Saturday 23 November 2019

الاسم والهويَّة: كيف يختار الآباء الجدُد أسماء أبنائهم؟


الاسمُ والهُوِيَّة:
كيف يختارُ الآباءُ الجدُدُ أسماءَ أبنائهم؟
     في هذا المقطع من مسرحية (ريّا وسكينة) تعبّر (سهير البابلي) في بساطةٍ عن واقعِ اختيار المصريين أسماءَ أطفالِهم تبعًا لِعددٍ من المُحَدِّدات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة.
     لماذا تكتسحُ مجموعةٌ من الأسماء اختيارَ الآباء لأبنائهم في حِقبَةٍ زمنيّةٍ ما؟ المقطعُ السابق يفترِض صعوبةَ أن يُقدِم أبَوان اسماهما (وائل وسَحَر أو رشا) على تسميةِ ابنِهما (عبد العال)، ويقترح مجموعةً من البدائل (سِراج، إلخ)، ليعود أحمد بدير وينفُخَ في المفارَقَة المضحكة بتفجير مفاجأةِ أنّ (عبد العال) هو اسمُ تدليلِه بينما اسمُه الحقيقيّ (هاني Honey)!
     لدينا ثلاثةُ احتمالاتٍ عن الزَّمَن الذي يفترضُه المقطَعُ لتراتُبِيّة هذه الأسماء، فإمّا أنّه يُحيلُنا إلى الزَّمَن الفِعلِيِّ لريا وسكينة أي النصف الأول من القرن العشرين وتحديدًا حَولَ ثورة 1919، أو إلى زمَن العرض الأوّل للمسرحيّة في نهاية السبعينيات، أو هو يفترِضُ هذه التراتُبِيّة مُطلَقَةً ولا يمكنُ بحالٍ من الأحوال في أيِّ زمَنٍ أن نتوقَّعَ أنّ (وائل) و(رشا) يمكنُ أن يُسَمِّيا ابنَهما (عبد العال)!
     ولأنَّنا ننطلِقُ هنا من الملاحظةِ الشخصيّةِ للمجتمع ولا تدعَمُنا إحصاءاتٌ دقيقةٌ، فسنفترضُ ابتداءً أنّ هذه الملاحظةَ صادقةٌ على الأقلّ في المجتمَع القاهريِّ وفي مُدُن المحافظات القريبةِ من القاهرة. الاحتمالُ الثالثُ في مسألة زمن الأسماء المُشارِ إليها في المقطع فيه شكلٌ من أشكال المصادرة على الغيب لأننا لا ندري بالتأكيد كيف سيتراءى للناس اسمُ (عبد العال) مثلاً بعد عشرين سنةً من الآن! إذن يبقى الاحتمالان الآخَران. وكلاهما – اعتمادًا على الملاحظة البسيطة – صادق! فلماذا يتعذّر أن تسمّيَ (سحَر) ابنَها (عبد العال)؟ ولماذا يصدقُ هذا أيضًا على (وائل) و(رشا) الذَين شاعا ووصلا إلى مستوى المُوضة في سبعينيات القرن العشرين؟! 
    
     نترُكُ هذه الأسئلةَ مؤقَّتًا لنستكشف مُصطَلَحًا في علم اللسانياتِ الاجتماعي Sociolinguistics هو (اللغةُ أو اللهجةُ المفضَّلةُ مجتمعيًّا Prestige Language/ Dialect). هي اللغةُ أو اللهجةُ التي تتمتع بأكبر توافُقٍ مجتمعيٍّ على أنها الجديرةُ بالاحترامِ ومِن ثَمَّ بالتقليد، وعادةً تكونُ اللغةَ أو اللهجةَ التي يتحدثُها مَن يحتلُّون قمّة الهرَم الاجتماعيّ الاقتصاديّ. في مصر بداية القرن العشرين كانت هذه اللغةُ هي الفرنسيّة بحُكم تواطُؤِ ظُروفٍ عِدّةٍ، من أهمِّها بعثاتُ محمد علي وخلفائه المنحازةُ إلى فرنسا، النِّكايةُ في المستعمِر الإنجليزي، تصديرُ فرنسا للعالَم صورةَ الأُمّة المتحررة التي تدعَمُ الحريةَ أينما كان المُطالِبون بها، إلى غير ذلك. في هذا الإطارِ يحاولُ المُنتَمُون إلى الطبقات العُليا تعزيزَ هُوِيَّتِهم الاجتماعيّة الوجيهة بأسماءَ تَليقُ بما وصلوا إليه. ألهذا اقترحَت (سهير البابلي) هنا اسمَ (سِراج) بديلاً عن (عبد العال)؟! لنتخيَّلْ النُّطق الفرنسيَّ للاسم مع اللثغة الشهيرة التي تحوِّلُ الراءَ إلى غَينٍ كما كانت (آثار الحكيم) تفعل في الجزء الأول من مسلسل (زيزينيا): (سِغاجْ)! فرنسيٌّ قُحّ!  
فلنقارن به (عبد العال). اسمٌ مركَّب به عينان، ممّا يوقِعُه في المحلّيّة الشديدة وبالتالي في قاع الهرم الاجتماعي. إذَن صدقَت (سهير البابلي)!
     هناك ملاحظةٌ متواترةٌ في علم اللسانيات الاجتماعي، مفادُها أنَّ لهجةَ (كْريمة) المجتمع – مثلها مثل كل الظواهر الاجتماعية – في تطوُّرٍ مستمِرّ، وأنَّ أحدَ أهمِّ بواعثِ هذا التطوُّرِ رغبةُ مَن يَشغَلُون الطبقاتِ الأدنى في الهرم الاجتماعيّ في اللحاقِ بِمَن في القِمّة ولو بشكلٍ رمزيٍّ، فيقلّدون – على قدر ما تسمحُ مُدخلاتُهم الثقافيّةَ – لهجةَ المُرَفَّهين الأغنياءِ ويَتَسَمَّون بأسمائهم المفضَّلةِ بالتبَعِيَّة. ويترتّب على هذا السعيِ سعيٌ مضادٌّ مِن قِبَل الأغنياء بتطويرِ لهجتِهم أو طرائقهم في التعبير والتواصًل، وباصطناع أسماءَ جديدةٍ تأخذُ كلُّ مَوجَةٍ منها شكلَ المُوضة. وترتبطُ هذه الظاهرةُ بظاهرةٍ أخرى أعَمَّ في اللسانياتِ قد تكونُ الترجمةُ العربيةُ الموفَّقَةُ لها هي الكِناية Euphemism. وتعني تطوُّرَ الكلمات الدالّة على معنىً قبيحٍ أو مستهجَنٍ بشكلٍ مستمرٍّ لا يعرفُ نهاية. هكذا كان المصريون مثلاً يشيرون إلى مكان قضاء الحاجةِ بكلمة (كَنيف) ثُمّ أصبحَت (مرحاضًا) ثُمّ (حَمّامًا) ثُمّ (تْواليتّ) مع المَدّ الفرنسي Toilette، ولمّا لَحِقَ الفقراءُ بالأغنياء وأصبحوا ينطقون الكلمة (تَواليتّ) بتحريك التاء الأولى، انصرف الأغنياءُ إلى استعمال الاختصار الأمريكي (دابليو.سِي)، وأخيرًا عادوا إلى النطق الأمريكيّ للكلمة الفرنسية فأصبحنا في عصر الـ(تُويْلِتْ) Toilet!

     وعلى هذه الملاحظَة المتواترةِ يُمكِنُنا أن نرى في ضوءٍ جديدٍ انتشارَ أسماءَ بعينِها في الجيل الحاليِّ مِن أطفالِ مرحلةِ ما قبل المدرسة. فأسماءُ مثلُ (آدم, أدهم, يحيى, عُمَر, علي، عبد الرحمن، ياسين، آسِر) في الذكور، و(ملَك، آيتِن، فريدة، حبيبة) في الإناث، هذه الأسماءُ تحملُ في طيّاتِ انحيازِ الآباءِ لها إشاراتٍ إلى تغيُّراتٍ مجتمعيّةٍ جديرةٍ بالتأمُّل.
     إذا اخترنا (عمر وعلي) مثلاً وسألنا ماذا يعني انتشارُهما على النَّحوِ الذي لا تجحَدُه عينٌ الآن؟ فرُبَّما تكون الإجابةُ البسيطةُ التي تتبادرُ إلى أذهان الجميعِ هي تفاؤل المسلمين باسمَي الخليفتين الراشِدَين (عُمر بن الخطاب) و(علي بن أبي طالب). لكنّ هذا ليس كلَّ ما في الأمر!
     لماذا لم تنتشر أسماء بقيّة العشرة المبشَّرين بالجنّة مثلاً (باستثناء عبد الرحمن بن عوف)؟

     (أبو بكر) كُنيَةٌ بالأساسِ – وهذا لا يعني جُمهُورَ الآباء كثيرًا في الحقيقة – لكنّ تكوُّنَه من مقطعَين، ورُبَّما شهرةُ أبي بكرٍ الصدِّيق بالرحمة عند الجمهور العريض من المسلمين، كفيلان بإقصاء الاسم من قائمة الأسماء التي يختارُ الأبَوان منها لابنِهما. الرحمةُ - بصفتِها عنوانًا لنمَطٍ من العلاقاتِ الإنسانيّة المنفلتة من الضبط والمعياريّة المُمَيِّزَين للمجتمع المعاصِر ليسَت صفةً مرغوبةً تمامًا في مستقبَل المولود الجديد، بعكس الحَزم والصّرامةِ المُمَيِّزَين للصُّورة الشائعة عن (عمر بن الخطاب). وفي هذا التمييزِ أيضًا لا يعني الجمهورَ كثيرًا النِّقاشُ المحتدمُ حول قرارِ (أبي بكرٍ) بخوض حروب الرِّدّةِ ضدَّ مانعي الزّكاة، وهو القرار الذي راجعَه فيه (عُمَر). فالمهمُّ هو الصُّورةُ الشائعةُ التي تتبادرُ إلى الذِّهن بمجرَّد ذِكر الاسم، وهي رؤيةٌ من جانبِنا تلتقي مع ما طرحَه (ميلان كونديرا) في روايتِه (الخُلود L'Immortalité) من حُلول الصُّورة Imagology محَلَّ الفِكر الخالص Ideology في الأهمّيّة مِن تحريك المجتمَعات المعاصِرة.    
     هذا فضلاً عن أنَّ اسمَ (عُمَر) يُلقي بظلالٍ أخرى في الصورة الذهنية المتخيَّلَة لصاحبِه في وقتِنا، فمن الصعوبة أن يُفلِتَ واحدٌ من جيلي - حين يسمع اسمَ عمر – من تذكُّر إعلان السيراميك التسعيناتيّ الشهير حين تفاجَأ (يسرا) بدخول (عمر الشريف) الكادر فتناديه باسمِه (عمر)، وهو ما كان يبدو صادمًا لي آنذاك لمكانةِ (عمر الشريف) العالَمية وانتمائه إلى جيلٍ أقدم بكثيرٍ من جيل (يسرا)! المهمُّ أنّ هذه الذكرى كفيلةٌ بإضفاء جوٍّ أرستقراطيٍّ على المشهد الذي يوجد فيه كلُّ طفلٍ اسمُه (عُمَر)، وتتلاشى في مواجهتِه فورًا شهرةُ (بن الخطّاب) بالزُّهد والتقشُّف! كذلك تحتلُّ الكادْر صورةُ (عمر خيرت) بطلعتِه المَهيبة وألحانِه الأرستقراطيّةِ الرصينة. في النهايةِ يبدو الأمرُ أعقدَ بكثيرٍ من مجرّد محبّة (أمير المؤمنين)!
     قُل مثلَ ذلك في انتشار (عليٍّ) وخفوتِ (عثمان). أوّلاً، نحنُ أمامَ جيلٍ جديدٍ من الآباء، مهما ادَّعَى المحافظون من مُسلِميه السُّنّيِّينَ تحفُّظَهم إزاءَ الاتهاماتِ التي تطالُ بعض الصحابةِ، فإنّهم في النهاية بشكلٍ لاواعٍ ينحازون إلى مَن يقِلُّ الخلافُ على صورتِه المثالية، وبالتالي (يَجِدون بعضَ الموجِدة) على الخليفة الثالثِ عثمانَ وإن لم يذهب بهم حظُّهم من الليبراليّةِ إلى درجة التصريحِ بالعَتب عليه. هذا فضلاً عن اختلاطِ الاسمِ في أذهانِ المِصريينَ بالشخصية السينمائيّة التي رَسَمَها (علي الكسّار) للنُّوبيّ البوّاب البسيط (عثمان عبد الباسط) وتابعَه عليها تراثُ السينما المصريّة (بوّاب = عثمان)، ناهيكَ عن (موجِدَةٍ) أخرى تجاهَ الاحتلال/الخلافة/الغزو/الفتح العثمانيّ لمصر وغيرها من الأقطار العربية! هذا في مقابلِ (علي) الذي تتقاطع فيه صورةُ الإمام (عليٍّ) العادل الزاهد العالِم الشاعرِ إلى غير ذلك، مع صورٍ أخرى مؤثِّرةٍ في هذا الجيلِ من الآباء المصريين، كصورة (علي البدري) الشخصية التي جسَّدها الراحل (ممدوح عبد العليم) في مسلسل (ليالي الحلمية) لخمسة أجزاء أو يزيد، بكلّ رومانسيّتِه وتقلُباتِه الفكرية التي كرَّسَته نموذجًا للإنسان المتراوح بين الخير والشرّ في إنسانيّةٍ حقيقية!
     (عمر) و(علي) فيهما (عينٌ) من عينَي (عبد العال) الذي افتتحنا به المقال، لكنّهما مكرَّسان عالميًّا، وبهذا يقفزُ إلى ذهن الأبوين المصريَّين رسمُ الاسمَين بالحروف اللاتينية Omar/ Ali كما في صورة عمر الشريف وشخصية محمد علي (الحاكم والملاكم، كلَيهما). وهذا يضمن شكلاً من أشكال الطموحِ إلى مواطنَةٍ كونيّةٍ متجاوِزَةٍ لحدود القُطر في المولود الجديد!
     يَلحَقُ بهذا الحرصِ على المواطنة الكونيّة تفضيلُ بعض المسيحيين المصريين النُّسَخَ الأوربيةَ من الأسماء المتجذِّرَة في الوعي المسيحيِّ على النسخ المصرية. ففي فترةٍ قريبةٍ من المَدِّ الثقافيِّ الفرنسيِّ كان اسمُ (ميشيل) بديلاً (أرقى) عند كثيرين لاسم (ميخائيل) رغم قُرب النُّطقِ الأخيرِ من المصادر الآراميّةِ القديمةِ للنصوص المسيحية المقدسَة وأسماء الملائكة. وحين حلَّ المَدُّ الأمريكيُّ محلَّ الفرنسيِّ، أصبحَ اسمُ (مايكل) هو البديلَ الذي يداعبُ الآباء. وهكذا، حتى وصلنا إلى الأسماء ذات الجذور الأوربيةِ بالكامل مثل (كيفِن Kevin) ذي الأصل الأيرلندي الذي يعني (نبيل المنشأ).
     أمّا اسمُ (ياسين) فقد كان صعودُه أكبر من مجرَّد احتفاءٍ إسلاميٍّ مفاجئٍ بالسورة القرآنية ذات الخصوصيّة الرُّوحِيّة الشهيرة. وإلاّ فلماذا لا يوجد صعودٌ مُوازٍ لاسم (طه) مثلاً؟ بل بالعكس هناك انحسارٌ للرغبة في تسمية الأبناء بهذا الاسم!
     في (ياسين) استبقاءٌ لمَلمَحِ القُوّة الكامنةِ والدَّهاءِ الذي يَنتظرُ الفُرصةَ المُناسِبةَ للإفصاحِ عن نفسهِ من شخصية (ياسين) التي جسَّدَها (أحمد سلامة) في (ذئاب الجبل)، ممتزجًا عند البعض بنجوميّة (آسِر ياسين)، وربما عند البعض بحُلم الثراء، تُسَرِّبُه إليهم لوجوهات مجموعة (ياسين) المطبوعة على السيارات! هل نبالِغ؟! واردٌ بالطبع، لكنَّ إغفالَ كل هذه التأثيرات المحتملة يضعُنا في ورطةِ الانتشار المُستَعصي على التفسير! لماذا يُحجِم المصريون الآن عن تسمية أبنائهم (طه)؟ هل لأنَّ الكلمةَ فِعلٌ بمعنى (طَأْها)؟ لم يلتفت المصريون قديمًا إلى هذا وتيمَّنوا بالاسم على اعتبار أنّه من أسماء النبي. هل لأن بدايةَ السُّورة تُعتبَر عند البعض من الحروف المُقطَّعة؟ فماذا عن (يس) وهي مِثلُها؟! هل لأنّ شخصية (طه السماحي) – الوطنيّ الثوريّ على الملَكيّة والاستعمار- التي جسَّدَها (عبد العزيز مخيون) في (ليالي الحلمية) كذلك أصبحَت تُذكِّرُ آباءَ الجيلِ الحاليِّ بإخفاقاتِ جيلٍ سابقٍ بالغ في الطنطنة بأمجادِه حتى انطفأَت جذوةُ جاذبيّتِه فقرر الآباء المعاصِرون – بشكلٍ واعٍ أو غيرِ ذلك – قطيعةً معرفيّةً مع ذلك الجيل؟ يظلُّ هذا واردًا جدًّا وإن أسرعَ في الاعتراضِ متسرِّع، والمهمُّ هو تعدُّد التأثيرات لا الأمثلةُ المتعيِّنة.
     هناك أيضًا الأسماءُ العربيةُ المَصُوغةُ في قالَبٍ يبدو أجنبيًّا عن طريق الكتابة. الأمثلةُ تأتينا بغزارةٍ من مُوضة أسماء البنات المعاصرة. (جُمَانَة) أي الدُّرَّة التي يكتبها المصريون (چومانا)، و(لُجَينَة) أي قِطعةُ الفِضَّة التي يكتبونها (لُوچينا) ويُدَلِّلُونَها (لُوچي). فضلاً عن (رِتاج) الذي يعني التِّرباس – أيَّ ترباسٍ لأيٍّ بابٍ على وجه البسيطة – ويكتبونه (ريتاچ) ويقولون مرّةً إنه يعني (كسوة الكعبة) ومرّةً (مفتاح باب الكعبة) كما يدَّعُون مرّةً أنَّ له أصلاً فارسيًّا ومرّةً أنه عربيٌّ أصيل، و(ريماس) الذي يُقالُ إنَّ معناه (ترابُ الماس) – ولم أسمع بشكلٍ شخصيٍّ عن تراب الماس إلاّ مع صدور رواية أحمد مراد التي تحملُ العنوانَ ذاتَه – و(رَتال) أي التي تُرَتّلُ (يَعنُون القرآن) فيكتبونه (رِيتال) كما لو كانوا يودُّون الإشارة إلى المصدر الإنجليزي Retaliation أي الثَّأْر، أو إلى (كريتال) وهو أحد أنواع طلاء اللاكيه المعروفة!
     هذه الأسماء التي تسرَّبَت رويدًا رويدًا من الأغنياءِ إلى الطبقات الوسطى (ريتاچ: ابنةٌ رضيعةٌ لزميلتي الطبيبة عام 2008) إلى الفقراء (ريتال: طفلة في الرابعة ترددت بصُحبةِ أمِّها على العيادة الخارجية للجراحة في المستشفى العامِّ الذي أعملُ به عام 2018) تتبعُ الخُطَّةَ الكونيّةَ نفسَها التي يتبعُها اسما (عمر) و(علي). فهي أسماءٌ عربيةٌ في معظمِها وبالتالي تُشبِعُ ذلك الادّعاءَ الهُوِيّاتِيَّ السطحيَّ عند بعض الآباء ولو بشكلٍ لاواعٍ، وهي مُحَرَّفَةٌ كتابيًّا لتَبدُوَ مُتَرجَمَةً عن لُغَةٍ أوربّيّة (ريتاج وريماس بوزن فِيعال، وهو وزنٌ التصقَ في الميزان الصرفيِّ العربيِّ بالألفاظِ المترجمةِ عن لغاتٍ أخرى كديوان عن الفارسية وقيراط عن اليونانية في الأصل، وذلك لاستقدام هذه المفردات إلى مملكةِ العربيّة، ولا يوجدُ عربيًّا خالصًا إلاً نادرًا كما في المصدر حِيقال بمعنى الحوقلة أو ترديد "لا حول ولا قوّةَ إلا بالله"). وهي في النهايةِ أسماءُ بسيطةٌ يحاولُ بها الفقراءُ إلحاقَ أبنائهم بطبقةِ مَيسُوري الحال، ومِن ثَمَّ بالمُوَاطنَة الكَونِيّة الحُلم!

    تلخيصًا لما سبقَ، يمكننا أن نرى بوضوحٍ إزاحةَ الأسماء التي شكَّلَت (مُوضةً) في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في مصر، والتي بدأت في قمة الهرم الاجتماعي، مثل (تامر، وائل، هاني) في الذكور و(رشا، رانيا، رنا) في الإناث، ثم انتشرت في بقية الطبقات، لصالح موضةٍ أخرى أسلَفنا الإشارةَ إليها. وكثيرٌ من العوامل التي حكمت انتشار الأولى بقيَت لتحكم انتشارَ الثانية، وأهمُّها بساطةُ الاسم وخُلُوُّه النسبيُّ من المتعلقاتِ الصوتيّة الثقيلةِ للهُوِيّة المحلّيّة (كعَينَي عبد العال)، الكفيلان ببعث التفاؤل بالمواطنة الكونية. بينما استُحدِثَت عواملُ تحكمُ انتشار الموضة الجديدة، تتعلّقُ بصعود الصورةِ وملاءمتها لمعايير النجاح العصرية (نموذج عمر في مقابل أبي بكر)، والرغبة في قطيعةٍ معرفيةٍ مع الفترات التي أصبحَت سيئة السُّمعة لدى الأجيال الجديدة (نموذج طه في مقابل ياسين)، والحنين إلى فردوسٍ ماضَوِيٍّ متخَيَّل (بعث فريدة من العصر الملَكي).

     المقولةُ الشائعةُ "لكلِّ إنسانٍ نصيبٌ من اسمِه" تبدو صحيحةً في إطار النظرية التواصُليّة للهُوِيّة Communication Theory of Identity التي بَلوَرَها (مايكل هِكْتْ Michael Hecht) الباحثُ في علم النفس الاجتماعي. تقولُ النظريةُ إنَّ للهويّة أربعةَ طبقات 4 Layers of Identity:
- شخصيّة Personal: هي صورةُ الذاتِ، أو كيف يرى المرءُ ويُعَرِّفُ نفسَه.
- مًصَدَّرة أو تواصُلية Enacted : تتخلّق وتتدعّم وتُحَوَّر بالتواصل مع الآخَرين وتنطبع في أذهانِهم.
- علائقيّة Relational: تُرسَم على مهَلٍ بقيام المرء بأدوارِه المختلفة في الأسرة والعمل وغيرهما من المواقف المجتمعية، ويستبطنُها الشخصُ تدريجيًّا فيَرى نفسَه بضوءٍ متجدّدٍ في إطارِها.
- مجتمعية Communal: هي ما يُعَرِّف به المجتمَع مجموعةً جزئيّةً منه.
والشاهدُ أنَّ طفلاً يسمّيه أبواه (عُمَر) مثلاً، يُكوِّن بمُضِيِّ الوقتِ صورةً لِذاتِه، فيها ما يَعرفُه عن اسمِه كمكوِّنٍ أساسيّ. ثُم يفاجأ أنَّ الهويّة التي صدَّرَها لقاؤُه بآخَرين تختلف بعض الشيء عن صورتِه لِذاتِه، وفيها اسمُه (عُمَر) يحملُ ظلالاً مختلفةً بعض الشيء. ثُمّ ينخرطُ في أدواره المختلفة التي تُمليها عليه حياتُه الاجتماعيّةُ فتتجدَّدُ من خلالِها علاقتُه بذاتِه ورؤيتُه لمقتضياتِ اسمِه، وفي النهايةِ لا مفرَّ من تحوُّراتٍ مستمرّةٍ في الهُوِيّة ورؤية الشخص لمعنى اسمِه وارتباطِه بمعنى وجودِه ذاتِه، عبر المستويات الأربعة التي تحدثَ عنها (هِكْتْ). بهذا يكونُ للإنسان نصيبٌ عظيمٌ من اسمِه في الحقيقة.
     إنّ الأمرَ يشبهُ بطريقةٍ ما موقفًا متخيَّلاً حكاه له صديقٌ قديما: أن تسألَ شخصَين "مَن هُو محرِّرُ العبيد؟" فيقول ذو الثقافة الإسلامية: "أبو بكرٍ الصّدّيق"، ويقولُ الآخَر المتوحِّدُ مع التاريخ الأمريكيّ: "أبراهام لِنْكِنْ"، وكلاهما مُحِقٌّ من زاويةٍ معيّنة. هنا الأمرُ مقلوب. فأنتَ لا تسأل عن صفةٍ بعينِها وإنما تسألُ "من عُمَر؟" فتتعدد الإجابات بتعدُّد زوايا الرؤية، وبالتالي تتعددُ تعدُّدَ الأشخاصِ المسئولين، ومن هنا تتشابكُ خطوطُ الهُوِيَّةِ وتتعقد مع ازديادِ ضربات الفرشاةِ المضافة كلَّ لحظةٍ إلى لوحةِ الاسم. إنه قدَرٌ لا مفَرَّ منه. قد يبدو مرعبًا أحيانًا لأنَّ لكلٍ إنسانٍ نصيبًا آخَر من القُصور الذاتيِّ النفسيّ  Psychological Inertiaيَميلُ بمُقتضاهُ إلى تثبيتِ زاويةِ رؤيتِه للعالَم ولنفسِه، لكنّه لا يخلو من إثارةٍ حتميّةٍ، تخمدُ بخمود آخر أنفاس الإنسان.  

محمد سالم عبادة
23 مارس 2018
 .....
نُشِر على موقع (منشور) في 8 أبريل 2018

      

Tuesday 2 April 2019

مسرحية شِعرية تحاولُ أن تكون رواية: قراءة في رواية (لا تسقِني وَحدي) لسَعد مكّاوي


     الأكيدُ أنّ أجواء التجربة الصوفية - بما تنطوي عليه من غموض إشاراتها والتباس معانيها وانصبابِها على كُنه علاقة الإنسان بالله وبالعالَم - مُغريةٌ لقطاعٍ كبيرٍ مِمَّن يحترفون الأدب. وذلك أنَّ الأدب هو الفن الذي مادّته اللغة، وبما أنَّ اللغة علاقةٌ قائمةٌ بين دالٍّ ومدلول، وبما أنَّ الفنَّ بشكلٍ ما أو بآخر مَعنِيٌّ بالبحث عن علاقاتٍ جديدةٍ بين الدّوالّ ومدلولاتها، أو بتعبيرٍ أدقّ: معنيٌّ بإيجاد صيغٍ جديدةٍ للتعبير عمّا هو قائمٌ في عالَم الحِسّ بُغيةَ فهمٍ مباشرٍ حَدْسيٍّ أعمقَ لهذا العالَم، فلكلِّ هذه المُعطَيات تبسُط التجربة الصوفية سُلطانَها على مَن أغوتهم حِرفةُ الأدَب، حيثُ يَعِدُ استحضار التجربة الصوفية بفِردَوسٍ من الرموز التي تُوحي ولا تُصَرِّح، والدّوالِّ التي تُديرُ رءُوسَ قُرّائها في عالَم الحِسّ حتى يفقدوا توازُنَهم ويَظُنُّوا أنهم قد حلَّقُوا بعيدًا إلى عالَم الغَيب. ويحدث هذا بنسبٍ متفاوتةٍ وبأشكالٍ لا حصرَ لها بالتأكيد. 
     عتَبَة الرواية التي بين أيدينا عنوانُها. والعنوان هنا مَصُوغٌ في صيغة النَّهي "لا تَسقِني وَحدي"، لكنّه نَهيٌ يَئولُ إلى رجاءٍ لا محالة، وذلك أنَّ السّاقي بُحكم امتلاكِه الماء – أو أيًّا كان ما يُسقَى – في موقفِ قُوّةٍ، فبيَدِه البذلُ والمنع. والرجاءُ هنا فيه شكلٌ من أشكال إنكار الذّات لصالح المجموع، فهو دعوةٌ اشتراكيّةٌ في فَحواها. فإذا علِمنا أنّ العنوان مقتبسٌ من أبيات شهاب الدّين السُّهرَوَردي الصوفيِّ الكبير صاحب الطريقة السهروردية وأحد أشخاص هذه الرواية، حيث يُنشِد:
"لا تسقِني وحدي فما عوَّدتَني .. أنّي أشِحُّ بها على جُلاّسِي
أنتَ الكريمُ ولا يليقُ تَكَرُّمًا .. أن يَعبُرَ النُّدَماءَ دَورُ الكاسِ"
- وهي رواية كتاب (وفَيات الأعيان) لابن خِلِّكان، وتختلف عنها رواية كتاب (شذرات الذهب في أخبار مَن ذَهب) لابن العِماد الحنبليِّ: "أن يصبِرَ النُّدَماءُ دُون الكاسِ" – تبيّنَ لنا حينئذٍ أنّ العنوان يحملُ رجاءً إلى الله بالإنعام بالمحبّة والوصل على كلِّ السالكين إليه. يُروى في (شذرات الذهب) وفي (طبقات الأولياء) لابن الملقن أنَّ السهرورديَّ حين أنشد هذه الأبيات "تواجدَ الناسُ لذلك وقُطِّعَت شُعورٌ كثيرةٌ ومات جَمعٌ" أو "تاب جمعٌ كبير".
     زمن الرواية غير محدد بدِقّة، إلاّ أنّ الجوّ العام يوحي بأننا في عصر المماليك. شكوى ظُلم الحُكّام وفساد الحياة تشبه تلك الشائعة في كل الأعمال التي تتناول عصر المماليك. إلا أننا لا نستطيع أن نحدد بدِقّةٍ أيَّ حقبةٍ هي من عصر المماليك الطويل، لا سيّما أن الاجتماع الخيالي لأربعةٍ من أقطاب التصوف (شهاب الدين السهروردي وعمر بن الفارض والعز بن عبد السلام وبرهان الدين الجعبري) يعقّد الأمر أكثر، وإن كان يَنحو بنا نحوَ العقود الأولى من قيام دولة المماليك وبعد سقوط الأيوبيين. الخط الأوضح في حركة الرواية يَتبَع رحلة صاحب المواويل الصعيدي (علاء الدين) من بلده الذي انتشر فيه الفساد إلى القاهرة بصحبة رفيقه (مروان) الذي قصُرت به هِمَّتُه فترك (علاء الدين) منتويًا العودة من حيث أتى، فافترسته ذئاب الصحراء، ثُمّ لقاء (علاء الدين) بالأقطاب الأربعة واحدًا وراء الآخَر وتردُّدَه على مجالسهم، وما يعانيه من ضيق زوجته بفقره وضيقِه بسلاطة لسانها وعدم فهمِها ما يَشغله، مرورًا بمثوله في حضرة زوجة الوزير الفاسد (زياد) التي طلبت منه أن يأتي إليها بالخطيب الواعظ برهان الدين الجعبري بحُجّة أنها تريده واعظًا خصوصيًّا – وهي في الحقيقة تشتهي رجولته بعد ما سمعت به – ثُمّ كيد هذه الزوجة لعلاء الدين على إثر رفضِه طلبَها، وموت الوزير (زياد) وخروج الشُّرطة في طلب صاحب المواويل.
     لا نبذل كثيرَ جهدٍ لنتعرّف على صوت (سعد مكّاوي) متخفِّيًا وراء (علاء الدين)، فصاحبُ المواويل قريبٌ في حضوره من الكاتب والشاعر. كما أنّ مفردات اللغة التي يتكلمها (علاء الدين) معاصِرةٌ بدرجةٍ كبيرة: "حاول أن تُريحَ حنجرتَك لتنشِّط مُخَّك، واعلم أن هناك دائمًا بصيصًا من الرجاء على آخِر المَدى"، ممّا يضعُه خارج إطار الزمن، وكأنه بطلٌ للإنسانيةٍ مُتعالٍ على حواجز الوقت. وفي الحقيقة، نجد أصداء كثيرةً في الرّواية من مسرحية (مأساة الحَلاّج) لصلاح عبد الصبور، فمنها تصوير الصوفيّ بصورة المُصلح الاجتماعي الثائر على الظلم، وإنطاقُ الأبطال بلغةٍ شاعريةٍ طيلة الوقت تقريبًا، فضلاً عن المبالغات المسرحية التي اعتدنا أنها تليق أكثر بالمسرح بحُكم كونِه وسيطًا محتاجًا بشكلٍ ما إلى المبالغة (في نمط الحِوار وأداء الشخصيات على الأقل) لتصل رسالتُه. تتجلى هذه المبالغات في جُمَل الحِوار، كما في قول (علاء الدين) للسهروردي في المرّة الأولى التي لقيَه فيها مع (مروان) وهو يوضِّحُ مَهجَرهما وجهةَ رحلتهما: "جئنا يا سيدي من أرض النباتات المتسلقة والقلوب الميتة. إلى أي أرضٍ لا تسودُها طفيلياتٌ تفترسُ حياةَ الأشجار المثمرة"، كما تتعدّى لغةَ الحوار إلى لغة الرّاوي العليم نفسِه، ونجد أمثلةً لهذا في حشد النُّعوت في مثل قولِه: "فقال علاء الدين ونفسُه تفيضُ بالرضا"/ "التقت نظرة السهروردي بنظرة غزالته والابتسام مُشرِقٌ في وجهه الصافي"/ "في حُمّى الرُّوحِ الكوني الساري في الوجود هبَّت نسماتٌ حملَت علاءَ الدين على أجنحتِها الرَّطبة".
     فضلاً عن المبالغة، نجد كثيرًا من التشابُه بين المُعجَم الذي يستخدمه (علاء الدين) ومعاجم مفردات السهروردي وعمر بن الفارض، فضلاً عن مُعجَم الراوي العليمِ نفسِه، ولا يُفلِتُ من إسارِ هذا التشابُه في الشخصية والكلام إلاّ بُرهان الدين الجعبري، فلا نكاد نُحِسُّ أننا أمام شخصيةٍ من لحمٍ ودمٍ بين هذه الأقطاب المحشودة في الرواية إلا مع (الجعبري) الذي يمثّل مشروعًا لشخصيةٍ روائيةٍ فَذّة. ويبدو لي هذا التشابُه – بشكلٍ شخصيٍّ - ضارًّا ببناء الرواية من زاويةٍ محددة. وذلك إيمانًا بضرورة تبايُن التعبير اللُّغوِيّ Heteroglossia، وهو ذلك الاصطلاح الذي صكّه (باختين) ليعبِّرَ به عن التبايُن الضروري في لغات شخصيات العمل الروائي، والذي يعبِّر بقَدرٍ ما عن صراعٍ طبقيٍّ بقدر ما يعبِّر عن اختلافاتٍ فرديةٍ أساسيةٍ، وعليه تُبنى حركيّة الرواية.
    
     من الصعب أن يُغالِب القارئ هاجس التصنيف وهو بصدد قراءة الرواية، وتتأتّى (الواقعية السحرية) قريبًا من طبيعة الأحداث. يخبرُنا التحقيقُ التاريخيُّ بأنّ الاستخدام الأولَ لاصطلاح (الواقعية السحرية) كان على يد الناقد والمؤرِّخ التشكيليِّ الألماني (فرانتس رُوه Franz Roh) في كتابِه (ما بعد التعبيرية: الواقعية السحرية .. مشكلات الفن التشكيلي الأوربي الأحدث)، حيث استطاع (رُوه) في هذا الكتاب تحديد مميزات هذا التيار الجديد في التفاصيل الدقيقة والوضوح الفوتوغرافيِّ إضافةً إلى بيان العناصر السحرية في الواقع. وانسحبَ هذا على غزو الواقعية السحرية عالمَ الأدب.
     فيما يتعلق بـ(لا تسقني وحدي)، لدينا هذا الحشد لأربعة صوفيّةٍ ليس بين أيدينا من التاريخ ما يَدعمُ اجتماعَهم معًا، ولدينا قطيعٌ من الغزلان يُنقِذ زوجتَي (علاء الدين) و(مروان) من هجوم الذئاب في الصحراء، وغزالةٌ تعيش صديقةً للسهروردي في خيمتِه الصحراوية المنفردة، كما لدينا تلك المصارعة بين برهان الدين الجعبري وذئبٍ حقيقيٍّ قُربَ النهاية، حيث يتغلب الجَعبَرِي ويقتل الذئب بيديه العاريتين، وكلُّها عناصر تبدو سحرية. لكننا في المقابل نفتقر إلى الدِّقَّة في وصف الواقع كخلفيةٍ لهذه الأحداث، حتى لو كان واقعًا تاريخيّا، وهو ما يُسقِط زعمَنا للرواية بالواقعية. بالعكس، فقد كانت استراتيجية (سعد مكاوي) في بناء الرواية أشبه باستراتيجية الطائر الذي يحلّقُ عاليًا على ارتفاعٍ لا يسمحُ له بالتقاط تفاصيل الحياة على الأرضِ إلاّ لِمامًا حين يقرر أن ينخفض قليلا. فهناك مثلاً شخصية الوزير (زياد) الوُصولِيّ المنافق الفاسد. لا يحضر الوزير بشحمه ولحمه إلاّ حين ينبري (الحاج عمران) على المقهى لحكاية مشهدٍ يدورُ بين الوزير والسلطانِ على جُلوس المقهى، يبدأ بتهديد السلطان بفضح فساد (زياد) نائب وزير الحِسبة وينتهي بترقيته إلى منصب الوزير. وفي الحقيقة، يبدو هذا الموقِف بصياغة (سعد مكاوي) له أدخَلَ في تقنية (المسرح داخل المسرح) من (الحكاية داخل الحكاية)، حيث تعتبَر الأخيرة تجلّيًا من تجليات ما بعدَ الحداثة، الكثيرة الوُرُود في سرد الواقعية السحرية، أما (المسرح داخل المسرح) فهو المقابل المسرحي لهذا التجلّي. ولِنَكون أكثرَ تحديدًا، فإنّ هذا الموقف في الرواية يُحيلُنا مباشرةً إلى مسرح (سعد الله ونُّوس)، وربما لا نجانبُ الصوابَ كثيرًا إذا قُلنا إنه يبدو امتدادًا لعرض الراوي في مسرحية (مغامرة رأس المملوك جابر) لـ(وَنُّوس)! 
     ختامًا، تبدو (لا تسقني وحدي) حُلمًا راود (سعد مكّاوي)، تكثَّفَت فيه نزوعاتُه الإنسانية الإصلاحية، وأشواقُه الصُّوفيّة، وأرادَ لهذا الحُلم أن يعرف طريقَه إلى عالَم الرواية، لكنّه كان منشغلاً بالتحليق عاليًا أكثر ممّا يَجِب، وربما أملى عليه هذا التحليقَ ذوبانُه في أجواء التجربة الصُّوفيّة التي أرادَ أن يعبِّرَ عنها، فتجسّد هذا الحُلمُ في صورةٍ يمكننا وصفُها بأنها خاطرةٌ مسرحيةٌ شِعريةٌ تحاول الانتماءَ إلى الرواية.
محمد سالم عبادة
22 أكتوبر 2018
نُشِرَ في عدد يناير من مجلة (عالَم الكتاب)

Friday 15 February 2019

الحُبُّ مَلاذًا من الانقراض: قراءة في فيلم فوتوكوپي


     تمتاز السرديّات (الأفلام والمسرحيات والأعمال الأدبية) التي تتخذ أبطالَها من الكُتّاب بأثرٍ خاص: من الصعب أن يُقاوِم المتلقّي إغراء التوحيد بين صانع السردية (المؤلّف/ المُخرج) وبطلِها الخيالي الذي يحترف الكتابة. لكنّ هذه الحِيلة الشائعة لدى الكُتّاب للتعبير عن حياتهم وهمومهم وآرائهم فيما يكتبون تعرّض كتاباتِهم لمجازفةٍ من الناحية الأخرى، فبقدر ما يستطيع المتلقّي تمييز صوت الكاتب في شخصية بطلِه، يشعر بهُوّة تفصِله عن البطل/ البطلة، حيث يشعر المتلقّي بنفسِه غالبًا واقفًا على الطرف السلبيّ الأضعف في العملية الإبداعية، بينما البطل الكاتب واقفٌ على الطرف النقيض (الإيجابي/ الفاعِل/ الأقوى).
     في (فوتوكوپي) – إنتاج 2017 – يخطو السينارست (هيثم دبور) خطوةً واسعةً باتجاه المُشاهِد، حين يُنزِل بطلَه الكاتب (محمود فوتوكوپي) من عَلياء الكتابة الإبداعية إلى دَورَين متواضِعَين، أحدهما في الزمن الحاضر للفيلم وهو دور صاحب مكتب الكمبيوتر الذي يكتُب الوثائق التي يطلُب منه زبائنُه كتابتَها، والآخَر ماضٍ نعرفه من سياق الفيلم وهو دور موظف بقسم الجَمع في إحدى الجرائد، مسئول عن كتابة المقالات والتقارير الصحفية التي يُنجِزها محررو الجريدة على الكمبيوتر تمهيدًا لظهورها. بهذه الخطوة يستبقي (دبور) لبطلِه ظِلاًّ خافتًا من بطولة الكتابة، بينما يُجرِّده من بريقِها، أو هو بالأحرى يضحّي له بهذا البريق ليمنح المشاهِد البسيط المزيد من القدرة على الالتحام التلقائي بالبطَل.
     رغم هذه التضحية، يبقى ظِلّ البطولة ماثلاً في عِدّة مقابلات درامية تظهر في الفيلم، أولها المقابلة بين محترف الكتابة محمود/ محمود حميدة، وحُسني/ بيومي فؤاد, المالك الذي يؤجر منه محمود مكتبَه. الثنائية التقليدية التي تضع رجُل الكتابة النبيل ذا الأخلاق الكريمة –وربما المثقف عمومًا- في موقف الفقر والعوَز، في مقابل رجُل المال الوضيع الانتهازي النهِم للمال, هذه الثنائية حاضرةٌ هنا بقوة. كذلك نجد مقابلةً أخرى بين محمود الذي لا يتَّسِع مكتبه إلا للكتابة – بكل ما تنطوي عليه من سموّ قد يربطها به المُشاهد – والشاب أسامة/ علي الطيب، صاحب السايبر الذي يعُجّ محلّه بأجهزة الكمبيوتر حيث لا مكان إلا للعب المراهقين. في هذه المقابلة تحضر الفجوة بين الأجيال والتغريب الذي تُحدِثه التكنولوجيا، وهما كذلك موضوعان شائعان في الدراما على إطلاقِها. إلا أن السيناريو لا يبخل على جيل أسامة بإنسانية حاضرة في المعاملة الطيبة التي يلقاها محمود من أسامة كما لو كان في مكان والده المتوفى. المقابلة الثالثة التي تحتل هنا موقعًا هامشيًّا وإن كان حضورُها يعزز بطولة الكاتب محمود فوتوكوپي هي مقابلته مع السلطة، ممثَّلةً مرةً في سلطة شرطة المصنفات التي تصادر أجهزة الكمبيوتر من مكتبه لورود بلاغٍ بشأن استخدامِه برامج كمبيوتر غير أصلية، ويضطر لدفع مبلغٍ ما لاستعادة أجهزتِه، ومرةً في البيروقراطية الحكومية التي تعطِّل حصولَه على معاشِه لثلاثة أشهر من الجريدة التي كان يعمل بها. هنا الكاتب – وإن كان مجرد كاتب بسيط ينسخ المقالات أو الوثائق على الكمبيوتر – مازال محتفظًا بظلّ بطولة الكُتّاب في مواجهة تغول رأس المال (حسني) واستهتار الأجيال الجديدة (أسامة) وفساد السلطة (الشرطة وبيروقراطية الجريدة الحكومية).
     غزل دبور خيوط السيناريو بحيث تورّط المُشاهِد في محبة أبطال العمل العاديين والتعاطف معهم إلى أقصى درجة. فمِن ناحيةٍ، لدينا الست صفية/ شيرين رضا، الأرملة التي يعيش ابنها كريم خارج البلاد ولا يبدو أنه يهتمّ بها. نعرف هذا من مكالماتهما الهاتفية المتكررة التي حرص الفيلم على إظهار طرف الأُمّ فقط منها مع استبعاد الابن تمامًا، وبهذا تتحول هذه المكالمات في لاوعي المُشاهِد إلى مونولوجات ويتحول الابن العاقّ إلى طيف خافت تمامًا، نصطدم بأثره الوحيد السلبي قُرب النهاية حين يعود إلى مصر على أثر مكالمةٍ مِن أحد جيران أُمّه، يخبره فيها بأنها مُقبلة على الزواج من محمود فوتوكوپي، فيطرد أُمَّه من شقتها، ولا نعرف هذا إلا من حكيِها لمحمود وهي تبكي أمام مكتبه. الجانب الآخَر المثير لتعاطف المُشاهِد في صفية هو معرفتنا بفقدها أحد ثدييها لإصابته بورم خبيث، وتعرضها لخبرة المتابعة نصف السنوية لحالة الثدي الآخَر مع تجدد خوفها من تكرار الإصابة بالورَم فيه. يُسَرّب إلينا الفيلم معلومة هذا الفقد لأول مرة بشكل رهيف مع أول مشهد لدخول صفية بيتَها وتغييرها ملابسها وسقوط الثدي الاصطناعي على الأرض.
     من ناحيةٍ أخرى، هناك أسامة/ علي الطيب، الذي يُطلِعنا على حكاية فقده لأبيه وهو يربط الكرافتة لمحمود فوتوكوپي حين يطلب منه ذلك، حيث يخبر محمود بأنه كان يقوم بهذا الدور يوميًا صباحًا مع والده بعد وفاة والدته، إلى أن تأخر ذات صباحٍ في النهوض من نومه فأسرع إلى غرفة أبيه ليجده قد مات.
     وأخيرًا لدينا محمود نفسُه، وهو شخصية محاطة بحِيَل الكتابة التي تورِّطُنا في محبتِه بـ(صنعة لطافة) كما يُقال، ففضلاً عمّا أسلفنا ذِكرَه من استبقاء ظل بطولة الكتابة والتضحية ببريقِها، نكتشف إلى أي مدى يُشبه عم محمود آباءنا البسطاء، فهو من منتصف الفيلم - حيث يدخل الإنترنت إلى مكتبِه - إلى نهاية الفيلم لا يستطيع أن يميّز جيّدًا بين النيجر/ بلد زبونه الأول الأفريقي عثمان، ونيجيريا البلد الأشهر لدى المصريين بسبب تألق منتخباتها في كرة القدم، ونجدُه كذلك يسقط بسهولة ككثيرٍ من المصريين في فخّ الريبة والعنصرية الكوميدية الهادئة والاحتراز من الأجانب حين يحرّضه عبد العزيز/ أحمد داش على التحرّي جيّدًا عن بلد عثمان خوفًا من أن يكون جاسوسًا، وحين يعترض عم محمود على أساس أنه لا توجد عداوات أفريقية لمصر، يقنعه عبد العزيز بوجهة نظره ببساطةٍ مُذَكِّرًا إياه بالتنمُّر الأفريقي المُحيط بأخبار سد النهضة! كذلك فإن حقيقة عزوبته بعد أن جاوز الستّين، وهي تيمة أخرى شائعة في الدراما، وتردد جارتِه الشابة بسنت/ عايدة الكاشف على شقته للاطمئنان عليه تورطنا في التعاطف مع موقفه الوجودي برُمّته، فهو رجل يعاني إحساسًا ثقيلاً بأنه موشِكٌ على الفَناء، ولهذا يمسّ البحث الذي ينسخه على الكمبيوتر لأحد زبائنه – والذي يتحدث عن انقراض الديناصورات – وترًا حسّاسًا لديه، ويخلق بالتالي تيمةً أخرى شديدة الطرافة في الفيلم، هي هوس عم محمود بالبحث عن سبب انقراض الديناصورات، حتى أنه يتوقف طويلاً أمام خبر منشور في صفحة جريدة يفرشها على مائدته ليأكل عليها، حيث يتعلق الخبر بمخاوف من انقراض الحُوت الأزرق أكبر الحيوانات الثديية، فيقتطع الخبر ويحتفظ به!  
     أخيرًا، هناك اسم الشهرة نفسُه الذي نعرف به عم محمود، والذي تُصَرح صفية لابنها في تسجيلٍ صوتيٍّ بأنها لا تعرف غيرَه لهذا الرجُل الذي تقدم للزواج بها: (فوتوكوپي). فكأن الدور الذي ارتضاه لنفسه بعد تقاعُدِه من الجريدة يطبعُ حياتَه كلَّها بطابَعِه، فهو في الحقيقة فوتوكوپي أو صورة طِبق الأصل من قطاع عريض من أهلنا الذين لهم نفس ظروفِه، وهو بالتالي جديرٌ بما نظهره نحوه من تعاطُف.   
     نقطة أخيرة بشأن السيناريو المنسوج بإحكام، تتعلق بحِيلة يستخدمها (دبور) ببراعة لرَبط مصيري بطلَي الفيلم محمود وصفية. هذه الحيلة هي ما تحكيه صفية للصيدلانية داليا من انتظارِها اليومي للفقرة الغنائية لفريد الأطرش، لعلّ الراديو يذيع تسجيلاً نادرًا لإحدى پروفات أغنيته (قلبي ومفتاحه) يغني فيها كوپليه "يا مسهّر دمعي على خدودي/ كرّهني غيابك في وجودي/ وان سبتك أدبل على عُودي/ وارجع من غير ما تقول عُودي"، وتعلّق صفية بأن هذا الكوپليه بضمير المخاطَبة في نهايته (عُودي) دليل على أن الأغنية وُضِعَت أصلاً لليلى مراد وخطفها منها فريد الأطرش الذي حذف الفقرة كلَّها في النسخة الرسمية من الأغنية. قُرب النهاية نكتشف أنّ عم محمود هو الآخَر يعرف هذه الفقرة ويحب هذه النسخة النادرة من الأغنية، وحين تُبدي صفية اندهاشَها لهذا، يجيبها محمود: "أنا قديم يا ست صفية"، فتصبح هذه المعرفة الخاصة الإيزوتيريّة بالأغنية سببًا جديدًا في تقوية مشاعر صفية تجاه محمود وربما قبولِها عرضه للزواج. وفي الحقيقة يُحسِن (دبور) استخدام هذه المعلومة العابرة في بناء السيناريو وتوثيق حبكتِه.  
نجح المخرج (تامر عشري) في تجربته السينمائية الأولى مع الفيلم الروائي الطويل نجاحًا موازيًا لنجاح (دبور) في أولى سيناريوهاته الطويلة، فقد وظّف إمكانات ممثليه على الوجه الأمثل واهتمّ بإبراز أدقّ التفاصيل في تصميم مشاهدِه وتنفيذها، فعلى سبيل المثال هناك علَم فريق برشلونه معلَّقًا على الحائط وراء أسامة الذي يستلقي على أريكة داخل السايبر ويدخّن سيجارة ملفوفة، وهي التفصيلة الواقعية التي نجدُ مثيلاتِها بالفعل داخل مقاهي الإنترنت والپلِايستيشن، وهناك اهتزاز ضوء اللمبة التي تضيء لافتة مكتب فوتوكوپي، حيث ينصح الصبي البواب عبد العزيز عم محمود بإطفائها حتى لا تحترق، فيرفض عم محمود معللاً ذلك بأنه لا يحب أن تبدو لافِتَتُه مُظلمة. وهي تفصيلة بالَغة الرهافة توحي لنا مقدَّمًا بكل ما سنكتشفه من هشاشة الموقِف الوجودي لعم محمود، وتمسُّكِه بالحياة رغم ذلك.
     على مستوى الأداء، كان محمود حميدة تجسيدًا شديد الواقعية للدَّور كما يمكن أن نتخيلَه مرسومًا على الورَق، وجاء أداؤه الهادئ ذو الانفعالات المحسوبة موازيًا لهدوء أحداث الفيلم ودورانها حول شخصيتين في مرحلة هادئة من عمريهما. كذلك تفوقت شيرين رضا على نفسها في دور صفية. أما بيومي فؤاد فقد جسّد دور حُسني رغم صِغَرِه في مقدرة أضافت إيجابيًّا إلى رصيده المتزايد من أدوار الشرّير الكوميدي. بالنسبة لأحمد داش، فالفيلم يعتبَر استمرارًا لتألقه المبكر في فيلم (لا مؤاخذة) الذي قام ببطولتِه، ويمكننا تخيلُه هنا بطلاً لقصةٍ فرعيةٍ في الفيلم لا نراها ولكن نرى آثارَها في تلك (اللماضة) التي تظهر في حديثه مع كلٍّ من محمود وصفية وأسامة. كذلك يبدو دور أسامة فارقًا في مسيرة علي الطيب السينمائية إلى الآن، والذي تألق تليفزيونيًا عام 2010 ككوميديان ستاند-اپ من خلال البرنامج الرمضاني (ضحكني شكرًا).
     جاءت الموسيقى التصويرية لـ(ليال وطفة) أُحادية المقام، فقد اندرجت بالكامل تقريبًا في النهاوند الكُردي (سُلّم صغير طبيعي)، واعتمدت بشكلٍ أساسيٍّ على الپيانو والعود، تؤازرهما الوتريات أحيانًا، ولا نكاد نلحظ أي خروج على مقام النهاوند إلا على يد فريد الأطرش في جُملتي (وان سبتك أدبل على عُودي وارجع من غير ما تقول عُودي) حيث يُعرِّجُ سريعًا على البياتي كما في بقية كوپليهات الأغنية ليعود إلى اللحن الأساسي للمذهب في مقام النهاوند ويقفل به. وبشكلٍ ما يمكن أن تبدو أُحادية المقام لموسيقى (وطفة) التصويرية قاصدةً إلى الاتّكاء على اللحن الأساسي لأغنية (قلبي ومفتاحه) التي تحتلُّ موقعًا مركزيًّا في أحداث الفيلم، فتبدو التتابعات النغمية كلها في الفيلم كأنها دوائر متحدة المركز حول هذه الأغنية التي تمثل حجَرًا ألقى به (هيثم دبور) في صفحة السيناريو.  لهذا يبدو الفيلم عملاً متكامل العناصر بدرجةٍ كبيرة.
.... 
محمد سالم عبادة
نُشِر في عدد ديسمبر 2018 من مجلة الثقافة الجديدة