Sunday 27 June 2021

فَتق Hernia

 



تبَّتْ يَدا حَمَّالِ هذا الحَطَبْ     وبطنُهُ أمُّ الرَّدى واللَّهَبْ

وكِيسُهُ المملوءُ مِن كُلِّ ما     تَزهَدُهُ الأنثى دواةُ الذَّهَبْ

أحشاؤُهُ على الطِّوَى، أو بها     تَعمِيرةٌ مِمّا حَسَا أو كَسَبْ

لكنها في كلِّ حالٍ تَشِي     بأنَّهُ عبدٌ لهذي القِرَبْ

يا سُرَّتي يا نَبعَ أقصُوصَتي     أُحصِرتِ والنَّبعُ المُرَجَّى نَضَبْ

الكتلةُ الحمقاءُ لا تَرعَوي     لضغطةٍ باليَدِ ذاتِ النَّصَبْ

قَد أوهَنَتني إذ أناخَت على     جِدارِ عُمري الفارِهِ المُغتَصَبْ

وأخمدَتني عندما أسرعَتْ     كالنارِ حتى صَفَنِي المُجتَنَبْ

سَعَلتُ فالتاثَتْ خُيوطُ العَصَبْ     سَعَلتُ فاهتزَّ الحَشَا بالغَضَبْ

حَزَقتُها فاسَّاقَطَت بالرُّطَبْ     حزقتُها أسكَتُّ كلَّ الخُطَبْ

ما ذلك السِّرُّ الذي لم أَصُنْ      إلا تَفَجُّرَ الفسادِ/العَطَبْ!

11/11/2009

محمد سالم عُبادة

من ديوان (ضربة مِشرَط) الفائز بثانية مسابقة كتاب المواهب بالمجلس الأعلى للثقافة عام 2014.

صدرَ حديثًا كتاب (ديوانان من الشِّعر: ضربةُ مِشرَط/ أواثِقٌ أنتَ أنَّكَ تُريدُ الخُرُوج؟)

إلكترونيًّا عن مؤسسة هنداوي، ومُتاحٌ للتحميل من هذا الرابط بموقع المؤسسة:

https://www.hindawi.org/books/62796937/

رابط القصيدة بإلقاء الشاعر في أمسية ببيت الشِّعر (بيت الستّ وسيلة) عام 2011:

https://www.youtube.com/watch?v=J1jsKW3FNVY&ab_channel=MohamedSalemObada

Thursday 17 June 2021

ثوراتُ الفنّ المضادّة: 3- ما بعد قصيدةِ النَّثر؟! – نعَم، ما قبلَها!

 

في المقال الافتتاحي من هذه السلسلةِ تطرّقنا إلى ظهور قصيدة النثر باعتبارِهِ ثورةً مضادّةً في فنّ الشِّعر، انطلاقًا من أنّ صُدفةَ اكتشافِ الإنسانِ للقافيةِ ثُمّ الوزن مثّلَت ثورةً في علاقتِهِ بالكلامِ وهيَّأتْ لفَنّ القولِ الأول (الشِّعر) أن يَظهَر. وأرى أنّه من غيرِ المُفيدِ أن يُسهِبَ المقالُ الحاليُّ في تتبُّعِ بداياتِ قصيدةِ النثرِ وصولاً إلى (شارل بودلير) ثُمّ إلى إرهاصاتِها في (الشِّعر المنثورِ) للرومانسيين الفرنسيين، أو في المرويّات المتناثرة في كتبِ التراثِ العربيّ عن (حسان بن ثابتٍ) وغيرِه ممَّن شهدوا بالشاعرية لأشخاصٍ نطقوا شِعرًا لا وزنَ فيه ولا قافية، فالكتاباتُ الزاخِرةُ بهذا الموضوع يعجزُ عنها الإحصاء. ربما سيكون هذا المقالُ في جزءٍ منه على الأقلِّ شهادةً شخصيّةً باعتبارِ كاتبِهِ مشاركًا بتجربةٍ متواضعةٍ في المشهدِ الشِّعريِّ العربيّ من قريبٍ أحيانًا، ومتابعًا من بعيدٍ أحيانا.

     في مقالها (التفكيرُ في الشِّعر بصوتٍ عالٍ) الذي ناقشَت فيه ثلاثةَ كتُبٍ لكاتبِ هذا المَقالِ بينَها ديوانٌ في شِعر الفصحى، قالت الشاعرةُ الكبيرةُ (غادة نبيل): "لو جاز القول أنا أرى الكون أقرب لقصيدة نثر من معلّقةٍ، ويمكنه أن يتفلتَ منها ليظلَّ يتعاملُ مع أحدوثاتِه وانفجاراتِه وارتطاماتِه وهو يُعيدُ تَشكيلَ نفسِهِ كُلَّ مَرّةٍ كأشكالٍ لا نهائيةٍ مِن التعبير، هذا الكون لا يحرم نفسه انضباطا محسوبا كى لا تنتهى الحياة، لكنه حتى وهو يريد بلوغ نقطة النهاية، نهاية الوجود يتعلمُ كيف يُحَرر نفسه كلَّ مرّةٍ مادُمنا لم نصل بعد لانتهاء الحياة".

     سيطرت هذه الجملةُ على وعيي طويلاً وخلَصتُ منها إلى سؤالَين:

أولاً: تخبرُنا نظريّةُ الشواش Chaos Theory بأنّ الأشكالَ الكُسَيريّةَ Fractals  - وهي أشكالٌ معقَّدةٌ إلى مالانهاية، وتمتازُ بتشابه الكلِّ مع أجزائهِ على كلِّ المستويات- هي أقربُ إلى الفوضى الجميلة التي تعِدُ بقابليّةٍ محدودةٍ للتنبُّؤِ بالاحتمالاتِ الإحصائية Limited Predictability، وتكادُ تمثّلُ النمطَ الحاكمَ لكلِّ شيءٍ في الكون، وهو ما تسمّيه شاعرتُنا في الجُملة السابقةِ (انضباطًا محسوبًا)! فلماذا لا يكونُ الشكلُ العموديُّ في الشِّعر العربيِّ وما يماثِلُهُ في شعرِ اللغاتِ الأخرى أقربَ للتعبيرِ عن الكونِ في عمومِه؟! لاسيّما أنّه يتمتعُ بهذا التشابُه للكلّ مع أجزائهِ على مستوى الشكل، كما أنَّ وحدةَ القافيةِ تحُدُّ بدرجةٍ ما من إمكانات التنبُّؤِ بنهايةِ كُلِّ بيتٍ دون أن تَحجُرَ عليها!

ثانيًا: وهو سؤالٌ يحاولُ أن يَخطُوَ خطوةً أبعدَ من سابقِه. لماذا أصلاً يجبُ أن تُحاكِيَ القصيدةُ الكون؟! ألا يعودُ بنا هذا القهقرى إلى نظريةِ المحاكاةِ عند أرسطو بشكلٍ ما؟!

     في مقاله (نحوَ تصوُّرٍ عن ما بعد الحداثة) يضعُ الناقدُ المصريُّ الراحلُ د.إيهاب حسن جدولاً اختزاليًّا للفوارقِ بينَ الحداثةِ ومابعدَها في شكلِ مفرداتٍ متقابلةٍ، بينها (التناسُلِيّ/ القضيبيّ) Genital/Phallic في عمود الحداثةِ، وأمامَه (متعددُ الأشكال/ مزدوجُ الجنس) Polymorphous/ Androgynous في عمودِ ما بعد الحداثة، وكذلك (القصد) Purpose في الأوّل وأمامه (اللعِب) Play في الأخير. الشاهدُ أنّ الإبداعَ فيما بعد الحداثةِ يقبلُ كُلَّ الأشكالِ الممكنة ولا يخاصِمُ التراثَ معرفيًّا ولا جماليًّا، كما أنّ المُبدِعَ يتعاقدُ مع ذاتِهِ ومع جمهورِهِ على اللعب الذي تتغيرُ قواعدُهُ مع كلِّ لعبةٍ، وربّما يتبنّى قواعدَ لعِبٍ قديمةً لكي يلعبَ بها لعبةً جديدةً، وهكذا!

     ما نحاولُ تأمُّلَهُ هنا هو عودةُ الشِّعر العموديِّ للظهورِ بقوّةٍ في المشهدِ الشعريِّ العربيّ في العِقدَين الأخيرين، بعد قطيعةٍ معرفيّةٍ وجماليّةٍ معه رفع لواءَها كثيرٌ من أعلام الشعر العربي لا سيّما شعراء قصيدةِ النثرِ منذُ الأربعينياتِ إلى وقتِ كتابةِ هذا المقال. بينَ الأسماءِ البارزةِ عربيًّا في هذه العودةِ من مصر (سيد يوسف) و(سمير فرّاج) و(ضياء الكيلاني) و(أحمد بخيت) و(علاء جانب) و(حسن شهاب الدين) و(شريف أمين) و(أحمد حسن محمد)، ومن العراق (مسار رياض) و(هِزَبر محمود) و(ياس السعيدي)، ومن لبنان (مهدي منصور) ومن المغرب (محمد عريج) و(أحمو الحسن الأحمدي) ومن العربية السعودية (جاسم الصحيح) و(محمد إبراهيم يعقوب) و(حيدر العبد الله) وغيرُهم كثيرون من مختلِف الأقطار العربية. لكثيرٍ منهم إبداعٌ في قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر،كما لبعضهم إبداعٌ في حقولٍ أدبيةٍ غيرِ الشِّعر، إلاّ أنّ إخلاصَهم لقالَب العمودِ الشِّعريِّ جديرٌ بالالتفات والتأمُّل. لماذا يحدثُ هذا الآن؟ وماذا نسمّيه؟ نكوصًا ثقافيًّا عامًّا؟ أم رِدّةً جماليّةً تتجاوبُ والرِدَّةَ المعرفيّةَ المسيطرةَ على هذه البقعةِ من العالَم؟ أم ثورةً مضادّةً للثورةِ المضادّة المتمثلةِ في قصيدة النثر؟!

     تعمدتُ سَوقَ الخِيارَين الأوَّلَين لأنهما كثيرا الدوَران على ألسُن من تبنَّوا موقفًا سلبيًّا من قضية الشِّعر (الموزون)، لكنّ تامُّلَ موقفِ هؤلاء الشعراءِ المذكورين أنفسِهم من قصيدة النثر ومن انفجار القوالب الأدبيةِ عامّةً كفيلٌ بدَحضِ هذين الخيارَين. في حوارٍ لمجلةِ (العربية) معه قال (جاسم الصحيح): "قد يحضُرُ الشِّعرُ وتغيبُ القصيدةُ" يعني تجلّيَ الشِّعر في قوالبَ أدبيةٍ غير القصيدة، وهو ما يشي بسَعَةِ أفقٍ وانفتاحٍ على كل مسارب الأدب. كذلك نجدُ لـ(حسن شهاب) إنتاجًا كبيرًا في قصيدةِ النثرِ منه ما نُشِرَ في مجلة (الشِّعر) المصرية، بجوارِ إنتاجِهِ المعروفِ في القصيدة العمودية. وفي الحقيقةِ ثَمَّ وعيٌ حادٌّ لدى كَثرةٍ من الشعراءِ بحالةِ الاستقطابِ المُفتعَلَةِ بين قصيدة النثر وأربابِها من ناحيةٍ، وأربابِ القصيدة الموزونة عموديّةً وتفعيليةً من ناحية، ربما يعبّر عنه (أحمد بخيت) شِعرًا في قصيدته (حارسُ الضوء) من ديوانه (الأخيرُ أوّلاً): "كتبتُ عن الخوفِ تعويذةً .. تليقُ بآخِرِ مُهرٍ حرُونْ/ ومِن حقِّ حُرّاسِ وَهمِ الحداثَةِ إقصاؤها عن رصيفِ الفُنونْ/ ففي العُودِ مُتَّسَعٌ للجميعِ .. وفي اللحنِ يُمتَحَنُ العازِفُونْ". إنها أبياتٌ تشبهُ بيانًا شديدَ اللهجةِ موجَّهًا إلى من يُقصُون الشِّعرَ الموزونَ خاصّةً العموديَّ خارجَ ساحةِ الإبداع. ربما اختارَ (بخيت) مفردةَ (الحداثَةِ) لارتباطِها أساسًا بفكرةِ تشظّي العمل الإبداعيِّ، حتى إنَّ (ما بعد الحداثة) في إحدى نسخِها تعتمدُ هي الأخرى فكرةَ (انهيارِ السرديّاتِ الكُبرى) كما قدَّمَها (چان-فرانسوا ليوتار) في كتابِهِ (حالةُ ما بعد الحداثة: تقريرٌ عن المعرفة) عامَ 1979. وأذكُرُ بشكلٍ شخصيٍّ وَقعةً حدثَت في ندوةٍ لمناقشةِ ديوانِ الشاعرة العراقيّة نجاة عبد الله (مناجم الأرَق) – وهو ديوانٌ يضمُّ قصائدَ نثرٍ ومضيّةً متماسَّةً مع قصيدةِ الهايكو اليابانية – حين انبرى ناقدٌ مصريٌّ لتدشين الديوانِ مصرِّحًا بأنّ مِثلَ هذه التجاربِ وحدَها هو ما يستحقُّ الالتفاتَ بصفتِهِ شِعرًا، وأنّ أولئكَ الذين مازالوا يقيمونَ بناء قصيدةٍ عموديةٍ يحاولُ الشموخَ هم خارج دائرة الإبداع! والواقعُ أنّه بهذا التصريحِ وقعَ في خلطٍ شائعٍ في تلقّي مبدأ انهيارِ السرديات الكبرى كما يقعُ غيرُهُ في خلطٍ مشابهٍ في تلقّي كلّ الأوصاف النقديّة المُكَرَّسَة. فَـ(ليوتار) صاغَ هذا المبدأَ استجابةً لواقعٍ إبداعيٍّ وثقافيٍّ حاولَ وصفَه في لحظتِهِ التاريخيةِ المتعيِّنة، ولم يكن يقصدُ توجيهَ الأدبِ الذي سيُكتَبُ من بعدهِ كُلِّهِ وِجهَةً بعينِها!

     الحقُّ أنّ تجاوُزَ مُسَلَّماتِ (الحداثة) الشِّعريّة يسمحُ بالتجريبِ في كلّ القوالب والأشكال وخارجَها أيضًا (وبالتالي خلق قوالب جديدة)، وهو تجاوزٌ لِلَطميّاتِ الحداثةِ على الإنسانيةِ والعالَم، فمِن حقّ كُلّ شاعرٍ أن يبنِيَ العالَمَ داخِلَ نَصِّهِ حسبَما يتراءى له. وهذا الانفتاحُ الإبداعيُّ الذي لا يخلو من تفاؤُلٍ يتراسَلُ فيه الشِّعرُ مع الفنونِ كافَّةً، وربّما يكونُ تيارُ الواقعية المُفرِطة Hyperrealism في الفنون البصريّة واحدًا من أهمّ تجلّياتِ هذا التجاوُز حيثُ لا يخلو العملُ المُفرِطُ في سخريتِهِ من الواقعِ من نزعةٍ تفاؤليّةٍ ضمنيّةٍ تبشّرُ بتغييرٍ محتمَلٍ إلى الأفضل.

     الخلاصةُ أنّ هذا المقالَ يرى المرحلةَ اللاحقةَ على تسيُّدِ قصيدةِ النثرِ ورفض أربابِها ما سِواها، يراها تحتفي بتجاوُرٍ بين القوالب الشِّعرية المختلفة لا يُستَبعَدُ فيهِ الآخَرُ، وربما يُراوِحُ فيها الشاعرُ بين هذه القوالبِ جيئةً وذَهابًا داخل النصّ الواحدِ بما يخدُمُ قضيتَه الجَماليّة ويُسهِمُ في إنشاء عالَمِه الخاصّ. ويرى المقالُ أنّ اللحظةَ التاريخيةَ التي صرّحَ فيها الشاعرُ الكبيرُ الراحل (حلمي سالم) خلالَ لقاءٍ تليفزيونيٍّ بأنّ اليمينَ المحافظَ للمشهدِ الشعريِّ تمثلُهُ القصيدةُ العمودية، والوسطَ تمثلُهُ قصيدةُ التفعيلة، واليسارَ التقدُّمِيَّ تمثِّلُهُ قصيدةُ النثرِ، يرى أنّ هذه اللحظةَ ليست نهايةَ تاريخِ المشهدِ الشِّعريِّ العربيِّ، فما هي إلاّ لحظةٌ عابرةٌ، والأقربُ إلى تصوّرِ كاتبِ المقالِ أنّ اليمين والوسطَ واليسارَ المُشارَ إليها تمثّلُ ما يشبهُ القضيةَ وعكسَها Thesis and Anti-Thesis في الجدل الثلاثيّ الهيجلِيّ، ومحكومٌ عليها ببزوغ مُرَكَّبٍ منها Synthesis كما ينتهي دائمًا كلُّ جَدَل! 

...................

محمد سالم عُبادة

نُشِر في مجلة (فنون) الصادرة عن الهيئة المصرية العامّة للكتاب

في كانون الثاني/ يناير 2017


Tuesday 8 June 2021

ثوراتُ الفنّ المضادّة: 2- چيم كاري .. قناعٌ بشريٌّ لبطلٍ كارتونيّ

 


      مازلنا مع ثوراتِ الفنّ المضادّة التي بدأنا الحديثَ عنها في المقال السابقِ بـ(مايكل چاكسون) نموذجًا في الغناءِ والرّقص، وننتقِلُ في هذا المقالِ إلى السِّينِما، وتحديدًا إلى التمثيلِ الكوميديّ، حيثُ ينصَبُّ حديثُنا على الفنّان الكنَدِيّ الأمريكيّ (چيم كاري) أحد أهمِّ كوميديانات هوليوود .. بدأ حياتَه الفنيةَ المعروفةَ قائمًا بكوميديا الوقوف Stand-up Comedy واشتُهِرَ بقدرته على تقليدِ حركاتِ كبار الممثّلين، ومَن رآه على خشبةِ المسرحِ يُولي الجمهورَ ظهرَهُ قليلاً ليعود بتعبيراتِ وجهِ واهتزازاتِ جسَدِ (چيمس دين) - بطلِ أفلام الستينيات الأشهر – لن ينسى هذه الخبرةَ أبدا!

     في واحدةٍ من أهمِّ محاولاتِ الفلسفةِ لتفسيرِ ظاهرةِ الفكاهةِ، يَخلُصُ الفيلسوفُ الفرنسيُّ العظيمُ (هنري برجسون) في كتابِهِ (الضحِك .. البحثُ في دلالةِ المُضحِك) إلى أنَّ الباعِثَ على الضحكِ يكونُ دائمًا فُقدانَ المرونةِ الإنسانيّة لصالِحِ التحوُّلِ إلى صرامةِ الآليّة، وهو يستعرضُ مع قارئه عشراتِ المواقفِ التي تطفحُ بها المسرحياتُ الكوميديّة وغيرُها ليُبَرهِنَ على صحةِ نتيجتِه، فبَخيلُ (موليير) يُضحِكُنا لأنه يجاوزُ الحدَّ المعقولَ (الإنسانيَّ) من الحِرصِ ليتحولَ إلى ما يشبهُ مِسخًا آليًّا وظيفتُهُ الحفاظُ على المال، والكاريكاتير لوجهٍ بشريٍّ يُضحِكُنا لأنّه يُبالِغُ في إبرازِ ما استحَت الطبيعةُ أن تُبرِزَهُ من ملامحِ الشخصِ الغريبةِ، ففنّانُ الكاريكاتير تلتقطُ عيناهُ في دُربةٍ أنفَ ذا الأنفِ الطويلِ ويرسُمُهُ موغلاً في الطُّولِ حتى كأنَّهُ خرجَ في صورةِ الكاريكاتير من قبضةِ الطبيعةِ الحانية ليَخضعَ لقصورِهِ الذاتيِّ كتُرسٍ مخلوعٍ في ماكينةٍ معطلَةٍ فيستطيلَ زيادةً حتى يجاوزَ الحدَّ الإنسانيّ ..

     كانت الثورةُ التي اجتاحَت السينما – ذلك الاختراعَ الوليدَ في بدايةِ القرنِ العشرين – هي الرسوم المتحركة .. الكارتون .. أشخاصٌ وكائناتٌ من ورَقٍ تفعلُ ما تفعلُهُ كائناتُ اللحمِ والدمِ وأكثرَ منه .. ولأنها كائناتٌ متحررةٌ من رِبقةِ اللحمِ والدمِ، فإنَّ حركاتِها إلى حركاتِنا تُعَدُّ مبالَغَةً أصيلةً لا فِرارَ منها .. إذا ضحِكَ الإنسانُ على شاشةِ السينما وضحكَ رسمٌ متحركٌ لإنسانٍ في فيلمِ كارتون، غلبَت ضحكةُ الثاني الذي من طبيعتِهِ المبالغةُ في تعابيرِه .. ولأنَّ إدراكَ الأطفالِ لدقائقِ التعبيرات البشريةِ هو بالضرورةِ أقلُّ من إدراكِ الناضجينَ بحُكم عمرهم العقليّ، فإنَّ انجذابَ الأطفالِ لأفلام الرسومِ المتحركةِ لا يُقارَنُ، حيثُ جَنةٌ متفتحةٌ أمامَ إدراكِهم البريءِ بالفعل.  

     ونعرفُ من أدبياتِ التمثيلِ المسرحيِّ أنه كذلك ينطوي على قدرٍ من المبالَغةِ بحُكمِ الطبيعةِ الخاصةِ للوسيطِ، حيثُ الجمهورُ بعيدٌ فيزيقيًّا عن الممثلين، وبالتالي لابُدَّ من إظهار التعبيراتِ المختلفةِ بقدرٍ من المبالغة .. ولذا يُعاني ممثّلو المسرح المحنَّكُونَ صعوبةً حين ينتقلون للعمل في السينما، حيثُ التعبيراتُ تقدَّرُ بقدرِها الحقيقيِّ وليسَت (أكبرَ من الواقع Bigger than Life) كما في المسرح .. يُذكَرُ أنَّ (هنري فوندا) مثلاً وجدَ صعوبةً شديدةً في القيامِ للسينما بنفس الدور الذي لعبه على المسرح في مسرحية/ فيلم (اثنا عشرَ رجلاً غاضِبا 12 Angry Men) ..

     نعودُ إلى بطلِنا (چيم كاري) ..

     الثابتُ أنَّ أفلامَه متكررةُ الفوزِ بجائزةِ (اختيار الأطفالِ كأحسنِ فيلم) تحديدًا .. وهو ما يُثيرُ سؤالاً عن السِرِّ في هذا التكرارِ، أيكمُنُ في طبيعةِ الحبكةِ أم خصائصِ الصورةِ مثَلاً، أم في شخصِ الممثِّل؟!

     دعونا نتأمّل (چيم) في مشهدٍ من (كاذبٌ كاذِب Liar Liar)، واقفًا في المحكمةِ كمُحامٍ يستجوِبُ رجلاً متهَمًا بممارسةِ الفاحشةِ مع موكِّلَتِه .. لا يُمكِنُ بحالٍ أن نقولَ عن طوفانِ الحركةِ والكلامِ الذي يخرُجُ من هذا المحامي إنَّهُ مبالغةٌ مسرحيّة .. المبالغةُ المسرحيةُ في غير موضعِها على المسرحِ تبدو فجّةً ومصطنعةً، بينما هذه المبالغةُ أمامَنا تبدو متماشيةً مع سياقٍ عامٍّ يرسُمُهُ (چيم) لدورِهِ في هذا الفيلم، كما يرسمُهُ حولَ كلِّ أدوارِهِ تقريبًا إذا كسَرنا الجدارَ الخامسَ كما يقولُ أهلُ الصنعةِ وتأمّلنا مجملَ أدوارِه .. هو سياقٌ كارتونِيٌّ (يُبالِغُ في المبالغةِ) إذا جازَ التعبير ..

     في مشهدٍ من (سلسلةٌ من الأحداثِ التعيسةِ لـ(ليموني سنيكيت) Lemony Snicket's A Series of Unfortunate Events) يجلسُ (چيم) في دورِ (الكونت أولاف) الممثلِ السيءِ ليقولَ لبطانتِهِ: "من سيقومُ بدور الكونت الأكثر وسامةً في العالَم؟!" .. يقولُها وهو يَفرِدُ رِجلَهُ في حركةٍ تختزلُ وتستدعي آلافَ الصفحاتِ المرسومةِ للكونت (دراكيولا) كما تصورَهُ (برام ستوكر) ببنطالِ حُلّتِه الضيقِ الأنيق .. حركةٌ بسيطةٌ واعيةٌ وعيًا خارقًا، أسمّيهِ بالأحرى (وَعيًا أَكُولاً) لما أَظهرَهُ من نهَم صاحبِهِ لاستيعابِ الظواهرِ وتشخيصِها بالتالي .. وهو تشخيصٌ كارتونيٌّ أيضًا لأنه (يُبالِغُ في المبالغةِ) جَريًا على نفس طريقةِ أداءِ (چيم) التي أصبَحَت علامةً على حضورِه.

     في الحقيقةِ يبدو أنَّ رَبطَ أداء (چيم) الكوميديِّ بعالَم الرسوم المتحركةِ ليسَ جديدًا كُلَّ الجِدَّة، فإن كان هذا المقالُ يتَّخِذُ من هذا الرَّبطِ ركيزةً ينبَني عليها تحليلُنا لفرادةِ نموذجِ (چيم) وخصوصيّةِ شخصيّتِه ككوميديان، فقد كانت هناك إرهاصاتٌ لهذا الرَّبطِ مِن قَبلُ، على الأقلِّ فيما أورَدَته الدكتورة (كيرستن تومپسون) في الفصل العاشر (التحريك Animation) من المجلّد الأول من كتاب (الكوميديا: دليلٌ جغرافيٌ وتاريخي Comedy: A Geographical & Historical Guide ) الّذي حرّرَه (موريس تشارني)، حيثُ تُشيرُ (تومپسون) إلى فيلم (القناع The Mask) الذي يجسّدُ فيه (چيم) شخصيّةً كارتونيّةً أساسًا، تتمتّعُ في الفيلم بخصائصِ أبطالِ الكارتون الحركيّة كاللقطات المتطرّفة extreme takes (العيون التي تجحَظُ حتى تغادر جماجم أصحابِها/ الأطراف التي تطير من أجسام أصحابها لتعود إليها/ إلخ)، ومطّاطيّة الأعضاء rubberhosing (كالرءوس القادرة على الانتفاخ كالبالونات والأرجُل المتمددة كالجوارب المطاطية rubberhoses) .. وفي رأيِي المتواضعِ أنّ علاقةَ (چيم) بعالَم الكارتون لا تقتصرُ على هذا المَلمَحِ فقط، وإنما هو يستثمرُ خصائصَ الكارتون المعتمد على المبالَغَة في كثيرٍ مِن آليّاتِ الإضحاكِ المُشتَرَكة بينَ عالمَي الكارتون والسينما الحيّة .. في الفصلِ نفسِهِ من الكتابِ المذكورِ سابقًا تُعَدِّدُ (تومپسون) عشرةَ عناصر اعتمدَ عليها الإضحاكُ في الكارتون .. وليس علينا إلاّ أن نجدَ من الذاكرةِ مباشرةً نموذجًا واحدًا لكلِّ عنصُرٍ استَثمرَ فيه (چيم) مُيُولَه الكارتونيّة .. فأوّلاً هناك كوميديا الشخصيّة personality، ونجدُه في (غبيّ وأغبى Dumb & Dumber) يرسمُ شخصيّةَ الغبيّ بملامحِ الوجهِ المبالَغِ فيها، ابتداءً من طريقةِ تصفيف الشَّعر البسيطةِ التي تنمُّ عن استسهالِ صاحبِها الشديد، إلى بروز الأسنانِ عند ذوي الاحتياجاتِ الذِّهنيّةِ الخاصّةِ ممّن تسببت الأمراضُ الوراثيّةُ في إعاقتِهم ..

     وثانيًا، هناك كوميديا الدعائم غير الحيّة Props المعتمدة على مفارقاتٍ حركيّةٍ تقومُ بها الأجهزةُ والآلاتُ المرسومةُ في المشهد الكارتونيّ .. وفي (إيس فنتورا: حين تنادي الطبيعة Ace Ventura: When Nature Calls) نرى (چيم) خارجًا من مؤخّرةِ نموذجِ الخرتيت الآليّ الذي يقودُهُ بنفسِهِ للتّخَفّي، فيعتقدُ الحاضرون في المشهد أنّهم إزاءَ لحظةِ ولادةِ خرتيتٍ صغير، لتُثيرَ المفارقةُ الكارتونيّةُ لدينا ما تثيرهُ من الضحك ..

     وثالثًا، هناك الإحالاتُ الثقافيّةُ والتّناصّ Cultural References & Intertextuality .. نتذكّرُ بسهولةٍ مشهدًا من (غبي وأغبى) حيثُ يقولُ (چيم) لصديقه (چِفْ دانيِلز/ هاري) عن شخصٍ ما: "لقد أكلتُ كَبِدَهُ مع طبقٍ جانبيٍّ من الفول المدمَّس والكيانتي chianti"، وهو اقتباسٌ لأحدِ أشهرِ أسطُر حِوار فيلم (صمت الحِملان Silence of Lambs)، قالَه (أنتوني هوپكِنز) لـ(چودي فوستر) محذِّرًا إيّاها من الإلحاحِ عليهِ بالأسئلة .. المهمُّ أنّ (چيم) و(چِفْ) يُتبِعانِ هذا السَّطرَ بحركة مصمصةِ الشِّفاهِ التي قامَ بها السّير (هوپكِنزْ) في ذلك المَشهدِ العَلامة، لكن بمزيدِ مبالَغَةٍ كارتونيّةٍ لا تُخطئُها العَين ..

     بالتأكيدِ لا يمكنُ أن نتنقَّصَ الأدوارَ المِحوريّةَ للمُخرجين وكُتّابِ السيناريو وفنّاني الماكياچ والمُصَوّرين وغيرهم من ممثلي العناصر الهامّة في إنتاجِ أفلامِ (چيم كاري)، لكن يَبقَى المُعَوَّلُ الأساسيُّ في الثورةِ الأدائيّةِ التي نحنُ بصَدَدِها على الممثّلِ نفسِهِ الذي استفادَ بالتأكيدِ من كُلِّ تُراثِ كوميديا المبالَغَة السابقِ عليه – سواءٌ بشكلٍ واعٍ أو غيرِ ذلك – من أوّلِ متوارَثاتِ الكوميديا المسرحية الإيطاليّة Commedia dell'Arte التي تسرّبَت إلى الممارسة الكوميدية السينمائية، إلى كوميديا الرسوم المتحركة، وأضافَ بصمتَه الخاصّةَ التي احتفَت بشكلٍ لا يُجحَدُ بالمبالغَة الكارتونيّة ..

     هي ثورةٌ مضادّةٌ لأنّ صاحبَها يمثِّلُ غزوَ (الكارتون) لعالَم الفيلم البشريّ .. مبالغةٌ في المبالغةِ، تفترضُ متلقِّيًا يتأمَّلُها فيختزلُ لاوعيُهُ في كلِّ لحظةٍ تاريخَ السينما وظهورَ الكارتون وغلَبَتَهُ القائمةَ أمامَهُ فتتولّدُ لديهِ قابليّةٌ للضحِك، وحين يحدثُ هذا فهو يقبلُ بالتبعيةِ اتفاقًا ضمنيًّا مع (چيم) على أن يرتدَّ طِفلاً يُدرِكُ التعابيرَ من خلالِ الإمعانِ في المبالغة، وهنا لا يملِكُ المشاهِدُ إلاّ أن ينفجِرَ في الضحِك حينَ يُفقِدُ (چيم) شخصياتِهِ حدودَ عَجزِها الإنسانيِّ/ مُرونتِها كما يَعرِفُ البَشَرُ أنفُسَهم، ويَغمِسُها في عالَم الكارتون الساحر ..

 

محمد سالم عبادة

9 أكتوبر 2016

نُشِرَ في العدد الثامن من مجلة (فنون) الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 2017