Sunday 1 January 2017

ظاهِرُهُ ثورةٌ وباطِنُهُ سُكون: قراءةٌ في ديوان (لُغَةُ النُّور) للشاعر محمود عبدالرازق جمعة


ربما انتبهَ الفنان (أحمد الجنايني) إلى السُّكون الذي يشغلُ عُمقَ نصوص هذا الديوانِ الصادرِ عن سلسلةِ (كِتابة) بهيئةِ قصور الثقافةِ مطلعَ هذا العامِ، رغم محاولةِ الشاعرِ تصديرَ صورةٍ ثائرةٍ للمتلقّين عبرَ أدواتٍ تعبيريّةٍ مختلفةٍ سنستعرضُ بعضَها لاحِقًا، ولهذا اختارَ صورةَ الغلافِ تلك الفتاةَ الجالسةَ في استكانةٍ مرتديةً ملابسَ محتشمةً، وهي كما هدانا البحثُ لَوحةٌ للفنّان الصينيّ المعاصر (يِي زيانمِنْ) ..
     أولُ ما يُطالِعُنا من نصوصِ الديوانِ الإهداءُ "إلى لغةٍ خلقناها وشمسٍ لا غُروبَ لها .. وحُلمٍ لم يزَل غَضًّا كطفلٍ بالفؤادِ لَها" .. وهو مقطعُ يختزِلُ في جماليّاتِه ومستوياتِ تأويله المحتمَلَةِ طبيعةَ ما سنلتقيهِ من جمالياتٍ واحتمالاتِ تأويلٍ في نصوصِ الديوان، فالشاعرُ يعتمدُ آليّاتِ البلاغةِ العربيةِ التقليديةِ لتشكيلِ نَصِّه، حيثُ التشبيهُ والاستعارةُ حاضرانِ بيانيًّا بكثافةٍ، والجِناسُ التامُّ بين آخِرِ البيتَين لا تُخطئُهُ الأذُنُ ولا العَين .. ونلاحظُ أنَّ إحالاتِ الضميرِ المستترِ (نحنُ) في قولِهِ (خلقناها) تتسمُ بقَدرٍ من الغموضِ فلا نعرفُ ابتداءً هل (نحنُ) المُشارُ إلَينا عاشقانِ خَلَقا لغةً خاصّةً بهما، ممّا يستتبعُ أن تنسحِبَ الجُمَلُ اللاحقةُ على العالَم الحميميّ لهذين العاشقَين، فالشمسُ شمسُ علاقتهما والحُلمُ حبُّهما المتجددُ مثلاً، أم أنَّ (نحنُ) تشيرُ إلى المجموعِ الإنسانيِّ فيكونُ المقصودُ تواضُعَ البشرِ على اختلاقِ اللغةِ، ممّا يستتبعُ أنَّ الشمسَ قد تكونُ ما يسطعُ من معرفةٍ تتجددُ بتجددِ إمكاناتِ اللغةِ، والحُلمَ قد يكونُ تحقيقَ تواصُلٍ يقينيٍّ بين البشرِ واضعي اللغةِ لينتفيَ سوءُ الفهمِ وتصلَ البشريةُ إلى جنّتِها المعرفيةِ الموعودةِ مثَلا .. وربّما المقصودُ مزيجٌ من هاتين الإحالتَين بتوابعِهما، وربّما هو شيءٌ رابعٌ لم تُفلِح هذه القراءةُ السريعةُ في اقتناصِه!
     ننخرِطُ في مواصلةِ القراءةِ فنعرفُ أنّنا أمامَ ديوانٍ مُخلصٍ للعَروضِ، احتوى ثلاثةً وعشرينَ نَصًّا تشملُ الإهداءَ، منها سبعةُ نصوصٍ عموديةٍ والباقي تفعيليّ .. استحوذَ البحرُ المُتدارَكُ على نصيبِ الأسَدِ بتسعةِ نصوصٍ منها سِتّةٌ في الصورةِ الأبسطِ الأسرَعِ من المُتدارَك (الخَبَب) بتفعيلتِها (فَعِلُنَ فَعِلُنْ) .. وفي رأيي المتواضعِ كانت هذه هي الآليّةَ الأوضحَ التي اعتمدَ عليها الشاعرُ في تصديرِ الصورةِ الثائرةِ المُشارِ إليها آنِفًا، بما اعتادَهُ المتلقُّون من قَرن هذا الإيقاعِ الموغلِ في السرعةِ بالمضمونِ الثَّورِيّ في الشِّعر العربيِّ المعاصِر، لاسيّما عند (نزار) و(دنقُل) مثَلاً .. لكن عند تأمُّلِ القصائدِ المصوغةِ على هذا الإيقاعِ في الديوانِ نجدُ أنّ رُوحًا محافِظًا بشكلٍ عامٍّ يتخللُها ويهيمنُ عليها .. ففي (على هامشِ الأسطورةِ) مثَلاً يحاولُ الشاعرُ أن يُسائِلَ المقولاتِ الدينيةَ فيما يتعلَقُ بمسألةِ الجَبرِ والاختيارِ على نطاقٍ أوسعَ وبرؤيةٍ أشملَ ممّا جرَت العادةُ عليهِ، فالاختيارُ قائمٌ ظاهريًّا إلاّ أنّ النظرَ إلى الظروفِ التي تدفعُ الآثِمَ لاختيارِ الإثمِ وإلى تركيبِ النفسِ المُعَقَّدِ يَجعلُ من الاختيارِ والجَبر وجهَين لعُملةٍ واحدةٍ: "ما ذنبُ النفسِ اللوامةِ؟ ماذا فعلَت كي تتحمَلَ إصرًا ليس لها دخلٌ فيهِ؟ كانت يدُها مغلولةً، امتدّت كفُّ النفسِ الأمّارةِ بالسُّوءِ ففعلَت، قلبَت ذاكَ الباطِلَ حَقًّا، جعلَت ذاكَ الحَقَّ جرائمَ لا تُغتفَرُ ... إلخ". لكنَّ هذه المُساءَلَةَ ليست ثورةً جِذرِيَّةً بقَدرِ ما هي محاولةٌ يائسةٌ للفَهم يعرِفُ الشاعرُ أنها محكومٌ عليها بألاّ تَصِلَ إلى إجابةٍ: "وحدَكَ تَدريهِ يا رَبّ .. وحدَكَ تعرفُ كُلَّ تفاصيلِ الدَّرب .. وحدَكَ تُدرِكُ كيفَ ابتدأت تلكَ الحَربْ .. وحدكَ تعلمُ كيفَ الفرَجُ وكيفَ الضِّيقُ وكيفَ الفَكُّ وكيفَ الكَربْ ...إلخ".
     كذلك في (قلبي البَلُّورِيّ) نجدُ رسالةَ حُبِّ تتذرَّعُ بكلِّ المُعتادِ من تفاصيلِ علاقاتِ الحُبِّ وما دأبَ الشُّعراءُ على وصفِهِ، ولا يعني هذا أنَّها رسالةٌ غيرُ ممتِعةٍ لقارئها، لكنّ المُتعةَ متًصِلَةٌ هنا بتاريخِ قصائدِ الحُبِّ الحديثةِ والمعاصِرَةِ كما نعرفُها فهي تدورُ في فلَكِها على مستوياتِ البيانِ المختلفة: "قلبي البلُّورِيُّ العالِقُ في سلسلتِكِ يُقسِمُ لي في كلِّ مناسبةٍ من غيرِ مناسبةٍ أن لا قبلَكِ أن لا بَعدَكْ/ قلبي البلُّورِيُّ العالِقُ في سلسلتِكِ لا يتأنّى في الحُبِّ وأخشى في بعضِ مطبّاتِ الدُّنيا أن يَعلُوَ يَعلُوَ، أن يتهاوى يتهاوى، أن تُفلِتَ سلسلتُكِ من مرآةِ السيارةِ ذاتَ مساءٍ تسقُطَ عنها، يسقُطَ منها، يتحطمَ، يبعُدَ عن عينيكِ وخديكِ وشفتيكِ ولا يلثمَ وردَكْ".  
     نموذجٌ ثالثٌ لما نتحدثُ عنه هو قصيدةُ (لستُ اللهَ) التي يحاولُ الشاعرُ فيها مساءلةَ الحُزنِ والوجعِ الإنسانيِّ عن جدواهُما: "ما شأنُكِ أيتُها الآهْ؟ كيف تجيئين مُحَمَّلَةً كُلَّ خبايا النفسِ وتنطلقين سريعًا من قاعِ الوجعِ إلى أعلاهْ؟" ثُمَّ يستعرضُ نماذجَ من الندمِ المصطبغِ بالآهِ: "ندمَ نبيٌّ وقفَ طويلاً بينَ حُطامِ الرُّوحِ على رُؤياهْ/ ندِمَ صبيٌّ ناجٍ من نصلِ الخنجَرِ – حاول وهو رضيعٌ أن يسعى بين الحَجَرَينِ – على مسعاهْ ...إلخ" ليخرُجَ منها إلى وجعِهِ الخاصِّ: "خرجَت من قلبِ حناجِرِهم بلغَت قلبي/ حفرَت لي أخدودًا لا يُبصَرُ في دَربي/ وأنا مازلتُ على عهدي صَبًّا مفتونًا بالدنيا ...إلخ" إلى ختامِ القصيدةِ "ظلمٌ ألاّ تغفلَ عيني وأنا لستُ اللهْ" .. فالعنوانُ قد يشي بثوريّةٍ وجوديّةٍ ما، يُعضِّدُ ترقُّبَنا لها إيقاعُ القصيدةِ (الخَبَبُ)، لكن في الحقيقةِ هي زفرةٌ مكتومةٌ أو نفثةُ مَصدُورٍ كما يُقالُ، فخلفَ الظاهرِ الساخطِ باطنٌ ساكنٌ من الرثاءِ لحالِ النفس.  
     ولأنّنا بإزاءِ شاعرٍ مخلِصٍ للوَزن الشِّعريِّ، نتوقفُ عند مقطوعةٍ عموديّةٍ من أربعةِ أبياتِ مصوغةٍ في البحر البسيط - وهو بخلافِ اسمِهِ واحدٌ من البحور المُرَكَّبَةِ من تفعيلتَي مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ – وهي (عصفورتان): "قلبي تحوَّلَ عُشًّا في لظى العَيشِ/ عيناكِ عُصفورتانِ احتلّتا عُشِّي.. عيناكِ في الحُبِّ قُرآنانِ رُتِّلَتا/ على فؤادي بلا حفصٍ ولا وَرشِ .. عيناكِ طاقاتُ نُورٍ والظَّلامُ أنا/ لأجلِهِنّ على جَمرِ الهوى أمشي .. فأختفي حينما أدنو بقُربِهما/ عَجِبتُ من سعيِ قلبي حاملاً نَعشِي". في خبرتي الجماليةِ الشخصيةِ تبلغُ متعةُ القراءةِ هنا ذِروتَها حيثُ يسمحُ طولُ الشطرِ الشِّعريِّ مع توقّفاتِهِ المرتبطةِ بالرَّوِيِّ لشاعرِنا أن يرتِّبَ أفكارَهُ وينتقِلَ في سلاسةٍ من فكرةٍ إلى التي تليها، كما تشحذُ توقُّفاتُ الرَّوِيِّ التي ألزمَ بها نفسَهُ – بارتضائِهِ الكتابةَ في قالَبِ العَمودِ – خيالَهُ لالتقاطِ لحظاتٍ من الصُّوَرِ البيانيّةِ لم يكُنْ له أن يلتقِطَها لولا هذا الالتزامُ الجَمالِيّ .. فالصورةُ الأخيرةُ لقلبه ساعيًا حاملاً نعشَهُ دلالةً على اتحادِهِ الصُّوفيِّ الكاملِ بمحبوبتِهِ – وهو ما يصرّحُ به صدرُ البيت (فأختفي حينما أدنو بقربهما) – هذه الصُّورةُ هي وليدةُ إخلاصِهِ لرويِّ الشِّينِ المكسورةِ مع طبيعةِ الإيقاعِ التي حملَتهُ على أن يصوغَ مفرداتِ صورتِهِ على هذا النَّحو .. وفي تقديري المتواضعِ ينمُّ البريقُ المُلاحَظُ في ختامِ تلك المقطوعةِ بالتحديدِ على أننا أمامَ شاعرٍ أكثرَ إخلاصًا للعمودِ الشِّعريِّ وأعمقَ انتماءً إليه من شِعرِ التفعيلةِ الحُرّة، حتى ولو جاءَ مُعظَمُ قصائدِ الديوانِ الذي بين أيدينا تفعيليّا ..
محمد سالم عبادة
أكتوبر 2016
نُشِرَت في صحيفة (أخبار الأدب) المصرية بتاريخ الأحد 25 ديسمبر 2016