Saturday 23 November 2019

الاسم والهويَّة: كيف يختار الآباء الجدُد أسماء أبنائهم؟


الاسمُ والهُوِيَّة:
كيف يختارُ الآباءُ الجدُدُ أسماءَ أبنائهم؟
     في هذا المقطع من مسرحية (ريّا وسكينة) تعبّر (سهير البابلي) في بساطةٍ عن واقعِ اختيار المصريين أسماءَ أطفالِهم تبعًا لِعددٍ من المُحَدِّدات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة.
     لماذا تكتسحُ مجموعةٌ من الأسماء اختيارَ الآباء لأبنائهم في حِقبَةٍ زمنيّةٍ ما؟ المقطعُ السابق يفترِض صعوبةَ أن يُقدِم أبَوان اسماهما (وائل وسَحَر أو رشا) على تسميةِ ابنِهما (عبد العال)، ويقترح مجموعةً من البدائل (سِراج، إلخ)، ليعود أحمد بدير وينفُخَ في المفارَقَة المضحكة بتفجير مفاجأةِ أنّ (عبد العال) هو اسمُ تدليلِه بينما اسمُه الحقيقيّ (هاني Honey)!
     لدينا ثلاثةُ احتمالاتٍ عن الزَّمَن الذي يفترضُه المقطَعُ لتراتُبِيّة هذه الأسماء، فإمّا أنّه يُحيلُنا إلى الزَّمَن الفِعلِيِّ لريا وسكينة أي النصف الأول من القرن العشرين وتحديدًا حَولَ ثورة 1919، أو إلى زمَن العرض الأوّل للمسرحيّة في نهاية السبعينيات، أو هو يفترِضُ هذه التراتُبِيّة مُطلَقَةً ولا يمكنُ بحالٍ من الأحوال في أيِّ زمَنٍ أن نتوقَّعَ أنّ (وائل) و(رشا) يمكنُ أن يُسَمِّيا ابنَهما (عبد العال)!
     ولأنَّنا ننطلِقُ هنا من الملاحظةِ الشخصيّةِ للمجتمع ولا تدعَمُنا إحصاءاتٌ دقيقةٌ، فسنفترضُ ابتداءً أنّ هذه الملاحظةَ صادقةٌ على الأقلّ في المجتمَع القاهريِّ وفي مُدُن المحافظات القريبةِ من القاهرة. الاحتمالُ الثالثُ في مسألة زمن الأسماء المُشارِ إليها في المقطع فيه شكلٌ من أشكال المصادرة على الغيب لأننا لا ندري بالتأكيد كيف سيتراءى للناس اسمُ (عبد العال) مثلاً بعد عشرين سنةً من الآن! إذن يبقى الاحتمالان الآخَران. وكلاهما – اعتمادًا على الملاحظة البسيطة – صادق! فلماذا يتعذّر أن تسمّيَ (سحَر) ابنَها (عبد العال)؟ ولماذا يصدقُ هذا أيضًا على (وائل) و(رشا) الذَين شاعا ووصلا إلى مستوى المُوضة في سبعينيات القرن العشرين؟! 
    
     نترُكُ هذه الأسئلةَ مؤقَّتًا لنستكشف مُصطَلَحًا في علم اللسانياتِ الاجتماعي Sociolinguistics هو (اللغةُ أو اللهجةُ المفضَّلةُ مجتمعيًّا Prestige Language/ Dialect). هي اللغةُ أو اللهجةُ التي تتمتع بأكبر توافُقٍ مجتمعيٍّ على أنها الجديرةُ بالاحترامِ ومِن ثَمَّ بالتقليد، وعادةً تكونُ اللغةَ أو اللهجةَ التي يتحدثُها مَن يحتلُّون قمّة الهرَم الاجتماعيّ الاقتصاديّ. في مصر بداية القرن العشرين كانت هذه اللغةُ هي الفرنسيّة بحُكم تواطُؤِ ظُروفٍ عِدّةٍ، من أهمِّها بعثاتُ محمد علي وخلفائه المنحازةُ إلى فرنسا، النِّكايةُ في المستعمِر الإنجليزي، تصديرُ فرنسا للعالَم صورةَ الأُمّة المتحررة التي تدعَمُ الحريةَ أينما كان المُطالِبون بها، إلى غير ذلك. في هذا الإطارِ يحاولُ المُنتَمُون إلى الطبقات العُليا تعزيزَ هُوِيَّتِهم الاجتماعيّة الوجيهة بأسماءَ تَليقُ بما وصلوا إليه. ألهذا اقترحَت (سهير البابلي) هنا اسمَ (سِراج) بديلاً عن (عبد العال)؟! لنتخيَّلْ النُّطق الفرنسيَّ للاسم مع اللثغة الشهيرة التي تحوِّلُ الراءَ إلى غَينٍ كما كانت (آثار الحكيم) تفعل في الجزء الأول من مسلسل (زيزينيا): (سِغاجْ)! فرنسيٌّ قُحّ!  
فلنقارن به (عبد العال). اسمٌ مركَّب به عينان، ممّا يوقِعُه في المحلّيّة الشديدة وبالتالي في قاع الهرم الاجتماعي. إذَن صدقَت (سهير البابلي)!
     هناك ملاحظةٌ متواترةٌ في علم اللسانيات الاجتماعي، مفادُها أنَّ لهجةَ (كْريمة) المجتمع – مثلها مثل كل الظواهر الاجتماعية – في تطوُّرٍ مستمِرّ، وأنَّ أحدَ أهمِّ بواعثِ هذا التطوُّرِ رغبةُ مَن يَشغَلُون الطبقاتِ الأدنى في الهرم الاجتماعيّ في اللحاقِ بِمَن في القِمّة ولو بشكلٍ رمزيٍّ، فيقلّدون – على قدر ما تسمحُ مُدخلاتُهم الثقافيّةَ – لهجةَ المُرَفَّهين الأغنياءِ ويَتَسَمَّون بأسمائهم المفضَّلةِ بالتبَعِيَّة. ويترتّب على هذا السعيِ سعيٌ مضادٌّ مِن قِبَل الأغنياء بتطويرِ لهجتِهم أو طرائقهم في التعبير والتواصًل، وباصطناع أسماءَ جديدةٍ تأخذُ كلُّ مَوجَةٍ منها شكلَ المُوضة. وترتبطُ هذه الظاهرةُ بظاهرةٍ أخرى أعَمَّ في اللسانياتِ قد تكونُ الترجمةُ العربيةُ الموفَّقَةُ لها هي الكِناية Euphemism. وتعني تطوُّرَ الكلمات الدالّة على معنىً قبيحٍ أو مستهجَنٍ بشكلٍ مستمرٍّ لا يعرفُ نهاية. هكذا كان المصريون مثلاً يشيرون إلى مكان قضاء الحاجةِ بكلمة (كَنيف) ثُمّ أصبحَت (مرحاضًا) ثُمّ (حَمّامًا) ثُمّ (تْواليتّ) مع المَدّ الفرنسي Toilette، ولمّا لَحِقَ الفقراءُ بالأغنياء وأصبحوا ينطقون الكلمة (تَواليتّ) بتحريك التاء الأولى، انصرف الأغنياءُ إلى استعمال الاختصار الأمريكي (دابليو.سِي)، وأخيرًا عادوا إلى النطق الأمريكيّ للكلمة الفرنسية فأصبحنا في عصر الـ(تُويْلِتْ) Toilet!

     وعلى هذه الملاحظَة المتواترةِ يُمكِنُنا أن نرى في ضوءٍ جديدٍ انتشارَ أسماءَ بعينِها في الجيل الحاليِّ مِن أطفالِ مرحلةِ ما قبل المدرسة. فأسماءُ مثلُ (آدم, أدهم, يحيى, عُمَر, علي، عبد الرحمن، ياسين، آسِر) في الذكور، و(ملَك، آيتِن، فريدة، حبيبة) في الإناث، هذه الأسماءُ تحملُ في طيّاتِ انحيازِ الآباءِ لها إشاراتٍ إلى تغيُّراتٍ مجتمعيّةٍ جديرةٍ بالتأمُّل.
     إذا اخترنا (عمر وعلي) مثلاً وسألنا ماذا يعني انتشارُهما على النَّحوِ الذي لا تجحَدُه عينٌ الآن؟ فرُبَّما تكون الإجابةُ البسيطةُ التي تتبادرُ إلى أذهان الجميعِ هي تفاؤل المسلمين باسمَي الخليفتين الراشِدَين (عُمر بن الخطاب) و(علي بن أبي طالب). لكنّ هذا ليس كلَّ ما في الأمر!
     لماذا لم تنتشر أسماء بقيّة العشرة المبشَّرين بالجنّة مثلاً (باستثناء عبد الرحمن بن عوف)؟

     (أبو بكر) كُنيَةٌ بالأساسِ – وهذا لا يعني جُمهُورَ الآباء كثيرًا في الحقيقة – لكنّ تكوُّنَه من مقطعَين، ورُبَّما شهرةُ أبي بكرٍ الصدِّيق بالرحمة عند الجمهور العريض من المسلمين، كفيلان بإقصاء الاسم من قائمة الأسماء التي يختارُ الأبَوان منها لابنِهما. الرحمةُ - بصفتِها عنوانًا لنمَطٍ من العلاقاتِ الإنسانيّة المنفلتة من الضبط والمعياريّة المُمَيِّزَين للمجتمع المعاصِر ليسَت صفةً مرغوبةً تمامًا في مستقبَل المولود الجديد، بعكس الحَزم والصّرامةِ المُمَيِّزَين للصُّورة الشائعة عن (عمر بن الخطاب). وفي هذا التمييزِ أيضًا لا يعني الجمهورَ كثيرًا النِّقاشُ المحتدمُ حول قرارِ (أبي بكرٍ) بخوض حروب الرِّدّةِ ضدَّ مانعي الزّكاة، وهو القرار الذي راجعَه فيه (عُمَر). فالمهمُّ هو الصُّورةُ الشائعةُ التي تتبادرُ إلى الذِّهن بمجرَّد ذِكر الاسم، وهي رؤيةٌ من جانبِنا تلتقي مع ما طرحَه (ميلان كونديرا) في روايتِه (الخُلود L'Immortalité) من حُلول الصُّورة Imagology محَلَّ الفِكر الخالص Ideology في الأهمّيّة مِن تحريك المجتمَعات المعاصِرة.    
     هذا فضلاً عن أنَّ اسمَ (عُمَر) يُلقي بظلالٍ أخرى في الصورة الذهنية المتخيَّلَة لصاحبِه في وقتِنا، فمن الصعوبة أن يُفلِتَ واحدٌ من جيلي - حين يسمع اسمَ عمر – من تذكُّر إعلان السيراميك التسعيناتيّ الشهير حين تفاجَأ (يسرا) بدخول (عمر الشريف) الكادر فتناديه باسمِه (عمر)، وهو ما كان يبدو صادمًا لي آنذاك لمكانةِ (عمر الشريف) العالَمية وانتمائه إلى جيلٍ أقدم بكثيرٍ من جيل (يسرا)! المهمُّ أنّ هذه الذكرى كفيلةٌ بإضفاء جوٍّ أرستقراطيٍّ على المشهد الذي يوجد فيه كلُّ طفلٍ اسمُه (عُمَر)، وتتلاشى في مواجهتِه فورًا شهرةُ (بن الخطّاب) بالزُّهد والتقشُّف! كذلك تحتلُّ الكادْر صورةُ (عمر خيرت) بطلعتِه المَهيبة وألحانِه الأرستقراطيّةِ الرصينة. في النهايةِ يبدو الأمرُ أعقدَ بكثيرٍ من مجرّد محبّة (أمير المؤمنين)!
     قُل مثلَ ذلك في انتشار (عليٍّ) وخفوتِ (عثمان). أوّلاً، نحنُ أمامَ جيلٍ جديدٍ من الآباء، مهما ادَّعَى المحافظون من مُسلِميه السُّنّيِّينَ تحفُّظَهم إزاءَ الاتهاماتِ التي تطالُ بعض الصحابةِ، فإنّهم في النهاية بشكلٍ لاواعٍ ينحازون إلى مَن يقِلُّ الخلافُ على صورتِه المثالية، وبالتالي (يَجِدون بعضَ الموجِدة) على الخليفة الثالثِ عثمانَ وإن لم يذهب بهم حظُّهم من الليبراليّةِ إلى درجة التصريحِ بالعَتب عليه. هذا فضلاً عن اختلاطِ الاسمِ في أذهانِ المِصريينَ بالشخصية السينمائيّة التي رَسَمَها (علي الكسّار) للنُّوبيّ البوّاب البسيط (عثمان عبد الباسط) وتابعَه عليها تراثُ السينما المصريّة (بوّاب = عثمان)، ناهيكَ عن (موجِدَةٍ) أخرى تجاهَ الاحتلال/الخلافة/الغزو/الفتح العثمانيّ لمصر وغيرها من الأقطار العربية! هذا في مقابلِ (علي) الذي تتقاطع فيه صورةُ الإمام (عليٍّ) العادل الزاهد العالِم الشاعرِ إلى غير ذلك، مع صورٍ أخرى مؤثِّرةٍ في هذا الجيلِ من الآباء المصريين، كصورة (علي البدري) الشخصية التي جسَّدها الراحل (ممدوح عبد العليم) في مسلسل (ليالي الحلمية) لخمسة أجزاء أو يزيد، بكلّ رومانسيّتِه وتقلُباتِه الفكرية التي كرَّسَته نموذجًا للإنسان المتراوح بين الخير والشرّ في إنسانيّةٍ حقيقية!
     (عمر) و(علي) فيهما (عينٌ) من عينَي (عبد العال) الذي افتتحنا به المقال، لكنّهما مكرَّسان عالميًّا، وبهذا يقفزُ إلى ذهن الأبوين المصريَّين رسمُ الاسمَين بالحروف اللاتينية Omar/ Ali كما في صورة عمر الشريف وشخصية محمد علي (الحاكم والملاكم، كلَيهما). وهذا يضمن شكلاً من أشكال الطموحِ إلى مواطنَةٍ كونيّةٍ متجاوِزَةٍ لحدود القُطر في المولود الجديد!
     يَلحَقُ بهذا الحرصِ على المواطنة الكونيّة تفضيلُ بعض المسيحيين المصريين النُّسَخَ الأوربيةَ من الأسماء المتجذِّرَة في الوعي المسيحيِّ على النسخ المصرية. ففي فترةٍ قريبةٍ من المَدِّ الثقافيِّ الفرنسيِّ كان اسمُ (ميشيل) بديلاً (أرقى) عند كثيرين لاسم (ميخائيل) رغم قُرب النُّطقِ الأخيرِ من المصادر الآراميّةِ القديمةِ للنصوص المسيحية المقدسَة وأسماء الملائكة. وحين حلَّ المَدُّ الأمريكيُّ محلَّ الفرنسيِّ، أصبحَ اسمُ (مايكل) هو البديلَ الذي يداعبُ الآباء. وهكذا، حتى وصلنا إلى الأسماء ذات الجذور الأوربيةِ بالكامل مثل (كيفِن Kevin) ذي الأصل الأيرلندي الذي يعني (نبيل المنشأ).
     أمّا اسمُ (ياسين) فقد كان صعودُه أكبر من مجرَّد احتفاءٍ إسلاميٍّ مفاجئٍ بالسورة القرآنية ذات الخصوصيّة الرُّوحِيّة الشهيرة. وإلاّ فلماذا لا يوجد صعودٌ مُوازٍ لاسم (طه) مثلاً؟ بل بالعكس هناك انحسارٌ للرغبة في تسمية الأبناء بهذا الاسم!
     في (ياسين) استبقاءٌ لمَلمَحِ القُوّة الكامنةِ والدَّهاءِ الذي يَنتظرُ الفُرصةَ المُناسِبةَ للإفصاحِ عن نفسهِ من شخصية (ياسين) التي جسَّدَها (أحمد سلامة) في (ذئاب الجبل)، ممتزجًا عند البعض بنجوميّة (آسِر ياسين)، وربما عند البعض بحُلم الثراء، تُسَرِّبُه إليهم لوجوهات مجموعة (ياسين) المطبوعة على السيارات! هل نبالِغ؟! واردٌ بالطبع، لكنَّ إغفالَ كل هذه التأثيرات المحتملة يضعُنا في ورطةِ الانتشار المُستَعصي على التفسير! لماذا يُحجِم المصريون الآن عن تسمية أبنائهم (طه)؟ هل لأنَّ الكلمةَ فِعلٌ بمعنى (طَأْها)؟ لم يلتفت المصريون قديمًا إلى هذا وتيمَّنوا بالاسم على اعتبار أنّه من أسماء النبي. هل لأن بدايةَ السُّورة تُعتبَر عند البعض من الحروف المُقطَّعة؟ فماذا عن (يس) وهي مِثلُها؟! هل لأنّ شخصية (طه السماحي) – الوطنيّ الثوريّ على الملَكيّة والاستعمار- التي جسَّدَها (عبد العزيز مخيون) في (ليالي الحلمية) كذلك أصبحَت تُذكِّرُ آباءَ الجيلِ الحاليِّ بإخفاقاتِ جيلٍ سابقٍ بالغ في الطنطنة بأمجادِه حتى انطفأَت جذوةُ جاذبيّتِه فقرر الآباء المعاصِرون – بشكلٍ واعٍ أو غيرِ ذلك – قطيعةً معرفيّةً مع ذلك الجيل؟ يظلُّ هذا واردًا جدًّا وإن أسرعَ في الاعتراضِ متسرِّع، والمهمُّ هو تعدُّد التأثيرات لا الأمثلةُ المتعيِّنة.
     هناك أيضًا الأسماءُ العربيةُ المَصُوغةُ في قالَبٍ يبدو أجنبيًّا عن طريق الكتابة. الأمثلةُ تأتينا بغزارةٍ من مُوضة أسماء البنات المعاصرة. (جُمَانَة) أي الدُّرَّة التي يكتبها المصريون (چومانا)، و(لُجَينَة) أي قِطعةُ الفِضَّة التي يكتبونها (لُوچينا) ويُدَلِّلُونَها (لُوچي). فضلاً عن (رِتاج) الذي يعني التِّرباس – أيَّ ترباسٍ لأيٍّ بابٍ على وجه البسيطة – ويكتبونه (ريتاچ) ويقولون مرّةً إنه يعني (كسوة الكعبة) ومرّةً (مفتاح باب الكعبة) كما يدَّعُون مرّةً أنَّ له أصلاً فارسيًّا ومرّةً أنه عربيٌّ أصيل، و(ريماس) الذي يُقالُ إنَّ معناه (ترابُ الماس) – ولم أسمع بشكلٍ شخصيٍّ عن تراب الماس إلاّ مع صدور رواية أحمد مراد التي تحملُ العنوانَ ذاتَه – و(رَتال) أي التي تُرَتّلُ (يَعنُون القرآن) فيكتبونه (رِيتال) كما لو كانوا يودُّون الإشارة إلى المصدر الإنجليزي Retaliation أي الثَّأْر، أو إلى (كريتال) وهو أحد أنواع طلاء اللاكيه المعروفة!
     هذه الأسماء التي تسرَّبَت رويدًا رويدًا من الأغنياءِ إلى الطبقات الوسطى (ريتاچ: ابنةٌ رضيعةٌ لزميلتي الطبيبة عام 2008) إلى الفقراء (ريتال: طفلة في الرابعة ترددت بصُحبةِ أمِّها على العيادة الخارجية للجراحة في المستشفى العامِّ الذي أعملُ به عام 2018) تتبعُ الخُطَّةَ الكونيّةَ نفسَها التي يتبعُها اسما (عمر) و(علي). فهي أسماءٌ عربيةٌ في معظمِها وبالتالي تُشبِعُ ذلك الادّعاءَ الهُوِيّاتِيَّ السطحيَّ عند بعض الآباء ولو بشكلٍ لاواعٍ، وهي مُحَرَّفَةٌ كتابيًّا لتَبدُوَ مُتَرجَمَةً عن لُغَةٍ أوربّيّة (ريتاج وريماس بوزن فِيعال، وهو وزنٌ التصقَ في الميزان الصرفيِّ العربيِّ بالألفاظِ المترجمةِ عن لغاتٍ أخرى كديوان عن الفارسية وقيراط عن اليونانية في الأصل، وذلك لاستقدام هذه المفردات إلى مملكةِ العربيّة، ولا يوجدُ عربيًّا خالصًا إلاً نادرًا كما في المصدر حِيقال بمعنى الحوقلة أو ترديد "لا حول ولا قوّةَ إلا بالله"). وهي في النهايةِ أسماءُ بسيطةٌ يحاولُ بها الفقراءُ إلحاقَ أبنائهم بطبقةِ مَيسُوري الحال، ومِن ثَمَّ بالمُوَاطنَة الكَونِيّة الحُلم!

    تلخيصًا لما سبقَ، يمكننا أن نرى بوضوحٍ إزاحةَ الأسماء التي شكَّلَت (مُوضةً) في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في مصر، والتي بدأت في قمة الهرم الاجتماعي، مثل (تامر، وائل، هاني) في الذكور و(رشا، رانيا، رنا) في الإناث، ثم انتشرت في بقية الطبقات، لصالح موضةٍ أخرى أسلَفنا الإشارةَ إليها. وكثيرٌ من العوامل التي حكمت انتشار الأولى بقيَت لتحكم انتشارَ الثانية، وأهمُّها بساطةُ الاسم وخُلُوُّه النسبيُّ من المتعلقاتِ الصوتيّة الثقيلةِ للهُوِيّة المحلّيّة (كعَينَي عبد العال)، الكفيلان ببعث التفاؤل بالمواطنة الكونية. بينما استُحدِثَت عواملُ تحكمُ انتشار الموضة الجديدة، تتعلّقُ بصعود الصورةِ وملاءمتها لمعايير النجاح العصرية (نموذج عمر في مقابل أبي بكر)، والرغبة في قطيعةٍ معرفيةٍ مع الفترات التي أصبحَت سيئة السُّمعة لدى الأجيال الجديدة (نموذج طه في مقابل ياسين)، والحنين إلى فردوسٍ ماضَوِيٍّ متخَيَّل (بعث فريدة من العصر الملَكي).

     المقولةُ الشائعةُ "لكلِّ إنسانٍ نصيبٌ من اسمِه" تبدو صحيحةً في إطار النظرية التواصُليّة للهُوِيّة Communication Theory of Identity التي بَلوَرَها (مايكل هِكْتْ Michael Hecht) الباحثُ في علم النفس الاجتماعي. تقولُ النظريةُ إنَّ للهويّة أربعةَ طبقات 4 Layers of Identity:
- شخصيّة Personal: هي صورةُ الذاتِ، أو كيف يرى المرءُ ويُعَرِّفُ نفسَه.
- مًصَدَّرة أو تواصُلية Enacted : تتخلّق وتتدعّم وتُحَوَّر بالتواصل مع الآخَرين وتنطبع في أذهانِهم.
- علائقيّة Relational: تُرسَم على مهَلٍ بقيام المرء بأدوارِه المختلفة في الأسرة والعمل وغيرهما من المواقف المجتمعية، ويستبطنُها الشخصُ تدريجيًّا فيَرى نفسَه بضوءٍ متجدّدٍ في إطارِها.
- مجتمعية Communal: هي ما يُعَرِّف به المجتمَع مجموعةً جزئيّةً منه.
والشاهدُ أنَّ طفلاً يسمّيه أبواه (عُمَر) مثلاً، يُكوِّن بمُضِيِّ الوقتِ صورةً لِذاتِه، فيها ما يَعرفُه عن اسمِه كمكوِّنٍ أساسيّ. ثُم يفاجأ أنَّ الهويّة التي صدَّرَها لقاؤُه بآخَرين تختلف بعض الشيء عن صورتِه لِذاتِه، وفيها اسمُه (عُمَر) يحملُ ظلالاً مختلفةً بعض الشيء. ثُمّ ينخرطُ في أدواره المختلفة التي تُمليها عليه حياتُه الاجتماعيّةُ فتتجدَّدُ من خلالِها علاقتُه بذاتِه ورؤيتُه لمقتضياتِ اسمِه، وفي النهايةِ لا مفرَّ من تحوُّراتٍ مستمرّةٍ في الهُوِيّة ورؤية الشخص لمعنى اسمِه وارتباطِه بمعنى وجودِه ذاتِه، عبر المستويات الأربعة التي تحدثَ عنها (هِكْتْ). بهذا يكونُ للإنسان نصيبٌ عظيمٌ من اسمِه في الحقيقة.
     إنّ الأمرَ يشبهُ بطريقةٍ ما موقفًا متخيَّلاً حكاه له صديقٌ قديما: أن تسألَ شخصَين "مَن هُو محرِّرُ العبيد؟" فيقول ذو الثقافة الإسلامية: "أبو بكرٍ الصّدّيق"، ويقولُ الآخَر المتوحِّدُ مع التاريخ الأمريكيّ: "أبراهام لِنْكِنْ"، وكلاهما مُحِقٌّ من زاويةٍ معيّنة. هنا الأمرُ مقلوب. فأنتَ لا تسأل عن صفةٍ بعينِها وإنما تسألُ "من عُمَر؟" فتتعدد الإجابات بتعدُّد زوايا الرؤية، وبالتالي تتعددُ تعدُّدَ الأشخاصِ المسئولين، ومن هنا تتشابكُ خطوطُ الهُوِيَّةِ وتتعقد مع ازديادِ ضربات الفرشاةِ المضافة كلَّ لحظةٍ إلى لوحةِ الاسم. إنه قدَرٌ لا مفَرَّ منه. قد يبدو مرعبًا أحيانًا لأنَّ لكلٍ إنسانٍ نصيبًا آخَر من القُصور الذاتيِّ النفسيّ  Psychological Inertiaيَميلُ بمُقتضاهُ إلى تثبيتِ زاويةِ رؤيتِه للعالَم ولنفسِه، لكنّه لا يخلو من إثارةٍ حتميّةٍ، تخمدُ بخمود آخر أنفاس الإنسان.  

محمد سالم عبادة
23 مارس 2018
 .....
نُشِر على موقع (منشور) في 8 أبريل 2018