Friday 23 October 2015

قراءة في رواية (كلام) لمحمد سالم عبادة - للشاعرة الصديقة/ دعاء فتوح



الإبداع إناء يمتلئ بالمعنى، و"كلما افترق عمّن يتحدثون لغته، ظل بلا لسان، وإن كان لديه ألف صوت" مثلما قال مولانا جلال الدين الرومي، فوجب على العمل الإبداعي الذي يطمح إلى البقاء أن يتحدث بلغات عدة تتناسب مع تنوع مستويات تلقيه الذي يختلف باختلاف المتلقي.

(كلام) رواية للشاعر والقاص والروائي محمد سالم عبادة. تحمل في طياتها سمة الكلمة التي يختلف فهمها وتأويلها باختلاف طريقة تلقيها، فهي نموذج مثالي للنص الذي يوحي بأكثر مما يقول صراحة!!

بعد قراءتي الأولى لها غرقت في موجة ضحك هستيري لا أعرف سببه، فأنا أمام أربعة شخوص منقسمين إلى أربعة فصول، كل فصل يحمل اسمًا لواحد منهم بمصاحبة كلمة أو أكثر:

أولاً/ مختار (ترنيمة)
ثانياً/ صلاح (الإثم وردة ذهبية)
ثالثاً/ نادر (اقترب المقت)
رابعاً/ عادل (وهبتُ لنصل فأسيَ أمَّ رأسي)

في حوالي مائة صفحة من القطع الصغير وبلغة مكثفة للغاية، تعرف أنهم ثلاثة أطباء ومتخصص في علم الاجتماع يعملون في مجالات مختلفة، وهم شعراء يكتب كل منهم نوعًا مختلفًا من أنواع الشعر، تعرف ذلك من نماذج صغيرة لأبيات شعر قُرئت في أمسية جمعتهم، فهم أعضاء جماعة أدبية تسمى (كلام)، ويحبون جميعاً (رحاب) التي لم تظهر إلا كصورة منعكسة في حدقة عين كل واحد منهم لتعكس ذاته. عند فشلهم جميعا بالارتباط بها، تنتهي الرواية بانتحارهم!!

فلماذا أضحك إذاً؟!
أبحث في عقلي عن أحداث الرواية الرئيسة، فلا أجد غير يوم الأمسية الشعرية، الذي نعيشه أربع مرات مختلفة باختلاف رؤية كل واحد منهم لذلك اليوم العارض!!

أعود مرة أخرى لآخر فقرة في الرواية فأجد (عادل) يحدث نفسه قبل الانتحار:
"اليوم.. (كلام) أنثى.. (كلام) لا يُفعَّل.. أنا أنثى.. طبنجة ليس لها من الفعل إلا ماسورتها.. حشوت خزانة المسدس.. أنا عارية تماما.. ها أنذا.. أفتح صوت الكمبيوتر لآخره.. أضحك كما لم أضحك من قبل..
We are the champions
الماسورة تدغدغني.. وأضحك.. سأضغط الزناد، وأتوقف عن الكتابة.."

من الواضح أن تلك الماسورة كانت تدغدغ نفسي، لهذا كنت أضحك مثل (عادل)!!
أدرك الآن أن عقلي يحتاج إلى قراءة أخرى لفهم الأبعاد (النفسية/ الاجتماعية/ الثقافية) لهم.

·       الأبعاد النفسية

في الفصل الثالث يوجد مفتاح فهم الأبعاد النفسية لكل شخصية من الأربعة، (نادر) أستاذ علم الاجتماع المتعالي، والذي أمقته فعليا، وأسعد كثيرا بانتحاره –يُشعرني بلزوجة عرق صيف وجب التخلص منها بحمام بارد!- يُلقي محاضرة عن أسباب الانتحار وفق وجهة نظر (دور كايم)*(1)، فنحن أمام شخوص رسمها الكاتب منتحرة بالفعل، فكل واحد منهم يمثل نموذجا من نماذج (دور كايم) الأربعة، و(رحاب) ما هي إلا رمز لعلاقة كل واحد منهم بالمجتمع الثقافي:

أولاً/ مختار (ترنيمة)، انتحار أناني:
فهو يحب رحاب كما يحب الله، ولكنه لا يقترب منها أو يتفاعل معها، حب لا يعرف سبل التواصل، فهو ذلك المسرع في صلاته لكي يلحق بحلقة ذكر صوفية ليتواصل فيها مع الله!!. كما أنه يشعر بانعدام انتمائه لمجتمعه الذي يأخذ جوانب عدة هي (الله/ رحاب/ صديقه المقرب نادر)، يقول مختار قبل انتحاره:
"اليوم سقط آخر في الحضرة بجواري.. لن يصيبني الدور أبدا."

ثانيا/ صلاح (الإثم وردة ذهبية)، انتحار إيثاري:
ينغمس (صلاح) في التجريب (الجنسي/ الثقافي) على مستويات عدة من المجتمعات (رحاب (وسط ثقافي)/ دينا (وسط العامة)/ سارة، وجورو ناناك (أوساط ثقافية وأدبية غربية)) ولكنه نهم وشره لا يستطيع التوقف، يكتب صلاح:
"الإثم وردة ذهبية/ نصلها يجرح سكون الكون الرتيب/ لكنني لا أستطيع أن أستمر في امتصاص رحيقها.."

فيضحي بعلاقته بـ(رحاب/ الوسط الثقافي) عندما يدرك أنها ستكون أفضل مع صديقه الأقرب (عادل). فيقول (صلاح) موجها حديثه لـ(عادل):
"أنت تنتمي لنفس المجتمع الذي تنتمي إليه (رحاب) يا (عادل).. تشارك فيه كواحد من أبنائه البررة وتغترف من نهر تقاليده، لكنك تفعل ذلك بوعي مطلق بقصوره الذاتي وتخلفه.. ستكونان معا زواجاً مثالياً إن قُدِّرَ لعاطفة ما أن تولد بينكما..)

ثالثا/ نادر (اقترب المقت)، انتحار فوضوي:
يحدث تحول عنيف في حياة نادر بزواجه من (رحاب)، فهو يفتقد الوازع الأخلاقي، وتزوجها فقط لأن شكل جسدها بدا له جميلا من الخلف!، فهو يراها سطحية وغير جديرة به، وعند محاولته الولوج فيها، يخفق في إقامة علاقة جنسية معها، فيتضاعف إحباطه وينتحر.

رابعا/ عادل (وهبت لنصل فأسي أم رأسي)، انتحار مصيري:
فهو يحب الأنثى للأنثى لدرجة أنها تتلبسه فعليا، فلا يستطيع الفكاك من الانصهار النفسي معها ليصبح هو (أنثى/ رحاب) فيصبح عبدا، وعبوديته تلك عائقا يقف أمام زواجه منها.
يقول (عادل) بعد غضب (رحاب) منه: "كانت غاضبة مني للغاية.. لا أطيق ذلك يا (رحاب).. أنا عبدك الطفل.. أنا مكسور بين يديك.."

·      الأبعاد الاجتماعية والثقافية

في فهمنا السابق للأبعاد النفسية، كان الكاتب قد ألقى لنا بوجهة نظر (دور كايم) في سياق أحداث الرواية وكأنها معلومة عارضة، ولكننا اكتشفنا أنها كانت كقطع (بازل) صغيرة عند تجميعها نرى صور واضحة لأسباب انتحار كل واحد من أبطال الرواية، فأنت أمام رواية تفاعلية، تريد من قارئها تجميع قطع (بازل) تخلق في كل محاولة لترتيبها عالمًا جديدًا يساعد في بناء تأويل جديد لعوالم شخوصها..
فهل تركت الأبعاد الاجتماعية والثقافية دون قطع (بازل) خاصة بها؟

بعد بحث خلف تاريخ كل كاتب أو مفكر تأثرت به إحدى الشخصيات تجد نفسك أمام:

أولا/ مختار (ترنيمة)، انتحار أناني، معادل موضوعي:
لشخصية (فيرتر) الذي ينتحر حين يكتشف أن قصة حبه باءت بالفشل، في أحداث رواية (آلام فيرتر) للروائي الألماني (جوته).

ثانيا/ صلاح (الإثم وردة ذهبية)، انتحار إيثاري، معادل موضوعي:
لشخصية الفنان التشكيلي الفرنسي (جوجان)، الذي اتخذه (سومرست موم) بطلا لروايته (قمر بستة بنسات) والتي أتى ذكرها بشكل عارض في الرواية، مثل (آلام فيرتر)!
فرائد الرمزية الآن (جوجان) تعرض لنقد شديد من معاصريه من النقاد والفنانين،  بسبب رفضه لمدرسة التجسيم الإغريقية، وسعيه للموائمة بين الواقع والخيال، وفشل في محاولة انتحاره  يناير 1898!!

ثالثا/ نادر (اقترب المقت)، انتحار فوضوي، معادل موضوعي:
لشخصية الفيلسوف الألماني (شوبنهاور)، الذي عُرِف بالعدمية والتشاؤم، فكان يرى الحياة شرًّا مُطلقا.

رابعا/ عادل (وهبتُ لنصلِ سيفيَ أُمَّ رأسي)، انتحار مصيري، معادل موضوعي:
لشخصية الشاعر والروائي الانجليزي (أوسكار وايلد) -صرح الكاتب بوجود الشبه بينهما بشكل مباشر- الذي حظي بتشجيع ومحبة معاصريه، ولكنه نُبذ وسُجن بسبب حكم المجتمع عليه أخلاقيا لـ(مثليته الجنسية)، ودافع وقتَها (وايلد) عن نفسه:
"إن الأعمال الفنية لا يمكنها أن تكون أخلاقية أو غير أخلاقية، هي فقط تكتب بشكل جيد أو بشكل سيء."

·      رمزية المجتمع

لا نستطيع فهم أبطال رواية (كلام) بمعزل عن رؤيتهم الخاصة عن المحفز والدافع  الرئيسي في الرواية لانتحارهم (رحاب/ أو مجتمعهم الثقافي)، أنت أمام ثلاثة أنواع من المجتمعات، لا نتعرف عليها بشكل واضح إلا من خلال أكثر الأبطال انفتاحا على العلاقات، بكلمات بسيطة منه يمكننا التأويل إلى ما لا نهاية، يقول (صلاح): "الحب ضفيرة من الروح والعقل والجسد"، ونكتشف رؤيته لرموز تلك المجتمعات (دينا/ رحاب/ سارة)، فنجد أن:

- دينا/ مجتمع العامة (بيضاء كالثلج-الروح/ بضة كالقطن-العقل/ ثرثارة كالمرأة-الجسد)
- رحاب/ مجتمع المثقفين (بيضاء كالسحاب-الروح/ بضة كالبالون-العقل/ ثرثارة كالماء-الجسد)
- سارة/ مجتمع غربي (بيضاء كالورق-الروح/ بضة كالدفتر-العقل/ ثرثارة كالقصائد-الجسم)

·      المفارقة أساس البناء

المفارقة هي الأساس الفعلي الذي اتكأت عليه السمات الشخصية لأبطال الرواية:

(مختار)
- شكله/ "جسد مترهل وكرش واسع وأرداف مكورة في تمام مضحك!"، إلا أن روحه تشبه الشتاء القارص الذي يصطك في بعضه من الألم.
- منجزه الأدبي/ "ربما أنا أغزر أصدقائي إنتاجا وأكثرهم تنوعا.. إلا أنني الأقل جماهيرية."
- مهنته/ "مشكلة حقيقية أن يداهم الروماتزم طبيب الروماتزم فيضطر إلى اعتزال مرضى الروماتزم!"

(صلاح)
- هو من طبقة اجتماعية عالية، وعلاقته بمجتمع البسطاء (دينا) تبدو ظاهريًّا تعاطفًا ومساندةً له، فيبحث لها عن عمل فيجعلها خادمة له، ثم يستغلها جنسياً.
- نظريا يبدو كفصل ربيع يزهر في حياة مجتمع البسطاء (دينا) فيقول: "أحاسيس البسطاء يجب أن تظل أفضل من أحاسيس النخبة.. وتصوراتهم يجب أن تظل أكثر مباشرة من تصورات أولئك.. ما يسميه (مختار) (نشازاً) في أصوات هؤلاء المطربين، يسميه عشاقهم (بحة).. وما يعتبره (نادر) سطحية في التناول اللحني وحتى في الكلمات، هو عين بساطة هؤلاء.. أما (عادل) فهو يتفهم هذا رغم أنه لا يحبه..".
ثم نجده يقول عندما فضلت (دينا) البقاء في المنزل وعدم حضور الأمسية الشعرية: "رائعة (دينا).. تعرف مكانها كما ينبغي.. وتتركني وشأني!"، فهذه هي وجهة نظره الحقيقية عن تلك الطبقة.

(نادر)
- يتعالى على رحاب ويتهمها بالسطحية ولكنه يتزوجها.
- يتزوج رحاب بسبب شكل جسدها الذي يعجبه، ولكنه يفشل في إقامة علاقة جنسية معها.
- يتعالى على عقلية مجتمع البسطاء ويرى أنه يعيش في طوره "الثيوقراطي" من أطوار الحياة العقلية، وينتحر على صوت الأغنية الشعبية "هنروح المولد".

(عادل)
- طبيب نساء، وسيم ولطيف كنسمة خريف دافئة تجتذب الفتيات الجميلات من سنه، ولكنه فعليا يتساقط جنسيا كأوراق الشجر فيميل إلى الكبيرات في السن.
- يحب ماهية (رحاب) وكونها أنثى، وليس رحاب بذاتها لذلك يريد أن يَكُونَها!!
- ينتقد أخلاق العبيد ويكون مثالاً فجًّا لها في علاقته برحاب!!

·      الخلاصة

أنت أمام رواية شاعر استفاد تمام الاستفادة من لغة الشعر المكثفة، وكان قديراً في توظيف مخزونه الثقافي عن تيار الوعي الثقافي بأوربا في القرن التاسع عشر، فنجده بوعي أو بدون وعي، قد أحالنا لتلك الحقبة التاريخية من تاريخ الأدب الإنساني.
وعلى غرار (إبْسِن) وضع في نصه فجواتٍ دلاليةً وجب على القارئ مَلؤُها، عن طريق المزيد والمزيد من العصف الدماغي!!

أنت فعليًّا أمام مقطوعة موسيقية تتحدث لغاتٍ عِدّة، فيمكنك تأويلها في (كلامٍ) متحرك ليبقى حياً.

"كلام" رواية صدرت عن دار نشر (أكتب) 2013، وحائزة على المركز الثاني بمسابقة الساقية 2013، والجائزة الثانية بمسابقة نادي القصة لنفس العام.
__________________________________

*(1) (إميل دور كايم، 15 إبريل 1858 - 15نوفمبر 1917)، أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث وأول من قال بأن الانتحار يأتي كظاهرة اجتماعية، بعكس ما كان شائعا بأنه ظاهرة نفسية.
 ...................................

نُشِرَت هذه القراءة في عدد الأحد 18 أكتوبر 2015 من (أخبار الأدب) المصرية تحت عنوان (مقطوعةٌ موسيقيةٌ تتحدثُ لغاتٍ عِدّة).

Thursday 17 September 2015

مَرثِيَّةٌ لغِطاءِ الرَّأس


راحةُ الأبِ أينَ اختَفَتْ؟
لا أراها تُرَبِّتُ رأسَ الغُلامْ
كان نسجُ الطواقي فضيلةَ مَن سبَقُونا،
كأنّي أرى رجُلاً في ثلاثينِهِ
شَدَّ مِن بِركَةِ الذِّكرياتِ يَدًا حانِيَةْ
وتأمَّلَها ثُمَّ راحَ يُفَصِّلُ مِن لَمسِها ما يُحيطُ بهِ رأسَهُ
وَهْوَ يَذرَعُ حارتَهُ الفانِيَةْ
مَدَّ خَطَّ العُمُرْ
لِيَكونَ استواءً لطاقِيَّةٍ سيُغَنّي الشيوخُ الخُلُودَ
إذا ما رأَونِيَ ألبسُها وأمُرّْ
وزرعتُ على جانبَيهِ العِضاهَ،
زرعتُ السَّمُرْ
لا يَفوتَنَّكَ الشّوكُ عقربُ ساعةِ هذي الحياةِ
وتوأمُ ما يَتراءَى لكم مِن قُطوفِكُمُ الدّانِيَةْ

فاعتمرتُ العِمامَةْ
وتذكّرتُ راحةَ أرواحِ مَن طَرَّزُوا بالمُوَشَّحِ أشواقَهُمْ،
واعتمرتُ العِمامةَ يا سادَتي ثانِيَةْ
ثُمَّ حطَّت يَمامةْ
عندَ مَفرِقِ أيامِيَ المُشفِقاتِ وأيّامِيَ الجانِيَةْ!
واعتمرتُ العِمامةَ لمّا سَبَى أُذُنَيَّ الكلامْ

كان طربوشُ قاهِرَتي قانِيًا كدماءِ المظاليمِ
حينَ تُراقُ على صفحاتِ الشّوارِعِ،
كان النّبيذِيُّ مثلَ شَرابٍ أتى في جُيوبِ الخواجاتِ
رغمَ أُنوفِ الزُّجاجاتِ،
كان حلالاً لِمَن قد تَحَنَّفَ،
ليس على الحَنَفِيِّ مَلامْ!
إنني ساهِرٌ ليلَكُم يا أفَندي ..
إنّما حَيرَتي في اختيارِ المكانِ،
فمِن أينَ أبدأُ؟
كلُّ مكانٍ هنا هو زهرةُ رَندِ ..
سوفَ أصحَبُ نحوَ النهارِ رِفاقَ الكِفاحِ،
شيوخَ الصُّحُونِ المليئةِ،
أصحابَ هذي الحوانيتِ،
والعاشقينَ،
وغانيةً تستقِلُّ بزَندِي ..
فإذا جَنَّ ليلٌ
فإنّ طرابيشَ قاهِرَتي ستُضِيءُ الظَّلامْ

لم يَكُن مَن تَقَبَّعَ فيما مَضَى مُغرِبا
رُبّما كان يَحمِلُ (لندن)/ (باريسَ)
كي تأكُلَ الطيرُ منها،
ولكنّهُ لم يَزَلْ شادِيًا مَشرِقِيَّ الغِنا مُطرِبا
إمبراطُورَتي القُبَّعَةْ
لم تَغِبْ شمسُها عن جدائلِ رأسِي،
ولكن توارَتْ
وظَلَّ شُعاعٌ لها يتراقَصُ بينَ يَدَيَّ لِكَي أتبَعَهْ

عَرِيَ الرأسُ
والناسُ:
لم يَعُد الناسُ يستمرِئُونَ فضائِلَ مَن سبقُوهُم،
ولا يستبيهِم كلامٌ
ولا يزدَهيهِم حَلالٌ
ولا يأبَهُونَ لِطَيْرْ
عَرِيَ الرأسُ
لم يَعُد الناسُ يلتفتونَ لِهَيبةِ تلكَ السّماءْ
بَيدَ أنِّيَ بِي يا صَديقي أَذًى مِلءَ رأسِي،
فهل ستُشارِكُني في شَعائرِ لُبسِ الغِطاءْ؟!
............................. 
محمد سالم عُبادة
الأربعاء 1/5/2013
نُشِرَت في (أخبار الأدب) بتاريخ 23 أغسطس 2015

Saturday 22 August 2015

زَيد .. من ديواني (قميصي هذا) - تحت الطبع مع (الناشر) ومجلة (أنهار) الأدبية بالكويت

زَيْد
في (زيد بن عمرو بن نُفَيل) الذي تحنَّفَ في الجاهلية على دين (إبراهيم) الخليل، وهو والدُ (سعيد بن زيد) أحد العشرة المبشرين بالجنة، و قد قال فيه رسول الله صلى اللهُ عليه و سَلَّم: "يُبعَثُ زيدُ بنُ عمرٍو يوم القيامة أُمَّةً وحدَه" ..

(1)
سَنامُ الأمرِ أن تَعلُو سَنامَ الشَّوقْ ..
وألا تُسْلِمَ النَّاقُوسَ في عَجَلٍ لأوَّلِ ضارِبٍ تَلقاهُ في الصَّحْراءْ ..
فإنَّ الطِّفلَ حِينَ يَمَلُّ لُعبَتَهُ
يَشُبُّ عن احتِمالِ الطَّوقْ ..
و تِلكُمْ غايةُ اللُّعبَةْ ...!
(2)
أيَلفِظُني حَشَا (مَكَّةْ)؟!
أأغرُبُ عن وُجُوهِ الآلِ دُونَ وَداعْ؟؟
أنا مَن كُنتُ فيها عَينَ مَجلِسِها
فثَمَّ أمِينُ صُحبَتِهِ وثَمَّ فتىً وثَمَّ مُطاعْ ...
أكابِدُ مِثلَ كُلِّ بَنيكَ (إسماعِيلُ)،
أبسُطُ ذِلَّتي لأبي:
"أحِدَّ النَّصلَ و افعَلْ ما أُمِرتَ بهِ"
فيزرَعُ فيَّ زُبدَةَ حُلمِهِ / شَكَّهْ ..
ولكنِّي جَهَرتُ بما أكابدُهُ،
فلم يَستَمرئُوا جَهري
فعَنّي الناسُ مُنفَكَّةْ ...
سأسلُكُ فوقَ ظهرِ الشوقِ مُبتعدًا
لعلَّ مُبَعثِرَ الأركانِ يَهدي عبدَهُ شِعبَهْ ..
(3)
سَنامُ الأمرِ أن تَخلُو بكلِّ (حِرَاءْ) ..
فتسمَعَ كيفَ تَصْطَرِخُ النوازِعُ فِيكَ
كَيفَ تَمُورُ
كيفَ سُيوفُها وكُؤوسُها يُقرَعْنْ ..
ولَم تَكُ – زَيدُ – تَرجُو غَيرَ وَجهِ مُبَعثِرِ الأركانِ،
ثُمَّ اجْتاحَكَ الإسراءْ ..
فَوَاصِلْ واضرِب الناقُوسَ ،
لا تَسكُنْ؛ أبَيتَ اللَّعْنْ ..
فتِلكَ الخُطوَةُ الصَّعبَةْ ...

(4)
هَزِيمُ اللهِ يُرعِدُني، و أُفْقِي مُبهَمٌ وَجَهِيمْ ..
ولَولا الغَيمُ خاتَلَني لكُنتُ شَرِبتُ شُربَ الهِيمْ ...
أهِيمُ مُحَرَّقًا، وأعُودُ بَردًا سالمًا، فأهِيمْ ...
وأُقسِمُ لَم أُرِدْ، لكنْ
كَذلكَ دِينُ إبراهِيمْ ..

(5)
سَنَامُ الأمرِ أن تُرجَعْ ..
وأن تَقتاتَ نُبلَكَ: بينما هُم نُوَّمٌ تَهْجَعْ ..
فَذَرهُم لِصْقَ أرضِهِمُو، أمَا لَكَ في السَّمَا مَضْجَعْ؟!
ألا اخْفِضْ نَبْلَكَ الرَّعناءَ،
صَمتُكَ بينَهُم أشجَعْ ..
ألا لا فُضَّ صَمتُكَ يا صَمُوتُ
وفُضَّت الجَعبَةْ ...!

(6)
دَعَوتُ اللهَ ألاّ يَهدِيَ الباقِينَ مِن خَلفِي إلى لَحْدي ...!
فإني ساجدٌ أبدًا،
و مُستَنِدٌ كَذاكَ لِبَيتِهِ المَعمُورْ ...  [1]
سأبعَثُ أمَّةً وَحدي ..
فإني قد سَمِعتُ نوازِعَ الأرواحِ وَهْيَ تَمُورْ ...
سَمِعتُ مُقَوِّمَ الأركانِ يَهزِمُ
فالدُّنا خَرَفٌ إزائي
والسَّما مَزمُورْ ...
وأبقاني
وقال مُضاحِكًا إيَّايَ:
"يَنسَى المُبتَغِي رُعبَهْ" ..!

(7)
سَنامُ الأمرِ ألا تَستَخِفَّ الأمْرْ ..
تَسَنَّمْ شَوقَكَ المَيمُونَ
لكِنْ لا تَنَمْ للشَّوْقْ ..
فإنَّ الأمرَ- هَاكَ النُّصحُ – يُنبِتُ في يَدَيكَ الجَمْرْ ...!
تَرَقَّبْ ظُلَّة ً مِن فَوْقْ ...
هُنالِكَ
قد تَرَى الكَعبَةْ ...!
2007






 [1]  يُروى في أثر (زيد بن عمرٍو) أنه في أواخر حياته كان يُرَى مسندًا ظهرَه إلى الكعبة وهو يقول للقرشيين :"والله ما منكم أحدٌ على دين إبراهيم إلاّي" ..

Saturday 8 August 2015

لغةٌ تُحيلُ إلى نفسِها .. قراءةٌ في ديوان (رَمادٌ أخضر) للشاعر (أحمد عايد)

 
 (رمادٌ أخضر) هو الديوانُ الأول للشاعر (أحمد عايد)، وهو الصادر عن هيئة قصور الثقافة كجزءٍ من جائزة الفوز بالمركز الأول في شِعر الفصحى في المسابقة الأدبية المركزية للهيئة في موسم 2013/2014، مناصفةً مع ديوان (الأول) للشاعر (أيمن ثابت).
   يبدَهنا العنوان في البداية بمفارقة النعت الغريب على منعوتِه .. والرمادُ المنعوتُ في هذا العنوان يأتي في طيات الديوان بشكلٍ واضحٍ في قصيدتين هما (رمادُ الحُلم .. حُلمُ الرّماد) و(نَصٌّ مجهولٌ وُجِدَ على شاهدة قبر أحد الفقراء)، ففي الأولى يقول: "هذا رمادُ الحُلمِ في كفيك يضحكُ من سذاجةِ فكرتي، هل للرمادِ بأن يفسِّرَ ما أقُولُ؟" إلى أن يقول: "كان الرمادُ يُحاصِرُ الأحلامَ قُربَ الهاوية"، وفي الثانيةِ وهي آخر قصيدةٍ في الديوان يقول: "كالذكرياتِ الناسياتِ ملامحي كان المَدى متحمسًا لتجاهُلي، لم أحمل الألقابَ في صدري ولم أحصُل على شيءٍ من الدنيا سوى هذا الرماد" .. وفي تقديري أنّ الرمادَ المُحتفى به في كلِّ موضعٍ في هذا الديوانِ هو الشِّعرُ ذاتُه، استنادًا إلى ظواهر أكثر من أن يحيط بها الإحصاء في هذا الديوان ترسُمُ لنا رؤيةَ الشاعرِ لنصيبِهِ من الدنيا باعتبارِهِ الشِّعرَ والشِّعرَ وحدَه .. والشِّعرُ رمادٌ في يدَي الشاعرِ لأنه ما يتبقى بعد احتراقِ خبراتِهِ الحيويةِ المختلفة فهو جوهرُها الثمينُ البخسُ في آنٍ، ثمينٌ لأنه يختزنُ أهمَّ عناصرِ هذه الخبراتِ، وبَخسٌ لأنه في النهاية ليسَ إلاّ رمادا .. وهو رمادٌ أخضرُ في هذه الرؤية الخاصةِ جدًّا لدى (عايد) لأنه نابتٌ من حياةٍ عريضةٍ ولأنه ربما يكونُ مبشِّرًا بحياةٍ عريضةٍ كذلك، أو ربما يكون في الأمر خداعُ الشاعرِ لنفسه ولا شيءَ وراء ذلك.
   بنى (عايد) ديوانه على ثلاثة أقسامٍ غير معنونةٍ إلا ثانيها الذي هو قصيدةٌ مُدَوَّرَةٌ طويلةٌ بعنوان (سَردِيّة)، وهو عنوانٌ دالٌّ في الحقيقةِ لأنها تحملُ الحِسَّ السرديَّ الأعلى بالفعل بين قصائد الديوان. وهو يُدخِلُنا إلى ديوانه بـ(موقِفٍ) تناصًّا مع مواقفِ النِّفَّرِيِّ رأسِيًّا، ومع عشراتِ الشعراء العرب الذين يتناصُّون مع مواقف النّفّرِيِّ أفقِيّا .. يقول: "أوقفتَني في الشِّعرِ/ قُلتَ: الحُلمْ. فاستيقَظَت لُغَتي/ وَجدتُ الوَهمْ. أنَصَبتَ لي رَفعًا/ وتَنوي الجَزمْ؟ أبَراءةٌ أن قُلتَ: (سُوءُ الفَهمْ)؟".
   هنا نجدُ أثرًا من خيبةِ أملٍ أصيلةٍ تتعلّقُ بالموقف الوجوديِّ للشاعرِ من حيثُ هو شاعرٌ خامتُهُ وصنعتُهُ ومُنجَزُهُ اللغة، حيثُ تُستَنفَرُ مفرداتُهُ لِتُعَبِّرَ فلا يجدُها في النهايةِ تُعَبِّرُ عن شيءٍ حقيقيٍّ خارجَها، فليس ثَمَّ إلاّ الوهمُ (فاستيقظَت لُغَتي وجدتُ الوَهم) .. وهو ما يتجاوبُ في الحقيقةِ مع كثيرٍ من المقاطع الشِّعريةِ في هذا الديوانِ، حيثُ تُحيلُ اللغةُ إلى نفسِها وينشغلُ الشاعرُ بوصفِ لُعبةِ الشِّعرِ التي تستغرقُه أو يغزلُ صُورًا موغلةً في التركيبِ تبطئُ إيقاعَ حركةِ الصورةِ الكلّيّة لقصائده، أو يعمَدُ إلى مقابلاتٍ وتضادّاتٍ كثيفةٍ للغايةِ تشبهُ معادلاتِ الميكانيكا التي يُلاشي فيها كلُّ طرفِ الطرفَ الآخَرَ فتصبحُ محصِّلةُ الحركةِ صِفرًا كبيرًا ساكنا!
   فإذا أردنا أن نبسُطَ أمثلةً على تلك الآليات التي ذكرناها في الفقرة السابقةِ والتي بمقتضاها تُحيلُ اللغةُ إلى نفسِها ويجدُ الشاعرُ نفسَهُ إزاءَ ذلك الوهم الذي يذكرُهُ في (موقفِه) الافتتاحيِّ، فسنجدُ في قصيدةٍ واحدةٍ هي (قصيدتان) وفرةً من الأمثلة .. فأمّا انشغالُ الشاعر بوصفِ لُعبة الشِّعر فهو في قوله: "خُذني هناك إلى التناقُضِ في تفاصيلِ القصيدةِ"، وفي السطرين التاليين مباشرةً مثالُ للمقابلات الكثيفة الميكانيكية في قولِه: "ربما أجدُ المماتَ بلا حياةٍ والحياةَ بلا مماتٍ/ ربما أجدُ الحياةَ بلا حياةٍ والمماتَ بلا مماتٍ"، وكذلك في قوله لاحقًا في نفس القصيدة: "خُذني هُناكَ .. هناك خُذني أو هُنا .. فهناك يعني لي هُنا .. وهُنا يُطابِقُ ما هُناكَ .. وما هُناكَ سوى هُناكَ وما هُنا إلاّ هُنا"، ثُم: "متناقضانِ أنا وأنتْ/ متشابهانِ أنا وأنتِ، وربما نجدُ الفَناءَ هو البقاءَ وربما نجدُ البقاءَ هو الفَناء" وفي النهاية: "قصيدتان ستكفيانِ ستكفيانِ ورُبّما لا تَكفِيانْ!".
   أمّا الصور الموغلةُ في التركيبِ والتي تشبهُ حدودُها الجنادِلَ المُلقاةَ في تيارِ نهر الصورة الكلّيّة للقصيدة فتبطئه بالضرورةِ، فمنها في قصيدة (رماد الحُلم .. حُلم الرماد) قوله: "للحُلمِ مئذنةٌ/ على شفةِ الخيالِ مُؤَذِّنٌ تَسري به حيثُ الفناءْ" وكذلك قوله: "كان الضياءُ كما يشاءُ/ أنا أنقّبُ في الزمَنْ .. عن شهوةِ الأحلامِ في عَطَشِ الفِتَنْ" ..
   ومن الأمثلة على وصف لعبة الشِّعر قوله في نفس القصيدة: "وحدي وتخترعُ القصيدةُ نَسجَها" وفي (لابُدَّ من شيءٍ): "أمسكتُ أوراقي التي تحوي أنينَ الياسَمينِ مضَيتُ حيثُ الماءُ لا يَنداحُ ثُمّ شَقَقتُ في الأسماعِ مَجراها ومَرساها وبسمِ الله مَجراها ومَرساها .. تقولُ: (أقولُ لي: لابد أن قصيدةً في جيبي .. لابُدَّ من شيءٍ)" .. فهو هنا يُحيلُنا بنهاية القصيدةِ إلى بدايتها ويُحيلُنا مع اكتمالِها المرتقَبِ إلى مطلعِ هلالِها .. هو شكلٌ من أشكالِ الولعِ ما بعد الحداثِيِّ بالكتابة عن الكتابة.
   الديوانُ جديرٌ بالقراءة وفي ظنّي أن إعادة القراءة كفيلةٌ بفتحِ آفاقٍ جديدةٍ لفهم هذا النّصّ الذي بذل (عايد) في إخراجهِ جهدًا محمودًا بلا شَكّ.
........................
محمد سالم عُبادة
نُشِرَ بـ(أخبار الأدب) المصرية في 19 يوليو 2015


Monday 6 July 2015

وَسَطَ الأحداث .. قراءةٌ في ديوان (الأوَّل) للشاعر (أيمن ثابت)



"احملي لي يا حبيبةُ شنطةَ الخمرِ، اتبعيني .. عند مقهىً فارغٍ سنصُبُّ كأسَينا ونشربُ هادئَينِ الوَقتَ، نقرأُ ما تبقى من وجوهِ السائرينَ على طريقِ الليلِ .. نُعلِنُ للجميعِ خروجَنا عمدًا عن الحدَثِ الذي اعتادوهُ، نرقُصُ تائِهَيننِ بِبُردةِ الحَلاّجِ، نصعدُ طائِرَينِ كأننا لسنا كَشَيءِ".
     هكذا يختتمُ (أيمن ثابت) أولى قصائدِ ديوانِهِ الأولِ المعنوَن (الأوّل)، والّذي كان قدَرُهُ أن يحصُدَ كذلك المركزَ الأولَ في حقلِ شِعرِ الفصحى في المسابقة الأدبية المركزية لهيئة قصور الثقافة في موسم 2013/2014. والديوانُ مُقَسَّمٌ إلى ثلاثةِ أقسامِ: "الحياةُ بسيطةٌ ومُعَقَّدَة – الّذي بينَ الحياةِ والموت – الموتُ هُوَ مَن هُوَ" تجمعُ ثمانيةَ عشرَ نَصًّا أتى معظمُها في شكلِ القصيدةِ المُدَوَّرَة .. ولهذا وجاهتُهُ إذا تعلَّقَ الأمرُ بجدَلِ الشكلِ والمضمون، فإنَّ القصيدةَ المدوَّرَةَ هي تلك التي نصلُ فيها إلى (القَفلةِ) الإيقاعيّة الأولى فقط مع نهايتها، فليسَ ثَمَّ بَيتٌ شعريٌّ كما في قصائدِ العمودِ، وليسَ ثَمَّ سطرٌ محدَّدُ البداية والنهايةِ الموسيقيتين كما في قصائد التفعيلةِ التقليدية كذلك، وإنّما سَيّالٌ من تتابُعِ الوحدةِ الموسيقيّة (التفعيلة) لا يُرجَى له وَقفٌ إلاّ وَقفًا اعتباطِيًّا بدرجةٍ ما مع نهايةِ القصيدة .. فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ شاعرَنا اختارَ أن تبدأ القصيدةُ كثيرًا مِن منتصَفِ تفعيلةٍ كما في (مجاز): "يَدُ المجازِ على جبينِ قصيدةٍ عادِيَّةٍ" و(الأوَّل): "لم أقصِد إهانةَ آدمَ البشريِّ ..." و(هناكَ): "تكتملُ النبوءةُ حين ينفجِرُ المكانُ بنا"، كان لدَينا ما يُبَرِّرُ اعتقادَنا بوجودِ قصديّةٍ واعيةٍ أو نزوعٍ لا واعٍ وراءَ إصرارِ الشاعرِ على بقاءِ النّصِّ مُعلَّقًا هكذا في تيّار الإيقاعِ، لاسِيَّما أنَّ الخلفيّةَ المشهديّةَ لقصائدِ الديوانِ انتمَت في مُجمَلِها إلى اليوميِّ المتكرِّرِ العاديّ .. وهذا يجعلُ نصوصَ الديوانِ منتميةً بشكلٍ ما إلى الملحميةِ، حيثُ تبدأُ القصيدةُ دائمًا (في وسَطِ الأحداثِ) In Medias Res على مستوى الشكلِ كما أسلَفنا الإيضاحَ، وعلى مستوى المضمونِ كما في (مجاز) حيثُ تبدأُ القصيدةُ بجُملةٍ اسمِيَّةٍ تفترضُ أنَّ هذه بدايةٌ اعتباطِيَّةٌ وأنَّ القصيدةَ ورِثَت الحالَ الراهنةَ من زمنٍ غيرِ مذكورٍ سبَقَها، وكما في (مَقهى الحُرِّيَّة): "نادِلُ المَقهَى يُسَمِّي نفسَهُ القانُونَ" حيثُ الجملةُ الاسميّةُ في المفتتحِ هنا أيضا .. والجُملةُ الاسميّةُ ربما تكونُ هي المُعادِلَ اللُّغَوِيَّ لتقنيّة المشهدِ الجامدِ Freeze في السينما، والتي يُحَبّذُها مخرجونَ كبارٌ من أمثالِ (مارتن سكورسيزي)، حيثُ الدراما متوقفةٌ بما يمنحُنا فرصةً لتأمُّلِ المشهدِ من كلِّ جوانبِه ..
     كذلك نلمحُ خصيصةً أسلوبيّةً في هذا الديوانِ تعضِّدُ هذه الرؤيةَ، ونقصِدُ بها ما يَظهَرُ في فقراتٍ مثل: "سَكَبَت ملامِحَها على عَينيَّ حِينَ سألتُها: هل أنتِ مَن سكبَت على عينَيَّ عندَ البحرِ؟" في قصيدةِ (لن نَمُوتَ) ومثل: "المساءُ مناسِبٌ جِدًّا لنُخبِرَ بَحرَنا أنَّ المساءَ مُناسِبٌ جِدًّا هُنا" .. هنا يبدو ظرفُ الزمانِ عَينَ مَظرُوفِهِ، فحين تسكبُ الحبيبةُ ملامحها على عينيهِ سيسألُها إن كانت هي من سكبَت ملامحها على عينيه، وحينَ يكونُ المساءُ مناسبًا سنُخبرُ البحرَ أنّ المساءَ مناسب .. هنا إصرارٌ على توقُّفِ سيّالِ الحَدَثِ وتجميدٌ للّحظةِ، واستسلامٌ في ذاتِ الآنِ للسيولةِ الملحميّةِ الشاملة ..
     وما يبدو أنَّ شاعرَنا يُحاولُهُ في ثنايا نصوصِهِ ليسَ (أسطرةَ) الحياةِ العاديّةِ بشكلٍ صريحٍ كما يحلو لـ(سكورسيزي) أن يفعلَ ولا كما يحلو لـ(رولان بارت) أن يقترحَ، وإنّما هو يَصهَرُ المتعالي والغَيبيَّ والأسطورِيَّ في بُوتَقَةِ الحياةِ اليوميةِ العاديّةِ ليُطلِعَنا على أصليّةِ ذلك المتعالي في نسيجِ حياتِنا اليومية .. يتجلّى هذا في فقراتٍ مثل: "وهو البسيطُ كنفخةٍ في الصُّورِ عَصرًا، والشهودُ يُتابعونَ بساطةَ التِّترِ النهائيِّ الذي طالَ انتظارُ مَجيئِهِ" وهي فقرةٌ في قصيدةِ (مَجاز) تستدعي أولَ مشاهدِ القيامةِ كما في مأثورِ الدياناتِ الإبراهيميةِ وتمزجُه باليومِيِّ ممثَّلاً في تترِ مسلسلٍ تليفزيونِيّ. كذلك تلك الفقرةُ في قصيدةِ (مقهى الحرّيّة): "ربّما يتساءلون عن الحقيقةِ: هل يسيرُ النملُ جيشًا في طريقِ النصرِ معتمدًا على التسبيحِ؟"، حيثُ تساؤلٌ متعلِّقٌ بسببٍ من النّصّ القرآنِيّ "وإن مِن شيءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بحمدِهِ ولكن لا تفقهونَ تسبيحَهُم" يأتي في خضمِّ الحديثِ عن تكهُّنِ الشاعرِ بفحوى حديثِ زبائنِ المقهى الأجانب بلغتهم غير المفهومةِ له، وقبلَ فقرةٍ تاليةٍ تهبطُ بمُتعالٍ آخَرَ ينتمي إلى تراثِ النخبةِ العربيةِ المثقفةِ: "هل قصدَ المَعَرِّي أن يُنَصِّبَ عقلَهُ رَبًّا؟" ثُمّ فقرةٍ ثالثةٍ مغرقةٍ في اليوميّ: "وهل قُتِلَت سُعادْ حُسني أم انتحرَتْ" .. ويبلُغُ شاعرُنا ذِروةَ إخلاصِهِ لهذه المحاولةِ في سطرٍ في قصيدتِهِ (فيس بوك): "اللهُ منتظِرٌ هناكَ يُتابِعُ الأحداثَ عن كَثَبٍ هُنا"، حيثُ يأتي هذا السطرُ قُربَ ختامِ قصيدةٍ تحتفي بحالةِ الثورةِ العربيةِ وتتابِعُ يوميَّها الافتراضِيَّ على فيس بوك .. والشاهِدُ أنَّ المتعالي مجدولٌ في ضفيرةِ الحياةِ اليوميّةِ بما يدفعُ عنها بساطتَها ويُثبِتُ تعقيدَها، أو ربما يردُّها مِن تعقيدِها إلى بساطتِها، فالأمرُ بينَ بين!
     في القسمِ الثاني من الديوانِ (الذي بينَ الحياةِ والموتِ) يحاولُ الشاعرُ اكتناهَ الخُلودِ، وتقودُهُ شاعريّتُهُ المنتصرةُ لليومِيِّ إلى نماذجَ من الخالِدين الذين نعرفُهُم من خلالِ اختزالِهِم إلى يومِيٍّ عاديٍّ عبرَ آلة الإعلامِ، فهناكَ (مانديلا) متجلِّيًا كمثَلٍ أعلى في قصيدةٍ باسمِهِ، ثُمّ هناك الشهداءُ باختزالِهِم إلى تيمةٍ مكرورةٍ مغروزةٍ في قلبِ حياتِنا العاديّة عبرَ شاشاتِ التلفازِ في قصيدةِ (ش): "ش .. والشمسُ مشنقةُ الشهيدِ وشوقُهُ للمشيِ تشويشًا على الشاشاتِ والبشرِ المشاهيرِ القُشُورِ الشاردينْ"، وهناك (هِتلر) في قصيدةِ (ضريبة الهلوكوست): "وأنتَ حَيٌّ بالّذي فعلَت يَداكَ، مُخَلَّدٌ في جُرحِ سيّدةٍ تُرَبّي طِفلَها"، ثُمّ يبلُغُ هذا النموذَجُ غايتَهُ في قصيدةِ (الأوَّل) التي تحملُ عنوانَ الديوانِ، حيثُ يتابعُ خلودَ الشيطانِ عبرَ أفاعيلِهِ منذُ لحظةِ خلقِ آدَمَ إلى اللحظةِ الآنِيّةِ، ويُسَرِّبُهُ في تفاصيلِ اليومِيِّ عبرَ آلةِ الإعلامِ كذلك حتى يَبلُغَ هذا النموذجُ أَشُدَّهُ في الفقرة: "والأرضُ بين يَدَيَّ وَحشًا كاسِرًا تُمسي .. فتُصبحُ سِتَّ عَشْرَةَ بُوصَةً" .. الشيطانُ – ذلك الخالِدَ - مجدولٌ في تفاصيلِ الحياةِ اليوميّة عبرَ شاشةِ التليفزيون التي بسطَ سلطانَهُ عليها فصارت في قبضته ..
     في القسم الأخيرِ من الديوان (الموتُ هو مَن هو) نجدُ الخالِدينَ أيضًا، لكنّهم هنا بلا أملٍ، فكأنَّ الخلودَ والموتَ سواء .. نجدُ هذا في قصيدة (بئري مشققة): "كم ساعةً ضيَّعتُ أنتظرُ الصحابةَ والصحابةُ تائهونَ ويبحثون عن الطريقِ ولا طريقَ سِوى التشرُّدْ" .. هنا تصلُ ضفيرةُ اليوميِّ والمتعالي/ الفاني والخالد إلى أجلِها المحتوم، لكنَّهُ يبدو وكأنه ليس نهايةَ الأمرِ حين يختمُ الشاعرُ ديوانَه بقوله: "الحبُّ في هذا الزمانِ وظيفةُ الموتَى، فهل ستموت؟" .. سؤالٌ يُعيدُنا إلى بدايةِ الديوانِ في حركةٍ حلزونيّةٍ، مُحَمَّلين بطاقةٍ من الوعي تفتحُها قصائدُ الديوانِ في مراحله الثلاثِ، لنتأمّل مجدَّدًا نسيجَ أحداثِنا العاديّة، علّنا نُمَيّزُ فيها بصمةً لطيفةً تركَها المتعالي، وألغَزَها ليتبيَّنَ بيننا أولو الأبصار!  

.....
يناير 2015
نُشِرَت بـ(أخبار الأدب) المصرية في 27 يونيو 2015 

Tuesday 16 June 2015

حواري مع أخبار الأدب في عدد 7 يونيو 2015، و3 تجارب من ديواني (دروس فِ العربي) الفائز في شِعر العامّيّة




مؤجَّل

يا رُقّاد ريح ..
يا مَكّارَة ..
بدال العِطر والمنديل خُدِي من قلبي تِذكارَة ..
كلامي الجاهل العالِم:
فضَل محاصِرني زَي الذنب من قبل امّا ادوق الحُبّ ..
زمان الصفو يوم واتنين
وبعديهم عَكارة يا بير على عكارة ..
أنا المِتخَيَّر المِتحَيَّر الظالِم ..
ما بين إمساك على رُوحي وبين تسريح ..
وكيف اختار يا رُقّاد رِيح
وانا رُوحي ف جَنبي رِيح؟!

يا مَكّارَة ..
سكِتّ وفاكر انك ساكتة ، بس سكوتنا كان تسبيح ..
يا أحلى الحُور
يا أغلى الحُور
يا حِلم الشاعر الحالِم ..
غويط الشِّعر زَيّ البير
وزيّك زَي جنس الحلم:
مغرَم كل جنس الحلم بالتسطيح!
سيبيني لنفسي يمكن أقبل التسطيح
أو اغرق في بحور الشِّعر وانسى الحلم ..
ما عاد فيه وقت للتلميح ..
لأن الجرح صار إنسان ما عاد يستحمل التجريح ..


أنا متأكِّد ان اسمي على وشمِك يا سِتّ الوَشم ..
وقادر احِسّ بحروف اسمك المشتاق بتنغُز قلبي ، واتآلِم ..
لكين مكتوب على قلبي ..
يكون لغزُه اللي متأجِّل:
عيون ..... .... سالِم!

4/11/2005
2 شوّال 1426 هـ
ليلاً
.....................................................................

مارلين مونرو

باربيتيوريت![1]
نام الجسَد ، وصِحِي الجسد ..
راح الولَد وجِه الولَد ..
وكأني ما رُحت وما جيت!
فستاني متعلَّق على شمّاعِة الشمس الحَرُون ..
وانا فيه ،
أنا مش فيه ،
مانيش شايفة!
لو كنت فيه كنت اتحرَقت بقالي ألف من القُرون ..
لو كنت مش فيه ، كنت حافضَل برضُه خايفة ..
يا شمس يا نار الأبَد ..
عارفاكي آه ، لكن نسيت ..
شَعري اتفرَد ، والبَحر غَوّاي الصبايا لمَحني يُوم ..
شاوِرلي بالمُوجَة ، رَميت رُوحي ..
يا ضلوعي يا عُوجَة ما تنفِردي ،
غرَق من بعد عُوم ..
اتبَلّ شَعري ، غرقت ف سكوتي وبُوحي ..
يا بحر يا كنز الزَّبَد ..
ياريت تبطَّل موج
يا ريت!
...






[1] Barbiturate وسيلة انتحار مارلين مونرو
.....................................................................

النعت والمنعوت

صوتِك الطالع من الماضي الجميل
احتضار للحاضر الواكِل ملامحي
هاتي يا سِدرة ، خُدي يا مِدرة قَمحي
مش باقي لي غير رغيف صوتها البَليل

الجوافياية اللي شايله اسمي ورُمحي
يوم ما علّقتيهم انتي ف يوم ظَليل
بالمَح الجِذع ابتسَم من بُعد ميل
وامّا اجيلك رَمح ، بِتهَلِّل لِرَمحي

آه يا ريق العشق يا نيل مستحيل
لَم تِطاوِع مركِبِة عاشق كليل
والصبية الجَنّة شط بعيد ، ونَقحي
نَقحي غرّقني ، ولم يترك دليل!
...
الأحد 3/6/2012