما هي بالأساس نمو (روح الرأسمالية) أو رُوح الحياة الاقتصادية Wirtschaftsethik، وكان يُرجع نمو هذه الرُّوح إلى حركة الإصلاح الپروتستانتي في أوربا، التي عملت على ترشيد كل مناحي السلوك الإنساني، وعلى رأسها السلوك الاقتصادي. وما نودّ إضافتَه هو أن الإصلاح الپروتستانتي بشكلٍ ما عمّق مفهوم المكابدة والصراع الروحي الذي لا يهدأ، فالپروتستانتي لا ينتظر صك غفران وإنما يجاهد نفسه روحيًّا باستمرار، ولا يفوتنا أن (كيركجور) وُلِد في بيئة پروتستانتية محافِظة. إلا أن هذا الإصلاح كذلك - بفصلِه المسيحيةَ الغربية عن تجليات القداسة الرهيبة والأيقونيةِ الباذخة الموجودة في الكاثوليكية – خلق هُوَّةً بين اللاهوت الرهيب الذي يؤمن به المسيحي الغربي وبين طبيعة ممارساته الطقسية التي أصبحَت أبسط بكثير في ظل الپروتستانتية. ويبدو أنه كان ضروريًّا أن يبحث المسيحي الأوربي والأمريكي عن متنفَّس يعبر فيه عن حاجته إلى ممارسة الرهبة المزروعة في صميم رؤيته للعالَم. ولمّا كان من نتائج هذا الإصلاح – كما يرى (ڤيبر) وكما نوافقه – ذلك الانفجار الاقتصادي الحضاري الذي نشهدُه في الغرب، فقد ساعد هذا الانفجار الحضاري على بَلوَرة عالَم الرعب بكل مفرداته من أدب وسينما وغير ذلك، والذي يبلغ ذروة تجسُّده في الهالوين. أي أننا حين نُنعِم النظر إلى الأمر، نجد أن الإصلاح الپروتستانتي بشكلٍ ما قد فصل المسيحي الغربي عن تجليات القداسة الكاثوليكية، ثُمّ عوضه عنها تعويضًا علمانيًا معقَّمًا من الحضور الإلهي كما كانت تعرفه المسيحية الغربية في السابق. وهكذا، أصبح علينا أن نرتعد خوفًا كل عامٍ مع حلول عيد كل القديسين، وإن كان خوفًا معقمًا، لا نصدقه نحن، ولا يصدقه من ابتدعوه.  

محمد سالم عبادة

31 أكتوبر 2019  

.......

نُشِرَ المقال في موقع عربي 21 يوم 31 أكتوبر 2019 

https://arabi21.org/story/1219446/%D9%87%D8%A7%D8%A8%D9%8A-%D9%87%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%8A%D9%86-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D9%86%D8%A8%D8%BA%D9%8A-%D8%A3%D9%86-%D9%86%D8%B1%D8%AA%D8%B9%D8%AF-%D8%AE%D9%88%D9%81%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D9%83%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%B3%D9%8A%D9%86#category_19 

Saturday 8 August 2020

قِصَّة: الناظرون عَبْرَ الكاميرا

 

     أصوات آلات التنبيه تقترب. الجلَبة المعتادة. الضوضاء المفاجِئة المتوقَّعَة! سيارةٌ فارهةٌ توقفت أمام باب الاستوديو. مقدمة السيارة مزيَّنةٌ بأشرطةٍ تمتدُّ من الزجاج الأماميّ إلى ما لا نهاية، حيث تنعكس من حافة السيارة إلى الزجاج، ثُمّ منه إليها عددًا لانهائيًّا من المرّات. أصواتُ الشباب والنساء جذبتني إلى خارج الاستوديو. الرجل الذي يجلس إلى عجلة القيادة يبدو في منتصف العِقد الخامس، ملامحُهُ جامدة، جبينُهُ مقطَّب وحاجباه معقودان. انفرَجا قليلاً وارتسمَت على وجهه ابتسامةٌ مصطنَعة والتفت قليلاً إلى العروسين الجالسين في المقعد الخلفي، بينما تحلّق الشباب والفتيات حول السيارة وفتح أحدهم البابين الخلفيين ونزل العروسان. العريس مشدود الأعصاب، شبحيّ الابتسامة. تراءى لي أنه على وشكِ أن يَدفعَ بقدمِه الشابَّ الذي فتح الباب لعروسه. العروس مشرقةٌ كالعادة، لكنّ إشراقتَها لا تخبّئُ قلقَها بشأن مظهرِها، كالعادةِ أيضا. اقتربوا من باب الاستوديو، وحيَّوني فأومأتُ برأسي رادًّا التحية وأفسحتُ لهم الطريق.

- ثواني، أنده لعمّ (عاشور).

     نزلتُ السُّلَّم الداخلي للاستوديو وناديتُ عمّ (عاشور) ثُمّ صعدتُ أمامَه وطلبتُ من العروسين ووالدتيهما أن يجلسوا جميعا حتى يصعد عمّ (عاشور).

- طيب، ما تصورنا انت يا عمّ؟ مش بتشتغل هنا؟!

     رددتُ بابتسامةٍ على اقتراح العريس العصبي، وحين هممت بفتح فمي لأشرح موقفي قاطعني صوت عمّ (عاشور) الممتزج بوقع خطاه الثقيلة على أعلى درجات السلم.

- يا ألف مبروك للعرسان. بالرفاء والبنين ان شاء الله.

- الله يبارك فيك. آا .. ننزل تحت ولاّ نتصور فين؟!

     قالها العريس في عصبيته الأولى، بينما عيناه وأعين النساء معلقة بالرجل ضخم الجثة رثّ الملابس ذي اللحية البيضاء المنفوشة، الذي يجرّ خطاه إليهم ويتكلم من قرار بئرٍ عميقة. أتفهم كيف أُخِذَت العروس والحماتان بهيئة الرجُل. ظلَّت إحدى الحماتَين مذعورةً تمامًا، بينما استعادت الأخرى رَباطة جأشها سريعًا وابتسمت في هدوء. مالت المذعورة على كتف الهادئة وسمعتُها تهمس:

- هو دا الفنّان اللي شُرتي علينا بيه؟

     قرصَتها الهادئة في فخذها فضحكت في عصبية. أشار عمّ (عاشور) للعروسين بأن ينزلا إلى الدور السفلي. تقدم العريس ثُمّ توقف أمام السلّم كمّن تذكّر الإتيكيت فجأةً فأشار إلى عروسه بأن تتقدمَه، وحمل عنها ذيل الفستان لئلاّ تتعثرَ به. التفت عم (عاشور) إلى السيدة الهادئة. أخذ يتفرّس ملامحها في جرأةٍ تعجبتُ معها من اتساع ابتسامتها المطّرِد!

- كأني شُفت حضرتك قبل كده!

- بس انزل صوّر العِرسان وبعدين نتكلم!

     هزّ كتفيه المكتنزتين في مرحٍ مكتوم، وهمّت السيدتان بالنزول خلف العروسين لكنّه أشار إليهما بالتوقف وقال في لهجته الجادّة التي أعرفها، والتي لا تخلو من لمسة مرح:

- ما عليهش يا جماعة، بس دي تقاليد الاستوديو، يمكن تِبان غريبة بالنسبة لكم، بس سُمعة الاستوديو كفيلة بإنها تقنعكم بإن اللي بيتعمل هنا بيطلّع أحلى صُور زفاف في البلد!

     همّت المذعورة بأن تُجادِلَه لولا قرصَتها الهادئة مرّةً أخرى في فخذها واستدار عم (عاشور) ليَتبع العروسَين، ثُم أشار إليّ بأن أتبعَه.

     لم تكن هذه أول مرّة يسمح لي عمّ (عاشور) فيها بمشاهدة عملِه في صُوَر الزفاف. كانت سُمعة الاستوديو طائرةً في وسط القاهرة كأفضل مكان لالتقاط صور الزفاف، وكانت هذه الصُّوَر مصدر رزقه الأهم. حكى لي أبي ذات مرّةٍ كيف تجاهل عمّ (عاشور) الصعود التدريجي لتصوير الأفراح بالفيديو، وظلّ واثقًا من أنّ تلك الموضة لن تؤثّر على النجاح الاستثنائي للاستوديو في صور الزفاف، ويبدو أنه كان مُحِقًّا بدرجة كبيرة. لم تتسنّ لي مشاهدة كثيرٍ من المصورين أثناء عملهم، لكنّ ما رأيتُه منه كان مذهلاً تماما. لم يكن مغرمًا بشرح ما يفعلُه، ولم أمتلك أبدًا الجرأة الكافية لأتمكن من سؤاله عن مبرر كل خطوةٍ يقومُ بها. لكنّه مثَلاً كان يضع في أحد أدراج مكتبه بالطابَق العلوي من الاستوديو ورقةً عملاقةً عليها تدرّجٌ من الألوان يقارن بها لون وجه كلٍّ من العروسين. لم أتوقع أبدًا وجود شيءٍ كهذا في العالَم! كنتُ قد رأيتُه كذلك أكثرَ من مرّةٍ يقيس بالمسطرة أجزاءَ من جسدَي العروسين في صورةٍ يقفان فيها وقفةً عادية! كانت هذه وغيرها بالنسبة لي تفاصيل مجنونةً، لكنّي أدركتُ أنها سِرُّ تميُّزه في صور الزفاف.

     وقف العروسان الوِقفة العادية أولاً، متجاورَين دون أية حيلةٍ من الحِيَل التي يقترحُها المصورون عادةً، وكان هذا بناءً على أمر عمّ (عاشور)! ثُمّ تركهما وصعد إلى أعلى وتبِعتُه. فتح دُرجَ مكتبه وأخرج ورقة ألوان الوجه والمسطرة، بين دهشة المذعورة وابتسامة الهادئة. نقل الصورة اليتيمة التي التقطها إلى الآن إلى الكمبيوتر ثُمّ طبعها وأخذ يفعل ما رأيتُه يفعلُه من قبل. حدّق قليلاً في السقف وهو يحرّك أصابع يُمناه ويتمتم بكلماتٍ غير مفهومةٍ، مستغرقًا في حساباتٍ غيبيّة، بينما المذعورة تنظر بطرف عينها إلى الهادئة وتحرّك أصابعها بجوار رأسها في إشارةٍ إلى جنون عمّ (عاشور)، فتلكزها الهادئة وتضحكان من جديد. عاد إلى العروسين وتبِعتُه.

     بأوامر من عمّ (عاشور) يجلس العريس كهارون الرشيد وتقف بجواره العروس مُمسِكةً بمروحة طويلة من الريش كأنها خادمتُه تحرك له الهواء، ثُم تجلس العروس ويجثو أمامها العريس ممسكًا يمناها بكِلتَي يديه كأنه يتوسل إليها، ثُم تقف العروس وحدها في الكادر مرّاتٍ عِدَّةً، في وضعيّاتٍ مختلفة، ثم يعود العريس للظهور معها ..

     استغرق الأمر ساعةً منذ دخول العروسين إلى الاستوديو. كان عمّ (عاشور) يقلّب الجسدَين أمامه بسهولةٍ شديدة، مرةً من خلف الكاميرا الثقيلة ومرةً دون حجابٍ من كاميرا. كانت العروس دائمًا أكثر تفهُّمًا لما يقصده، وكان يُثني عليها في كل مرّةٍ تأخذ وضعيةً جديدةً طلبها منها، وكان العريس يحاول طيلة الوقت أن يَكتُم غيظًا أوضح من أن ينجح في كتمانه! بعد كل صورتين أو ثلاثٍ كان العريس يصوّب إليّ نظرةً تمزج التساؤل بالغيظ، ويُطِلُّ منها سؤاله المكتوم كغيظه: "وانتَ يا ترى إيه لازمتك هنا؟!".

     أنهى عم عاشور جلسة التصوير وأشار إلى العروسين بالصعود أمامه على السلّم ثم تبعهما وتبعتُه.

- إن شاء الله 4 أيام وتستلموا الصور. طبعًا العرسان حيبقوا في شهر عسلهم، أي حد من طرف حضراتكم يقدر يستلم.

     قالها وعيناه لا تواجهان إلاّ الحماة التي خاطبها من قبل، والتي كانت تقرص الأخرى في فخذها. عرفت أنها أم العريس من حديثها مع العروسين. اتسعت ابتسامتُها من جديد مع كل كلمةٍ كان ينطق بها، ثم لم تلبث أن أجابته في هدوء:

- أنا حاستلمها منك. انت مش فاكرني طبعًا!

- أكيد صورت حضرتك قبل كده.

- في زفافي من 30 سنة. بس مش فاكرني إيه وانت أول ما شفتني قلت انك شفتني قبل كده!

     نظر إلى السقف بُرهةً ثم عاد من السقف إلى وجهها وابتسامته تختلط بمسحة حُزن مكتوم. أومأ برأسه لها قائلاً:

- أهلاً وسهلاً بحضرتك. دا الاستوديو بتاعك دايمًا، والزباين القدامى زي المحاربين القدامى، لهم امتيازات فوق العادة!

     أخذ العروسان والحماتان يغادرون الاستوديو وعم (عاشور) عيناه معلقتان بالعريس. كأنني لمحتُ في عينيه نظرة إشفاقٍ في هذه اللحظة. بادرتُه:

- إيه الحكاية يا عم (عاشور)؟

     أطرق ثم أشار إليّ بأن أتبعَه إلى أسفل، وفي الدور السفلي أشار إليّ من جديدٍ بأن أتبعه إلى غرفة التحميض القديمة التي لم تطأها قدماي أبدا. كانت الرائحة في داخلها تشبه الكلور. رائحةٌ قويةٌ جدًّا من الصعب تجاهلُها.

- إيه الريحة دي؟ غريبة شوية!

     تجاهل سؤالي وأشار إليّ بالجلوس على الشلتة المقابلة للباب. أطعتُ إشارتَه في صمتٍ منتظرًا ما سيُخرِجُه من درج المكتب القائم على يمين الباب. أخرج عددًا من ألبومات الصور لم أستطع إحصاءه بدِقّةٍ في البداية لكنني أدركتُ فيما بعد أنها سبعة ألبومات بالضبط. جلس على الشلتة المجاورة وناولني ألبومًا منها. صُور لعرائس في وضعيات مختلفة. عرائس فقط. دون عِرسان! ربما تظهر عروسٌ في عَشر صور، وربما تظهر أخرى في واحدةٍ فقط. اللافت أنه لا توجد واحدةٌ منهنّ متوسطة الجمال مثَلا. كلهن بارعات الجمال، أو هكذا خُيِّلَ لي!

- دي مجموعة حلوة جدًّا يا عم عاشور.

- دا كلام برضه؟! هو ممكن عمّك عاشور يصور صورة مش حلوة جدًّا؟

     ناولني ألبومًا ثانيًا وثالثًا، إلى أن أتيتُ على ألبوماته السبعة. في الحقيقة كانت الألبومات ضخمةً جدًّا ومن القطع الكبير. لم أشعر بالوقت يمُرّ عليّ وأنا أتصفح الألبومات، لكن يبدو أنه كان وقتًا طويلا. لم أعرف هذا إلا بعد أن اسمتعت بآخر صورة في آخر ألبوم. ساعتان! كان يأخذ منّي كل ألبوم أُنهي تصفُّحَه ويتصفحُه هو بينما يناولني آخر. تتابعَت على ملامحِه تعبيراتٌ كثيرةٌ كثيرة لمأستطع أن أصنّفَها بسهولة ضمن الحزن أو الفرح أو الغضب أو لذة التذكُّر، لاحظتُها وأنا أختلس النظر إليه خلال تصفُّحي الألبومات. عيناه تتسعان أحيانًا حتى تلتهما العروس التي في الصورة، وتضيق حدقتاهما أحيانًا حتى أكاد أجزم أنه يحاول رؤية شيءٍ بالغ الدِّقّة في الصورة!

- دول حريمي!

- نعم؟!

     قلتُها في لهجةٍ أدركتُ بعد أن نطقتُها أنها أقرب إلى الاستنكار، لكنّي في الحقيقة كنتُ أحاول أن أتفهمَ ما يقول. اتسعت ابتسامتُه وأطرق قليلاً ثُمّ عاد وناولني أول ألبوم تصفحتُه، وفتحه على مجموعة صورة لعروسٍ بعينِها، ودقّ بسبابتِه اليمنى على صور العروس وهو يناولني الألبوم. نظرتُ إليها مُجَدَّدًا فتبينتُ هذه المرّة على الفور أنها صورة الحماة التي كانت معنا منذ ساعتين في الطابق العلوي! ليست هي تمامًا، حيث تختفي تجاعيد الوجه في الصورة، وينسدل شعرُها الأسود الطويل على فستانِها قديم الموضة من تحت تاج العروس، وتأخذ ابتسامتُها في الصورة أبعادًا ليست لتلك المرأة التي رأيناها معًا منذ قليل، كما يقلّ وزنُ عروسِ الصورة كثيرًا عن المرأة ذات اللحم والشحم!

- مش أول واحدة تيجي ببنتها أو ابنها في يوم زفافه، واكون مصوّرها هي شخصيًّا من زمن الزمن في يوم زفافها.

     تهدّج صوتُه قليلاً ورأيتُ في عينيه ما يشبه دمعتين تترقرقان لكنّهما لم تجرؤا على المغادرة إلى خدّيه، أو ربما ابتلعَتهما عيناه في قسوة. أخذ منّي الألبوم وهو يتنهّد قائلاً:

- دول عرايسي. دول كل العرايس اللي صورتهم في حياتي. لمّا أقول لك انهم عرايسي، يبقى اقصد انهم عرايسي فعلاً. كنت عريس لكل واحدة منهم على الأقل ليلة، إذا ما كانش أكتر من ليلة. بس عريس من طرَف واحد!

     قال هذه الجملة الأخيرة ولهجتُه تختلج بالسخرية، ثم ضحك ضحكةً مكتومةً وربّت كتفي في أُبُوّةٍ وتابع:

- الناس من ورا الكاميرا غير الناس! والستات والبنات مش استثناء من القاعدة دي.

     قام من جانبي وفتح أحد أدراج المكتب، وتابع كلامَه وهو يُخرِج منه أنواعًا متعددةً من الكاميرات والعدسات المفردة وآلات الفلاش المنفصلة القديمة:

- كل كاميرا من دول وكل عدسة من دول بتعمل عملها الخاص بيها جدًا في العرايس.

     لم أدرِ لماذا خطر لي في هذه اللحظة أنه يتحدث عن عرائس المولد! ابتسمتُ للخاطر بينما تابَعَ وهو يعود إلى جِواري ممسكًا كاميرا قديمة الطِّراز:

- الـ(كوداك) اللي في إيدي دي كانت قادرة تمامًا من تلاتين سنة انها تحوّل أي عروسة لموناليزا. ما اقصدش انها بتحلّي العرايس وخلاص، لأ! بتحوّلها لموناليزا تحديدًا. موناليزا الشهيرة! بُص تاني لصورة الست اللي جات لنا من شوية.

    ناولني الألبوم الأول للمرة الثالثة، وهو يفتحه على صُوَر العروس التي كانت منذ ثلاثين عاما. كنتُ أرى في الصُّوَر ما أخذ يتحدثُ عنه بالضبط:

- نظرة العين الغامضة اللي تحيّرك، هي بتبُصّ لك ولاّ بتبُصّ لحاجة وراك وانت بالنسبة لها شفّاف! العروسة دي كانت أرفع من دلوقتي زي ما انت شايف طبعًا، لكن في قعدتها على الكرسي بالشكل دا كانت مليانة بالظبط زي موناليزا. سمرا شويّة، لكن تبان لك في الصورة اللي باصّة فيها بجنب دي، بالظبط لون موناليزا!

     ناولتُه الألبوم، وأخذ يضحك ضحكةً تختلط فيها المرارة بالإشفاق بالسخرية، وقال بين ضحكاته:

- العريس بتاع النهارده دا مسكين! أمه ومراته من حريمي! حاسس انّي محقوق له والله!

     أخذ يتفرس صورة العروس التي أصبحت أم العريس، وأخذت أصابعه تتتبّع خطوط جسدِها. سبابتُه كأنها ترسم عروسًا فوق العروس الظاهرة في الصورة، لها صدرها الذي يبدو ريّان في صورة الجلوس على الكرسي، وخصرها الضامر وذراعاها الممدودتان بباقة الورد. اتسعَت عيناه رويدًا رويدًا وتمدّد جسدُه العجوز على الشلتة، وتصلّبَت أطرافُه قليلاً كمَن يعاني نوبةَ صرَعٍ خفيفةً، ثُمّ ارتعدَ قليلاً وهو يحتضن الألبوم مفتوحًا على صورة عروسه القديمة، والتفّت الساقُ بالساق، وأخذ يعَضُّ على الحافة العليا للألبوم بينما يصدُر من بين شفتيه المنفرجتَين قليلاً صوتٌ لم أسمعه منه من قبلُ، أقرب إلى المقطع الأول من صياح الديوك، ممطوطًا حتى خُيِّلَ لي أنه لن ينتهي! لكنّه انتهى. خفَت تدريجيًّا وأغمض عم (عاشور) عينيه وهو يقبض إليه جسدَه قبضًا يسيرا. مكث على هذه الحال دقيقتين قبل أن أنبّهَه إلى صوت خطواتٍ تنزِلُ السُّلَّم إلينا من الطابق العلوي. فتح عينيه عندما كان العريس الذي يتميزُ غيظًا منذ ساعتَين واقفًا في منتصف الغرفة ممسكًا هاتفَه المحمول ملوّحًا به في ارتباكٍ وهو يقول:

- آسف جدًّا، بس رجعت لأني اكتشفت بعد ساعتين انّي نسيت الموبايل هنا!

     طوى عم (عاشور) الألبوم سريعًا ووضعه جانبًا وهو يقوم إلى العريس. كانت رائحة الكلور قويةً في هذه اللحظة. ربّت كتِفَه ثم قرّبَه منه والعريس في دهشةٍ لا يعرف ماذا ينوي أن يفعل الرجُل. فاجأه عم (عاشور) كما فاجأني بتقبيل جبينه في أُبُوّةٍ وهو يقول بينما يربّت خدّه بكفّه اليمنى:

- خلّي بالك من عروستك يابني، وخلّي بالك من والدتك. دول جوهرتين.


محمد سالم عبادة
نُشِرَت في مُلحَق الأهرام الأدبي يوم الجمعة 5 يونيو 2020
من مجموعتي القصصية (الناظِرُون) - مُعَدَّة للطَّبع


Saturday 11 July 2020

قصّة: الناظِرُ في كتابِ المَوتَى


     أسوأ هزائمي كانت رفض مصلحة الطب الشرعي انضمامي لها. كان هذا منذ عشرة أعوامٍ بالضبط. ذهبتُ إلى هناك وسألتُ عن كيفية الانضمام، فأجابوا:
- "ينزل الإعلان في الجرايد وتقدّم. تابع نزول الإعلان!"
     وكان هذا يعني الرفض، أو عدم الاكتراث بشخصي إن شئنا الدِّقَّة. ذلك أنَّ الإعلان مجرد ديكور رسمي لضَمّ أشخاصٍ بعينهم إلى المصلحة. أعني أولئك الذين تكفُل لهم الواسطة التحاقًا سهلاً بالمصلحة، وتعوّضُ في نعومةٍ نقصَهم العِلمِيّ. لكنّها كانت هزيمةً مؤقّتة. مؤقتةً جدًّا في الحقيقة!
     كنتُ حزينًا جدًّا في ذلك اليوم. ولم يكن لي مَلاذٌ إلاّ مشرحة الكلّيّة. خرجتُ من المصلحة، وهِمتُ على وجهي في شوارع (زينهم). لم أعرف أمامي من ورائي. لا أدري كيف أخذَتني قدماي إلى المشرحة. كنتُ مُسَيَّرًا إلى هناك بِلاوَعيي. عُمّال المشرحة يعرفونني جيّدًا. أنا الأول على دفعتي في التشريح في السنتين الأولَيَين من دراستنا بالكلّيّة. لا ندرس التشريح بعدهما. ولم أكرر هذا الإنجاز في أية مادةٍ أخرى. في الحقيقة، كانت تقديراتي متوسطةً في بقية الموادّ. لم يستَهوِني شيءٌ كما استهواني التشريح. لو كنتُ تعاملتُ بشِدّة مع إرادتي العليلة ونزَقي الجامح لكانت تقديراتي الآن قد منَحَتني كرسيّ المُعيد في قسم التشريح.
     بالتأكيد لم يكن تفوقي في مادة التشريح - التي لم تستغرق من حياتي الجامعية إلا عامَين-كافيًا لأظَلَّ معروفًا لعُمّال المشرحة إلى الآن. في الحقيقة، كنتُ لاجئًا في المشرحة طيلة أعوام الدراسة، وحتى في سنة التدريب. لم أكن أجلسُ هناك لأذاكر البكتيريا أو الطفيليات أو الجراحة أو طب الأطفال مثلا. كنتُ عاكفًا على المشاركة في تشريح ما يستجِدُّ من جُثَث، وإعداد الدروس للمدرسين المساعدين والمدرّسين. كان هذا يعني أنَّ طقم أدوات التشريح - الذي نشتريه من محالّ الأدوات الطبّيّة فور التحاقِنا بالكلّيّة – حاضِرٌ دائمًا في حقيبتي. دائمًا!
     إعداد الدروس كان يعني أنني في يومٍ ما أنشُرُ جمجمةَ إحدى الجثث (وهي مهمّةٌ يقومُ بها العُمّالُ في الغالِب)، وأفصِل جِذعَ المُخِّ جيّدًا، وقد أُضيفُ تحديدًا بالألوان الفلوماستر للقنطرة والنخاع المستطيل والمُخّ الأوسط. وفي يومٍ آخَر، أربِطُ بلفافاتٍ صغيرةٍ من الشاشِ عضلاتٍ وأوتارًا وأعصابًا وأوعيةً دمويةً بعينِها من السّاعِد، تهيئةً للامتحانات. وهكذا.
     المهمُّ أنني حين وجدتُ نفسي على باب مشرحة الكلّيّة في ذلك اليوم، عادت إلَيَّ رُوحي التي فارَقَتني مع ردّ موظف المصلحة المتجهّم.  
     كان في المشرحة جُثّةٌ واحدة، قام أحدُ المُعيدين بفتح بطنِها. كانت جُثّةَ امرأةٍ في عِقدِها الثالث. رائحة الفورمالين لم تكن قويّةً في هذا اليوم. لا أدري لماذا!
     جذبتُ كرسيًّا وجلستُ أمامَها.
- دي المفروض تتحضّر عشان درس الـLiver لسنة تانية، خلاص الترم التاني ع الأبواب اهو، وأجازة نُصّ السنة بتخلص، كل سنة وانت طَيِّب يا دكتور!
    
     كان هذا إيذانًا من رئيس عُمّال المشرحة بأن أبدأ العمل! هكذا اعتادوا معي. عليهم فقط أن يحددوا الدرس المطلوب للدكتور غريب الأطوار الذي يَعشقُ المشرحة ولا يحتملُ غيرها، وسيشمِّرُ ساعدَيه ويرتدي قُفّازَين ويُخرجُ أدواتِه ويبدأ العمل. إذَن، فالكبِد هي المطلوبة! نظرتُ داخِلَ بطنِها، وتحسستُ أعضاءها من فوق غشائها البريتونيِّ الذي مازال مُغلقًا، ثُمّ تحسستُ كَبِدَها. متوسطةُ الحجم. من الواضح على الأقلّ أنها لم تكن مريضة كبِد. هاه! ألم أكن أَولَى من غيري بالطب الشرعي؟!
     عزلتُ الكبد عن حجابها الحاجز، وشرّحتُ الوريد الأجوف السفلي والشريان الكبدي والقنوات المرارية، بحيثُ تبدو واضحةً للطلَبة.
- نفسي البتّ بنتي تدخل طب والله يا دكتور! النهارده نتيجة امتحانات نُصّ السنة بتاعتها. هي في أولى ثانوي. كانت بتشتكي من المواد الأدبية. يا ترى حتجيب كام؟!

     كان عمّ (سيد) رئيس عُمّال المشرحة مسترسلاً في هذا المونولوج ولا يتوقّع أن أَرُدَّ عليه بالطبع، كعادتِه. كنتُ في هذه اللحظاتِ أضعُ يدي في شقوق الكبِد وأتفحّصُ أقسامَها. ثَمَّ إحساسٌ غريبٌ يراودني لأول مرّة. إحساسٌ لا يُوصَف!
- استنّى دقيقة يا عم سيّد!
     كانت هذه المقاطعة غير مألوفةٍ بالنسبة لعمّ سيد، فالمتعارَفُ عليه أنني أتركُه يقولُ ما يشاء ولا ألتفتُ إلاّ إلى الجُثّة. بالطبع لَم أرَ ملامحَه، فقد كان يقف ورائي بالضبط حين دفنتُ رأسي داخل بطن الجثّة، إلا أنه بالتأكيد فغرَ فاهُ دهشةً. عيناي ويداي والكبِد. مازلتُ إلى الآن عاجزًا عن وصف هذا الإحساس الغريب.
- مجموعها 122 من 140، عربي 19 من 25، إنجليزي 21 من 25، فيزيا 9 من 10، كيميا 9 من 10، .........
     كان كلُّ شيءٍ واضحًا أمامي! لا أدري كيف حدث هذا، إلا أنَّ الكبِدَ أصبحَت أمام عينيَّ وبين يديَّ أقربَ إلى شهادة درجاتٍ لبنت عمّ سيد! حين انتهيتُ من سرد درجاتها بالكامل عليه، التفتُّ إليه. لم أكن قادرًا على تثبيت عينيَّ في أي شيء. كان النُّورُ مؤلِمًا جدًّا لعينيّ. أحسستُ بألَمٍ كالوَخز فيهما فأغمضتُهما. حين أغمضتُهما انتبهتُ إلى وخزٍ آخر في أطراف أصابعي التي كنتُ أفحصُ بها الكبِد. وخزٌ شديدٌ، لكنَّه توارى مؤقتًا خلف وخز عينيّ. ابتلعتُ صرختي وانكمشتُ على نفسي، وعمّ (سيد) وبقيّة العُمّال ينظرُون إليَّ في ذهول. بدأ الألَمُ يَخفُتُ، ورَنَّ هاتف عم (سيد). إنها ابنتُه الكبرى تُطَمئِنُه على نتيجة امتحانات التِّرم. كانت تُنهي إلى مسامعِه درجةً درجةً، ويكررها وراءها وعيناه مفتوحتان على اتّساعِهما وهو ينظرُ إليّ:
- 122 من 140، عربي 19 من 25، إنجليزي 21 من 25، فيزيا 9 من 10، كيميا 9 من 10، .........!

     اختفى ألَمي تمامًا، وحلّت محلَّه الدهشة. لم أكن أصدِّقُ ما حدث! التمعَت الفكرةُ في رأسي. أيُمكن أن يحدُثَ هذا؟ إنه يشبه التنبُّؤَ بالمستقبل بفحص الكبِد Hepatoscopy! قرأتُ عنه منذ فترةٍ طويلةٍ وظلَّ مسيطِرًا على تفكيري. كان الكهَنَةُ يمارسونه في أكثر من حضارةٍ قديمة. في بابل وآشور، وعند الإتروسكيين في شمال إيطاليا. مارسوه مع أكباد حيوانات القرابين المذبوحةِ للآلهة، ومع القرابين البشرية، التي طالما كانت من العذراوات صغيرات السّنّ. لكن!
     هذا ليس علميًّا! هذا غير معقولٍ بالمرّة! لقد كان مجرّد احتيالٍ بدائي. كيف يمكن أن يحدثَ معي؟!
- ابني راح مع امُّه وخطيبته وحماتُه ينقّوا أوضة نوم لشقّة الجواز. ما تقول لنا كده يا دكتور حَيِرسُوا على إيه؟!
     قالَها عم (كمال) مساعد عم (سيد) ضاحكًا، ولم يكن يَعرف، ولم أكن أَعرف، أنني بعد ارتباكِ ثانيتين فقط، سأعودُ إلى بطن الجُثّة، وأعمد إلى فتح الغشاء البريتوني وأفحصُ أمعاءها الدقيقة. فحصتُها كما لم أرَ إنسانًا يفحصُها. لا أدري أين وكيف تعلَّمتُ هذا! بدأتُ من آخرِها، من حيثُ تلتقي بالأعور عند الزائدة الدودية، وصعدتُ إلى الاثني عشر، وهناك ألصقتُ أنفي بها وأخذتُ أتشمَّمُها. عم (سيد) شعر بالتقزُّز وتقيَّأ رغم أنه أقدمُ العُمّال ورئيسُهم. يبدو أن المشهد كان موغلاً في الغرابة.
- حَيِرسُوا على أُوضِة نوم (إم دِي إف). متينة وشِيك وسِعرها معقول، بس حَتبُوش مِن تحت مع أول مسحة لأوضة النوم!
     من الواضح أنني لا أمارس التنبؤ الكبدي فقط. مجالي الجديد أوسعُ من مجرّد الكبِد. هذا ما سمّاه الرومان Extispicium أو التنبؤ بفحص الأحشاء! الوَخزُ في عينيَّ وأصابعي وأنفي. الألَمُ رهيب. انكمشتُ من جديد.  
أسرع عم (كمال) يلتقطُ هاتفَه المحمولَ وطلبَ زوجتَه. انساب إليه صوتُها الذي سمعنا رنَّتَه دون أن نتبيّن تفاصيلَ ما تقولُه. ظلَّ فاغرًا فاه ولا يقولُ مع نهاية كل جملةٍ إلا:
- الله أكبر! الله أكبر!
     لم أنتظر أكثر من هذا. قمتُ من أمام الجُثّة وألقيتُ قُفّازَيَّ بجوار المنضدة وأسرعتُ إلى الخارج. كان عليَّ أن أتحرَّكَ سريعًا، لا أدري لماذا، لكن تلك كانت الفكرة التي سيطرت عليّ!
     ذهبتُ إلى مصلحة الطب الشرعي من جديد وأصررتُ على مقابلة رئيسِها. قِيلَ لي إنه ليس موجودًا الآن وإن الوقت متأخِّرُ جدًا. لم أكن منتبهًا حينذاك أن الشمس تميل للمغيب بالفعل وأن يوم العمل الحكومي انتهى! كان عليَّ أن أنتظر إلى الغد.
     في تلك الليلةِ رأيتُ أطرافَ أصابعي تتّقِد. تتّقِدُ حتى تبعثَ ضوءًا يكاد يُغشي الناظرين. كان الضوءُ قريبًا من ذلك المُنبَعِث مِن لِحام الأوكسجين! أمّا أنفي فقد كان متضخمًا في الحُلم وثقيلاً ويتدلّى فوق شفتَيَّ كالمظلّة! عيناي كانتا مفتوحتين على اتساعِهما، وكان الهواءُ يحملُ إبَرًا طائرةً، كلُّها يقصد عينيَّ، وكلُّها لا يُخطئُ هدفَه. كانت الإبَرُ تخترقُ عينيَّ فأتألّم. لكنّه لم يكن ألمًا خالصًا كما حدث في المشرحة. كان ألمًا ممزوجًا بالنشوة. كنتُ أهتزُّ في تلذُّذٍ كلّما التقفَت عيناي إبرة. أهتزُّ وأصرُخ. ولم أكن أنزِفُ دمًا، بل مشاهِدَ مطبوعةً تتساقطُ من عينيَّ في قطراتٍ كقطراتِ الماء أو الدموع الباردة، فإذا لمسَت الأرض تمدَّدَت وأخذت شكلَها النهائيَّ، كما لو كانت صُورًا فوتوغرافيّةً مطبوعة! 
     في صباح اليوم التالي ذهبتُ إلى المصلحة، ونجحتُ في إقناع الموظَّفين بأهمية مقابلتي رئيس المصلحة. كان الرجُل فاترًا جدًّا، وكان هذا مفهومًا بالنسبة لي. ما الذي يدعو طبيبًا حديث التخرج إلى الإصرار على مقابلتِه؟! لم أَدَعه يفكر طويلا.
- أنا لازم أشتغل هنا لسبب واحد. السبب دا مالوش علاقة بإني أول دفعتي في التشريح في أولى وتانية كُلّيّة. السبب دا إني باعمل Hepatoscopy وExtispicium ناجحين جدًّا!
     ظل الرجُل صامتًا بُرهةً، وأدركتُ أنه لم يفهم تماما. ظنّني أتحدث عن فُحوصٍ كبديّةٍ جديدةٍ بالمنظار أستطيع أن أقوم بها، ولم يفهم أصلاً ما أعنيه بالـExtispicium.
- لا يافندم! أنا باتنبأ بالمستقبل من فحص الجثث. لازم حضرتك تشوف دا عمليًّا. تحب تختبرني دلوقت حالاً؟!
     نظر في عينيَّ من قريبٍ وعلى فمه شبحُ ابتسامة، ثُمّ وضع كفّه في كفّي وسحبني وراءه خارجًا من مكتبه. عبرنا طرقات المصلحة إلى ثلاّجة المشرحة.
- أنا طبعًا كما لا يَخفَى عليك مش مصدقك! لكن أحب أشوف اللي انت بتعرف تعمله دا بالظبط!
     أمر عاملاً من عمال الثلاجة أن يَفتح أحد الأدراج. كانت الجُثّة لرَجُلٍ في عِقدِه السادس، في عنُقِه أثر طعنة.
- اسألني عن أي حاجة تهمّك، وممكن تتأكد منها سريعًا بعد ما أجاوبك عن سؤالك!
     سبقني لساني إلى هذا القول، ثُمّ ارتبكتُ جدًّا بعده. الجثة مطعونةٌ في الرقبة، وخبرتي الجديدة التي لا تتعدى جثةً واحدةً فحصتُها أمسِ لم تتجاوز فحص الكبد والأمعاء! لستُ أعرفُ أصلاً إن كان هناك في التاريخ سوابق للتنبؤ بفحص أعضاء خارج البطن! صمت رئيس المصلحة قليلاً وهو يضع يديه في جيبَي بنطلونه ويدور حول نفسه مفكِّرًا، ثم توقف وواجهَني مضيِّقًا حِدقَتَي عينيه:
- سهم الشركة الذهبية للعقارات أخباره إيه النهارده في البورصة؟!
     فاجأني هذا السؤال! لكنّني بشكلٍ آليٍّ أخرجتُ أدواتي وأعملتُها في رقبة الجُثّة. ظللتُ أُشَرِّحُ وقتًا طويلاً حتى تركتُ الرقبة إلى أعلى الصدر ووصلتُ إلى مفترَق القصبة الهوائية إلى الشعبتين الهوائيتين الرئيستين. وضعتُ كفَّيَّ على هذا المُفترَق وشبَّكتُ أصابعي حولَه، ونفختُ بينهما وشممتُ هواءَ زفيري وهو يصطدمُ بهذه المسارات الهوائيّة ثمّ انسابت الكلمات رغمَ أنفي. المُخيفُ أنني لا أفهمُ شيئًا من اصطلاحات البورصة على الإطلاق. لم أحتكَّ من قريبٍ بهذا المَجال لأعرفَ عنه أقلَّ القليل. لكنّ الكلماتِ انسابَت، كأنني كاهنٌ إغريقيٌّ في معبد دِلفي، أقرأ الوحي على الزُوّار طُلاّب النبوءة ولا يَدَ لي فيه. ذكرتُ الأرقام التفصيليّة لبُنودٍ تسمَّى القيمةَ الاسمية والقيمة السوقية والقيمة الدفترية وغير ذلك مما لا أذكرُه بالطبع! نعم، لا أذكُر. لقد كان لساني وحنجرتي وجهازي الصوتيُّ وجسدي كلُّه، بل ورُوحي أيضًا، كياني كلُّه كان ضيفًا على هذه النبوءة التي لا أعرفُ شيئًا عن مجالِها الدقيق! لم يَفُت الرجُلَ أن يُخرِج قلمَه ودفتر ملاحظاتِه الصغير ويُدَوِّنَ القِيَم الرقمية التي تلوتُها عليه. اتّصل بشركة التداوُل التي تُديرُ استثماراته في البورصة وسألهم عن سهم الذهبية للعقارات. انتظر قليلاً، ثم أخذ يدوِّن القِيَم التي يُمليها عليه مُحَدِّثُه. أنهى المكالمة وقارَنَ قائمة الأرقام وحاجباه يرتفعان دهشةً، وهو ينقل عينيه بين دفتره وبيني. كنتُ أتعافى من الوَخز في أنفي وشفتيَّ وأصابعي.
- انت إيه؟! بسم الله الرحمن الرحيم! اللهمَّ احفظنا!
     ابتسمتُ في صمت. في هذا اليوم عُيِّنتُ في المصلحة. كان هذا بالضبط منذ عشرة أعوامٍ إلاّ يومًا واحدا، وكان أعظمَ انتصاراتي قاطبة!
     لعشرة أعوامٍ إلا يومًا أذهبُ يوميًّا إلى المصلحة، عدا أيام العُطلات الرسمية، وأفحص ما يُوكَلُ إليَّ من الجُثَث، وأتلو النبوءات التي لا أعرفُ مصدرَها على مَن يطلبونها من زملاء العمل. فشِلتُ تمامًا في أن أكون طبيبًا شرعيًّا حقيقيًّا طيلة هذه المُدّة. ربما لأنني لم أهتمَّ بالأمر في البداية وكان كلُّ ما يَعنيني أن أُمارس التشريح كما أهوى، وأدعَ النبوءات تنسابُ على لساني لكَي تُرضِيَ الجميع. لستُ قادرًا على تحديد طريقة القتل الحقيقية في جرائم القتل المعقَّدة، ولا أستطيعُ أن أجزِمَ إن كانت الخدوش التي في صدر امرأةٍ ما ناجِمةً عن محاولة اغتصابٍ أم أنها خدشَت نفسَها كما يَدَّعي المتَّهم بالاغتصاب. في الواقع، لم يَشغَلني رؤسائي بهذا الجزء الكبير من الطب الشرعي الذي يهتمُّ بفحص الأحياء. تركوا لي الموتى منذ البداية. ولم يطلبوا منّي البحث عن أسباب الوفاة، وجنَّبُوني القضايا الدائرة في قاعات المَحاكِم. كانت مهمَّتي في المصلحة محددةً بشكلٍ تصالح عليه الجميع.
     حواسي تعملُ بأقصى كفاءتها حين أنخرطُ في نوباتِ قراءةِ ما كُتِبَ على أعضاء الموتى، وتتخدَّرُ وتتبلَّد فيما بين ذلك. زاد هذا الخدَر والتبلُّدُ يومًا بعد يوم. أصبحتُ أرتدي نظّارةً سميكةً، وثَقُلَ سمعي فاضطررتُ إلى السمّاعة الإلكترونية، ولم يعُد من الأمان أن أوقِدَ فُرن البوتاجاز على الإطلاق في بيتي، لأن انهماكي في أي شيءٍ ونسياني ما بداخل الفُرن يَعني أن أحترقَ ويحترقَ كلُّ شيء. أنفي معطَّلٌ خارج الجُثَث.
     لم أتزوّج. ظللتُ راهبًا للمصلحة. لم أحقِّق بالطبع أيَّ شكلٍ من أشكال الثراء. أقاربي يظنون هذا راجعًا إلى طهارة يدي وتعفُّفي عن التربُّح من موقعي كطبيبٍ شرعي، والحقيقةُ أنَّ هذا راجعٌ إلى أنني حتى إن أردتُ أن أتربَّحَ لن أستطيع.
     الغريبُ أنَّ أحدَهم لم يشغل نفسَه بمحاولة تفسير ما يحدُث بيني وبين أجسادِ الموتى. حالتي مختلفةٌ عن حالة الكُهّان في الحضارات القديمة. كانوا يقرأون من أكباد القرابين، وأنا أقرأ كلَّ ركنٍ في أجساد الموتى العابرين! كلُّ الموتى قابلون لحمل النبوءات بين طيّات أعضائهم. يكفي أن تَحضُرَ الجُثَّةُ أمامي، لتُجيبَ عن أسئلةِ مَن حضرَ من الناس. هل أنا المتنبِّئُ ولا تكتسبُ الأجساد هذه الخاصِّيَّة إلاّ معي؟ أم أنَّ أحداثَ العالَم محفورةٌ بتمامِها بالفعل في أجساد كلِّ الموتى، وما أنا إلا وسيطٌ يُجِيدُ القراءة؟!
     مرَّ عشرة أعوامٍ إلا يوما. ذِكرى. لا أعرفُ إن كانت حزينةً أم فرِحة. ذكرى أسوأ هزائمي وأعظم انتصاراتي. الفارقُ بينهما يومٌ واحدٌ، ولا أدري أيهما الهزيمةُ وأيهما الانتصار. ربما هما مجرَّد حدَثَين. ربما لا ينبغي أن أعزُوَ إلي أيِّهما أيةَ صِفة. لا أدري.
     ها أَنَذا في طريقي إلى المصلحة. ليس أمامي إلا أن أستمرَّ فيما زُرِعتُ فيه. ما أخذتُه لنفسي بإصرارِ ساعةٍ واحدة. لا أستطيعُ أن أُدِيرَ وجهي إلى جهةٍ أخرى. مازلتُ أحبُّ أن ينحني جسَدي على الجُثّة وأن أنهمِك في تشريحِها. أصَنِّفُ وأُقَسِّمُ وأُبَيِّنُ كلَّ شيءٍ فيها. ورغم أنفي تنسابُ النبوءاتُ من كتاب الموتى على لساني إلى مَن ينتظرونها. نعم. وصلتُ إلى ثلاّجة المشرحة. ليس أمامي إلاّ أن أبقى هنا.
محمد سالم عبادة
الأربعاء 29 أغسطس 2018     
نُشِرَت في عدد مايو 2020 من مجلة الثقافة الجديدة    



Thursday 11 June 2020

قِصَّة: لايُبصِرُون بِها



يقولون إنّ كلّ جرّاح يشبه النسيج الذي يعمل فيه. سمعتُها من جرّاح عيون في درس (رَمَد) وأنا بَعدُ طالبٌ بالفرقة الرابعة في كلّيّتي. كان بالتأكيد يحاول إقناعَنا بأنّ أمامَنا واحدًا من المجموعة الأرقى من الجرّاحين الذين سنتعامل معهم منذ تلك اللحظة. بحسب كلامه، كان جرّاحو العيون دقيقين رقيقين، جرّاحو الأنف غارقين فيما يبعث على التقيُّؤ، جرّاحو العِظام قُساةً صخريين، جرّاحو النساء مرِنين إلى درجة الغموض وجرّاحو القولون والشرَج مولعين بالدهاليز المُظلِمةِ القذرة.
     أؤمن تمامًا بتلك المقولة. أبي كان قاسيًا كالنسيج الذي يعملُ فيه كذلك. اختار الصوّان منذُ شبابه واحترف النحت. كثيرٌ من أصدقائي الذين عرفوه قالوا إنه بدا لهم رجلاً طيّبًا بشوشا. نُقّاد الفنّ الذين اقتربوا منه لم يتركوا مناسبةً يذكرونه فيها إلاّ وذكروا معه ابتسامتَه ورحابة صدره وتواضُعَه، وكأنها كائناتٌ تعيش مرافقةً له لا صفاتٍ فيه! وحدي اختبرتُ قسوتَه. ربما لم يجد متنفَّسًا لها إلاّ معي أنا وحيدَه. سمَّوه ملِك الصّوّان لأنه كان يفضّل العمل مع ذلك الحجَر الصُّلب، وقالوا إنه كان ملِكًا طاغيةً مع حجارتِه لا يرحمها ولا يرِقُّ قلبُه لها وهو ينهالُ عليها بإزميله ومطرقتِه. وكنتُ أراهُ رقيقًا معها كجرّاحي العيون أو أرَقّ، ديمقراطيًّا يقبلُ رأيَ الحجَر ولا يسمعُ مشورتَه فقط بل يلمسُها ويشمُّها! نعم، يتحرّى العُروق التي تتخلل حجارتَه ليعمل دون أن يصطدمَ بها، ويختبرُ صلابة القِطع المختلفة بأن يَطرُقَها بأصابعه، بل ويتشمم كلَّ حجَرٍ قبلَ أن يُعمِلَ فيه مِشرَطَه فيَعرفُ كيف يبدأ معه ومن أين يبدأ!
     أمّا أنا فكنتُ حَجَرَه الذي لا يقوى على أن يُبدِيَ رأيًا ولا عِرقا. لم يَكُنْ يُعطيني الفرصةَ لأبدِيَ في الحقيقة. يعاجلُني بإزميلِه من اللحظةِ التي أفتحُ فيها عينيَّ في الصباح، ولا يرحمُني منه إلاّ أن يُغَيِّبَني القدَرُ عن عينيه، ولَشَدَّ ما كنتُ أفرَحُ كلّما أنعم عليّ القدَرُ بغَيبةٍ كهذه. مازال في وجهي أثرُ دَفعَته إيّاي حتى ارتطمَت جبهتي بالبابِ حين سخِرَ أطفالُ الشارعِ مِن سِمنَتي فلَم أرُدّ عليهم، وأثَرُ مِشرَطِه -أعني إزميلَه- في خدّي الأيسَر حين طوَّحَ يدَه في وجهي وهو يحملُه غاضبًا من قولي له إنّ مدرّسي الفصل يقولون إنّ مهنتَه حرامٌ وإنّه أشَدُّ الناسِ عَذابًا يومَ القِيامة، وأثَرُ صوتِه وسكونِه في رُوحي وهو يعلّقُ في تَهكُّمٍ على إخفاقاتي ويتجاهلُ نجاحاتي في إصرار.
     لكنّ الجُرحَ الأعمقَ في رُوحي كان من عمل يدِهِ كذلك، لكن بشكلٍ غير مباشر. كانت نظرةُ أمّي هي السبب المباشِر في هذا الجُرح. ليست نظرةَ أُمّي التي من لحمٍ ودَم. إنما أعني أُمّي التي في الحِجارة. تماثيلَ أمّي التي صنعَها أبي وحقّقت له مزيدًا من الشُّهرة.
     شيءٌ ما زَهَّدَني في فنّ هذا الرجُل منذُ صِباي. لا أعني فنَّه هو بشكلٍ خاصّ، وإنما أعني النحت والتماثيل وكلّ تلك الأشياء. ليس شيئًا متعلّقًا بالدّينِ أو الفقه, فقد تشكّلَ هذا الزهدُ وترعرعَ حتى قبل أن أصطدِم برأي الفقه في عملِ أبي. ربّما – وأقولُ رُبّما لأنني لستُ متأكدًا تمامًا – هي نظرةُ أعيُن التماثيل، فقد كانت كراهيتي للنحت تتضاعف مع كل تمثالٍ لإنسانٍ أو كائنٍ حيٍّ بعينين. إنه ذلك الخواءُ المُطِلُّ من أعيُن التماثيل. العدَم. حين اصطحَبني أبي إلى الاستوديو في المرّةِ الأولى وأنا في الرابعةِ أخافَني هذا الخواء. أخافَني حتى ارتعدتُ فلمّا حاولَ أن يُهَدهِدَني – وتلك كانت المرّةَ الوحيدةَ التي أذكرُها له – بكيتُ وأدرتُ وجهي بعيدًا، فلمّا أدارَني ونظرَ في عينيّ أخافَني أكثر، لأنّي رأيتُ في عينيه مِثلَ ما رأيتُ في أعيُن التماثيل. الخواء. العدَم.
     أشارَ إليّ بالكَفّ عن البُكاء وهو لا يحاولُ أن ينظُرَ في عينيّ مُجَدَّدًا، وأخذني من يدي وعادَ بي إلى البيت. ظللتُ بعدَها عشرةَ أعوامٍ لا أقوى على زيارة الاستوديو. وحين أعَدتُ الكرّةَ في الرابعةَ عشرةَ ارتعدتُ كذلك لكنني لم أبكِ. كنتُ رابِطَ الجأشِ كمراهِقٍ طبيعيٍّ يكرهُ أباه، لكن رباطةَ جأشي هذه كانت مرهونةً بألاّ أنظُرَ أبدًا في أعيُن التماثيل، ولا في عينَي أبي.
     في الأعوام العشرة التي تفصل الزيارتين كوّنتُ رأيًا احتفظتُ به لنفسي. من أجلِ هذه النظرةِ الخاويةِ تُعبَد التماثيل. عُبِدَت قديمًا ومازالت تُعبَد لِسواد عيون العدَم المُطِلِّ من عيونِها. الناسُ يهربون فيها من وجودهم بكلِّ مشاقِّه وأزماتِه وكوارثه. يهربون حيثُ لا مشاقَّ ولا أزماتٍ ولا كوارث. لا همومَ ولا امتحانات. لا شيء. لذلك توعّدَ مُدَرِّسُو الفصلِ أبي، ولذلك غضِبَ حتى كادَ يقتلُني يومها بإزميلِه!
     يومًا ما، وكنتُ مازلتُ طالبَ طِبّ، قابلتُ في مقهىً حقيرٍ زميلين لي، لم يكونا صديقين حميمين وإنما كنت أجَرّبُ صُحبتَهما وقد جذبَتني غرابةُ حديثِهما. قابلَنا في المقهى صديقٌ لهما عرّفاهُ إليّ بصفتِه طالبَ فلسفة. أخذوا يتحدثون طويلاً عن الفنّ. حين عرفَ صديقُهما من هو أبي احتفى بي. كان هذا وحدَه كافيًا لإقامة حاجزٍ بين رُوحَينا. لكنّني أدليتُ بدَلوي في الحديثِ الدائرِ بينهم رغم كلّ شيء، وتحدثتُ عن خبرتي مع أعيُن أصنامِ أبي. ضحك يومها زميلاي كثيرًا، وشردَ بعيدًا صديقُهما الفيلسوفُ ووضع سبابتَه على شفتيه المزمومَتين ثُمّ أخبرنا بأنّ (سارتر) كان يقولُ إنّ الفنانَ في عملِه يُطارِد العدَم، وإنّ العدم هو جوهرُ الفنّ الأصيل.
     أعودُ إلى عينَي أمّي! لم يكتَفِ الرجُلُ بأن يزرعَ الخواءَ في عينيها. قدَّمها للناظرين عارية. أُمّي أنا، التي كانت تتأذّى من اضطرارِها للانكشاف على طبيبٍ حين كانت تعاني ما يعانيه الفَانُون من الألَم، عاريةٌ أمام مَن هَبَّ ودَبّ. كلُّ نُقّاد الفنّ يعرفون أنها كانت موديلَه العاريَ الوحيد. تقاليدُه الريفيةُ منعَته من العارياتِ بأجرٍ، وكانت أمامَه دائمًا، فلماذا لا؟!
     أُمّي أنا التي لم أرَها تترك صلاةً منذُ وعيتُ عليها، عاريةٌ أمامَ الجميع. صنع لها تماثيلَ كثيرةً، وهي واقفةٌ شامخةً، وهي نائمةٌ مستسلمةً، وهي مُتّكِئةٌ شاردةً، وهي جالسةُ منهمكة. وكلُّها تماثيلُ عارية! بالطبعِ لم أجرُؤ على أن أُكَلِّمَه في هذا الأمر. كان الردُّ المتوقَّعُ عنيفًا، والأثَرُ المحتمَلُ غائرا. أنا الآنَ جَرّاحٌ قديمٌ وأعرفُ عواقبَ كُلّ ضربة!
     كان عُريُها المُخَلَّدُ في الحجارة عدَمًا آخَرَ مع العدَم المُطِلّ من عينيها، كما أشبعَ عدمَ عينيها غموضًا على غموضه. أهناك ما لم أعرِفهُ عنها؟ أكانت امرأةً أخرى غيرَ التي أشبَعَتني حنانًا ورِفقًا وفَرِحَت لخطواتي الأولى حتى زغردَت، كما فرِحَت لخطواتي الأخيرةِ حتى دمعَت عيناها؟ وراءَ وقارِها شبَقٌ غفلتُ عنه؟ وراءَ تستُّرِها فُجورٌ لم أُدرِكهُ في خِضَمِّ حياتيَ الأولى؟ أكانَ يَجرؤُ على تقديمِها هكذا لو لم تكن قدَّمَت نفسَها له ولغيرِه بنفسِ الطريقة؟ أينتقِمُ منها على هذا النحوِ وهي بريئةٌ غافلة؟! نزفتُ دمَ رُوحي على نظراتِها ولم يَخثُر الدّمُ ولم تندمل الجُروح. ظلّت الأسئلةُ تعذبني وستظلّ، رغمَ ما فعلتُه لإخمادِها!
     كان بنيانُه القويُّ الحَجَريُّ أولَ ما يُطالِعُه الناظرُ إليه. لم تفارقه قوّةُ الجسَد، حتى كتبَ نُقّادُ الفنّ إنّ قوة الجسد لا تقلُّ أهميةً للمَثّال عن الموهبة. وبذلك كان قادرًا على أن يظلَّ يصنع تماثيلَه وهو في الثمانين، بعد موتِ أمّي بعشرة أعوام. كيف أكرهُه زيادة؟!
     اكتملت خُطّتي في ذهني أوّلاً ولم أُدخِل عليها أي تعديلٍ يُذكَر وهي تدخل حيّزَ التنفيذ. كانت خُطّةً بسيطةً تقليديّةً، لكنّها نجحَت بسهولةٍ وأبعَدَتني عن الشكوك. كانت واسطتي في تنفيذ الخطة مريضًا أجريتُ له جراحةً ناجحةً ويتمنى أن يَخدُمَني من كلِّ قلبِه. أتاني في نوبتجيةِ ليلٍ مطعونًا في صدره وبطنه طعناتٍ أوشكَت أن تُودِيَ بحياتِه. خرجَ بعد أسبوعٍ من المستشفى قادرًا على أن يثأرَ لنفسِه. مازالت معي أرقامُ هواتفِه. اتصلتُ به وطلبتُ مقابلتَه في أمرٍ عاجل. التقينا في مقهىً بعيدٍ عن دائرتَي حياتَينا. وطلبتُ منه أن يقتُلَه. هكذا دون لَفٍّ أو دورَان. هكذا مرّةً واحدة! لم أُخبِره عمَّن يكون. أُخِذ الرجُل من طلبي الذي لم يتوقعه وسألني لماذا أكرهُ هذا المقتولَ إلى هذا الحدّ.
- "هو رجل في الثمانين. أكثر رجل آذاني في حياتي، وإن عاش أكثر من ذلك فسيستمر في إيذائي"!
     أنا جرّاحٌ طيّب، أنقذُ حياة مرضاي. أستحقُّ أن أُخدَم بعيونهم. هذا ما قاله لي. كان قادرًا على تنفيذ ما طلبتُه منه، ولذا استعنتُ به، ولذا مرّ الأمرُ بسلام.
     اقتحمَ الاستوديو ذاتَ صباحٍ وكان العجوزُ قد باتَ به ومازال نائما. طعنه في صدره وبطنه طعناتٍ لا تدَع لجرّاحٍ فرصةً لإنقاذه. وأخذ ما في الاستوديو من المال. لم يكن العجوز يحتفظ بمالٍ يُذكَر في الاستوديو. قال صديقي إنه لم يجد إلاّ ألف جنيهٍ أخذها لكَي يُبعِد الشبهاتِ عن هدف العملية. لم يشُكّ أحدُهم في المسألة، وسارت جنازةُ العجوزِ كما يليقُ بفنّانٍ كبيرٍ أنجبَ جَرّاحًا ماهرا.
     لم تكَد تمُرّ الأيام الأربعون على العمليةِ حتى دخلتُ كعبتَه. لم أكن قد دخلتُها منذُ ما يربو على عشرين عاما. كانت الأمورُ كما عهدتُها في ذلك الزمن البعيد. أدواتُه في كلِّ مكان. صوتُ طرقاتِه على الحجَر يتردد صداه بعد أن مات. كان يحبُّ العمل في الاستوديو المغلَق أكثر من الهواء الطلق بعكس معظم أبناء مهنته. ولذا كان العملُ مازال جاريًا في الاستوديو على قدمٍ وساق. تمثالان آخَران لها. أحدُهما وهي جالسةٌ، ورأسها ملفوفٌ إلى الوراء وهي تنظرُ إلى مَن يواجهون ظهرَها. والثاني وهي نائمةٌ تمسكُ ثدييها بيديها. الإزميلُ في يسراي والمطرقةُ في يمناي. لم أُبقِ من التمثالين ما يصلُح أن يَدُلَّ على شيء. كان عملاً شاقًّا أنهكَني إلى درجة الإعياء. في نفس اللحظات التي كنتُ أنجزُ فيها هذه العملية، كان مريضي المخلص ورفاقُه يتسللون إلى ثلاثة معارض دائمةٍ تقتني تماثيلَها التي أنجزها العجوز. في غضون هذا اليوم لم يعُد لها تمثالٌ واحدٌ على الأرض. تكسّرت عارياتُها النائمةُ والجالسةُ والواقفةُ والمتّكئة، بعد أن أُخلِيَت منها المعارض.
 - "لن تُعبَدي في الأرضِ بعد اليوم".
     في ركنٍ قصيٍّ من الاستوديو وجدتُ تمثالاً من الواضح أنه أنجزه مؤخَّرًا، أو بالأحرى كان على وشكِ الانتهاءِ منه. كان تمثالاً لفلاّحٍ يرتدي جلبابًا مُشَمَّرًا إلى ما فوق ركبتيه، ذي لحيةٍ وشاربٍ كَثَّين، يرفع إلى مستوى رأسه طِفلَه الرضيع عاريًا، وجزءٌ من رأس الرضيع في فمِ الفلاّح المجنون. كان يأكلُ ابنَه كما يفعلُ (زُحَل) في لوحاتِ (جويا) وغيرِه التي كنتُ أشاهدُها في الكتالوجات التي يحتفظُ بها العجوز في البيت والاستوديو. لكنّه كما قُلتُ لم يكن قد انتهى بعدَ من التمثال. كان مكانُ العينين غير منحوت. مجرد كتلةٍ من الصوّان متصلةٍ بالجبهة دون تضاريس. كان باعثًا على الحُزن. لم أشعر بالحُزن في حياتي كما شعرتُ به وأنا أشاهدُ هذا التمثال. حتى يوم موتِ أمّي. لكنّه كان حزنًا بلا دموع. ملأ وجودي بكاملِه ولم يترُك لي نافذةً على العدَم. تحاملتُ على رُكبتيَّ اللتين خانتاني، وربّتُّ على كتف الفلاّح الأعمى. وولّيتُ جِهةَ باب الاستوديو.

محمد سالم عبادة
السبت 26 أغسطس 2017
نُشِرَت في ملحق الأهرام الأدبي يوم الجمعة 12 أبريل 2019 بعنوان (الجُرح الكبير - من اختيار هيئة التحرير)، ثُمَّ نُشِرَت في أخبار الأدب في ديسمبر 2019 باعتبارِها فائزة بجائزة نادي القصة.