Thursday 11 March 2021

كسر الحائط الخامس: تأسيس سُلطة الممثِّل

 


     ربما يذكر كثيرون هذا المشهد من فيلم (رصيف نمرة 5) للراحل (نيازي مصطفى) من إنتاج عام 1956، حيث يواجه الشاويش خميس (فريد شوقي) المعلم بيومي (زكي رستم) في المسجد بعد أن يفرغ الأخير من الصلاة، بأن يقدِّم إليه مسبحته المنفرطة دليلاً على كشفه أمر تورُّطه في قتل زوجته، وحين يحاول المعلم بيومي الهرب من المواجهة بأن يقوم ليصلي ركعتين لله، يقطع (فريد شوقي) عليه صلاته قائلاً: "لأ لأ لأ، دانا عاملها قبل منّك"، في إشارة إلى مشهد من فيلمه (جعلوني مجرمًا) للراحل (عاطف سالم) من إنتاج عام 1954، حيث يهرب من إلقاء القبض عليه بالصلاة في المسجد.

https://www.youtube.com/watch?v=uQ_XQj6La-I          

     أن يُحِيلَ الممثل الجمهور إلى أعماله السابقة، فهذا التصرف واحد من تخريجات مصطلح (كسر الحائط الخامس)، باعتبار هذا الحائط المعنوي يفصل بين العمل الحالي والأعمال السابقة. جديرٌ بالذِّكر أن المصطلح امتدادٌ للمصطلح الأقدم الأشهر (كسر الحائط الرابع) حيث يكسر الممثلون في المسرح (أو السينما أو التليفزيون) الحائط الوهمي الذي يفصلهم عن الجمهور ويخاطبونه في إشارةٍ إلى الطبيعة الخيالية للدراما ولشخصياتهم.

     في الحقيقة فعلها كثيرون، في كلِّ مكانٍ في العالَم بالتأكيد! قد يكسر أحد الممثلين الحائط الخامس لزميله، مثلما فعل الممثل (الطفل آنذاك) أوستن أوبرايان في فيلم (بطل الأكشن الأخير Last Action Hero) في حديثه مع (أرنولد شفارتزينيجر)، حيث أشار إلى (فريد مراد الإبراهيم) بعد خروجه من الكادر بأنه "قد قتل موتسارت"، مستدعيًا بذلك دور (الإبراهيم( في شخصية الموسيقار (أنتونيو سالييري) في فيلم (أماديوس Amadeus) الذي أُنتِج عام 1984، أي قبل (بطل الأكشن الأخير) بتسع سنوات.

https://www.youtube.com/watch?v=5egsTEUS17s     

     ومثلما فعل (عادل إمام) في مسرحية (الواد سيد الشغال) أثناء حواره مع (عمر الحريري) حيث ذَكَر دور (الحريري) في (ألف ليلة وليلة) مجسِّدًا شخصية الملك (كهلان).

https://www.youtube.com/watch?v=G4iJQ87Y304

     يأتي كسر الحائط الخامس أكثر اتّساقًا مع فكرة الخروج عن النص، وذلك أنّه من الصعوبة بمكانٍ أن نفترض أن الكاتب المسرحي أو كاتب السيناريو في الأمثلة السابقة وضع في نصِّه هذه الإحالات الواضحة إلى أعمالٍ سابقةٍ للممثلين، إلاّ إن كان يكتب وفي ذهنه أن (فريد شوقي) و(مراد الإبراهيم) و(عمر الحريري) تحديدًا هم من سيقومون بتلك الأدوار. الأقرب إلى طبيعة الأمور أنَّ الإحالة حدثت عفوًا وبشكلٍ تلقائيٍّ تمامًا أثناء تصوير (رصيف نمرة 5) و(Last Action Hero) وكذلك في (الواد سيد الشغال).

     في كتابه (ازدهار وسقوط المسرح المصري) يستعرض الناقد المسرحي الراحل (فاروق عبد القادر) ثلاث مراحل هامّة مرّ بها المسرح المصري في تقديره، أولها مرحلة التكوين قبل يوليو 52 (حيث مسرح نجيب الريحاني ويوسف وهبي وعلي الكسّار)، ثم مرحلة الازدهار (في خمسينيات ومعظم ستينيات القرن العشرين) ثم السقوط منذ النكسة إلى زمن انتهائه من هذا الكتاب في أواخر السبعينيات. ما نلاحظه بسهولةٍ رغم أنّ (فاروق عبد القادر) لا ينصّ عليه صراحةً، هو أن الناقد الكبير في استعراضه هذا لم يتوقف طويلاً (هو لم يتوقف إطلاقًا إن لم تكن الذاكرةُ قد خانتني) عند أسماء أبرز الممثلين الذين قامت على أكتافهم النهضة المسرحية التي يتحدث عنها في الخمسينيات والستينيات، بينما في مرحلة التكوُّن (التي أدانها بشِدّة واعتبر بريقها التاريخيَّ بريقًا زائفًا) ومرحلة الانهيار أفاض في سرد أسماء الممثلين الذين حققوا إيراداتٍ استثنائيةً للمسرح التجاري على خلفية نصوصٍ ضعيفةٍ أو سطحيةِ التناوُل في تقديره.

     الشاهد من هذه الملاحظة أنّ الممثلين يتوارَون خلف النص أو يذوبون فيه تمامًا في الدراما الجيّدة من وجهة نظر (فاروق عبد القادر). فمسرحيات (ألفريد فرج) و(ميخائيل رومان) و(صلاح عبد الصبور) و(عبد الرحمن الشرقاوي) – رغم حملة (فاروق عبد القادر) على هذا الأخير لأسبابٍ خارجةٍ عن موضوع هذا المقال – أذابت المؤدِّين على خشبة المسرح تمامًا، بينما أتاحت النصوص الأكثر سطحيةً صعود نجم الثلاثي (فؤاد المهندس) و(شويكار) و(عبد المنعم مدبولي) في المسرح التجاري.

     نعود من استطرادنا الطويل إلى مسألة كسر الحائط الخامس. في تقديرنا أنّ إمكانية حدوث هذا الكسر تختلف باختلاف الوسيط الذي تُعرَض من خلاله الدراما، كما تختلف حسب مدى شهرة المؤدِّين وجماهيريتهم. في السينما والتليفزيون حيث تُعاد المشاهد مرّاتٍ ومرّاتٍ حتى تنضبط كما يراها المُخرج، وحيث ينفصل المؤدُّون عن الجمهور مكانيًّا وزمانيًّا، تقلُّ فرصة الخروج عن النص إجمالاً، وتقل بالتالي فرصة كسر الحائط الخامس. أمّا في المسرح حيث العلاقة بين المؤدّي والمتلقّي أوفر حظًّا من الحميميّة، وحيثُ مردود الجمهور من الاستحسان والتصفيق قريبٌ للغاية من الممثلين، تزداد بالطبع فرصة الخروج عن النص، ومعه كسر الحائط الخامس.

     إلاّ أنّ عامل شهرة الممثلين يظلّ مُحَدِّدًا بالغ الأهمية في احتمال حدوث هذا الكسر، فمن نافلة القول أنّ ممثلاً ناشئًا حديث عهدٍ بالكاميرا أو ممثلاً مغمورًا أفنى حياته على المسرح دون أن يحظى بالجماهيرية لن يجد رصيدًا من الأعمال المعروفة عند الجمهور يُحيلُه إليه من الأساس.

     وهناك عاملٌ آخَر شديد الأهمية ويرتبط بعامل الشهرة، هو حضور الكاميرا وإمكانية تسجيل العرض. بإمكاننا أن نتخيل مئات المرّات التي صعد فيها ممثلو (الواد سيد الشغال) خشبة المسرح ولم يُشِر فيها (عادل إمام) إلى دور (عمر الحريري) في (ألف ليلة وليلة)، لكنّ حضور الكاميرا مرّةً واحدةً فقط كفيلٌ بإغرائه بهذا الكسر.

     ما يحدث في كسر الحائط الخامس أشبه بأن يكون معادلاً موضوعيًّا من ناحية الممثِّل لنشر الأعمال الكاملة لمؤلّفٍ مسرحي. الممثل في هذا الكسر (يَنشُر) بالفعل سِجِلَّ أعماله السابقة أمام المتلقِّين داعيًا إياهم بشكلٍ غير مباشرٍ إلى إجلال مشواره الفنّي وتقدير ظهوره أمامهم.

    يمكننا أن نرى في هذا (الكَسر) شكلاً من أشكال انتقام محترفي التمثيل لأسلافهم الممثلين الذين جسَّدوا آلاف الأدوار على المسرح منذ (إسخيلوس) و(سوفوكليس) و(يوريبيديس) و(أريستوفانس) اليونانيين إلى ما قبل اختراع التصوير السينمائي وتصوير الفيديو! هؤلاء الأسلاف هم من أعطَوا النصوص المسرحية لحمَها الحقيقيّ الذي شاهدها به جمهور العصور الغابرة، دون أن يكون لهم نصيبٌ من المجد الاستثنائيّ الذي حظِيَ به كتّابُ الدراما، فمجدهم في الحقيقة انتهى بموتهم، ولم يبقَ منهم إلا القليل من الحكايات المتناثرة هنا وهناك في سطور المؤرّخين.

     أمّا وحوش التمثيل (الكاسِرَة) التي ظهرت مع مقدَم تصوير السينما والفيديو، فلها أن تُخَلِّد اسمَها بكل الطرُق أمام الكاميرا، ولا يمكن في الواقع الحَجر على هذه الطرُق.

     بالطبع يمثّل هذا قيمةً سلبيةً لدى قامةٍ من قامات النقد المسرحي كالراحل الكبير (فاروق عبد القادر)، تنضافُ إلى تهافُت النصوص وسطحيتها المحرضة على الخروج عليها في الأداء في وجهة نظره، لكنّ هذا لا يغيّر من الواقع شيئا. نحن أمام مسرح (الممثل) في مواجهة مسرح (المؤلِّف). في الحقيقة لا يتبني كاتبُ هذا المقال رأيَ (فاروق عبد القادر) بصورةٍ تامّةٍ ولا يرى تلازمًا محتومًا بين مسرح (الممثل) والانهيار، بقدر ما يعنيه رصد الظاهرة ومحاولة فهمها على الوجهِ السالفِ بيانُه.

      ختامًا، نتذكّر رأيًا عابرًا للشاعر والمسرحي الكبير الراحل (صلاح عبد الصبور)، أورده في مقدمةٍ لمسرحياته الشِّعرية، حيثُ يُبدي أسفَه على خسارة المؤلف المسرحي المعاصر دورَ المُخرِج لنصوصه على خشبة المسرح. في تقديرنا أنّه ربما ليعود المؤلفُ المسرحي (وكاتب السيناريو بالتبعية) إلى مكانة ما قبل الكاميرا، فعليه أن يتجاوز طموح (صلاح عبد الصبور) في الإخراج إلى الظهور في لحم الدراما كممثل. منذ أكثر من أربعة قرونٍ، لم يكن لـ(شيكسبير) أن يحلم بكل هذا المجد لو كان قد بقيَ مجردَ ممثلٍ في فرقةٍ مسرحية، حتى لو كان أعظم ممثلٍ في عصره. أمّا لو عاد (شيكسبير) إلى الحياة بعد الكاميرا، فربما لم يكن ليجد نفسه مضطرًّا لكتابة حرفٍ واحدٍ مادامَ ممثلاً جذّابًا تلاحقُه العدسات!

محمد سالم عبادة

24 يناير 2018

نُشِر هذا المقال على موقع (منشور) في 29 يناير 2018 

رابط المقال:

https://manshoor.com/art/breaking-fifth-wall-acting/