Wednesday 8 December 2021

البُقعَةُ العَمياء (قِصَّة)


     

كانت شفتاها تنفرجان قليلاً، وحاجباها يرتفعان قليلاً عند طرفيهما الداخليين، ويرتجفُ أنفُها ارتجافةً لطيفة، وتُمعِنُ في النظرِ إلَيه. كان مدركًا أنها تبادلُه الحُبّ، لكن ما لم يتصورهُ أبدًا هو أنها متيَّمةٌ به إلى هذا الحدّ، كانت هكذا حين كانا يتقابلان بانتظام، وظلّت هكذا. إلى يومهما هذا. على ما يَعتَقِد.

     حين كان يَرجُوها أن تتوقفَ عن ارتداء العدسات اللاصقة لئلاّ تؤثِّرَ سلبًا على عينيها، كانت تبتسمُ في هدوءٍ وتظلُّ تنظرُ إليه في امتنانٍ صامت.

- يوم ما اتقابلنا أول مرة، أنا كنت لابسة فستان تركواز مشغول عند الصدر بخيوط فضّيّة، وإيشارب تركواز كنت عاملاه Spanish. (تضحك) وانت كنت لابس بدلة سودا مخططة خطوط خفيفة جدًا، موديل قديم، وكرافات حمرا منقطة بالإسود، مع إنك ماكانش عندك امتحان شفوي ولا حاجة، أناقة مجّانية كده! (تضحك من جديد) بس قميصك الأزرق كان عليه بقعة حمرا بتظهر من تحت الكرافات كل ما تتحرك، مكان عصير الفراولة اللي اتدلق عليك يومها.

 

     كانت تفاجئه بذاكرتها الفوتوغرافية كُلَّما تَقابَلا. ذكَّرَته هذا اللقاء الأول بعد مرور عشرة أعوامٍ تقريبًا عليه، وبعد زواجها رجلاً آخر، حين تقابلا بالصدفة في حفلٍ موسيقيٍّ للفرقة التي يحبُّها كلاهما.

- السما كانت مليانة سحُب يومها، وقُلنا أكيد حتمطّر، ولافتات انتخابات اتّحاد الطلّبة اتلمّت كلّها، وبتوع الأُسَر دخّلوها مبنى قسم الفسيولوجي والكيميا الحيوية. وبعد دا كلّه مافيش ولا نقطة ميّة نزلت من السما. مع إننا كمان سمعنا الرعد واتهيأ لنا اننا شفنا البرق. فاكر انت قلت إيه ساعتها؟

     هزَّ رأسه وهو لا يَجدُ ما يَقولُه، بينما عيناه مُعَلَّقَتان بشَفَتَيها الرقيقتَين تهتزّان مع كلماتِها.

- رفعت راسَك للسما وابتسمت ابتسامة جانبية غريبة، وقلت: "بَرقٌ خُلَّب".

     اتّسعَت عيناهُ دهشةً:

- أنا قلت كده؟! فعلاً؟!

     أغمضَت عينيها وأومأَت بالإيجاب.

     منذُ ذلك اليومِ أصبحَ صديقًا لأسرتِها الجديدة. زوجُها طبيبُ العُيون الأكبرُ منه بعامَين، وأطفالُهما الثلاثة. يقابلُهم خلالَ تجمُّعاتٍ أكبر، تضمُّهم إلى جِوارِ عددٍ من الأصدقاء القدامى.

     ظلَّ أعزَب بعد فراقِهما، لا إخلاصًا لقِصّة الحُبّ القديمةِ بِقَدرِ ما هو زُهدٌ في إقامة علاقةٍ جديدة. أعزَبُ في الثلاثين لا يعني كثيرًا، فالعائلةُ والرفاقُ يُلِحُّون في زواجِه ويبتكرون الفتياتِ الملائماتِ له كُلَّ حِين. أعزَبُ في الأربعين يَعني شكوكًا وريبةً حول رجولتِه. أعزَبُ في الخمسين يعني أن يَترُكَه الناسُ وشَأنَه. وهاهُوَ قد تجاوزَ الخمسينَ، وتجاوزَتها معه، وأطفالُها صاروا شبابًا على أعتاب الزواج.

     في اللقاءات الأخيرة التي جمعته بها وبأُسرتِها، لاحظَ تخلِّيَها عن عدساتِها اللاصقة.

- ياه! أخيرًا شِلتي العدسات!

- ماكنتش حاشيلها لولا ان عينيا بدأت توجعني جدًّا في الفترة الأخيرة.

     التفتَ إلى زوجِها الذي كان منهمكًا في الحديثِ مع صديقةٍ أخرى.

- إيه يا دكتور! باب النّجّار مخلّع ولاّ إيه؟

     ضحك طبيب العيون في هدوء:

- ياريتها يا عمّ سمعت كلامك من زمان وبطّلت تلبس العدسات دي. التهابات الملتحِمة بدأت عندها متأخرة شوية!

     عيناها أعظَمُ سِحرًا دون العدسات. هذا ما تردّدَ داخِلَ صَدرِه ولم ينطِق به. كانت هذه أولَ مرّةٍ يرَى عينيها هكذا كما خلقهما الله. يختلسُ النظرَ إليهما كلّما انشغل الآخَرون بالحديث. غَورٌ سحيقٌ من الذِّكريات يتراءى خافتًا من بُؤبُؤَيهما. لا يمكنُ أن تكون عيناها كبقيّة العيون!

- فاكرة لما دخلنا كنيسة الفرنسيسكان اللي ف وسط البلد؟

- طبعًا. إيه اللي فكّرك بالحكاية دي؟

     لم يُحِر جوابًا. هو لا يدري بالضبط لماذا تذكَّرَ هذا الأمر. مجرَّدُ النظَر في عينيها العاريتين ذَكَّرَه دخولَهما معًا الكنيسة. أطالَ النظَرَ إلي عينيها رغمًا عنه، ثُمّ انتبَه لنفسِه، فصرفَ وجهَه، وصرفَت وجهَها.

     بعد هذا اللّقاءِ، بدأ الألَمُ الخفيفُ في عينيها يأخُذُ مَنحىً آخر. تقابلا أربعَ مرّاتٍ خلالَ العامَين الأخيرَين، بالطبع من خلال لقاءات الأصدقاء. في كلِّ مرّةٍ كانت عيناها تَبرُزان للخارجِ أكثر، كما لو كانت تعاني زيادةً في إفرازِ هُرمون غدَّتِها الدرَقيّة. جحظَت ثُمّ جحظَت ثم جحظَت. وجهُها الرقيقُ مُنَمنَم الملامحِ رغم تخطّيها الخمسين، أصبحَ خَلقًا آخَر خلال هذين العامَين. تحرَّزَ من الكلامِ في هذا الشأن في المرّتين الأُولَيَين، إذ ما عساهُ يقدِّمُ وهو مجرَّد طبيبٍ نفسيٍّ يعملُ في مكانٍ متواضعٍ، بينما زوجُها من المعدودين في طبّ وجراحة العيون؟ لكنّ الأمر كان أوضَحَ في المرّةِ الثالثةٍ من أن يَسكُتَ عنه.

- إيه حكاية عينيكي؟ فيهم إيه؟!

     واجهَته بعينيها صامتةً، وترقرقَت فيهما دمعَتان، ثُمّ عادَتا من حيثُ جاءتا! كأنما بخلَت عيناها بالحُزن فابتلَعَته. لا يُمكِن! السِّحرُ أعظَمُ ممّا كان رغمَ هذا التشوُّه!

     في آخرِ لقاءٍ جمعهما أعلنَت أنها ستخضَعُ لجِراحةٍ في عينيها. زوجُها هو الذي سيُجريها. كان هذا ضِدَّ الوضع المثاليِّ في مثل هذه الظروف، فالطبيبُ عليه أن يتفادَى إجراء الجراحة لذَويه وأعزّائه بقدر الإمكان، وعليه أن يُوكِلَ الأمرَ لأحد زملائه الذين يثِقُ بهم. هذا ما صرّحَ به زوجُها، لكنّه أردف:

- بس انا اللي حاعمل لها العملية رغم كده. مش حاقدر أثِق في أي حد من زمايلي للأسف! الفحوصات اللي عملناها بتقول إنّ فيه ورَم غريب طالع من منطقة القُرص البصري في الشبكيّة في عينيها الاتنين. الحقيقة دا شيء غريب وفي غاية النُّدرة. وبما إنّ تخصُّصي الدقيق هو جراحة الشبكية، فدا صميم تخصصي، دا غير اني ...

     ضحكَت هي حينئذٍ في مرَحٍ، مقاطِعَةً:

- دا غير ان حضرته مهتمّ علميًّا بالموضوع، وطبعًا حينشر تقرير الحالة ونتايج الفحوصات قبل وبعد العملية في مجلة دولية! (التفتت إليه مصطنعةً وجهًا خبيثا) حتى على مراتك؟!

 

     اليوم أُجرِيَت الجراحة. لم أستطِع أن أمنع نفسي من الحضور في المستشفى قبل خضوعِها للتخدير. كان التخديرُ الكلّيُّ ضروريًّا بحسب فتوَى لجنة الأطبّاء المهتمّين بحالتِها: زوجها وجرّاح الأعصاب الذي استعان به زوجُها لاحتمالِ تأثُّر المراكز المُخّيّة للعصب البصريّ بالورَم، وطبيب التخدير وغيرهم. 

- خايفة جدًّا .. جدًّا!

     نظرتُ في عينيها.كُرَتان جميلتان في ذاتهما رغم تشويهِهما وجهَها بالكامل. كان هذا ما قالَته لي وأنا معها، حين دخلتُ غرفتَها التي بقيَت بها ساعةً قبل الجِراحة وخرَج كلُّ زُوّارِها لبعض شأنِهم. كنتُ معروفًا لعائلتِها الكبيرة باعتباري صديقًا لأسرتِها، وصديقًا قديمًا مؤتمَنًا لها بالتحديد.

- خايفة من إيه بالضبط؟ دا انتِ جوزك اللي حيعمل العملية، ودا أشهر جرّاح شبكية في البلَد.  

- مش خايفة من الجراحة. بالعكس، متفائلة جدًا بيها.

- أمّال خايفة من إيه بالضبط؟

- التخدير. البنج الكُلّي. خايفة أشوف حاجات أثناء الإفاقة من البنج، واقولها وانا مش داريانة.

     كانت تنظُر في عينيَّ في إشفاقٍ وهي تقول هذه الجملة الأخيرة. لم يكن الأمرُ صعبًا عليَّ ولم تَحتَجْ إلى مزيدِ إيضاح. مازالت بالتأكيد تذكُرُ تفاصيلَ قصَّتِنا القديمة. ذكرياتُها حيَّةٌ، وذكرياتي مجرَّدُ رُتوش. ذكرياتُها واقِعٌ في رأسِها، متجسِّدةٌ في غَور عينيها السحيق، وذكرياتي تدَّعِي أنها حقيقيّة! إن تكلمَت وهي تحت تأثير البَنج، سيعرفُ الجميعُ كُلَّ شيء. لن تُبقِي زاويةً من أركانِ غُرفةِ حُبِّنا القديمةِ إلاّ وصَفَتها، ولن تترُكَ حركةً من حركاتي حين كنتُ أحتويها إلاّ شرَّحَتها بدِقّة. سيُفتَضَحُ سِرُّنا الذي ظلَّ مدفونًا أكثرَ من ربُع قرن. بادلتُها نظرةَ الإشفاقِ مُرغَمًا، حتى عاد زُوّارُها إلى الغرفة، فأطرَقتُ، ثُمَّ أتَت ممرِّضَتُها لتصطحبَها إلى غرفة العمليات.

 

     مرّت الساعاتُ وئيدةً إلى أن عرفتُ انتهاءَ الجراحة. قابلَني زوجُها مرتديًا بِذلة العمليات، مبتسمًا في هدوءٍ كعادتِه. طيلةَ هذه الأعوام كنتُ واثقًا أنه يأخذُ صداقتي الحميمةَ بزوجتِه شيئًا مسلَّمًا به، لا يمكنُ أن يضايقَه، كما لا يمكن تغييرُه. ربَّتَ كتفي، فشعرتُ بغرابة الموقِف!

 

- اطّمّن! الورم استأصلناه بنجاح، الحمد لله. بس طبيعة الورم نفسها ومكانُه همّا اللي سَبْق في الحقيقة. شيء لا يُصَدَّق! احنا عمَلنا فحص لعيّنة مجمَّدَة من الورم أثناء الجراحة. مبدئيًّا، الورم كان طالع من البقعة العمياء. ـThe Blind Spot. فاكرها؟!

     أومأتُ برأسي إيجابًا، فأردف:

- البقعة العمياء دي هي الجزء من الشبكية اللي مافيهوش خلايا تستقبل الضوء وتحوّله لنبضات عصبية. بتبقى مليانة ألياف طالعة من الخلايا الموجودة في بقية الشبكية، عشان تكوّن العصب البصري. (يضحك في وقار) عند مراتي بقى الموضوع مختلف تمامًا. المكان دا عندها مليان خلايا نشِطة، متّصِلة مباشرةً بمراكز الذاكرة والعاطفة في المخ، وبينهم أعصاب بتنقل إشارات نازلة من المراكز دي للخلايا الغريبة، وأعصاب تانية نبضاتها ماشية في الاتجاه المُعاكِس. وواضح اننا مش بنتكلم عن ورَم تقليدي. احنا بنتكلم عن حاجة عاملة زي العيب الخِلقي أو الطفرة الغريبة جدًا، كانت مولودة بيها وفضلت معاها ومرّة واحدة بدأت تكبر زيادة عن معدّلها اللي كانت ماشية عليه. دي حاجة ما ورَدتش في تاريخ الطبّ كلّه. (يضحك من جديد) صديقنا جرّاح المخ والأعصاب اللي اشتغل معايا العملية بيضرب كفّ على كفّ، بس متحمّس جدًّا لتقرير الحالة اللي حننشره سوا بعد ما تخلص الفخوصات الأوسع على نسيج الـ... الشيء دا، اللي ما هوّاش ورَم!

 

     كنتُ أولَ من أُخبِرَ بنتيجة العملية. حتى قبلَ أولادِهما. شعرتُ بامتنانٍ بالغٍ له في هذه اللحظات. لم أشعر ناحيتَه أبدًا بأية مشاعر سلبيّة، لكنه في هذه اللحظات كان قريبًا إليّ جدًّا، بشكلٍ لم أتوقّع أن يحدُث. ارتبكتُ، وازداد إحساسي بضغط الموقف وغرابتِه. أردفَ بعد لحظات صمتٍ ظلَّ خلالَها يتفحّصُ تعبيراتِ وجهي:

- واضح ان الشيء اللي استأصلناه دا هو السبب في ذاكرتها الفوتوغرافية الاستثنائية. ذكرياتها كانت بتتحول لصُوَر ملموسة جوّا الخلايا النشطة دي. حاجة احنا – الناس العاديين – ما نعرفش عنها إلا أقل القليل. ذكرياتنا كلنا كجنس بشري كوم، وذكرياتها كوم تاني خالص.

     صمتُّ لحظةً، ثمّ سألتُه:

- فاقت من البنج ولاّ لسّه؟

     ضحك ضحكةً قصيرة:

- فاقت آه، وقعدت تقول كلام غريب. واضح ان الذكرى اللي كانت مسيطرة على تفكيرها حوالين وقت العملية كانت متعلِّقَة بالعَشا الأخير لينا امبارح في البيت. في الفترة الأخيرة بدأت تجمّع علب الزبادي الفاضية وتغسلها وتشيلها في دولاب مخصوص، وماحدّش فينا فاهم ليه!

(يضحك) المهم انها وهي بتفوق من البنج، قعدت تقول إيه؟!

 

     جاهدتُ لأبتسمَ في صمت، فأردف وهو يرقِّقُ صوتَه مقلِّدًا إيّاها:

- الزبادي! اوعوا ترموا علب الزبادي! سيبوها زي ما هي على ترابيزة السفرة وانا حاغسلها واشيلها. الزبادي! اوعي تخليهم يرموا الزبادي!

 

     أخذ يُقَهقِهُ وهو يُرَبِّتُ كتفي، ثم تركني ليشرح الموقف لأبنائهما وبقية المهتمّين من العائلة. ابتلعتُ رِيقي بصعوبة. حُزنٌ مُمِضٌّ اعتصرَ قلبي في هذه اللحظة. ازدادت ذكرياتُنا خفوتًا أمامَ عينيّ. التفتُّ ناحيةَ غرفةِ الإفاقة. اقتربتُ حتى لامستُ النافذة الزجاجية الصغيرة في بابِها. كانت هناك، مستلقيةً على جانبِها الأيمن تحت بطّانيّةٍ ثقيلة، وعيناها مغطّاتان تمامًا بالشاش الطبّي واللاصِق. التفتُّ ناحية سِكَّة الخروج متجاهلاً نداء أبنائها. ترقرقَت دمعتان، ثم ابتلعَتهما عينايَ، فكأنهما لم تكونا. تمامًا كالبَرقِ الخُلَّب.

20 آب/ أغسطس 2018

مِن مجموعتِي (النَّاظِرُون) الصّادِرة ضمن سلسلة (كِتابات جديدة) عن الهيئة العامّة للكتاب في آذار/ مارس 2021

كانت إحدى القصص الفائزة بجائزة إحسان عبد القُدُّوس لموسم 2018/2019

نُشِرَت لأوَّلِ مَرَّةٍ في عدد حُزَيران/ يونيو من مجلّة الثقافة الجديدة

Wednesday 11 August 2021

مَخرَج من الخَرَس المجتمعي: قراءة في مسرحية (أصوات الأعماق) لإدواردو دي فيليپُّو

 

"روزا: ماذا تريدين أن تعرفي؟ إنها عاملةُ اختزال. عندما يتكلمُ المُحامي تنقش على الورق رموزًا

      غريبةً لا يفهمها أحدٌ سواها، ثم تقوم بقراءتها وكتابتِها على الآلةِ الكاتبة. رمزٌ كهذا مثلاً

      (ترسم بسبابتها في الهواء خطًّا قصيرًا متعرّجًا) يعني: "سيداتي سادتي، لنواجِه الواقعَ

       بشجاعة. إنه حقًّا أمرٌ جَلَل...".
ماريا: كل هذا برمزٍ واحد؟!
روزا: أجل. لذا فهي تربح كثيرًا وتتقدم في عملِها".

     هذه الفقرة من الفصل الأول في مسرحيتنا قد تبدو هامشيّةً مع القراءة السريعة، إلا أنها حين تنضَمُّ إلى شواهد أخرى من حوار المسرحية تُعطينا مفتاحًا ثمينًا لفهمها. دي فيليپُّو Eduardo de Filippo (1900- 1984) كاتبٌ مسرحيٌّ وشاعرٌ وكاتب سيناريو وممثلٌ إيطاليٌّ مثّل للمسرح والسينما. وهذا النص الذي بين أيدينا Le Voci di Dentro كُتِبَ عام 1948. وكما يُتوقَّعُ من هذا التاريخ، نلمح في النص أصداءَ الحرب العالمية الثانية وآثارَها الاقتصاديةَ المدمِّرةَ على المجتمع الإيطالي. فالأحداثُ تدورُ بين أُسرَتين متجاورتَين في السُّكنى في ناپولي، إحداهما تتكون من أخَوين (ألبرتو وكارلو) وعمِّهما المُسِنّ (نيكولا) الذي اعتزل الناس وامتنع عن الكلام، وهم متعهدو حفلاتٍ يرتزقون بتأجير الفِراشة والألعاب النارية، ويُعانون أزمةً ماليةً طاحنةً جَرّاءَ الحرب، بعد أن عرفوا زمنًا أكثر انتعاشًا في حياةِ الأب الراحل (ساپوريتو). الأسرة الأخرى (تشيمّاروتا) تتكون من (پاسكوال) المريض غير القادر على العمل، وزوجته (ماتيلدا) التي تعول الأُسرة بالعمل في الدجل وقراءة الطالع، والابن (لويجي)، والابنة (إلفيرا) التي تتحدث الفقرة السابقة عنها، والعَمّة (روزا) والخادمة (ماريا).
     المُحرّك الأساسي للأحداث هو حُلمٌ رآه ألبرتو، يَحدثُ فيه أنَّ أُسرة تشيماروتا تقتُلُ صديقَه (أنيِلُّو أمِترانو) - الذي كان فيما يبدو واحدًا ممّن يترددون على ماتيلدا لقراءة طالِعه - وتسرقُ مالَه وتُخفي أدلّة الجريمة في حائط البيت. المهمُّ في الحُلم أنه يبدو واقعيًّا تمامًا لألبرتو، حتى أنه يتصرف بناءً عليه ويتحايل مع كارلو على أسرة تشيماروتا ذاتَ صباحٍ لإبقاء أفرادِها بالمنزل ريثما يُداهِمُ رجالُ الشرطةِ البيتَ ويُلقُون القبض عليهم، ولا يدرك ألبرتو أن ما رآه كان مجرد حُلمٍ إلا بعد أن تقتاد الشرطةُ جيرانَه إلى القِسم ويفشل هو والبوابُ (ميكيلي) في العثور على أدلّة الجريمة المزعومة! يُطلَق سَراحُ الجيران، ويُفاجَأ ألبرتو بعد عودتهم بأنّهم يتوافدون عليه واحدًا واحدًا، ليُلقِيَ كلٌّ منهم التُّهمة على غيرِه من أفراد الأسرة، فـ(روزا) تتهم لويجي الطائش المُسرِف ابن أخيها، ولويجي يتهم عمتَه روزا التي أحالَت البيت إلى مصنع صابون وشمع، حيث يُلمِح لويجي إلى أنّ العَمّةَ تستخدم دُهنًا من جثمان المقتول في صُنع الصابون، وپاسكوال يتّهم زوجتَه التي يشُكُّ في عِفَّتِها ويَرميها بأنها قادرةٌ على ارتكاب كل الفظائع، وهكذا! يرتَدّ ألبرتو إلى حالةٍ من الشكّ في حقيقة ما رآه، فيَغدو غير مُدركٍ تمامًا إن كان حُلمًا أم حقيقة. يحدثُ هذا بينما أخوه (كارلو) - الذي يُظهِر التديُّن ويتردد بانتظامٍ على الكنيسة – يتآمر مع التاجر الانتهازي (كاپا دانجيلو) ليستأثِر وحدَه بتَرِكَة مُعِدّات الفِراشة التي تركها أبوه للأخَوَين ويبيعَها لحسابِه بالكامل. في النهاية يكتشف ألبرتو مع الشرطة أن صديقه أمِترانو – الذي يَظهر ظهورًا خاطفًا في المشهد قبل الأخير- على قيد الحياة، فيتأكد من أنّ ما رآه كان حُلما. ولا يلتئم شمل أسرة تشيماروتا إلا ليدفعوا عن أنفسهم شبح التهمة ويحاولوا التغرير بألبرتو وقتلَه في مكانٍ ناءٍ، ولهذا يواجههم ألبرتو في النهاية بأنهم قد ارتكبوا جريمةً أفظع من قتل أمِترانو، وهي أنهم قتلوا الحُبَّ بينهم ولم يجتمعوا إلا على الشّرّ، كما يكتشف خيانةَ أخيه من حديث البواب المُخلِص ميكيلي معه، ويصفع كارلو صفعةً أخيرةً قبل أن يخرُج الجيران وتدخُل الشمس إلى الغرفة التي يبقى فيها الأخوان وحدهما ويتعانقان، في إشارةٍ إلى الأمل في بداية عهدٍ جديدٍ بينهما.
     بشكلٍ شخصيٍّ، تُحيلُني حادثةُ القتل التي تُلقَى تبعاتُها على أُسرةٍ بكاملِها إلى مسرحية (زيارة المفتش
An Inspector Calls) للكاتب الإنجليزي (چون بوينتون پريستلي)، لكن في هذه الأخيرة لدينا واقعة انتحار فتاةٍ من الطبقة العاملة، يَتّهم رجلٌ يدّعي أنه مفتشُ شرطةٍ أُسرةً من ميسوري الطبقة الوسطى بالمسئولية عن دفعها للانتحار. في (زيارة المفتش) يُعبّر پريستلي عن قَناعاته اليسارية فيما يتعلق بمسئولية كل فردٍ في المجتمَع عن المجتمَع كُلِّه، وهي قَناعاتٌ أخلاقيةٌ راسخةٌ في الأديان الكُبرى كذلك. أمّا حُلمُ ألبرتو في (أصوات الأعماق) فهو يسيرُ بالأحداث في مسارٍ عبثيٍّ يَفضحُ طوايا أفراد تلك الأُسرة المتهمَة وما يُكِنُّه كلٌّ منهم للآخَرين. اللافتُ للانتباه أنّ نَصّ پريستلي عرف طريقه إلى المسرح لأول مرّة عام 1945 في الاتحاد السوفياتي، بينما كتَب دي فيليپُّو مسرحيته عام 1948. ليس من السهل بالتأكيد أن نقطع بتأثُّر الإيطالي بالإنجليزي، أو بأنّ (أصوات الأعماق) تشبه رَدَّ فعلٍ على (زيارة المفتش)، فالمسألة تتطلّب غوصًا في مذكرات دي فيليپُّو وما كُتِبَ عنه، وليس هذا مجالَها، وإن كانت الإشارةُ واجبةً إلى هذا الاحتمال.
     نعود إلى الفقرة المقتبَسة في بداية المقال. هذه الإشارة العابرة إلى فُقدان اللغة أو اختزالِها الذي يكادُ يكونُ كوميديًّا إلى درجة العبث لدى الفتاة الصغيرة (إلفيرا)، تنضمّ إلى علاماتٍ أخرى خلال النصّ. أهمُّها حالة العم نيكولا الذي ابتكرَ طريقةً يعبّر بها عن انفعالاته وعواطفه واحتياجاته من خلال الألعاب النارية، فهاهُو كارلو يقول عنه: "إنه لا يتكلم لأنه لا يريد الكلام. استغنى عنه منذ وقت طويل. ومادامت البشرية صمّاء فلماذا لا يكون هو أبكم؟ ولَمّا كان يرفض الكلام إلى جانب أنه أُمّيٌّ لا يعرف القراءة والكتابة فقد لجأ إلى التعبير عمّا يَجيشُ في صدره بالقنابل والطلقات والصواريخ المضيئة. يسمونه في ناپولي قاذف الفرقعات، فما يُطلِقه ليس طلقاتٍ حقيقيةً وإنما فرقعات. رجلٌ غريبُ الأطوار". كذلك لدينا حوار لويجي وألبرتو. فضلاً عن صراع الأجيال الناضح من هذا الحوار السريع، فهو يركّز جدًّا على مسألة الفائض اللُّغوِي وتبرُّم الشباب به وحرص الكِبار عليه، كما يتضح من هذه الفقرة:
"ألبرتو: أعندَك ما تقولُه؟
لويجي: أنتم معشرَ الجيلِ الماضي لا تستطيعون الكلامَ دُون الرُّجوع إلى قواميسِ التقاليد. مادمتُ

         قد حضرتُ إلى هنا فلا شَكَّ أنَّ لديَّ ما أقولُه.

ألبرتو: وماذا ينبغي أن أقول حسب قاموس جيلِكم؟
لويجي: تقول (حسنًا؟)، متبوعةً بعلامة استفهامٍ طولُها متران ونصف."
     في هذه الإشارات الثلاث، لدينا مشكلةٌ عميقةٌ في التواصُل تُشفِي على الخَرَس. فالرمز المقتضَب الذي تصطنعه عاملةُ الاختزال (إلفيرا) يضرب بعرض الحائط مَدَىً واسعًا من ظِلال المعاني وألوان التعبير الإنسانيِّ التي لا سبيل إلى ضغطها في مثل هذا الرمز، والفائض اللغويُّ الذي لا يُطيقُه الشابُّ لويجي هو ما يمنح الأحاديثَ دفئَها بين البشَر. لنَمضِ خُطوةً أبعد ولنسمحْ لأنفسِنا بالاستطراد، في الحقيقة يبدو الفائض اللغوي باعثًا على الدفء بدرجةٍ ما في العلاقة بين العبد والربّ. هذا ما تشهدُ عليه فكرةُ تكرار الذِّكر والتسبيح في الأديان المختلفة، وإطالة السُّجود في الإسلام، والواقعة القرآنية مشهورةُ التفسيرِ في سورة (طه) بخصوص حديث سيدنا موسى مع الله: "وما تلك بيمينِك يا مُوسى؟ قال هي عصايَ أتوكّأُ عليها وأهشُّ بها على غنَمي ولِيَ فيها مآرِبُ أُخرى". عَودًا إلى موضوعنا، تبدو حالة العم نيكولا زُبدةَ اليأس مما وصل إليه حالُ المجتمع البشري من تفكُّك الروابط وفقدان القدرة على التواصُل والضيقِ بالكلام، ولأنه يأسٌ أصيلٌ جدًّا، فما يُطلِقُه الرجلُ "ليس طلقاتٍ حقيقيةً وإنما فرقعات". نلمح هنا وعيَ الكاتب متدخّلاً في تلقائية الحِوار، فبالتأكيد لا يُفترَض في بائع الألعاب النارية أن يُطلِق طلقاتٍ حقيقيةً، وإنما يحاول دي فيليپُّو أن يَلفِتَنا إلى لاجَدوى ما يفعلُه العم نيكولا، الذي لا ينطق خلال المسرحية إلا قبل أن ينتحر.       

      العلامةُ الأخيرة بخصوص الخَرَس المجتمعي تجيءُ على لسان (پاسكوال) في حواره مع ألبرتو: "عندما أصبحُ بعيدًا عن الناس أُكلّمُ نفسي وأشعُرُ بأني أُشرِفُ على الجُنون. أريدُ أحدًا أُفضِي إليه بأسراري. أحدًا يَسمعني. لم أعد أحتملُ أن أًصغِي دائمًا إلى نفسي". هنا يبدو الحديث مع النفس هو الحديث الوحيد الممكن.

     ثمة موضوعان آخَران يتراسلان مع فقدان التواصل، ويُسرِّبُهما الكاتبُ إلى وعينا بلُطفٍ شديد. أولُهما هو أنَّ الحُرّيّة الوحيدة المُتاحة حَقًّا هي حرية التخلص من عبء الحياة، حيث يقول كارلو عن نيكولا: "منذ قليلٍ طلبَ رجُلٌ ألعابًا ناريةً لعيد ميلاد زوجتِه. كان مستعدًّا لدفع أي مبلغ. لكن ما الفائدة؟! قال إنه لا يستطيعُ أن يقدِّمَها له لأنه يُعِدُّ عُبُوَّةَ بنغال خضراء استعدادًا لوفاته، لأن اللون الأخضر هو علامةُ خُلُوِّ الطريق. فهو يرى أن الإنسان ليس حُرًّا إلا في أن يموت". كذلك تقول روزا في حديثها مع ألبرتو: "أترى أن الإنسان يمكن أن يثق بأحدٍ في هذه الأيام؟ ما أستطيعُ أن أقولَه لك هو أنني أفكر أحيانًا في أن أفتح النافذة وألقي بنفسي منها".

      والموضوع الثاني هو الموقف المعرفيُّ للبطل (ألبرتو) إزاء ما رآه من أحداث قتلٍ وسرقة، فهو يكتشفُ مرّةً واحدةً أنّ ما رآه كان حلمًا، وكما تتبدّد أدلّة إدانة أُسرة (تشيماروتا)، تتبدد معها الصبغة المادية لما رآه (ألبرتو)، فهو لا يملك حتى دليلاً على أنّ ما رآه كان حلمًا. ويتضح هذا في قولِه للويجي حين سأله إن كان متأكدًا من أنه كان يحلم: "إنني لا أملك أدلّة. هذا متأكدٌ منه تأكُّدي من وجود الله".

     باختصارٍ، يضعُنا دي فيليپُّو في قلب أزمة الوُجود البشري. فأشخاصُ مسرحيتِه لا يستطيعون التواصُلَ فيما بينهم كما لو كانوا فقدوا اللُّغة بدرجاتٍ متفاوتة، كما لا يشعرون بحُرّيّةٍ إلا في التخلُّص من حياتِهم. والشخص الوحيد الذي يتحول إلى هدفٍ مشترَكٍ لتواصُل أفراد الأسرة المتهمَة هو ذلك الذي (حلَم) وآمنَ أنه كان يحلُم، فتجرَّدت معرفتُه من الأدلّة المادية التي يتطلبُها الواقعُ بقيُودِه وتحولَت إلى إيمانٍ مُتعالٍ على مثل هذه القيود. ربما حاول (دي فيليپُّو) منذ أكثر من سبعين عامًا أن يلفتَنا إلى الواقع الإنسانيِّ المثير للشفقة بضغط الحياة المادية وقيودِها، وأن ينبهَنا إلى أنَّ المَخرَجَ منه هو الحُلم - وهو المُعادلُ المعرفيُّ للإيمان تبعًا للنسَق البنائيِّ لهذه المسرحية، ويبدو أنه المفهومُ الأكثرُ ملاءمةً لعنوان المسرحية (أصوات الأعماق) – فبالإيمان/ الحُلم فقط يُرجى أن يعود الدفءُ إلى حياتنا. هو نَصٌّ تسامى على حِقبتِه التاريخية وقدّم أزمة الإنسان في مستوياتٍ مختلفةٍ للتلقّي، وأظنُّ تعريبَه وبعثَه على خشبة المسرح مُثريًا لحياتنا المسرحية والرُّوحية.

                                                   محمد سالم عبادة  14/1/2019

نُشِر في صحيفة (مسرحنا) الصادرة عن الهيئة العامة لقُصور الثقافة في 17 يونيو 2019


Sunday 1 August 2021

الكاتبُ يُحكِمُ نَصَّه: قراءة في مسرحية (مسرحية في القصر) لفَرَنتْسْ مُلْنار

 

"- مانسكي: ولكنّ الحياةَ ليست كلُّها مسرحا.
- توري: بل هي كذلك يا عزيزي إذا كنتَ تكتبُ للمسرح! هل تعرف ما يقول ألفونس دوديه في مذكراتِه؟ عندما وقف ذلك الكاتب الفرنسي إلى جوار أبيه وهو على فِراش الموت، لم يَدُر بخَلَدِه سوى فكرةٍ واحدةٍ ليس غَير، وهي أن ذلك الموقف يَصلُحُ مشهدًا رائعًا للمسرح."


     حين بدأ برتولد بريخت يكرّسُ فكرة التغريب ويدعو إليها
Verfremdungeffekt -والتي يُقالُ إنه استقاها من الشكليِّين الروس وتحديدًا شْكْلُوڤسْكِي Shklovsky، كان رائدُهُ في هذه الدعوة هو إحداثُ انفصالٍ عاطفيٍّ بين الجمهور وما يشاهدُه على المسرح، فيصبح الحُكم النقديّ الذي يُصدِرُه المتلقّي على أفعال أشخاص المسرحية صادرًا عن العقل الواعي للمتلقّي، لا عن عاطفتِه وتوحُّدِه الانفعاليِّ مع هؤلاء الأشخاص. وكانت الآلية التي اعتمدَها لإحداثِ هذا الأثَر التغريبيّ/التحييديِّ هي تجاهُل ما يُسَمَّى في العُرف المسرحي (الحائطَ الرابعَ)،  - وهو الحائط الافتراضي الذي يفصل الممثلين عن الجمهور، فيَسمح للجمهور بمشاهدة الممثلين ويمنع الممثلين من التفاعل مع الجمهور - ويكونُ ذلك بمخاطبة الجمهور مباشرةً أو لفت نظَرِه إلى الطبيعة التخييلية لما يُمثَّلُ أمامَه، أو باختصارٍ، يكونُ بتذكير الجمهور طيلةَ الوقت أنَّ ما يشاهدونه مسرحيةٌ، لا حقيقة. ولَمّا كانت النقطة الأبرز في مقارنة التراجيديا بالكوميديا هي أنّ الأولى تعملُ على تجنيد عاطفة المشاهِد، بينما تتسلل الكوميديا إلى عقلِه الواعي عاريًا من العواطف، فإنّ الكوميديا في أي زمانٍ ومكانٍ تنطوي بالضرورة على قَدرٍ من الأثَر التغريبيّ، هذا إذا سلَّمنا بصحّة تلك النقطة في مقارنة المأساة بالملهاة.
     في هذا النصّ المسرحيّ الذي أبدعَه الكاتب المجريَ مُلنار
Ferenc Molnár  (1878 – 1952) وترجمَه (محمد فتحي) إلى العربية عام 1961، يعمَد المؤلّف إلى كَسر إيهامِنا وتغريبِنا منذ السطور الأولى في الحِوار. الحكاية باختصارٍ تدورُ حول كاتبَين مسرحيين شريكين في الكتابة (شاندور توري ومانسكي) يذهبان إلى قصرٍ على شاطئ الريفييرا الإيطالية بعد الانتهاء من تأليف مسرحيتهما الغنائية، بصحبة موسيقار فرقتهما المسرحية (ألبرت آدم) خطيب الممثلة الأولى للفرقة (إيلونا سابو) التي نزلت إحدى غرف القصر قبلهم. وبطريقةٍ ما، يعرف الممثل الكبير (ألمادي) بوجود (إيلونا) فينجح في الحصول على دعوة لحضور الحفل الكبير الذي يعتزم الكونت صاحبُ القصر إقامتَه وتشترك (إيلونا) في إحيائه بغناء أغنيتين. ونعرفُ أنّ (ألمادي) كان يُعطي (إيلونا) دروسًا في الإلقاء في بداية مشوارها المسرحي، وأنّ علاقةً حميمةً كانت تجمعُهما، رغم فارق السّنّ بينهما، ورغم أنه متزوّجٌ وأبٌ لأربعة أطفال. يتطفّل (ألمادي) على (إيلونا) التي تصُدُّه في البداية لأنها أصبحت خطيبة الموسيقيِّ الشاب (آدم)، لكنها سرعان ما تنصاعُ جزئيًّا لرغبتِه في إعادة علاقتهما القديمة، ولسوء الحظّ يسمعُ ما يدورُ بغرفةِ (إيلونا) من حوارٍ غزَلِيٍّ كلٌّ من توري ومانسكي وآدم، حيثُ يكتئب هذا الأخير ويسهرُ ليلتَه مفكرًا فيما عسى أن يكون التصرف الأمثل تجاه خطيبتِه الخائنة. (توري) يعتقد أنّ ما حدثَ يشكّل أزمةً كبيرةً للفرقة، فـ(آدم) ألمَحَ إلى تفكيرِه في تمزيق المدونة الموسيقية التي أنجزَها للأوپريت، كما أنّ حالتَه النفسية المحطمة تهدد بنضوب مَعِين إلهامِه، وهو ما يعني عُطلاً في الفِرقة. يفاجئنا (توري) باهتدائه إلى حلٍّ بالِغِ الغرابة لهذه الأزمة، يَعرِضُه على (إيلونا) و(ألمادي) الذي يستدعيه (توري) مهددًا إياه بإرسال برقيةٍ إلى زوجتِه يكشفُ لها فيها ما اطّلَع عليه من مسلك الزوج الخائن. يهاتِف (توري) (مِل) كبير تشريفاتيّة الكونت ومنسَق الحفل ليغيّر برنامج الحفل، فبدلاً من أن تغنّي (إيلونا)، ستمثل مع (ألمادي) مسرحيةً قصيرةً من تأليفِه، حيث يأتي ما سمعَه (آدم) من حوارٍ بينَ إيلونا وألمادي ضمن حوار المسرحية، وبالتالي يقتنع (آدم) بأنّ ما سمعه بأذنيه كان مجرد پروڤة في غرفة إيلونا لهذه المسرحية. يعكف ألمادي وإيلونا على حفظ دورَيهما وتنجح خطّة (توري) العبقري، وتنتهي المسرحية و(ألمادي) قد انسحب من حياة إيلونا، وتزول زوبعة الفنجان التي عكّرَت صفو علاقتِها بآدم.
     في تقديري، تجسّد الحكاية التي أبدعَها (مُلنار) ذلك التوتُّر الحتميّ بين كاتب النص ّالمسرحي من جِهةٍ، والممثلين من جهةٍ أخرى. طبيعةُ الأمور تقتضي أنّ الممثلين حين يقومون بأدوارِهم في مسرحيةٍ ما، يحاولون  -بوعيٍ أو دون وعيٍ- الإفلاتَ من قبضةِ النّصّ، ويكونُ هذا بالارتجال والخروج عن النصّ، ويَصِلُ في أقصى مداهُ إلى كَسر الحائط الخامس، بمعنى إحالة الجمهور إلى الأعمال التمثيليّة السابقة للممثلين إن كانوا يَحظَون بشعبيةٍ جارفةٍ أو على الأقل معروفين لدى جمهورهم جيّدا. لن نعدم أمثلةً على هذا التصرُّف في المسرح والسينما، وكلُّنا يتذكّرُ الفنان (عادل إمام) في (الواد سيد الشغال) وهو يُحيلُ الجمهورَ إلى فوازير ألف ليلة وليلة التي اشترك في بطولتها الفنان (عمر الحريري)! المهمُّ أنّ هذا التوتُّر يُعَبِّرُ في جوهرِه عن صراعٍ بين حُرّيّتَين: حريّة الكاتب من جهة، وحرية الممثل من الأخرى، ومن وجهة نظرٍ وجوديّة، يحاولُ كلٌّ من الطرفَين تحقيقَ وجودِه بفرضِ كلمتِه – ومِن ثَمَّ حُرّيّته- على أرض الواقع، وعلى حساب الآخَر بالضرورة. ما يفعلُه البطل (توري) بالضبط هو أنه يستعيدُ زمامَ الأمور من الممثلين، فهو لا يُدرِج ما ارتجلوه على خشبة المسرح في نَصّه المسرحي، وإنما يتعدى ذلك إلى مُصادَرَة ما قِيلَ داخل غرفة نوم الممثلة، في قلب خُصوصِيَّتِها الشخصيّة، ليُصبِحَ جزءًا من نصٍّ مسرحيٍّ يُبدِعه، وكأن ما تفوّه به ألمادي وإيلونا إن هُو إلاّ جزءٌ من حِوارٍ كتبَه هو أزَلا! ألا يُحيلُنا هذا إلى إشارةٍ قرآنيةٍ طالما أثارت الجَدَل بين منتقدي الإسلام والمُدافعين عنه، وهي الآية 52 من سورة الحَجّ وما يرتبط بها من حادث الغرانيق: "وما أرسلنا من قَبلِك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلاّ إذا تَمنَّى ألقى الشيطانُ في أُمنِيَّتِه فيَنسَخُ اللهُ ما يُلقِي الشَّيطانُ ثُمَّ يُحكِمُ اللهُ آياتِه، واللهُ عليمٌ حَكيمٌ"؟! تبعًا لوجهة نظرِ قراءتنا في أحداث هذه المسرحية، يبدو المخلوقُ - سواءٌ أكان النبيَّ أم الشيطانَ - ممثّلاً لا يدري من أمر نفسه إلا قليلاً، قاصِرَ العلم تمامًا ولا يرى أبعدَ من أنفِه، بينما الأمرُ كلُّه بيَد الله. ولنَعُدْ سريعًا من استطرادتِنا!
     ثَمَّة إشاراتٌ في حوار (توري) مع الممثِّلَين إلى هذا القَهر الذي يُمارِسُه عليهما بصفتِه كاتبَ النص المُنقِذ لسمعتِهما ولعلاقة الخطيبَين، فإيلونا مثَلاً تُشيرُ إلى سطرٍ في النصّ تقولُ فيه لألمادي: "إنّ قُبلتَك تدعو إلى الاشمئزاز" بينما الحقيقةُ أنها قالت في غرفة نومها: "إنها تذكّرُني بقبلاتِك الأولى، حلوةٌ حارّةٌ كالنبيذ الساخن"، ويعقّبُ ألمادي: "أنت تصفُ قُبلَتي بأنها تدعو إلى الاشمئزاز. أحبُّ أن أعرفَ لماذا"، فيرُدّ (توري): "هكذا أراها، فأنا مؤلّف المسرحية، وهذا هو رأيي في قُبلتِك". هو يَنسخُ ما قِيلَ داخل غرفة النوم ليُحكِمَ نَصَّه كما يليقُ بإرادة الكاتب!

     كذلك هناك تبرُّم (ألمادي) أثناء الپروڤة بطُول الأسماء الفرنسية في النّصّ الذي يمثلانِه، والذي نَحَلَه (توري) للكاتب الفرنسي (ساردو Victorien Sardou) مستغِلاًّ عدم إلمام (مِل) منسّق الحفلة بأعمالِ هذا الأخير، وليُبعِد عن نفسِه أمامَ (مانسكي) و(آدم) شُبهةَ تلفيق النّصّ لإنقاذ الموقف. يَخلع ألمادي قبعتَه وقفّازَيه ويضع السَّوط (وكلُّها من لوازم الدور) ويقول: "هذا شيءٌ مُخجِل. أن أُضطَرَّ إلى أن أردد هذه الأسماء اللعينة من البداية للنهاية، بينما هي لا تقولُ إلا (اسمك)"، مُشيرًا إلى أسماء مثل (المركيز چان فرانسوا جيليت دي لاتور دارجان، سيّد بيريچود دي شابينيون وسانت سوبليس دي لاجراند بارمنتيير)! هكذا يُلقِي الكاتبُ ممثِّلَه في أَتُون التجربة المسرحية بكل ما تتسِم به من مبالَغَةٍ وإسرافٍ في التمثيل إذا جاز التعبير، فيتقزّم وجودُه الحقيقيٌّ ويتحول إلى شيءٍ أقربَ إلى الدُّمية في يد الكاتب الذي يملك الخيوطَ كُلَّها. المُلاحَظ أنّ (توري) يشيرُ في موضعٍ من حديثِه إلى أنه للمرة الأولى في حياتِه يكتبُ لغرضٍ غير أنانيٍّ، فهو يبتغي إنقاذ قلب الموسيقي (آدم) وسُمعة (إيلونا) وأُسرة (ألمادي)، لكنّا نعرفُ أنه إن لم يكُن ذهنه قد تفتّق عن هذا الحلّ العبقري لكان مجهودُ الأيام الفائتة على زمن المسرحية -والذي بَذَلَه مع شريكه (مانسكي) و(آدم)- قد ضاع سُدى، فهو في التحليل الأخير مُخلِصٌ للحالة المسرحية إجمالاً، ومُخلِصٌ لمكانته ككاتبٍ مسرحيٍّ بالتحديد.
     إشارةٌ أخرى لطيفةٌ إلى هذا الإخلاص للحالة المسرحية تأتي مع تكرار نسيان (توري) اسمَ خادم القصر (يوهان دْفُورِنتْشِكْ). هنا الكاتب المسرحيُّ الذي تذكَّرَ بالحَرف الواحدِ الحِوارَ الذي سمعَه عبر حوائط الغرفة الرقيقة لممثلتِه يفشلُ أو يتظاهرُ بالفشل في تذكُّر اسمِ الخادم. في رأيي أنَّ هذه إشارةٌ إلى أنّ وعيَه مُنصَبٌّ بالكاملِ على ما يَخدُمُ نَصَّه، وكلُّ ما عدا ذلك لا يَعنيه، ونتفهّم صنعةَ اللطافة التي خلق بها (مُلنار) هذا الأثَر حين نعرف أن أسماء أبطال هذه المسرحية كلَّها أسماء مجَريةٌ خالصة (شاندور-إيلونا سابو-ألبرت آدم-ألمادي)، إلا فيما يتعلق بـ(مانسكي) المُوحي بأصلٍ سلافيٍّ، واسم الخادم الغريب (دْفُورِنتْشِكْ) الآتي من إقليم السلاف الشمالي (التشيك وپولندا تحديدا)، فكأن غُربةَ الاسمَين معادلٌ سياقِيٌّ لطيفٌ لغربة الشخصَين عن الحالة المسرحية، لاسيَّما أنّ (مُلنار) يجعلُ (مانسكي) أخَفَّ وزنًا وأميَلَ إلى الكسل العقلي من شريكِه بطل المسرحية (شاندور توري).    
     نحنُ في حضرة نصٍّ مسرحيٍّ كوميديٍّ يُعَدُّ مثالاً صارخًا على الميتا-مسرح، ويطرح ما يطرحُه الميتا-مسرح من أسئلةٍ حول الحقيقة وأصالةِ الإبداع وطبيعة الحُرّيّةِ والوجود. باختصارٍ، هو نَصٌّ مُنفَتحٌ على مستوياتٍ مختلفةٍ للتَّلقِّي، جديرٌ بالبقاء والتَّمَثُّل وإعادة القراءة ما بَقِيَت الإنسانية بأسئلتِها الأبديةِ الشائكة.  

محمد سالم عبادة

24 يناير 2019

نُشِر في صحيفة (مسرحنا) إلكترونيًّا في 25 فبراير 2019

Sunday 11 July 2021

بُشرَى (سارة)



أيا قمرُ

أتُدهَشُ لو يكونُ مُحاقْ؟!

ضياءُ الخالدينَ اليومَ يُولَدُ، أمسِ يُولَدُ، إذ سيُولَدُ في غَدٍ قدَرُ ..

ضياءُ الخالدينَ لَعُوبْ!

أيا قمرُ

زهورُ الدوحةِ النُّفَساءِ تختمرُ ..

يدُ الطفلِ المُحِبِّ بذاتِهِ تهتزُّ، تقتدِرُ ..

يكونُ عِناقْ ..

وتُرسَمُ في الفضاءِ قلُوبْ ..

وتسري بين دفّاتِ الخليقةِ أنجمٌ وطُيوبْ

تأمَّلْ سَورةَ الغضَبِ!

إذا ما سالَ في عَرَصاتِ جسمِ الماردِ الخلاّقْ ..

يُقَطِّبُ إذ تسيلُ دماهُ غَضبَى، فهوَ جِدُّ قَطُوبْ ..

وتُولَدُ بين عينيهِ انحناءاتٌ .. وتُبتَسَرُ

إذا بُسِطَ الرِّضا في الأفقِ يا قمرُ ..

وقد يحتالُ كَي يُنسِي الجُلُوسَ مِزاجَهُ الأوَّلْ ..

فيَقبِضُ كفَّهُ الرَّعناءَ ثُمَّ يَرُوحُ يبسُطُها، ويَعتَذِرُ ..

ويضحكُ مثلَ طفلِ الدوحةِ النفَساءِ، ثُمَّ يُراقْ

على أشداقِهِ الغَنّاءِ ميلادٌ لأنغامٍ، تَشُبُّ، تَشيخُ، تحيا في حِمَى الأشداقْ ..

هو الميلادُ يا قمرُ ..

قديمٌ لحنُهُ الفِردوسُ مُبتكَرُ ..

وتعرفُهُ بجوهَرِهِ، وتشهدُهُ بأعصُرِهِ، وتأتي بعدَها ثَمِلاً وتُدهَشُ لو يكونُ مُحاقْ؟!

تدلّلْ أيها القمرُ

ضياؤكَ يسحرُ الدنيا إذا ما مِلتَ في ترفٍ لنا وأبَنتَ عن عُرقُوبْ ..

وحينَ ضَحِكتِ قائمةً تَرَسَّلَ ذُو الجلالِ وقالَ: "بَشَّرناكَ بالميلادِ في إسحاقْ ..

وبالميلادِ في يَعقُوبْ!"                                  

 10/4/2006

محمد سالم عبادة

.......................

ضمن ديواني (أفنيتُ عُمري واقفا) الفائز بثالثة المسابقة الأدبية المركزية لهيئة قصور الثقافة عام 2016.

 صدر عن مؤسسة (هنداوي) في مارس 2021، وهو مُتاح للقراءة والتحميل على موقع المؤسسة:

https://www.hindawi.org/books/19413607/

 

Sunday 27 June 2021

فَتق Hernia

 



تبَّتْ يَدا حَمَّالِ هذا الحَطَبْ     وبطنُهُ أمُّ الرَّدى واللَّهَبْ

وكِيسُهُ المملوءُ مِن كُلِّ ما     تَزهَدُهُ الأنثى دواةُ الذَّهَبْ

أحشاؤُهُ على الطِّوَى، أو بها     تَعمِيرةٌ مِمّا حَسَا أو كَسَبْ

لكنها في كلِّ حالٍ تَشِي     بأنَّهُ عبدٌ لهذي القِرَبْ

يا سُرَّتي يا نَبعَ أقصُوصَتي     أُحصِرتِ والنَّبعُ المُرَجَّى نَضَبْ

الكتلةُ الحمقاءُ لا تَرعَوي     لضغطةٍ باليَدِ ذاتِ النَّصَبْ

قَد أوهَنَتني إذ أناخَت على     جِدارِ عُمري الفارِهِ المُغتَصَبْ

وأخمدَتني عندما أسرعَتْ     كالنارِ حتى صَفَنِي المُجتَنَبْ

سَعَلتُ فالتاثَتْ خُيوطُ العَصَبْ     سَعَلتُ فاهتزَّ الحَشَا بالغَضَبْ

حَزَقتُها فاسَّاقَطَت بالرُّطَبْ     حزقتُها أسكَتُّ كلَّ الخُطَبْ

ما ذلك السِّرُّ الذي لم أَصُنْ      إلا تَفَجُّرَ الفسادِ/العَطَبْ!

11/11/2009

محمد سالم عُبادة

من ديوان (ضربة مِشرَط) الفائز بثانية مسابقة كتاب المواهب بالمجلس الأعلى للثقافة عام 2014.

صدرَ حديثًا كتاب (ديوانان من الشِّعر: ضربةُ مِشرَط/ أواثِقٌ أنتَ أنَّكَ تُريدُ الخُرُوج؟)

إلكترونيًّا عن مؤسسة هنداوي، ومُتاحٌ للتحميل من هذا الرابط بموقع المؤسسة:

https://www.hindawi.org/books/62796937/

رابط القصيدة بإلقاء الشاعر في أمسية ببيت الشِّعر (بيت الستّ وسيلة) عام 2011:

https://www.youtube.com/watch?v=J1jsKW3FNVY&ab_channel=MohamedSalemObada

Thursday 17 June 2021

ثوراتُ الفنّ المضادّة: 3- ما بعد قصيدةِ النَّثر؟! – نعَم، ما قبلَها!

 

في المقال الافتتاحي من هذه السلسلةِ تطرّقنا إلى ظهور قصيدة النثر باعتبارِهِ ثورةً مضادّةً في فنّ الشِّعر، انطلاقًا من أنّ صُدفةَ اكتشافِ الإنسانِ للقافيةِ ثُمّ الوزن مثّلَت ثورةً في علاقتِهِ بالكلامِ وهيَّأتْ لفَنّ القولِ الأول (الشِّعر) أن يَظهَر. وأرى أنّه من غيرِ المُفيدِ أن يُسهِبَ المقالُ الحاليُّ في تتبُّعِ بداياتِ قصيدةِ النثرِ وصولاً إلى (شارل بودلير) ثُمّ إلى إرهاصاتِها في (الشِّعر المنثورِ) للرومانسيين الفرنسيين، أو في المرويّات المتناثرة في كتبِ التراثِ العربيّ عن (حسان بن ثابتٍ) وغيرِه ممَّن شهدوا بالشاعرية لأشخاصٍ نطقوا شِعرًا لا وزنَ فيه ولا قافية، فالكتاباتُ الزاخِرةُ بهذا الموضوع يعجزُ عنها الإحصاء. ربما سيكون هذا المقالُ في جزءٍ منه على الأقلِّ شهادةً شخصيّةً باعتبارِ كاتبِهِ مشاركًا بتجربةٍ متواضعةٍ في المشهدِ الشِّعريِّ العربيّ من قريبٍ أحيانًا، ومتابعًا من بعيدٍ أحيانا.

     في مقالها (التفكيرُ في الشِّعر بصوتٍ عالٍ) الذي ناقشَت فيه ثلاثةَ كتُبٍ لكاتبِ هذا المَقالِ بينَها ديوانٌ في شِعر الفصحى، قالت الشاعرةُ الكبيرةُ (غادة نبيل): "لو جاز القول أنا أرى الكون أقرب لقصيدة نثر من معلّقةٍ، ويمكنه أن يتفلتَ منها ليظلَّ يتعاملُ مع أحدوثاتِه وانفجاراتِه وارتطاماتِه وهو يُعيدُ تَشكيلَ نفسِهِ كُلَّ مَرّةٍ كأشكالٍ لا نهائيةٍ مِن التعبير، هذا الكون لا يحرم نفسه انضباطا محسوبا كى لا تنتهى الحياة، لكنه حتى وهو يريد بلوغ نقطة النهاية، نهاية الوجود يتعلمُ كيف يُحَرر نفسه كلَّ مرّةٍ مادُمنا لم نصل بعد لانتهاء الحياة".

     سيطرت هذه الجملةُ على وعيي طويلاً وخلَصتُ منها إلى سؤالَين:

أولاً: تخبرُنا نظريّةُ الشواش Chaos Theory بأنّ الأشكالَ الكُسَيريّةَ Fractals  - وهي أشكالٌ معقَّدةٌ إلى مالانهاية، وتمتازُ بتشابه الكلِّ مع أجزائهِ على كلِّ المستويات- هي أقربُ إلى الفوضى الجميلة التي تعِدُ بقابليّةٍ محدودةٍ للتنبُّؤِ بالاحتمالاتِ الإحصائية Limited Predictability، وتكادُ تمثّلُ النمطَ الحاكمَ لكلِّ شيءٍ في الكون، وهو ما تسمّيه شاعرتُنا في الجُملة السابقةِ (انضباطًا محسوبًا)! فلماذا لا يكونُ الشكلُ العموديُّ في الشِّعر العربيِّ وما يماثِلُهُ في شعرِ اللغاتِ الأخرى أقربَ للتعبيرِ عن الكونِ في عمومِه؟! لاسيّما أنّه يتمتعُ بهذا التشابُه للكلّ مع أجزائهِ على مستوى الشكل، كما أنَّ وحدةَ القافيةِ تحُدُّ بدرجةٍ ما من إمكانات التنبُّؤِ بنهايةِ كُلِّ بيتٍ دون أن تَحجُرَ عليها!

ثانيًا: وهو سؤالٌ يحاولُ أن يَخطُوَ خطوةً أبعدَ من سابقِه. لماذا أصلاً يجبُ أن تُحاكِيَ القصيدةُ الكون؟! ألا يعودُ بنا هذا القهقرى إلى نظريةِ المحاكاةِ عند أرسطو بشكلٍ ما؟!

     في مقاله (نحوَ تصوُّرٍ عن ما بعد الحداثة) يضعُ الناقدُ المصريُّ الراحلُ د.إيهاب حسن جدولاً اختزاليًّا للفوارقِ بينَ الحداثةِ ومابعدَها في شكلِ مفرداتٍ متقابلةٍ، بينها (التناسُلِيّ/ القضيبيّ) Genital/Phallic في عمود الحداثةِ، وأمامَه (متعددُ الأشكال/ مزدوجُ الجنس) Polymorphous/ Androgynous في عمودِ ما بعد الحداثة، وكذلك (القصد) Purpose في الأوّل وأمامه (اللعِب) Play في الأخير. الشاهدُ أنّ الإبداعَ فيما بعد الحداثةِ يقبلُ كُلَّ الأشكالِ الممكنة ولا يخاصِمُ التراثَ معرفيًّا ولا جماليًّا، كما أنّ المُبدِعَ يتعاقدُ مع ذاتِهِ ومع جمهورِهِ على اللعب الذي تتغيرُ قواعدُهُ مع كلِّ لعبةٍ، وربّما يتبنّى قواعدَ لعِبٍ قديمةً لكي يلعبَ بها لعبةً جديدةً، وهكذا!

     ما نحاولُ تأمُّلَهُ هنا هو عودةُ الشِّعر العموديِّ للظهورِ بقوّةٍ في المشهدِ الشعريِّ العربيّ في العِقدَين الأخيرين، بعد قطيعةٍ معرفيّةٍ وجماليّةٍ معه رفع لواءَها كثيرٌ من أعلام الشعر العربي لا سيّما شعراء قصيدةِ النثرِ منذُ الأربعينياتِ إلى وقتِ كتابةِ هذا المقال. بينَ الأسماءِ البارزةِ عربيًّا في هذه العودةِ من مصر (سيد يوسف) و(سمير فرّاج) و(ضياء الكيلاني) و(أحمد بخيت) و(علاء جانب) و(حسن شهاب الدين) و(شريف أمين) و(أحمد حسن محمد)، ومن العراق (مسار رياض) و(هِزَبر محمود) و(ياس السعيدي)، ومن لبنان (مهدي منصور) ومن المغرب (محمد عريج) و(أحمو الحسن الأحمدي) ومن العربية السعودية (جاسم الصحيح) و(محمد إبراهيم يعقوب) و(حيدر العبد الله) وغيرُهم كثيرون من مختلِف الأقطار العربية. لكثيرٍ منهم إبداعٌ في قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر،كما لبعضهم إبداعٌ في حقولٍ أدبيةٍ غيرِ الشِّعر، إلاّ أنّ إخلاصَهم لقالَب العمودِ الشِّعريِّ جديرٌ بالالتفات والتأمُّل. لماذا يحدثُ هذا الآن؟ وماذا نسمّيه؟ نكوصًا ثقافيًّا عامًّا؟ أم رِدّةً جماليّةً تتجاوبُ والرِدَّةَ المعرفيّةَ المسيطرةَ على هذه البقعةِ من العالَم؟ أم ثورةً مضادّةً للثورةِ المضادّة المتمثلةِ في قصيدة النثر؟!

     تعمدتُ سَوقَ الخِيارَين الأوَّلَين لأنهما كثيرا الدوَران على ألسُن من تبنَّوا موقفًا سلبيًّا من قضية الشِّعر (الموزون)، لكنّ تامُّلَ موقفِ هؤلاء الشعراءِ المذكورين أنفسِهم من قصيدة النثر ومن انفجار القوالب الأدبيةِ عامّةً كفيلٌ بدَحضِ هذين الخيارَين. في حوارٍ لمجلةِ (العربية) معه قال (جاسم الصحيح): "قد يحضُرُ الشِّعرُ وتغيبُ القصيدةُ" يعني تجلّيَ الشِّعر في قوالبَ أدبيةٍ غير القصيدة، وهو ما يشي بسَعَةِ أفقٍ وانفتاحٍ على كل مسارب الأدب. كذلك نجدُ لـ(حسن شهاب) إنتاجًا كبيرًا في قصيدةِ النثرِ منه ما نُشِرَ في مجلة (الشِّعر) المصرية، بجوارِ إنتاجِهِ المعروفِ في القصيدة العمودية. وفي الحقيقةِ ثَمَّ وعيٌ حادٌّ لدى كَثرةٍ من الشعراءِ بحالةِ الاستقطابِ المُفتعَلَةِ بين قصيدة النثر وأربابِها من ناحيةٍ، وأربابِ القصيدة الموزونة عموديّةً وتفعيليةً من ناحية، ربما يعبّر عنه (أحمد بخيت) شِعرًا في قصيدته (حارسُ الضوء) من ديوانه (الأخيرُ أوّلاً): "كتبتُ عن الخوفِ تعويذةً .. تليقُ بآخِرِ مُهرٍ حرُونْ/ ومِن حقِّ حُرّاسِ وَهمِ الحداثَةِ إقصاؤها عن رصيفِ الفُنونْ/ ففي العُودِ مُتَّسَعٌ للجميعِ .. وفي اللحنِ يُمتَحَنُ العازِفُونْ". إنها أبياتٌ تشبهُ بيانًا شديدَ اللهجةِ موجَّهًا إلى من يُقصُون الشِّعرَ الموزونَ خاصّةً العموديَّ خارجَ ساحةِ الإبداع. ربما اختارَ (بخيت) مفردةَ (الحداثَةِ) لارتباطِها أساسًا بفكرةِ تشظّي العمل الإبداعيِّ، حتى إنَّ (ما بعد الحداثة) في إحدى نسخِها تعتمدُ هي الأخرى فكرةَ (انهيارِ السرديّاتِ الكُبرى) كما قدَّمَها (چان-فرانسوا ليوتار) في كتابِهِ (حالةُ ما بعد الحداثة: تقريرٌ عن المعرفة) عامَ 1979. وأذكُرُ بشكلٍ شخصيٍّ وَقعةً حدثَت في ندوةٍ لمناقشةِ ديوانِ الشاعرة العراقيّة نجاة عبد الله (مناجم الأرَق) – وهو ديوانٌ يضمُّ قصائدَ نثرٍ ومضيّةً متماسَّةً مع قصيدةِ الهايكو اليابانية – حين انبرى ناقدٌ مصريٌّ لتدشين الديوانِ مصرِّحًا بأنّ مِثلَ هذه التجاربِ وحدَها هو ما يستحقُّ الالتفاتَ بصفتِهِ شِعرًا، وأنّ أولئكَ الذين مازالوا يقيمونَ بناء قصيدةٍ عموديةٍ يحاولُ الشموخَ هم خارج دائرة الإبداع! والواقعُ أنّه بهذا التصريحِ وقعَ في خلطٍ شائعٍ في تلقّي مبدأ انهيارِ السرديات الكبرى كما يقعُ غيرُهُ في خلطٍ مشابهٍ في تلقّي كلّ الأوصاف النقديّة المُكَرَّسَة. فَـ(ليوتار) صاغَ هذا المبدأَ استجابةً لواقعٍ إبداعيٍّ وثقافيٍّ حاولَ وصفَه في لحظتِهِ التاريخيةِ المتعيِّنة، ولم يكن يقصدُ توجيهَ الأدبِ الذي سيُكتَبُ من بعدهِ كُلِّهِ وِجهَةً بعينِها!

     الحقُّ أنّ تجاوُزَ مُسَلَّماتِ (الحداثة) الشِّعريّة يسمحُ بالتجريبِ في كلّ القوالب والأشكال وخارجَها أيضًا (وبالتالي خلق قوالب جديدة)، وهو تجاوزٌ لِلَطميّاتِ الحداثةِ على الإنسانيةِ والعالَم، فمِن حقّ كُلّ شاعرٍ أن يبنِيَ العالَمَ داخِلَ نَصِّهِ حسبَما يتراءى له. وهذا الانفتاحُ الإبداعيُّ الذي لا يخلو من تفاؤُلٍ يتراسَلُ فيه الشِّعرُ مع الفنونِ كافَّةً، وربّما يكونُ تيارُ الواقعية المُفرِطة Hyperrealism في الفنون البصريّة واحدًا من أهمّ تجلّياتِ هذا التجاوُز حيثُ لا يخلو العملُ المُفرِطُ في سخريتِهِ من الواقعِ من نزعةٍ تفاؤليّةٍ ضمنيّةٍ تبشّرُ بتغييرٍ محتمَلٍ إلى الأفضل.

     الخلاصةُ أنّ هذا المقالَ يرى المرحلةَ اللاحقةَ على تسيُّدِ قصيدةِ النثرِ ورفض أربابِها ما سِواها، يراها تحتفي بتجاوُرٍ بين القوالب الشِّعرية المختلفة لا يُستَبعَدُ فيهِ الآخَرُ، وربما يُراوِحُ فيها الشاعرُ بين هذه القوالبِ جيئةً وذَهابًا داخل النصّ الواحدِ بما يخدُمُ قضيتَه الجَماليّة ويُسهِمُ في إنشاء عالَمِه الخاصّ. ويرى المقالُ أنّ اللحظةَ التاريخيةَ التي صرّحَ فيها الشاعرُ الكبيرُ الراحل (حلمي سالم) خلالَ لقاءٍ تليفزيونيٍّ بأنّ اليمينَ المحافظَ للمشهدِ الشعريِّ تمثلُهُ القصيدةُ العمودية، والوسطَ تمثلُهُ قصيدةُ التفعيلة، واليسارَ التقدُّمِيَّ تمثِّلُهُ قصيدةُ النثرِ، يرى أنّ هذه اللحظةَ ليست نهايةَ تاريخِ المشهدِ الشِّعريِّ العربيِّ، فما هي إلاّ لحظةٌ عابرةٌ، والأقربُ إلى تصوّرِ كاتبِ المقالِ أنّ اليمين والوسطَ واليسارَ المُشارَ إليها تمثّلُ ما يشبهُ القضيةَ وعكسَها Thesis and Anti-Thesis في الجدل الثلاثيّ الهيجلِيّ، ومحكومٌ عليها ببزوغ مُرَكَّبٍ منها Synthesis كما ينتهي دائمًا كلُّ جَدَل! 

...................

محمد سالم عُبادة

نُشِر في مجلة (فنون) الصادرة عن الهيئة المصرية العامّة للكتاب

في كانون الثاني/ يناير 2017


Tuesday 8 June 2021

ثوراتُ الفنّ المضادّة: 2- چيم كاري .. قناعٌ بشريٌّ لبطلٍ كارتونيّ

 


      مازلنا مع ثوراتِ الفنّ المضادّة التي بدأنا الحديثَ عنها في المقال السابقِ بـ(مايكل چاكسون) نموذجًا في الغناءِ والرّقص، وننتقِلُ في هذا المقالِ إلى السِّينِما، وتحديدًا إلى التمثيلِ الكوميديّ، حيثُ ينصَبُّ حديثُنا على الفنّان الكنَدِيّ الأمريكيّ (چيم كاري) أحد أهمِّ كوميديانات هوليوود .. بدأ حياتَه الفنيةَ المعروفةَ قائمًا بكوميديا الوقوف Stand-up Comedy واشتُهِرَ بقدرته على تقليدِ حركاتِ كبار الممثّلين، ومَن رآه على خشبةِ المسرحِ يُولي الجمهورَ ظهرَهُ قليلاً ليعود بتعبيراتِ وجهِ واهتزازاتِ جسَدِ (چيمس دين) - بطلِ أفلام الستينيات الأشهر – لن ينسى هذه الخبرةَ أبدا!

     في واحدةٍ من أهمِّ محاولاتِ الفلسفةِ لتفسيرِ ظاهرةِ الفكاهةِ، يَخلُصُ الفيلسوفُ الفرنسيُّ العظيمُ (هنري برجسون) في كتابِهِ (الضحِك .. البحثُ في دلالةِ المُضحِك) إلى أنَّ الباعِثَ على الضحكِ يكونُ دائمًا فُقدانَ المرونةِ الإنسانيّة لصالِحِ التحوُّلِ إلى صرامةِ الآليّة، وهو يستعرضُ مع قارئه عشراتِ المواقفِ التي تطفحُ بها المسرحياتُ الكوميديّة وغيرُها ليُبَرهِنَ على صحةِ نتيجتِه، فبَخيلُ (موليير) يُضحِكُنا لأنه يجاوزُ الحدَّ المعقولَ (الإنسانيَّ) من الحِرصِ ليتحولَ إلى ما يشبهُ مِسخًا آليًّا وظيفتُهُ الحفاظُ على المال، والكاريكاتير لوجهٍ بشريٍّ يُضحِكُنا لأنّه يُبالِغُ في إبرازِ ما استحَت الطبيعةُ أن تُبرِزَهُ من ملامحِ الشخصِ الغريبةِ، ففنّانُ الكاريكاتير تلتقطُ عيناهُ في دُربةٍ أنفَ ذا الأنفِ الطويلِ ويرسُمُهُ موغلاً في الطُّولِ حتى كأنَّهُ خرجَ في صورةِ الكاريكاتير من قبضةِ الطبيعةِ الحانية ليَخضعَ لقصورِهِ الذاتيِّ كتُرسٍ مخلوعٍ في ماكينةٍ معطلَةٍ فيستطيلَ زيادةً حتى يجاوزَ الحدَّ الإنسانيّ ..

     كانت الثورةُ التي اجتاحَت السينما – ذلك الاختراعَ الوليدَ في بدايةِ القرنِ العشرين – هي الرسوم المتحركة .. الكارتون .. أشخاصٌ وكائناتٌ من ورَقٍ تفعلُ ما تفعلُهُ كائناتُ اللحمِ والدمِ وأكثرَ منه .. ولأنها كائناتٌ متحررةٌ من رِبقةِ اللحمِ والدمِ، فإنَّ حركاتِها إلى حركاتِنا تُعَدُّ مبالَغَةً أصيلةً لا فِرارَ منها .. إذا ضحِكَ الإنسانُ على شاشةِ السينما وضحكَ رسمٌ متحركٌ لإنسانٍ في فيلمِ كارتون، غلبَت ضحكةُ الثاني الذي من طبيعتِهِ المبالغةُ في تعابيرِه .. ولأنَّ إدراكَ الأطفالِ لدقائقِ التعبيرات البشريةِ هو بالضرورةِ أقلُّ من إدراكِ الناضجينَ بحُكم عمرهم العقليّ، فإنَّ انجذابَ الأطفالِ لأفلام الرسومِ المتحركةِ لا يُقارَنُ، حيثُ جَنةٌ متفتحةٌ أمامَ إدراكِهم البريءِ بالفعل.  

     ونعرفُ من أدبياتِ التمثيلِ المسرحيِّ أنه كذلك ينطوي على قدرٍ من المبالَغةِ بحُكمِ الطبيعةِ الخاصةِ للوسيطِ، حيثُ الجمهورُ بعيدٌ فيزيقيًّا عن الممثلين، وبالتالي لابُدَّ من إظهار التعبيراتِ المختلفةِ بقدرٍ من المبالغة .. ولذا يُعاني ممثّلو المسرح المحنَّكُونَ صعوبةً حين ينتقلون للعمل في السينما، حيثُ التعبيراتُ تقدَّرُ بقدرِها الحقيقيِّ وليسَت (أكبرَ من الواقع Bigger than Life) كما في المسرح .. يُذكَرُ أنَّ (هنري فوندا) مثلاً وجدَ صعوبةً شديدةً في القيامِ للسينما بنفس الدور الذي لعبه على المسرح في مسرحية/ فيلم (اثنا عشرَ رجلاً غاضِبا 12 Angry Men) ..

     نعودُ إلى بطلِنا (چيم كاري) ..

     الثابتُ أنَّ أفلامَه متكررةُ الفوزِ بجائزةِ (اختيار الأطفالِ كأحسنِ فيلم) تحديدًا .. وهو ما يُثيرُ سؤالاً عن السِرِّ في هذا التكرارِ، أيكمُنُ في طبيعةِ الحبكةِ أم خصائصِ الصورةِ مثَلاً، أم في شخصِ الممثِّل؟!

     دعونا نتأمّل (چيم) في مشهدٍ من (كاذبٌ كاذِب Liar Liar)، واقفًا في المحكمةِ كمُحامٍ يستجوِبُ رجلاً متهَمًا بممارسةِ الفاحشةِ مع موكِّلَتِه .. لا يُمكِنُ بحالٍ أن نقولَ عن طوفانِ الحركةِ والكلامِ الذي يخرُجُ من هذا المحامي إنَّهُ مبالغةٌ مسرحيّة .. المبالغةُ المسرحيةُ في غير موضعِها على المسرحِ تبدو فجّةً ومصطنعةً، بينما هذه المبالغةُ أمامَنا تبدو متماشيةً مع سياقٍ عامٍّ يرسُمُهُ (چيم) لدورِهِ في هذا الفيلم، كما يرسمُهُ حولَ كلِّ أدوارِهِ تقريبًا إذا كسَرنا الجدارَ الخامسَ كما يقولُ أهلُ الصنعةِ وتأمّلنا مجملَ أدوارِه .. هو سياقٌ كارتونِيٌّ (يُبالِغُ في المبالغةِ) إذا جازَ التعبير ..

     في مشهدٍ من (سلسلةٌ من الأحداثِ التعيسةِ لـ(ليموني سنيكيت) Lemony Snicket's A Series of Unfortunate Events) يجلسُ (چيم) في دورِ (الكونت أولاف) الممثلِ السيءِ ليقولَ لبطانتِهِ: "من سيقومُ بدور الكونت الأكثر وسامةً في العالَم؟!" .. يقولُها وهو يَفرِدُ رِجلَهُ في حركةٍ تختزلُ وتستدعي آلافَ الصفحاتِ المرسومةِ للكونت (دراكيولا) كما تصورَهُ (برام ستوكر) ببنطالِ حُلّتِه الضيقِ الأنيق .. حركةٌ بسيطةٌ واعيةٌ وعيًا خارقًا، أسمّيهِ بالأحرى (وَعيًا أَكُولاً) لما أَظهرَهُ من نهَم صاحبِهِ لاستيعابِ الظواهرِ وتشخيصِها بالتالي .. وهو تشخيصٌ كارتونيٌّ أيضًا لأنه (يُبالِغُ في المبالغةِ) جَريًا على نفس طريقةِ أداءِ (چيم) التي أصبَحَت علامةً على حضورِه.

     في الحقيقةِ يبدو أنَّ رَبطَ أداء (چيم) الكوميديِّ بعالَم الرسوم المتحركةِ ليسَ جديدًا كُلَّ الجِدَّة، فإن كان هذا المقالُ يتَّخِذُ من هذا الرَّبطِ ركيزةً ينبَني عليها تحليلُنا لفرادةِ نموذجِ (چيم) وخصوصيّةِ شخصيّتِه ككوميديان، فقد كانت هناك إرهاصاتٌ لهذا الرَّبطِ مِن قَبلُ، على الأقلِّ فيما أورَدَته الدكتورة (كيرستن تومپسون) في الفصل العاشر (التحريك Animation) من المجلّد الأول من كتاب (الكوميديا: دليلٌ جغرافيٌ وتاريخي Comedy: A Geographical & Historical Guide ) الّذي حرّرَه (موريس تشارني)، حيثُ تُشيرُ (تومپسون) إلى فيلم (القناع The Mask) الذي يجسّدُ فيه (چيم) شخصيّةً كارتونيّةً أساسًا، تتمتّعُ في الفيلم بخصائصِ أبطالِ الكارتون الحركيّة كاللقطات المتطرّفة extreme takes (العيون التي تجحَظُ حتى تغادر جماجم أصحابِها/ الأطراف التي تطير من أجسام أصحابها لتعود إليها/ إلخ)، ومطّاطيّة الأعضاء rubberhosing (كالرءوس القادرة على الانتفاخ كالبالونات والأرجُل المتمددة كالجوارب المطاطية rubberhoses) .. وفي رأيِي المتواضعِ أنّ علاقةَ (چيم) بعالَم الكارتون لا تقتصرُ على هذا المَلمَحِ فقط، وإنما هو يستثمرُ خصائصَ الكارتون المعتمد على المبالَغَة في كثيرٍ مِن آليّاتِ الإضحاكِ المُشتَرَكة بينَ عالمَي الكارتون والسينما الحيّة .. في الفصلِ نفسِهِ من الكتابِ المذكورِ سابقًا تُعَدِّدُ (تومپسون) عشرةَ عناصر اعتمدَ عليها الإضحاكُ في الكارتون .. وليس علينا إلاّ أن نجدَ من الذاكرةِ مباشرةً نموذجًا واحدًا لكلِّ عنصُرٍ استَثمرَ فيه (چيم) مُيُولَه الكارتونيّة .. فأوّلاً هناك كوميديا الشخصيّة personality، ونجدُه في (غبيّ وأغبى Dumb & Dumber) يرسمُ شخصيّةَ الغبيّ بملامحِ الوجهِ المبالَغِ فيها، ابتداءً من طريقةِ تصفيف الشَّعر البسيطةِ التي تنمُّ عن استسهالِ صاحبِها الشديد، إلى بروز الأسنانِ عند ذوي الاحتياجاتِ الذِّهنيّةِ الخاصّةِ ممّن تسببت الأمراضُ الوراثيّةُ في إعاقتِهم ..

     وثانيًا، هناك كوميديا الدعائم غير الحيّة Props المعتمدة على مفارقاتٍ حركيّةٍ تقومُ بها الأجهزةُ والآلاتُ المرسومةُ في المشهد الكارتونيّ .. وفي (إيس فنتورا: حين تنادي الطبيعة Ace Ventura: When Nature Calls) نرى (چيم) خارجًا من مؤخّرةِ نموذجِ الخرتيت الآليّ الذي يقودُهُ بنفسِهِ للتّخَفّي، فيعتقدُ الحاضرون في المشهد أنّهم إزاءَ لحظةِ ولادةِ خرتيتٍ صغير، لتُثيرَ المفارقةُ الكارتونيّةُ لدينا ما تثيرهُ من الضحك ..

     وثالثًا، هناك الإحالاتُ الثقافيّةُ والتّناصّ Cultural References & Intertextuality .. نتذكّرُ بسهولةٍ مشهدًا من (غبي وأغبى) حيثُ يقولُ (چيم) لصديقه (چِفْ دانيِلز/ هاري) عن شخصٍ ما: "لقد أكلتُ كَبِدَهُ مع طبقٍ جانبيٍّ من الفول المدمَّس والكيانتي chianti"، وهو اقتباسٌ لأحدِ أشهرِ أسطُر حِوار فيلم (صمت الحِملان Silence of Lambs)، قالَه (أنتوني هوپكِنز) لـ(چودي فوستر) محذِّرًا إيّاها من الإلحاحِ عليهِ بالأسئلة .. المهمُّ أنّ (چيم) و(چِفْ) يُتبِعانِ هذا السَّطرَ بحركة مصمصةِ الشِّفاهِ التي قامَ بها السّير (هوپكِنزْ) في ذلك المَشهدِ العَلامة، لكن بمزيدِ مبالَغَةٍ كارتونيّةٍ لا تُخطئُها العَين ..

     بالتأكيدِ لا يمكنُ أن نتنقَّصَ الأدوارَ المِحوريّةَ للمُخرجين وكُتّابِ السيناريو وفنّاني الماكياچ والمُصَوّرين وغيرهم من ممثلي العناصر الهامّة في إنتاجِ أفلامِ (چيم كاري)، لكن يَبقَى المُعَوَّلُ الأساسيُّ في الثورةِ الأدائيّةِ التي نحنُ بصَدَدِها على الممثّلِ نفسِهِ الذي استفادَ بالتأكيدِ من كُلِّ تُراثِ كوميديا المبالَغَة السابقِ عليه – سواءٌ بشكلٍ واعٍ أو غيرِ ذلك – من أوّلِ متوارَثاتِ الكوميديا المسرحية الإيطاليّة Commedia dell'Arte التي تسرّبَت إلى الممارسة الكوميدية السينمائية، إلى كوميديا الرسوم المتحركة، وأضافَ بصمتَه الخاصّةَ التي احتفَت بشكلٍ لا يُجحَدُ بالمبالغَة الكارتونيّة ..

     هي ثورةٌ مضادّةٌ لأنّ صاحبَها يمثِّلُ غزوَ (الكارتون) لعالَم الفيلم البشريّ .. مبالغةٌ في المبالغةِ، تفترضُ متلقِّيًا يتأمَّلُها فيختزلُ لاوعيُهُ في كلِّ لحظةٍ تاريخَ السينما وظهورَ الكارتون وغلَبَتَهُ القائمةَ أمامَهُ فتتولّدُ لديهِ قابليّةٌ للضحِك، وحين يحدثُ هذا فهو يقبلُ بالتبعيةِ اتفاقًا ضمنيًّا مع (چيم) على أن يرتدَّ طِفلاً يُدرِكُ التعابيرَ من خلالِ الإمعانِ في المبالغة، وهنا لا يملِكُ المشاهِدُ إلاّ أن ينفجِرَ في الضحِك حينَ يُفقِدُ (چيم) شخصياتِهِ حدودَ عَجزِها الإنسانيِّ/ مُرونتِها كما يَعرِفُ البَشَرُ أنفُسَهم، ويَغمِسُها في عالَم الكارتون الساحر ..

 

محمد سالم عبادة

9 أكتوبر 2016

نُشِرَ في العدد الثامن من مجلة (فنون) الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 2017