Sunday 31 December 2017

عن أهمية اللاقراءة: نفايات ثقافية وأشياء أخرى!

     "الكتب بتُثقِل الروح يابو سالم. كان نفسي الواحد يقتصر على مجموعة قليلة جدًا من أمّهات الكتب كده، لأن الباقي دا نفايات ثقافية فعلاً".
     هكذا حدَّثَني الصديق العزيز (محمد فهمي زكي) - طبيب الأمراض الباطنة الشاعر المثقف الموسوعي – ذاتَ أصيلٍ في صيف عام 2013، ونحن واقفان مستندان إلى إفريز النافذة في مطبخ سكن الأطباء بمستشفى دار السلام العام (هرمل) بمنطقة الملِك الصالح/ مصر القديمة.
     الجدير بالذِّكر أنّ جزءًا يسيرًا من مكتبة المذكور كان قد أَغرقَ بالفعل أسطح دواليب السَّكَن، متنوعًا بين الدوريات الثقافية والكتب في معظم حقول المعرفة. ولأنه كان أسبق منّي انتظامًا في هذا المستشفى، سمعتُ به ولم أكن قد رأيتُه مع ابتداء انتظامي. سمعتُ اسمَه من بائع الكتب الذي يفترش الشارع الموصِل من خلف المستشفى إلى محطة مترو الملِك الصالح. وسمعتُ اسمَه من زملائنا حين سألتُ عن صاحب كلِّ هذه الكتب.
     أتذكَّر نصيحةً أسداها إلى قُرّائه (چوزيف بوجر Joseph Boggs) في كتابه (فن الفرجة على الأفلام)، مفادُها أنه من المفيد جدًّا ألاّ يتسرع المُشاهِد في الخروج من قاعة السينما مع انتهاء أحداث الفيلم، وأن يتريّثَ حتى يستمع إلى موسيقى النهاية ويجلس صامتًا بينما يُعرَض شريط صنّاع الفيلم credits. ذلك أنّ هذا التريُّث – من وجهة نظر (بوجز) – يساعد المُشاهِد كثيرًا في فهم ما شاهده وفي تزويد وعيِه بمفتاح استيعاب العمل الفني، ويمنحه القدرة على استعادتِه بشكلٍ ما.
     كما أتذكَّر نصيحةً أخرى أسداها إليَّ وإلى مجموعةٍ من أصدقائي أيامَ نشاط جماعة (سيميا) الأدبية – ربما في 2007 أو 2008 – أستاذنا وأبونا الطيّب الملهِم د.رمضان بسطاويسي, أستاذ علم الجمال بأكاديمية الفنون والناقد الأدبي الكبير. كان د.رمضان يوصينا بألاّ نفوّت كتابًا قرأناه دون أن نعلّقَ عليه. يعني أن نكتب عنه قدرَ ما نستطيع، لأسبابٍ أزعم الآنَ أنها تتفق وما ترمي إليه نصيحةُ (چوزيف بوجز).
     هاتان النصيحتان في تقديري تقفان مع القراءة وضدَّها في وقتٍ واحد. هل يبدو هذا لغزًا؟!
     الأمر بسيط! الفهم دائمًا يقتضي التمهُّل في التلقّي. مدخلاتنا الثقافية - من مقروئات ومسموعات ومرئيات وغير ذلك – تكون أسهل في هضمها وامتصاصها كلما (مضَغناها) جيِّدًا، تمامًا كمُدخلاتِنا الغذائية من نشويات وبروتينات ودهون وغير ذلك. لكنّ هذا يعني أن يتقلّص كَمُّ هذه المُدخلات في النهاية، فهل ثَمَّ ما يبرر هذا التقليص لصالح (الهضم والامتصاص)؟!
     ربما يبرز سؤالٌ ضروريٌّ هنا، هو: "هل هذا التشبيه صائبٌ من الأساس؟"
     في الحقيقة، تبدو لي الإجابة القاطعة على هذا السؤال صعبةً لأنها في تقديري تستندُ إلى الخبرة الذاتية التي لا مجال لنقلِها إلى الآخَرين، لكنّي مضطَرٌّ إلى تأكيد موقفي بالإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب. نعم هو تشبيهٌ صائبٌ إلى أبعد مدىً ممكن!
     في خبرتي المتواضعة، تتابع المدخلات الثقافية يسبب ارتباكًا لا يُجحَد. قد يسفر هذا الارتباكُ عن إبداع تجربةٍ جماليةٍ في حقلٍ من حقول الفن. أذكرُ في هذا الصدد لقاءً تليفزيونيًّا قديمًا للفنان التشكيلي الكبير (محمد عبلة)، قال فيه ما معناه إنه يعمَد إلى رشق وعيه بالمدخلات الثقافية (مشاهدة لوحات بعينها أو قراءة أعمال أدبية أو الاستماع إلى موسيقا ما) بُغيةَ حَفز ملَكَاتِه الإبداعية، وأزعم أني دأبتُ طويلاً – على بدائية تجربتي الإبداعية وتواضعها إلى جوار مُنجَزِه التشكيلي - على فعل الشيء ذاتِه، ولكن ..
     خلال فعل (الرشق) هذا نفسه لابُدَّ من توقُّفٍ أمام هذه المدخلات لتُحدِثَ أثرَها. أمّا بعيدًا عن هذا الفعل فإنّ الارتباكَ الناجمَ عن تتابع المدخلات الثقافية في سرعةٍ يشبه بشكلٍ ما أو بآخر (التلبُّكَ المعويّ)! أنت لا تستطيعُ أن تقف على جماليات روايةٍ عظيمةٍ وإحالاتِها المعرفية إذا أتبعتَها روايةً أخرى غيرها بمجرد انتهائك من قراءتها، وقُل مثل ذلك في أي منجَزٍ فنّيٍّ تتلقاه.
      
     تخبرنا الدراسات التي تتناول الآثار الصحية للصوم بأنّ الجسم يبدأ في التغذّي على مخزونه من النشويات (الجليكوجين المخزون في الكبد تحديدًا) ثُمّ الدهون ثم البروتينات في النهاية كلما طالت فترة الصوم. ما يحدثُ حين تنتهي من روايةٍ عظيمةٍ ووتوقف على إثرِ ذلك مُدَّةً ما عن القراءة (أو في جلوسك أمام شاشة السينما بعد انتهاء أحداث الفيلم كما ينصح بوجز) هو أنك تُحيلُ معرفتك المكتسبة حديثًا من خلال الرواية أو الفيلم إلى خزانة معارفك القديمة، فتتلاقح معارفُك في هذه المُدَّة وتُنتج معرفةً جديدةً وبصيرةً وليدة. وكلما طالت هذه المُدَّة كانت فرصتُك لتأمُّل المكنون في خزانة معارفك الداخلية أكبر.
     في الحقيقة، يبدو أنك تحظى بفرصةٍ أكبر لـ(تقرأ) بشكلٍ أعمق وأهدأ كلما قلَّصتَ عدد مقروئاتِك! الانكباب على موالاة كتابٍ بآخر في سرعة يحوِّل الكتب إلى نفاياتٍ ثقافيةٍ بالفعل. مواد غذائية تزيد عن حاجتك ولا تسبب لك إلاّ ترهُّلاً يُمرِضُك ويُثقِلُ رُوحَك.
     عند هذه النقطة أتذكر حديثًا آخر مع صديقٍ عزيزٍ آخر هو (د.وليد الخولي) الجَرّاح الشاعر كاتب السيناريو الناقد الأدبي. منذ عِدَّة أعوامٍ أخبرني بأنَّ التحاقَه بأكاديمية الفنون ساعدَه على (تنظيم) قراءاتِه. بَدَهَني تعبيرُه (تنظيم القراءة) يومّذاك كما لو كنتُ لم أسمع به من قبل!
     تنظيم القراءة يقتضي أن تكون هناك أولويّاتٌ مُلِحَّة، ومشروعاتٌ مؤجَّلَة، و .. نعم: (نُفاياتٌ ثقافية)!
     لكن في تقديري، نفاياتُك (أنت) الثقافية ليست بالضرورة نفاياتٍ ثقافيةً في تقدير غيرك. الحُكمُ ليس مُطلَقًا وهو غير قابلٍ للإطلاق. قراءة (الإلياذة والأدويسا) مهمة لكثيرين يهتمون بمعرفة تاريخ أمّة اليونان القديمة وأساطيرها ومكوناتها الثقافية، لكنّها قد تصبحُ مُجَرَّدَ نُفايةٍ ثقافية لشخصٍ أولويتُه الآن تكوينُ رأيٍ بخصوص سياسة الانفتاح في عهد (السادات) مثلاً! وقِس على ذلك.
     المهم أن تتسامح مع فكرة النفايات الثقافية ولو بشكلٍ مؤقَّت لتستطيع ترتيب أولوياتك في طمأنينة. والمهمُّ قبل ذلك أن تُدرك تمامًا أن اللاقراءة لا تقلُّ أهميةً للثقافة عن القراءة!
..............
محمد سالم عبادة
25 ديسمبر2017

نُشِر في موقع (هاف بوست عربي) يوم 29 ديسمبر2017     

Thursday 14 December 2017



پانوراما الفكر الجَمالي
قراءة في كتاب (فلسفة الفن في الفكر المعاصر) للأستاذ الدكتور زكريا إبراهيم

     من الصعوبة بمكانٍ أن يتصدى المرءُ للتعليق على كتابٍ كهذا. مرَدُّ الصعوبة في تقديري أنّ مؤلِّفَه أستاذنا الدكتور زكريا إبراهيم يبدو كما لو كان لم يترك شيئًا ليُقال!
     في ثلاثة عشر فصلاً وخاتمةٍ وتذييلٍ (قُل: في خمسة عشر فصلاً) يفتح أستاذ الأساتذة نوافذ على فلسفة الفن عند عددٍ من فلاسفة العالَم المعاصرين له والسابقين عليه بقليل. وهي نوافذُ يحاول من خلالها إلقاء الضوء على أبرز سمات الفكر الجماليّ عندهم دون أن يدّعِيَ الإحاطةَ بتفاصيل مذاهبهم الجمالية، ثُمّ يشفع كل فصلٍ بإبراز مآخذه على ذلك المذهب الجمالي وأوجه نقصه كما يراها.
     فمثلاً تبدأ الپانوراما بـ(هنري برجسون) وفلسفته الحدسيّة حيث الفنّ عنده إدراكٌ حِسّيٌّ خالصٌ وهذا الإدراك دون سواه هو ما يميز الفنان عن غيره من الناس. مستعينًا باصطلاحات (كانت) الشهيرة، يلخّص (برجسون) رؤيتَه في أنّ الفنان يرى الشيءَ في ذاتِه (أي في فرديته المتعينة) لا يرى مجموع العلاقات النفعية التي تربطه بحاجاته الحيوية. وهو بهذا يوحّد بشكلٍ ما بين عِيان الفنان من ناحيةٍ والمعرفة الصوفية من ناحيةٍ أخرى. ويؤاخِذ أستاذُنا (برجسون) على تجاهُلِه جانبَ الفعل/ الخلق في الظاهرة الفنية.
     بعد هذا تنفتح نافذة أستاذنا على (بندتّو كروتشه) الذي يخفف من حِدّة تقسيم (برجسون) الأرستقراطي للبشر إلى فنانين ذوي عيانٍ حدسيٍّ ممتازٍ وعوامّ يفتقرون إلى هذا العيان، فيقول بأنّ الفارق بين الشاعر مثلاً والرجل العادي هو فارقٌ كمّي لا كيفي، ويفسر بهذا تفاعُل الجمهور مع الفن وظاهرة تلقّي العمل الفني. لكنه - فيما يقول المؤلف - يظل حبيس مذهبه المثالي فيظل بالتالي الفن عنده (حدسًا تعبيريًّا) وتظل فاعلية الفنان فاعليةً تعبيريةً تنحصر في القدرة على تكوين الصور الذهنية، ويتجاهل كل جهدٍ تحقيقيٍّ يبذله الفنان في إخراج عمله إلى النور.
     بعد (كروتشه) ينتقل (زكريا إبراهيم) إلى (چورچ سانتايانا)، وربما تكون النقطة الجديدة في مذهبه كلَّ الجِدّة - في إطار العرض الپانورامي الذي تكفل به الكتاب – هي بيانه لأوجه الاختلاف بين القيم الجمالية من ناحية وتلك الأخلاقية والعملية من ناحيةٍ أخرى. فالجمالية عنده قيمٌ إيجابية تمدنا بلذات حقيقية، مكتفية بذاتها غير مطلوبةٍ لغايةٍ وراءَها، بينما الأخلاقية سلبية تقتصر مهتمها على اجتناب الألم ومحاربة الشر. والإحساس بالجمال عنده هو الإحساس بوجود خيرٍ محضٍ إيجابي تماما. ويحاول (سانتايانا) في كتابه (الإحساس بالجمال) إقامة أخلاقٍ جمالية، انطلاقًا من الفكرة اليونانية القديمة التي تجمع بين الخير والجمال في مفهومٍ واحد Kalokagathia. وهو في دفاعه عنها يذكّرنا بأديبنا المصري الراحل الكبير (إدوار الخراط) في كتابه المهتم بنقد الفن التشكيلي (في نُورٍ آخر)، حيث يقرر (الخراط) أن ممارسة الفن - بما تنطوي عليه من تحرّي الكمال والاستغناء عن الفضول ونُشدان التناسب في العمل الفني – يمكنها أن تنعكس على حياتنا الخُلُقية بالإيجاب. والمهم أن أستاذنا (زكريا إبراهيم) يأخذ على (سانتايانا) ابتداءه من نقطة التفرقة بين الجميل والخيِّر، وانتهاءه بالتوحيد بينهما في نسقٍ صُوفِيٍّ يفوق الوصف ويستعصي على التحليل في رأيه.
     ثُم يلتفت الكتاب إلى (چون ديوي) الذي يرد الظاهرة الفنية إلى خبرة الحياة العادية، فعنده الإيقاع الناشئ عن فقدان التكامل مع البيئة ثم استعادة الاتحاد بها هو المظهر البدائي لكل خبرة جمالية. ويرتبط هذا الطرح – فيما يقول أستاذنا – بنزعة (ديوي) التجريبية التي ترفض التجريدات الميتافيزيقية الشاطحة والتأملات اللفظية العقيمة. وفي هذا الطرح يصبح الفنّ بالفعل قاطرةً للحضارة البشرية تشدُّها إلى الأمام، طالما أنّ الممارسة الفنية تحقق تكيفًا للمرء مع بيئته بطريقةٍ ما، وتَظهر على أثر هذا التكيف نوعيةٌ أخرى من المشكلات تتطلب بذل جهدٍ من نوعٍ مختلفٍ لمواجهتها، وهكذا دواليك في ترقيةٍ واضحةٍ لدوافع الموجود البشري. وفي تصوري أن هذا الطرح لـ(ديوي) الذي شرحه أستاذُنا يعزز دور الفن كمكوّنٍ في البنية الفوقية للمجتمع يعمل على زيادة تعقُّد الحضارة طالما أنه ينقلُها باستمرارٍ من طورٍ إلى طورٍ أكثر تركيبا. يبقى النقد الذي يوجهه أستاذنا لنظرية (ديوي) متمحورًا حول الصبغة الپراجماتية التي تصطبغ بها رؤيته للفن من حيث هو مجرد نشاطٍ أداتي في خدمة غاياتٍ اجتماعيةٍ وحضارية.
     أمّا (ألان Alain) وهو الاسم الذي اشتُهر به الأديب والفيلسوف الفرنسي (إميل شارتييه) فيركز على جانب العمل والصنعة في الظاهرة الفنية إلى درجة القول بأن الإلهام نفسه وليدُ عملية التعبير بدرجةٍ ما، وأن الفنان هو من يصطرع مع المادة حتى يُجبِرَها على أن تنعطف وتتثنى تحت تأثير ذبذباته الفكرية! وبهذا يقرّب (ألان) بين الفن والصناعة حيث يشعر المرء في كلاهما بمقاومة المادة ويتجلى جهده الإبداعي في التغلب عليها. لكن أستاذنا ينعي على (ألان) اهتمامه بتعمُّق طبيعة الصلة بين الفن والصناعة، حيث هو في التحليل الأخير لم يَقل إلا أن الفنان صانع! كما ينعي عليه اهتمامه بالتقسيم التعسفي لأنواع الفنون إلى سكونية وحركية أو جماعية وفردية على حساب الاهتمام بدراسة طبيعة الموضوع الجمالي.

     في الفصول السابقة وفي غيرها يلفت أستاذنا الراحل أنظارنا إلى العلاقة الوثيقة بين المذهب الجمالي لكل فيلسوف وفلسفته العامة. فمثاليةُ كروتشه وتجريبية ديوي مثلاً قائدتا هذين الفيلسوفين إلى رؤيتيهما للفن وطبيعته ودوره. كذلك وجودية (ألبير كامي) المحتفية بتمرُّد الإنسان على موقفه البشري وعلى الخليقة كلها كانت قائدتَه إلى رؤية الفن باعتباره محاولةَ الإنسان لإدراك العالَم منتظمًا، متغلبًا بذلك على العبث الظاهر لحواسّه. وربما يكون من أطرف أمثلة هذه العلاقة ما يسوقه أستاذنا في الفصل الذي يناقش مذهب (مارتن هايدجر) الجمالي، حيث يصطنع (هايدجر) منهج الظواهر Phenomenological Method الذي أرساه الفيلسوف الألماني الكبير (إدموند هوسرل)، والذي يقضي بضرورة دراسة وقائع الفكر والمعرفة دراسةً وصفيةً خالصة. ويقوده هذا المنهج إلى البحث عن أصل العمل الفني، فيقع في دورٍ منطقيٍّ يعترف به (هايدجر) ويقرر ألاّ فِكاكَ منه، وملخص هذا الدور أنه لكي نفهم الفنان علينا أن ندرس أعماله الفنية، في نفس الوقت الذي ينبغي علينا فيه أن ندرس الفنان أولاً باعتباره الأصل في العمل الفني، ويجابهنا حَدٌّ ثالثٌ يزيدُ العملية تعقيدًا هو (الفَنّ) نفسه، حيث لا يمكن أن نشير إلى أشياء متعينةٍ باعتبارها أعمالاً فنيةً قبل أن نفهم أولاً ما هو الفن، في نفس الوقت الذي لا نتمكن فيه من الوصول إلى تعريفٍ للفنّ قبل أن ندرس الخصائص المشتركة للأعمال الفنية! وينتهي (هايدجر) إلى دعوتنا أن نوجّه أسئلتنا إلى العمل الفني القائم بالفعل لنقف على كينونته ونعرف منه طبيعة الفن. وفي الحقيقة فإن مثل هذا الدور المنطقي –  كما يقول أستاذنا الدكتور محمود زيدان في كتابه (مناهج البحث الفلسفي) – يبدو مقبولاً وربما يكون أساسيًّا في بناء المذاهب الفلسفية، لكن حياد (هايدجر) وتجرُّدَه العلمي الصارم ومنهجه في الظواهر، أملَت عليه أن يضع بين أيدينا المشكلة قبل أن يقبلها وينطلق منها إلى بحثه!

     من المسائل المثارة في الكتاب عبر فصوله المختلفة طبيعة العلاقة بين الفن والعلم. يتعرض لها (إرنست كاسيرر) فيَخلُص إلى أنّ العلم واللغة باعتبارهما نظامَين رمزيين من نظم التواصل البشري يهدُفان إلى اختزال الواقع أو اختصاره بُغيةَ فهمه، بينما الفن يهدف إلى تقوية الواقع وزيادة شدته، فهو حضورٌ كثيفٌ في الحياة ودعمٌ للكثرة في الحقيقة، وربما يتضح هذا في اتّكاء الفنّ على الخلق المستمر أساسًا، وهنا يلتقي (كاسيرر) مع (برجسون) - الذي ظلَّ نقطةَ انطلاق الكتاب – في أنّ إدراك الفنان للشيء في ذاتِه مختلفٌ عن إدراكاتنا النفعية للشيء باعتباره مجموع علاقاته التي تربطه بنا بشكلٍ نفعي، ومن هنا يتأكد وجود الأشياء في ذواتها على كثرتها. أمّا (سوزان لانجر) فلم تجعل من الفن مجرد أداةٍ للمتعة الحسّيّة، بل كان عندها وسيلةً للمعرفة مثله في ذلك مثل العلم، فإذا كان من شأن العلم بصفته نشاطًا ذهنيًّا أن يستقدم مضامين العالم إلى مملكة المعرفة الموضوعية، فإن من شأن الفن أن يقوم بدورٍ مماثلٍ ولكن في مجال المضمون الوجداني للعالم. ويتفق (هربرت ريد) مع ما ذهبت إليه (لانجر) في أن وظيفة الفن أن يزوّد المدرك بشيءٍ لم تسبق له معرفته من قبل، لا أن يزوده بلذةٍ مهما كان نُبلُها. ويذهب (ريد) إلى أبعد من ذلك فيقول أن هناك اتفاقاتٍ عامةً بين العلم والفن، فللخيال الإبداعي منطق لا يقل صرامة عن الاستدلال العلمي، ولابد في النشاط الفني – تمامًا كالعلمي – من توافر مثل أعلى للوضوح، وفي استطاعتنا أن نقول إن القابلية للتحقق verifiability عنصر ضروري من عناصر الإبداع الفني كما هي مقوم أساسي من مقومات المنهج العلمي!        

     المسألة الأخرى التي يدفعنا إلى تأملها عرض أستاذنا لكل تلك المذاهب الجمالية هي العلاقة الجدلية بين الفن والدين. في الحقيقة تأتي الإشارة إليها على استحياءٍ في ثنايا العرض، لكنّها تبزغ في خلفية البحث حين يتعرض الفلاسفة للفارق بين الآمر الأخلاقي والآمر الجمالي، باعتبار الدين هو الحاضن التاريخي للآمر الأخلاقي. فحين يقول (سانتايانا) إن الإحساس بالجمال إحساسٌ بخير إيجابي مطلق، بينما القيمة الأخلاقية سلبية دائمًا وتدفعنا إلى الاحتماء من الشر، وحين يسترسل (ديوي) فيقول إن ضروب التعارض التي تقام أحيانًا بين الروح والجسد أو النفس والمادة هي مظاهر لخوف الإنسان مما قد تجلبه عليه الحياة، ومظاهر للانكماش والتراجع والفرار، نستحضر على الفور ذلك النزوع الباطن في الدين إلى الزهد والعودة إلى لحظةٍ معياريةٍ في الماضي. في هذا السياق يتجسد الدين كنزوعٍ بشريٍّ لكبح جماح الحضارة، ويبدو أن هذا الكبح جزءٌ أصيلٌ من دور الدين في البنية الفوقية للمجتمع. في تقديري أنّ هذا يفتح بابًا جديدًا في فلسفة الدين وفلسفة الحضارة يحتاجُ من يَطرُقُه ليُطلِعنا على تجليات هذا الدور وإمكانات مصالحته مع حتمية التطور الحضاري الذي يبدو لانهائيّا.   
     مظهرٌ آخر لم يكشف عنه أستاذنا صراحةً في العلاقة الوثيقة بين المذهب الجمالي للفيلسوف وتوجهه الفلسفي العام، وهو تحديدًا ارتباط المذهب الجمالي بمحصّلة الرؤية العقَدِية للفيلسوف. المثال الذي لا يسعني إلا الإشارة إليه هو ذلك التقابل بين (برجسون) من ناحية و(سارتر) من ناحية. أولهما يجعل الفن مطاردةً للوجود الحقيقي ويجعل من عِيان الفنان للموضوع الجمالي عيانًا للشي في ذاته. بينما الثاني يجعل الفن مطاردةً للعدم باعتبار الجمال لاواقعيًّا أو عدَمًا بالأساس، وباعتبار الحرية لازمةً للوعي تنزع إلى العدم، فالفنان عنده بالتالي أشد الناس ممارسةً للحرية ونزوعًا إلى العدم. في تقديري أن إيمان (برجسون) بالمسيحية  - بما تنطوي عليه من عاطفةٍ مشبوبةٍ تجاه المطلق محتَضَنًا في الوجود البشري من خلال حلول اللاهوت في الناسوت في شخص المسيح عليه السلام – وراء هذا الإجلال للجمال (الموجود) غايةً وانتهاءً. بينما إلحاد (سارتر) الباطن في مذهبه الوجودي يجعله يُجِلّ الجمال أيضًا، إلى درجة نفيه عن الوجود، فكما أن الإله غير موجودٍ عنده، فالجمال كذلك غير موجود. ربما يفتح هذا بابًا لتأمل انعكاس الرؤية العقدية للفيلسوف على مجمل فلسفته، ينتظر من يطرقه كذلك!

     قبل النهاية لابد من الإشارة إلى نصوع لغة أستاذنا (زكريا إبراهيم)، التي تتجلى على أكمل وجهٍ حين يتصدى بنفسه لترجمة فقرةٍ من كتابٍ لأحد الفلاسفة تلخص رُوح مذهبه الجمالي، كما في فصل (الفن حرية وإبداع – أندريه مالرو) حيث يترجم فقرةً من كتاب (الخلق الفني La Creation Artistique) لمالرو على هذا النحو: "وكما أن الموسيقار هو ذلك الرجل الذي يحب الموسيقى لا البلابل، بل كما أن الشاعر هو ذلك الإنسان الذي يحب الشعر لا الخمائل، فإن المصور أيضًا هو ذلك المخلوق الذي يحب اللوحات لا المناظر!". وهذا النصوع والحرص على الوضوح يجعله يسائل بعض العبارات الملتبسة التي يعبر بها فيلسوفٌ ما عن فكرةٍ في صميم مذهبه، كما يفعل مع (ميرلوپونتي): "لقد أشاع في فلسفة الفن ضربًا من الغموض حينما قال إن التعبير هو جوهر الجسم وحينما ذهب إلى أنه ليس هناك ما يُعبَّر عنه سوى الجسم! إن ميرلوپونتي على حق حين يقرر أن الجسم مأخوذ في نسيج العالم، ولكننا لسنا نفهم على وجه التحديد ما الذي يعنيه حين يضيف إلى ذلك أن العالم مصنوعٌ من قماش جسميّ"!

     انتهاءً، يبدو الكتاب مهمًّا لكل قارئٍ للعربية مهتم بالفن وفلسفته، كما يهم المهتمين بفلسفة الأخلاق وفلسفة الحضارة وفلسفة الدين بشكلٍ غير مباشر. أخُصّ المشتغلين بالأدب والفن إجمالاً لأن الپانوراما التي يفتحها (زكريا إبراهيم) لقرائه هنا تضيف استبصارًا عميقًا بطبيعة الفن ودوره الحضاري وغاية الفنان ووسائله، أرى أنه لا غني عنه لكل مخلص للفن.

محمد سالم عبادة
30 يونيو 2017
نُشِر في مجلة (عالَم الكتاب) في عدد أغسطس 22017