Saturday 11 July 2020

قصّة: الناظِرُ في كتابِ المَوتَى


     أسوأ هزائمي كانت رفض مصلحة الطب الشرعي انضمامي لها. كان هذا منذ عشرة أعوامٍ بالضبط. ذهبتُ إلى هناك وسألتُ عن كيفية الانضمام، فأجابوا:
- "ينزل الإعلان في الجرايد وتقدّم. تابع نزول الإعلان!"
     وكان هذا يعني الرفض، أو عدم الاكتراث بشخصي إن شئنا الدِّقَّة. ذلك أنَّ الإعلان مجرد ديكور رسمي لضَمّ أشخاصٍ بعينهم إلى المصلحة. أعني أولئك الذين تكفُل لهم الواسطة التحاقًا سهلاً بالمصلحة، وتعوّضُ في نعومةٍ نقصَهم العِلمِيّ. لكنّها كانت هزيمةً مؤقّتة. مؤقتةً جدًّا في الحقيقة!
     كنتُ حزينًا جدًّا في ذلك اليوم. ولم يكن لي مَلاذٌ إلاّ مشرحة الكلّيّة. خرجتُ من المصلحة، وهِمتُ على وجهي في شوارع (زينهم). لم أعرف أمامي من ورائي. لا أدري كيف أخذَتني قدماي إلى المشرحة. كنتُ مُسَيَّرًا إلى هناك بِلاوَعيي. عُمّال المشرحة يعرفونني جيّدًا. أنا الأول على دفعتي في التشريح في السنتين الأولَيَين من دراستنا بالكلّيّة. لا ندرس التشريح بعدهما. ولم أكرر هذا الإنجاز في أية مادةٍ أخرى. في الحقيقة، كانت تقديراتي متوسطةً في بقية الموادّ. لم يستَهوِني شيءٌ كما استهواني التشريح. لو كنتُ تعاملتُ بشِدّة مع إرادتي العليلة ونزَقي الجامح لكانت تقديراتي الآن قد منَحَتني كرسيّ المُعيد في قسم التشريح.
     بالتأكيد لم يكن تفوقي في مادة التشريح - التي لم تستغرق من حياتي الجامعية إلا عامَين-كافيًا لأظَلَّ معروفًا لعُمّال المشرحة إلى الآن. في الحقيقة، كنتُ لاجئًا في المشرحة طيلة أعوام الدراسة، وحتى في سنة التدريب. لم أكن أجلسُ هناك لأذاكر البكتيريا أو الطفيليات أو الجراحة أو طب الأطفال مثلا. كنتُ عاكفًا على المشاركة في تشريح ما يستجِدُّ من جُثَث، وإعداد الدروس للمدرسين المساعدين والمدرّسين. كان هذا يعني أنَّ طقم أدوات التشريح - الذي نشتريه من محالّ الأدوات الطبّيّة فور التحاقِنا بالكلّيّة – حاضِرٌ دائمًا في حقيبتي. دائمًا!
     إعداد الدروس كان يعني أنني في يومٍ ما أنشُرُ جمجمةَ إحدى الجثث (وهي مهمّةٌ يقومُ بها العُمّالُ في الغالِب)، وأفصِل جِذعَ المُخِّ جيّدًا، وقد أُضيفُ تحديدًا بالألوان الفلوماستر للقنطرة والنخاع المستطيل والمُخّ الأوسط. وفي يومٍ آخَر، أربِطُ بلفافاتٍ صغيرةٍ من الشاشِ عضلاتٍ وأوتارًا وأعصابًا وأوعيةً دمويةً بعينِها من السّاعِد، تهيئةً للامتحانات. وهكذا.
     المهمُّ أنني حين وجدتُ نفسي على باب مشرحة الكلّيّة في ذلك اليوم، عادت إلَيَّ رُوحي التي فارَقَتني مع ردّ موظف المصلحة المتجهّم.  
     كان في المشرحة جُثّةٌ واحدة، قام أحدُ المُعيدين بفتح بطنِها. كانت جُثّةَ امرأةٍ في عِقدِها الثالث. رائحة الفورمالين لم تكن قويّةً في هذا اليوم. لا أدري لماذا!
     جذبتُ كرسيًّا وجلستُ أمامَها.
- دي المفروض تتحضّر عشان درس الـLiver لسنة تانية، خلاص الترم التاني ع الأبواب اهو، وأجازة نُصّ السنة بتخلص، كل سنة وانت طَيِّب يا دكتور!
    
     كان هذا إيذانًا من رئيس عُمّال المشرحة بأن أبدأ العمل! هكذا اعتادوا معي. عليهم فقط أن يحددوا الدرس المطلوب للدكتور غريب الأطوار الذي يَعشقُ المشرحة ولا يحتملُ غيرها، وسيشمِّرُ ساعدَيه ويرتدي قُفّازَين ويُخرجُ أدواتِه ويبدأ العمل. إذَن، فالكبِد هي المطلوبة! نظرتُ داخِلَ بطنِها، وتحسستُ أعضاءها من فوق غشائها البريتونيِّ الذي مازال مُغلقًا، ثُمّ تحسستُ كَبِدَها. متوسطةُ الحجم. من الواضح على الأقلّ أنها لم تكن مريضة كبِد. هاه! ألم أكن أَولَى من غيري بالطب الشرعي؟!
     عزلتُ الكبد عن حجابها الحاجز، وشرّحتُ الوريد الأجوف السفلي والشريان الكبدي والقنوات المرارية، بحيثُ تبدو واضحةً للطلَبة.
- نفسي البتّ بنتي تدخل طب والله يا دكتور! النهارده نتيجة امتحانات نُصّ السنة بتاعتها. هي في أولى ثانوي. كانت بتشتكي من المواد الأدبية. يا ترى حتجيب كام؟!

     كان عمّ (سيد) رئيس عُمّال المشرحة مسترسلاً في هذا المونولوج ولا يتوقّع أن أَرُدَّ عليه بالطبع، كعادتِه. كنتُ في هذه اللحظاتِ أضعُ يدي في شقوق الكبِد وأتفحّصُ أقسامَها. ثَمَّ إحساسٌ غريبٌ يراودني لأول مرّة. إحساسٌ لا يُوصَف!
- استنّى دقيقة يا عم سيّد!
     كانت هذه المقاطعة غير مألوفةٍ بالنسبة لعمّ سيد، فالمتعارَفُ عليه أنني أتركُه يقولُ ما يشاء ولا ألتفتُ إلاّ إلى الجُثّة. بالطبع لَم أرَ ملامحَه، فقد كان يقف ورائي بالضبط حين دفنتُ رأسي داخل بطن الجثّة، إلا أنه بالتأكيد فغرَ فاهُ دهشةً. عيناي ويداي والكبِد. مازلتُ إلى الآن عاجزًا عن وصف هذا الإحساس الغريب.
- مجموعها 122 من 140، عربي 19 من 25، إنجليزي 21 من 25، فيزيا 9 من 10، كيميا 9 من 10، .........
     كان كلُّ شيءٍ واضحًا أمامي! لا أدري كيف حدث هذا، إلا أنَّ الكبِدَ أصبحَت أمام عينيَّ وبين يديَّ أقربَ إلى شهادة درجاتٍ لبنت عمّ سيد! حين انتهيتُ من سرد درجاتها بالكامل عليه، التفتُّ إليه. لم أكن قادرًا على تثبيت عينيَّ في أي شيء. كان النُّورُ مؤلِمًا جدًّا لعينيّ. أحسستُ بألَمٍ كالوَخز فيهما فأغمضتُهما. حين أغمضتُهما انتبهتُ إلى وخزٍ آخر في أطراف أصابعي التي كنتُ أفحصُ بها الكبِد. وخزٌ شديدٌ، لكنَّه توارى مؤقتًا خلف وخز عينيّ. ابتلعتُ صرختي وانكمشتُ على نفسي، وعمّ (سيد) وبقيّة العُمّال ينظرُون إليَّ في ذهول. بدأ الألَمُ يَخفُتُ، ورَنَّ هاتف عم (سيد). إنها ابنتُه الكبرى تُطَمئِنُه على نتيجة امتحانات التِّرم. كانت تُنهي إلى مسامعِه درجةً درجةً، ويكررها وراءها وعيناه مفتوحتان على اتّساعِهما وهو ينظرُ إليّ:
- 122 من 140، عربي 19 من 25، إنجليزي 21 من 25، فيزيا 9 من 10، كيميا 9 من 10، .........!

     اختفى ألَمي تمامًا، وحلّت محلَّه الدهشة. لم أكن أصدِّقُ ما حدث! التمعَت الفكرةُ في رأسي. أيُمكن أن يحدُثَ هذا؟ إنه يشبه التنبُّؤَ بالمستقبل بفحص الكبِد Hepatoscopy! قرأتُ عنه منذ فترةٍ طويلةٍ وظلَّ مسيطِرًا على تفكيري. كان الكهَنَةُ يمارسونه في أكثر من حضارةٍ قديمة. في بابل وآشور، وعند الإتروسكيين في شمال إيطاليا. مارسوه مع أكباد حيوانات القرابين المذبوحةِ للآلهة، ومع القرابين البشرية، التي طالما كانت من العذراوات صغيرات السّنّ. لكن!
     هذا ليس علميًّا! هذا غير معقولٍ بالمرّة! لقد كان مجرّد احتيالٍ بدائي. كيف يمكن أن يحدثَ معي؟!
- ابني راح مع امُّه وخطيبته وحماتُه ينقّوا أوضة نوم لشقّة الجواز. ما تقول لنا كده يا دكتور حَيِرسُوا على إيه؟!
     قالَها عم (كمال) مساعد عم (سيد) ضاحكًا، ولم يكن يَعرف، ولم أكن أَعرف، أنني بعد ارتباكِ ثانيتين فقط، سأعودُ إلى بطن الجُثّة، وأعمد إلى فتح الغشاء البريتوني وأفحصُ أمعاءها الدقيقة. فحصتُها كما لم أرَ إنسانًا يفحصُها. لا أدري أين وكيف تعلَّمتُ هذا! بدأتُ من آخرِها، من حيثُ تلتقي بالأعور عند الزائدة الدودية، وصعدتُ إلى الاثني عشر، وهناك ألصقتُ أنفي بها وأخذتُ أتشمَّمُها. عم (سيد) شعر بالتقزُّز وتقيَّأ رغم أنه أقدمُ العُمّال ورئيسُهم. يبدو أن المشهد كان موغلاً في الغرابة.
- حَيِرسُوا على أُوضِة نوم (إم دِي إف). متينة وشِيك وسِعرها معقول، بس حَتبُوش مِن تحت مع أول مسحة لأوضة النوم!
     من الواضح أنني لا أمارس التنبؤ الكبدي فقط. مجالي الجديد أوسعُ من مجرّد الكبِد. هذا ما سمّاه الرومان Extispicium أو التنبؤ بفحص الأحشاء! الوَخزُ في عينيَّ وأصابعي وأنفي. الألَمُ رهيب. انكمشتُ من جديد.  
أسرع عم (كمال) يلتقطُ هاتفَه المحمولَ وطلبَ زوجتَه. انساب إليه صوتُها الذي سمعنا رنَّتَه دون أن نتبيّن تفاصيلَ ما تقولُه. ظلَّ فاغرًا فاه ولا يقولُ مع نهاية كل جملةٍ إلا:
- الله أكبر! الله أكبر!
     لم أنتظر أكثر من هذا. قمتُ من أمام الجُثّة وألقيتُ قُفّازَيَّ بجوار المنضدة وأسرعتُ إلى الخارج. كان عليَّ أن أتحرَّكَ سريعًا، لا أدري لماذا، لكن تلك كانت الفكرة التي سيطرت عليّ!
     ذهبتُ إلى مصلحة الطب الشرعي من جديد وأصررتُ على مقابلة رئيسِها. قِيلَ لي إنه ليس موجودًا الآن وإن الوقت متأخِّرُ جدًا. لم أكن منتبهًا حينذاك أن الشمس تميل للمغيب بالفعل وأن يوم العمل الحكومي انتهى! كان عليَّ أن أنتظر إلى الغد.
     في تلك الليلةِ رأيتُ أطرافَ أصابعي تتّقِد. تتّقِدُ حتى تبعثَ ضوءًا يكاد يُغشي الناظرين. كان الضوءُ قريبًا من ذلك المُنبَعِث مِن لِحام الأوكسجين! أمّا أنفي فقد كان متضخمًا في الحُلم وثقيلاً ويتدلّى فوق شفتَيَّ كالمظلّة! عيناي كانتا مفتوحتين على اتساعِهما، وكان الهواءُ يحملُ إبَرًا طائرةً، كلُّها يقصد عينيَّ، وكلُّها لا يُخطئُ هدفَه. كانت الإبَرُ تخترقُ عينيَّ فأتألّم. لكنّه لم يكن ألمًا خالصًا كما حدث في المشرحة. كان ألمًا ممزوجًا بالنشوة. كنتُ أهتزُّ في تلذُّذٍ كلّما التقفَت عيناي إبرة. أهتزُّ وأصرُخ. ولم أكن أنزِفُ دمًا، بل مشاهِدَ مطبوعةً تتساقطُ من عينيَّ في قطراتٍ كقطراتِ الماء أو الدموع الباردة، فإذا لمسَت الأرض تمدَّدَت وأخذت شكلَها النهائيَّ، كما لو كانت صُورًا فوتوغرافيّةً مطبوعة! 
     في صباح اليوم التالي ذهبتُ إلى المصلحة، ونجحتُ في إقناع الموظَّفين بأهمية مقابلتي رئيس المصلحة. كان الرجُل فاترًا جدًّا، وكان هذا مفهومًا بالنسبة لي. ما الذي يدعو طبيبًا حديث التخرج إلى الإصرار على مقابلتِه؟! لم أَدَعه يفكر طويلا.
- أنا لازم أشتغل هنا لسبب واحد. السبب دا مالوش علاقة بإني أول دفعتي في التشريح في أولى وتانية كُلّيّة. السبب دا إني باعمل Hepatoscopy وExtispicium ناجحين جدًّا!
     ظل الرجُل صامتًا بُرهةً، وأدركتُ أنه لم يفهم تماما. ظنّني أتحدث عن فُحوصٍ كبديّةٍ جديدةٍ بالمنظار أستطيع أن أقوم بها، ولم يفهم أصلاً ما أعنيه بالـExtispicium.
- لا يافندم! أنا باتنبأ بالمستقبل من فحص الجثث. لازم حضرتك تشوف دا عمليًّا. تحب تختبرني دلوقت حالاً؟!
     نظر في عينيَّ من قريبٍ وعلى فمه شبحُ ابتسامة، ثُمّ وضع كفّه في كفّي وسحبني وراءه خارجًا من مكتبه. عبرنا طرقات المصلحة إلى ثلاّجة المشرحة.
- أنا طبعًا كما لا يَخفَى عليك مش مصدقك! لكن أحب أشوف اللي انت بتعرف تعمله دا بالظبط!
     أمر عاملاً من عمال الثلاجة أن يَفتح أحد الأدراج. كانت الجُثّة لرَجُلٍ في عِقدِه السادس، في عنُقِه أثر طعنة.
- اسألني عن أي حاجة تهمّك، وممكن تتأكد منها سريعًا بعد ما أجاوبك عن سؤالك!
     سبقني لساني إلى هذا القول، ثُمّ ارتبكتُ جدًّا بعده. الجثة مطعونةٌ في الرقبة، وخبرتي الجديدة التي لا تتعدى جثةً واحدةً فحصتُها أمسِ لم تتجاوز فحص الكبد والأمعاء! لستُ أعرفُ أصلاً إن كان هناك في التاريخ سوابق للتنبؤ بفحص أعضاء خارج البطن! صمت رئيس المصلحة قليلاً وهو يضع يديه في جيبَي بنطلونه ويدور حول نفسه مفكِّرًا، ثم توقف وواجهَني مضيِّقًا حِدقَتَي عينيه:
- سهم الشركة الذهبية للعقارات أخباره إيه النهارده في البورصة؟!
     فاجأني هذا السؤال! لكنّني بشكلٍ آليٍّ أخرجتُ أدواتي وأعملتُها في رقبة الجُثّة. ظللتُ أُشَرِّحُ وقتًا طويلاً حتى تركتُ الرقبة إلى أعلى الصدر ووصلتُ إلى مفترَق القصبة الهوائية إلى الشعبتين الهوائيتين الرئيستين. وضعتُ كفَّيَّ على هذا المُفترَق وشبَّكتُ أصابعي حولَه، ونفختُ بينهما وشممتُ هواءَ زفيري وهو يصطدمُ بهذه المسارات الهوائيّة ثمّ انسابت الكلمات رغمَ أنفي. المُخيفُ أنني لا أفهمُ شيئًا من اصطلاحات البورصة على الإطلاق. لم أحتكَّ من قريبٍ بهذا المَجال لأعرفَ عنه أقلَّ القليل. لكنّ الكلماتِ انسابَت، كأنني كاهنٌ إغريقيٌّ في معبد دِلفي، أقرأ الوحي على الزُوّار طُلاّب النبوءة ولا يَدَ لي فيه. ذكرتُ الأرقام التفصيليّة لبُنودٍ تسمَّى القيمةَ الاسمية والقيمة السوقية والقيمة الدفترية وغير ذلك مما لا أذكرُه بالطبع! نعم، لا أذكُر. لقد كان لساني وحنجرتي وجهازي الصوتيُّ وجسدي كلُّه، بل ورُوحي أيضًا، كياني كلُّه كان ضيفًا على هذه النبوءة التي لا أعرفُ شيئًا عن مجالِها الدقيق! لم يَفُت الرجُلَ أن يُخرِج قلمَه ودفتر ملاحظاتِه الصغير ويُدَوِّنَ القِيَم الرقمية التي تلوتُها عليه. اتّصل بشركة التداوُل التي تُديرُ استثماراته في البورصة وسألهم عن سهم الذهبية للعقارات. انتظر قليلاً، ثم أخذ يدوِّن القِيَم التي يُمليها عليه مُحَدِّثُه. أنهى المكالمة وقارَنَ قائمة الأرقام وحاجباه يرتفعان دهشةً، وهو ينقل عينيه بين دفتره وبيني. كنتُ أتعافى من الوَخز في أنفي وشفتيَّ وأصابعي.
- انت إيه؟! بسم الله الرحمن الرحيم! اللهمَّ احفظنا!
     ابتسمتُ في صمت. في هذا اليوم عُيِّنتُ في المصلحة. كان هذا بالضبط منذ عشرة أعوامٍ إلاّ يومًا واحدا، وكان أعظمَ انتصاراتي قاطبة!
     لعشرة أعوامٍ إلا يومًا أذهبُ يوميًّا إلى المصلحة، عدا أيام العُطلات الرسمية، وأفحص ما يُوكَلُ إليَّ من الجُثَث، وأتلو النبوءات التي لا أعرفُ مصدرَها على مَن يطلبونها من زملاء العمل. فشِلتُ تمامًا في أن أكون طبيبًا شرعيًّا حقيقيًّا طيلة هذه المُدّة. ربما لأنني لم أهتمَّ بالأمر في البداية وكان كلُّ ما يَعنيني أن أُمارس التشريح كما أهوى، وأدعَ النبوءات تنسابُ على لساني لكَي تُرضِيَ الجميع. لستُ قادرًا على تحديد طريقة القتل الحقيقية في جرائم القتل المعقَّدة، ولا أستطيعُ أن أجزِمَ إن كانت الخدوش التي في صدر امرأةٍ ما ناجِمةً عن محاولة اغتصابٍ أم أنها خدشَت نفسَها كما يَدَّعي المتَّهم بالاغتصاب. في الواقع، لم يَشغَلني رؤسائي بهذا الجزء الكبير من الطب الشرعي الذي يهتمُّ بفحص الأحياء. تركوا لي الموتى منذ البداية. ولم يطلبوا منّي البحث عن أسباب الوفاة، وجنَّبُوني القضايا الدائرة في قاعات المَحاكِم. كانت مهمَّتي في المصلحة محددةً بشكلٍ تصالح عليه الجميع.
     حواسي تعملُ بأقصى كفاءتها حين أنخرطُ في نوباتِ قراءةِ ما كُتِبَ على أعضاء الموتى، وتتخدَّرُ وتتبلَّد فيما بين ذلك. زاد هذا الخدَر والتبلُّدُ يومًا بعد يوم. أصبحتُ أرتدي نظّارةً سميكةً، وثَقُلَ سمعي فاضطررتُ إلى السمّاعة الإلكترونية، ولم يعُد من الأمان أن أوقِدَ فُرن البوتاجاز على الإطلاق في بيتي، لأن انهماكي في أي شيءٍ ونسياني ما بداخل الفُرن يَعني أن أحترقَ ويحترقَ كلُّ شيء. أنفي معطَّلٌ خارج الجُثَث.
     لم أتزوّج. ظللتُ راهبًا للمصلحة. لم أحقِّق بالطبع أيَّ شكلٍ من أشكال الثراء. أقاربي يظنون هذا راجعًا إلى طهارة يدي وتعفُّفي عن التربُّح من موقعي كطبيبٍ شرعي، والحقيقةُ أنَّ هذا راجعٌ إلى أنني حتى إن أردتُ أن أتربَّحَ لن أستطيع.
     الغريبُ أنَّ أحدَهم لم يشغل نفسَه بمحاولة تفسير ما يحدُث بيني وبين أجسادِ الموتى. حالتي مختلفةٌ عن حالة الكُهّان في الحضارات القديمة. كانوا يقرأون من أكباد القرابين، وأنا أقرأ كلَّ ركنٍ في أجساد الموتى العابرين! كلُّ الموتى قابلون لحمل النبوءات بين طيّات أعضائهم. يكفي أن تَحضُرَ الجُثَّةُ أمامي، لتُجيبَ عن أسئلةِ مَن حضرَ من الناس. هل أنا المتنبِّئُ ولا تكتسبُ الأجساد هذه الخاصِّيَّة إلاّ معي؟ أم أنَّ أحداثَ العالَم محفورةٌ بتمامِها بالفعل في أجساد كلِّ الموتى، وما أنا إلا وسيطٌ يُجِيدُ القراءة؟!
     مرَّ عشرة أعوامٍ إلا يوما. ذِكرى. لا أعرفُ إن كانت حزينةً أم فرِحة. ذكرى أسوأ هزائمي وأعظم انتصاراتي. الفارقُ بينهما يومٌ واحدٌ، ولا أدري أيهما الهزيمةُ وأيهما الانتصار. ربما هما مجرَّد حدَثَين. ربما لا ينبغي أن أعزُوَ إلي أيِّهما أيةَ صِفة. لا أدري.
     ها أَنَذا في طريقي إلى المصلحة. ليس أمامي إلا أن أستمرَّ فيما زُرِعتُ فيه. ما أخذتُه لنفسي بإصرارِ ساعةٍ واحدة. لا أستطيعُ أن أُدِيرَ وجهي إلى جهةٍ أخرى. مازلتُ أحبُّ أن ينحني جسَدي على الجُثّة وأن أنهمِك في تشريحِها. أصَنِّفُ وأُقَسِّمُ وأُبَيِّنُ كلَّ شيءٍ فيها. ورغم أنفي تنسابُ النبوءاتُ من كتاب الموتى على لساني إلى مَن ينتظرونها. نعم. وصلتُ إلى ثلاّجة المشرحة. ليس أمامي إلاّ أن أبقى هنا.
محمد سالم عبادة
الأربعاء 29 أغسطس 2018     
نُشِرَت في عدد مايو 2020 من مجلة الثقافة الجديدة