Saturday 20 May 2023

الأبُ والجثمان - من المجموعة القصصية (ما يَحدثُ في هدوء)

 



 

     يكادُ البردُ يقتلُني. أقولُ يكادُ لأنّي واثقٌ أنه لن يستطيعَ قتلي وإن أراد!

     ربما منذُ ألفِ عامٍ فقط كان الناسُ هنا يظنّون أني لا يُصيبُني البردُ ولا يدهمُني الحَرُّ، والحَقَّ أقولُ، كان هذا يُطريني ويُطربُني. والآنَ وأنا أجرّرُ قدمَيَّ مع جُثّة ابني على هذا السرداب- لا يعرفُ أحدُهم ما يحدثُ هنا، ولا يخطرُ ببالِهم أصلاً – أشعرُ ببردٍ ينقُرُ عِظامَ رُوحي ويوجِعُني.

     منذُ ألفٍ فقط من السنين، كنتُ أظنُّ أنّ القوةَ باقيةٌ لي. لكنني الآنَ مُدرِكٌ تمامًا أن ليسَ ثمّةَ ما يميزُني إلاّ الخُلودُ. فأيُّ بُؤسٍ هذا؟! خالدٌ في شيخوختي؟!

     واوَلَداه. وامَلِيكاه. حُزني عليكَ لم يخفُت ساعةً يا مَلِكَ مِصر. يا خالدَ الاسمِ بينَ البشرِ الذاهبينَ إلى النسيان. يا مَن أردتَ أن تَقومَ في النَّهارِ بعدَ موتِكَ لتلتحمَ بأبيك.

     خوفو. سامحني يا وَلَدي على ما أفعلُهُ الآن. جثتُكَ المحنَّطَةُ التي خفَّ وزنُها أصبحَت ثقيلةً على أبيكَ الإله العَجُوز. ولا ينتظرُهُ في الصحراءِ بعدَ أن يخرُجَ بك إلاّ مزيدٌ من البرد. سامحني. أعرفُ أنكَ أخلصتَ لي. وحفظتَ ولاءكَ لي سِرًّا، ولم تنتسِب إلى آلِهة مِصرَ الأخرى لأظلَّ وحدي في قلبِك. ذريتُكُ لم يسيروا في ظلِّكَ وأنتَ تعرف هذا. انتسبوا إلى (رَعْ). وتركوني. تركوا (سِتْ) الواحِدَ في الصحراء. تنوشُهُ الرّيحُ ولا يحتفي باسمِهِ ملِكٌ من بَنيه إلاّ قليلا.

     آهِ. ها أنَذا عند المَخرَجِ من الهرَم. الليلُ مُطبِق. وألوهيّتي لم تُبقِ لي إلاّ الخُلُودَ، فما أقسى هذا البَردَ ياخُوفو!

     تعالَ يا ولدي، امتثِل ليَدَي أبيكَ المرتعشتين، وسامحهُ إن جرّكَ في الرمالِ خارجَ قبرِكَ العظيم. آهِ لو كنتُ مستطيعًا أن أمنحَكَ من خُلودي. إذَن لرأيتَ بلادَكَ تسقُطُ في أيدي الغُزاةِ مرّةً ومرّةً ومرّة. ورعاياكَ ينسون أباكَ ويغرقونَ في النسيانِ وهم أحياءٌ، ويسلّمون أنفسَهم لكلِّ شجاع. لكن. شكرًا للقدَرِ الّذي حرمَكَ الخُلود. أنت الآنَ مستريحٌ من حُزني الذي أحملُهُ منذُ سقوطِ مصرَ الأول والثاني والثالث. غزاةُ الشّرق. يالَغُزاةِ الشّرق! لا يعرفون شيئًا عن (سِت) ملِكِ الصحراء. ومجيئُهم أغرى المصريين بي، فصاروا يكرهونني، ويقولون إنني أنا الشّرّ، وكأنهم نسوا أنهم جاءوا منّي، من الصحراء. ولماذا أقولُ (كأنهم)؟ بل قد نسوا بالفعل. ألم أقُل لك يا ولدي إنهم غرقوا في النسيانِ وهم أحياء؟!

     لو أستقبلُ من حياتي ما استدبرتُه. لكنتُ انتبهتُ إلى (حُور) المخاتل. ذلك الصقر الذي أذاقني الحسرةَ الأولى فزللتُ عن عرشي الذي كان على قلوبِ المصريين قائما.

     أذكرُ بالطبعِ ذلك اليومَ يومَ النحس. أغراني بالاحتكامِ إلى الآلِهة، ولم أكن أدري ما الآلِهة. وافقتُهُ ياولَدي، فقد كان في منقارِهِ المعقوفِ ما يمنعُني من الرفض، وكان في عينيه المدورَتين ما يُغريني بالقَبُول.

   قال: "ستنامُ معي، وسأنامُ معَك. وسترى الآلهةُ أكثرَنا فحولةً وسيكونُ له الأمرُ في مصر".

قبلتُ يا ولدي. وحينُ قذفتُ ماءَ حياتي تلقّاهُ بيدِه، ولم أدرِ ما فعلَ به، لكنّي رأيتُ فيما بعدُ ونحنُ نتحاكمُ لدى الآلهة أنه ألقاهُ في النيل. وحين قذفَ ماءَ حياتِهِ تلقّاهُ هو أيضًا بيدِه ولم أدرِ ما فعلَ به. لكني رأيتُ فيما بعدُ أني قد أكلتُه!

     نعم! أكلتُه ياولدي مع نبتة الخَسّ التي أحبُّها. المخاتلُ نثرَ ماءَ حياتِهِ عليها لأنه يعلمُ أني سآكلُها. وحينَ نُودِيَ ماءُ حياتي أجابَ النهر. ضاعَ ماءُ حياتي ياولدي. وحين نُودِيَ ماءُ حياتِهِ أجابَ مِن أحشائي!

     يالَخُسراني. يالَحسرتي يا ولدي.

     وأنتَ على ذلك عبدتَني وأفردتَني بالولاء. فكيفَ أنساك؟

     ازدحمَ الأكَلَةُ على مصر يا ولدي. غزاةُ الشرق.

     ها نحنُ في وسطِ الصحراءِ أيها الملِك. وأنا جائعٌ مطرودٌ وذنَبي يؤلمني. أظنُّهم سيقولون بعد ألفين من السنينَ في اختفاءِ جثمانِكِ الأقوال. ربما يقولون انتهبَه اللصوصُ مع كنوزِه. ربما يقولون شرّحه الغزاةُ ليعرفوا موضعَ رُوحِه. وسأكونُ أنا قد نُسيتُ تمامًا ومُحِيَ اسمي إلاّ من بقيّةٍ من نقوشٍ على المعابد التي أقامها أبنائي قديما. لكنني سأظلُّ هنا في الصحراء. خالدًا في الظُّلمةِ والبرد. واحدًا في حكايتي وكأنني لم يعبدني آلافُ آلافٍ من أبنائي. لن يخطُرَ ببالِهم أنكَ في أحشائي. فما أنتَ إلاّ بعضُ ماءِ حياتي. وها أنذا جائعٌ وأنتَ لن تشعُرَ بي آكلُكَ يا ولدي.

     امتثِل ليَدَي أبيك المُرتَعِشَتَين يا ولدي، وكُن حنونًا على ما بَقِيَ مِن أسنانِه التي أسقَطَها الغُزاة. كُن بارًّا بأبيكَ (سِتْ). وسامحهُ إن حرمَكَ من البعثِ في النهار، بينما الجوعُ يقرصُهُ في بردِ الصحراء.

 

2016