Monday 29 May 2017

البساطةُ طريقًا إلى الشيطان: قراءة في رواية (ن=∞ف) لكريم الصياد


* بنية الخيال العلمي وتحققها في الرواية:    
     في تقديري، يتعلق الخيال العلمي دائمًا بدرجةٍ من القفز على الاستحالة المعرفية Epistemic Impossibility كما يعرّفها منطق الموجِّهات Modal Logic. بمعنى أن الكاتبَ يخطو فوق قضيةٍ مستحيلة الصدق بحسب ما توافر للبشر معرفته حتى لحظة الكتابة. ويتقاطع هذا التصور مع مفهوم (النقلة النوعية) الذي طرحه (توماس كون) في (بنية الثورات العلمية)، وكان يعني به التغير الجذري في التصورات الأساسية والجزئيات التجريبية في نظامٍ علمي ما. يتحقق هذا في الحدَث العلمي الرئيس في روايتنا وهو اكتشاف البطل تركيب الروح باعتبارها (مادة أخرى/ أنيما) أقرب في تكوينها إلى الهواء المذاب في الماء، ويقع تركيبها الجزيئي في خمسة أبعادٍ تشترك في أربعةٍ منها مع مادة عالمِنا المحسوس، ووجودها في بنية أغشية الخلايا الحية، وبالتالي القدرة على التمتع بالخلود لو تحوّل كائن معقد كالإنسان إلى مستعمرة من الكائنات وحيدة الخلية (أميبا عملاقة) تعمل كلٌّ منها على البقاء حيّةً بمفردها بفعل رفع مستوى الأنيما/ الروح في أغشيتِها. تأتي الاستحالة المعرفية من حقيقة أنّ العلوم المتفرعة عن الأحياء تكاد تكون قتلت تكوين الأغشية الحية بحثًا، ولا دليل على صحة هذا الكشف الخيالي من واقع ما وصلت إليه المعرفة في هذا الحقل. وتأتي النقلة النوعية من تصوُّر أنّ كشفًا كهذا يستلزم انحرافًا ما في مسار البحث البيولوجي لا يمكننا الآن التنبؤ بطبيعته.
     أول إشارات الاستغراق في المُناخ العلمي في هذا العمل عنوانه (ن=ف) فضلاً عن القسم الأخير منه المكتظّ بالإثباتات المصوغة في شكل البراهين الرياضية. يبدو هذا الاستغراق طاردًا لشريحة كبيرة من القراء لا تطيق أن تصطدم في رواية – حتى لو كانت من الخيال العلمي – بما يظهر في صورة الحِجاج العلمي الصارم. ويعزز هذا قدرًا من النخبوية في الرواية.
* أسماء الأبطال ولعبة السرد:
     يلفت انتباهنا في البداية اسما البطل (محمد عبد الله) وسكرتيره (محمود جبريل). لا يخفى أنهما يحيلان إلى اسم نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، وملَك الوحي في الديانات الإبراهيمية. لا نملك إلا أن نفترض قلبًا يتعمده الكاتب لتراتب الوحي، فالبروفيسور هو النبي والسكرتير هو الملَك، فيما يمثّل انتصارًا من جانب الكاتب للإنسانية المتعينة على الغيب.
     لعبة السرد هنا تقع في ثلاثة مستويات/ أقسام: الأول (اكتشافٌ ما) هو رواية (جبريل) للأحداث، والثاني (أمسياتٌ غيرُ حميمة) مذكّرات (محمد)، والثالث (فلسفة السفر عبر القدَر) هو كتاب (محمد) الواقع بين الاكتمال والنقص.
     اسم القسم الأول بما ينطوي عليه من تنكير يلائم الإيحاء بالغيبية الذي يثيره اسم (جبريل). ويعضّد هذا التصور اختيارُ جبريل لمقولةٍ بعينها لـ(محمد)، يتحدث فيها عن رؤية الفيلسوف (برجسون) للميتافيزيقا باعتبارها "ليست وجودًا مفارقًا بعيدًا فوق العالَم أو وراءه، وإنما وجودٌ حول كل شيء، وكل شيء حوله هالة ميتافيزيقية سُمكها بضعة سنتيمترات" واعتزام محمد أن يكتشف "الطبيعة المزدوجة للحياة: مادة-مادة أخرى" على غرار اكتشاف برجسون، واكتشاف الفيزيائيين "الطبيعة المزدوجة للجسيمات: جسيم-موجة". المعروف من تحوّل (برجسون) من اليهودية بلاهوتها الصارم إلى المسيحية بدوجماها المركزية حيث حلول اللاهوت في الناسوت واتحادهما في كيان المسيح – على خلافات المذاهب في التأويل – يتجاوب ونسقه الفلسفي العام ورؤيته للميتافيزيقا، وهو ما يتجاوب بدوره وانتصار الكاتب للإنسانية على الغيب في اختيار اسم (محمد) للبطولة و(جبريل) للسكرتارية!
     يتحقق هذا التصور بكثافة في أحداث ولغة سرد القسم الأول حيث يقول (جبريل) عن الصحفية الألمانية (أنجربودا) التي ستصبح زوجة (محمد) فيما بعد: "أعترف أنني حين رأيتها تذكرتُ الله"، ويقول عن (محمد): "لقد أصر أن يبهرها بعقلـه المتضخم الـذي يكـاد ينبجس من
جمجمته كما أبهرته بجمالها الذي يكاد ينضـح مـن جلدها، أعتقد أنه نجح إذ كنت ألمحها في المرآة تبرق وتبرق حتى تكاد تضيء دون أن تمسها نار" في إحالة قرآنية واضحة إلى مثَل نور الله في سورة (النور). هنا تمثل المرأة الغيب بنوره الذاتي، كما تمثل استعصاءه على الإدراك في جملة يعلّق بها (جبريل) على نسيان (محمد) اسمها: "إنه ينسـى اسم أي امرأة بعـد نصف دقيقـة، وهو قدير على أن ينسى كل شيء عنها في نصف ساعة". كذلك يتحقق في التناصّ مع أساطير الشمال الأوربي Norse Mythology في اختيار اسم (أنجربودا) زوجة (لوكي) إله الظلام الذي تسبب في مقتل إله النور (أودين Odin). ففي الأسطورة يخترق (لوكي) النور/ الغيب، ويعذَّب لأجل ذلك عذابًا أبديًّا، يدفع كاتبَنا إلى الربط صراحةً بينه وبين معادِلاته الموضوعية في الديانات الإبراهيمية وأساطير اليونان حيث يقول: "وهكذا، مسيح مقلوب، بروميثيوس شمالي".
     نعود إلى نقطة الانتصار للإنسانية، وانعكاسها على علاقة (جبريل) بـ(محمد) في الرواية. يقول (جبريل): "صرت أجلس مثله وأتحدث مثله وألتهم طعامي مثله، فلو عرفت كيف يدخل الحمام لدخلت مثله"، ما يذكّرنا بمفهوم السّنّة الجِبِلّيّة في الإسلام، والتي كان أشهر متّبعيها الصحابي (عبد الله بن عمر). نحن أمام علاقة تبعية ممثل الغيب (جبريل) للإنسان/ النبي (محمد)!
     أما القسم الثاني (أمسياتٌ غير حميمة) فيرصد مذكرات (محمد) عبر اعتزامه المرور بتجربة الحَقن بالأنيما/ الرُّوح، ومروره بها بالفعل، وخضوعه للاختبارات الإكلينيكية التي تؤكد نجاح التجربة، ثم استسلامه لوسواس حلمه القديم في الكشف عن سبب اللون الأسود للفضاء - وهي مشكلةٌ عرفها تاريخ علوم الكون بالفعل وتُعرف باسم (مفارقة أُلبِرس Olbers
 Paradox) – ووصوله إلى حلٍّ لها يتمثل في أن الكون يشبه علبةً مغلقةً طُلِيَت حوائطها بالأسود، وعكوفه على بحث إمكانية الفرار من حوائط هذا الكون، وبالتالي الفرار من القدَر، وأخيرًا ظهور الشيطان شخصيًّا في حياته طالبًا منه أن يمنحه الخلود والهرَب من القدَر معه!
     القسم الثالث (فلسفة السفر عبر القدَر) ينطلق من نظرية M وهي أحدث نظريات علوم الكون، وهي غير مكتملةٍ إلى الآن حتى أن أحد روادها وهو (إدوارد ويتن) يقترح أن يشير الحرف M إلى السحر أو الغموض أو الأغشية magic/ mystery/ membrane لحين وصول النظرية إلى صياغتها النهائية!
     المهم أن هذه النظرية تقول بأن كوننا هذا ليس الوحيد الممكن فيزيائيًا، بل هناك غيره الذي تشكّل وتلاشى فور ظهوره لأنه غير مستقر. كونُنا سينفجر يومًا ما هو الآخر لأنه يتمدد باستمرار ولذلك يقول (محمد): "هذا الكون الذي نعيش فيه ليس كونًا حقيقيًا. إن الكون الحقيقي في نظر الله لابد أن يكون مســتقرا، وأن يأتيه أمر الله بالفناء من خارجـه، هذا الكون الـذي نحياه مجرد بروفة، نحن نعيش على شظيةٍ متخلفة من طَرق مادة الوجود على سـندان الفـراغ. نحن فقاعة نَمَتْ وطَفَت حين غلا الكون الحقيقي غليانًا باردًا في العتمة، ومع ذلك فمن حقنا أن نعيش". هنا تبرز نية (محمد) في انتزاع حقّ الحياة الحقيقية بالقوّة. وهنا يبرز تأويل علمي محتمَل للنصوص المقدسة التي تبشّر بالجنة، حيث هي كونٌ بديلٌ تمامًا، حقيقيٌّ تبعًا لرؤية (محمد) الرواية. وهنا أخيرًا – بعد أن مررنا باستعراض (مفارقة أُلبِرس) وحل البروفيسور (محمد) لها -  تبزغ في أذهاننا آيةُ سورة الرحمن: "يا معشرَ الجِنِّ والإنسِ إن استطعتُم أن تنفُذُوا مِن أقطارِ السماواتِ والأرضِ فانفُذُوا، لا تنفُذونَ إلاّ بسُلطانٍ. يُرسَلُ عليكما شواظٌ من نارٍ ونُحاسٌ فلا تنتصِرانِ". ما تسفر عنه المعادلات المستفيضة في هذا القسم هو أنّ النفس يمكن ردّها رياضيًّا إلى الخوف اللانهائي (ن=ف) وهو الخوف من الخوف من الخوف ....، والمعرفة كذلك هي لانهائية الخوف، وس ه (سرعة الهرب من الخوف/ القدَر/ أقطار السماوات والأرض/ الكون الزائف) تساوي صِفر. والخلاصة أنه لابد من إيقاف حركة جزيئات (الأنيما/ المادة الأخرى) لكي تعبر الروح إلى عالمٍ آخر. المفارقة هنا أنّ هذه المعادلة تجعل الإنجاز المتحقق بالفعل لـ(محمد) وهو الخلود في هذا الكون يساوي لاشيء، حيث يكون الخلاص في الموت! إذَن وسيلتنا للعبور إلى الكون الحقيقي هي الروح (التي يصفها محمد في القسم الأول بأنها كاليد داخل القفّاز، تمنحنا الحياةَ كدُمَى)، والسلطان الممنوح لعبور الروح من الأقطار هو الموت، وبهذا تكتمل دائرة بحث (محمد عبد الله) وينتهي – على وجه الحقيقة – بخيبة المسعى، حيث يظلّ عبدًا للقدَر الذي أراد الفرار منه!
     الظهور التدريجي للشيطان في الفصل الثاني بعد نجاح تجربة الخلود ظهورٌ متوقَّع في الحقيقة على خلفية الإنظار القرآني المعروف: "قال ربِّ أنظرني إلى يومِ يُبعَثون. قالَ فإنك من المُنظَرين. إلى يوم الوقت المعلوم"، لكنه يمثل إغلاقًا لدائرةٍ أخرى بدأت باعتناق (محمد) فلسفة (برجسون) في الميتافيزيقا حيث لا تحلّق هذه بعيدًا عن الأشياء وإنما هي حالةٌ موجودةٌ حول كل شيء. ظهور الشيطان – بشكلٍ ما – يدحض هذه الفلسفة، فهاهو الكيان الميتافيزيقي الأوفر حظًّا من الكراهية واقفٌ وجهًا لوجهٍ أمام (محمد)، وليس هو جانبه الشرّير أو أطماعه مثلا! إنها خيبة المسعى هنا أيضا! هذا إذا لم نعتبر أنّ هذا الظهور هلوسةٌ فصامية بدأ (محمد) يعانيها بعد نجاح التجربة، لكنّ موت هذا الأخير بطريقةٍ غريبةٍ (والدخان الأسود يخرج من فِيه) يفترض عنصرًا غير محسوبٍ في تجربة الخلود، ويجعلُنا كمتلقّين أميلَ إلى رفض مسألة الهلوسة الفصامية.
     المدهش هو تذييل القسم الثالث (فلسفة السفر عبر القدَر) برسالة إلى (أنجربودا) يطلب فيها الغفران ويختمها بقوله: "اغفري لنفسِك إذن أنني كنتُ خائفا. وهذا لا ذنبَ لكِ فيه. لهذا أنا لن أنالَ الغفرانَ أبدا". هنا تماهٍ تامٌّ مع الشرط الوجوديّ للشيطان (إبليس) في الوعي الديني، حيث هو كائنٌ أبلسَ بالفعل من الغفران، فضلاً عن تذكيرِنا برمزية المرأة في الرواية كتجَلٍّ للغيب/ النور الإلهي الذي يتوجه إليه البطل بطلب الغفران ويعلن يأسه من القبول.
* النسق الفكري الحاكم للرواية:    
ما يحدثُ في الرواية هو أنّ (محمد) يبحث عن البساطة (تحول الإنسان المعقد في تركيبه إلى أميبا عملاقة وظيفيًّا)، ليحصل من خلالها على الخلود، وحين يصل إليه يقرر أن هدفه ليس ذلك وإنما الوصول إلى الكون الحقّ حيث يتجلى الله برعايته وأنّ ذلك لن يحدث إلاّ بنبذ تعقُّدٍ آخر كامنٍ في طبيعة الكون الذي نعيشه ومعرفتنا به، وبالتالي فقد كان يُفترَض أنّ البساطة هي الطريقُ إلى الله. لكن ما يفاجئنا – رغم تبريرات ظهور الشيطان المُشار إليها آنفا – أنّ البساطة كانت في الحقيقة طريقًا إلى الشيطان. لقد تعالى البطل فوق الحضارة بتعقدِها ليصل إلى الله، لكنه وصل إلى الشيطان بدلاً من ذلك! هنا يمكننا أن نقول إن هذا اختيارٌ واعٍ من الكاتب وليس وليدَ صدفة كتابة. الكاتب أخرج لنا الشيطان ليغير مسار الأحداث ويقلبها رأسًا على عقِب، على غرار الحيلة المسرحية اليونانية القديمة (الإله من الآلَة theos ex machina)، لكن هنا يخرج الشيطان من الآلة (Diaboli ex machina)!
* جنسانية الرواية وعلاقتها بنسقها الفكري:
     ثمة إشاراتٌ جنسانية في الرواية يصعب إغفالها، لأنها وثيقة الصلة باختيار (كريم الصياد) أن ينحاز إلى جانب الشيطان ويُحبِط مسعى البروفيسور (محمد). في القسم الأول يروي (جبريل): "لاحظـتُ كيف صـار يستمع إلى الحركة الثالثة من سيمفونية تشايكوفسكي السادسة"، "حدثني كثيرا من قبل عن هذه الحركة بالذات وهو يرتجف: -المارش الشـيطاني، هـــذه الحركـــة لابُد وأن تصور المارش الذي يقوده الشـيطان إلى الجحيم، إنها موسيقى مخيفة، ومع ذلك قادرة على إحياء الجماد"، "إن هذا الرجل- يقول الدكتور عــــن تشايكوفسكي- كــــان وراء الرجل والمرأة لأنه كان شاذًا، فصار بهذا أقرب إلى الشيطان". هنا يرتبط الشذوذ الجنسي بالشيطان بالجنون في النسَق الفكري الحاكم للرواية. إذا تابعنا تصورَنا الذي أسلفناه عن المرأة باعتبارها الغيب أو ممثل النور الإلهي، فإن العلاقة الحميمة للرجل (باعتباره ممثل العقل أو الإنسانية في مقابل الألوهية) بالمرأة تعني إرادةَ هتك حجاب الغيب، وبالتالي مزيدًا من الحضارة وانتصارًا للعقل. وبهذا، تكون العلاقة الجنسية بين الرجل والرجل علامةً على عقلٍ ينتهكُ عقلاً، وبالتالي فهي منذرةٌ بالجنون، وهي تنصُّلٌ من فصل الحضارة بين الدور الجنسي للذكر والأنثى، وبالتالي رِدّةٌ إلى حالةٍ من البدائية/ البساطة. هذا التصور يتجاوب مع المفهوم المعاصر للمتَصل الجنساني sexuality continuum حيث تفترض طبيعة الأشياء انتفاء التقسيم الحادّ للأدوار الجنسية، ولا يأتي الفصل الحاد إلا ناتجًا للاصطلاح المجتمعي/ الحضاري. المعروف عن هذه السيمفونية أنها تُعتبَر في بعض الأوساط تعبيرًا عن بطولة المثلية الجنسية، كما يعتبرها بعض مؤرخي الموسيقى سيمفونيةً ينعي فيها تشايكوفسكي نفسه، وهو الذي قيلت في طريقة موتِه الأقاويل، وأشهرُها أنه مات منتحرًا بعد أن حكمت عليه محكمة الشرف بأن ينتحر، جرّاء تحرشه الجنسي برجُلٍ ما، كما قيل في تأويل برمجة هذه الموسيقى أنها تعبيرٌ عن عواطفه الجنسية المتفجرة الحزينة في الوقت ذاته تجاه (بوب دافيدوف) ابن أخته (ألكساندرا)! أمّا هذه الحركة الثالثة تحديدًا فهي الوحيدة في السيمفونية الخالية من السلالم الصغيرة Minor Scales فهي بين سلّمَي صول الكبير ومي الكبير، وبذلك فلونُها متحرر تمامًا من الحزن الذي تصطبغ به بقية حركات السيمفونية، كما أنها تُعزف بسرعة شديدة الحيوية Allegro molto vivace. كل هذا يؤهلُها تمامًا لتكون معادلاً موضوعيًّا لاقتراب ظهور الشيطان وانحياز (كريم) له.
     كذلك حين يصرّح (محمد) في مذكراتِه: "إنّ مجدَ ما أنا مقدِمٌ عليه سيمحو كل ما سبقه من أمجاد، كما قال مونترلان Montherlant". الاقتباس من أحد أشهر أيقونات الشذوذ الجنسي في تاريخ الأدب الفرنسي والعالمي، (مونترلان) الذي اشتُهر بآرائه الحادة التي تحط من قدر النساء حتى أفردت (سيمون دي بوفوار) فصلاً بعنوان (مونترلان: أو خُبزُ الاحتقار) من الجزء الثالث (الأساطير) من كتابها النسويّ العمدة (الجنس الثاني) لدراستها! إنه (مونترلان) الذي مات منتحِرًا كذلك بطلقةٍ في الرأس بعد ابتلاع سُمّ السيانيد.
     جماع هذه الإشارات يجعلنا من ناحيةٍ نتوقع انتحارًا ما (وحقيقة المعادلة النهائية هي الانتحار كما قلنا)، ومن ناحيةٍ أخرى يكرس فكرة انتصار الشيطان بشكلٍ ما.
* عن هاجس تصنيف الرواية:
     قُدّر لي أن أطّلع على بروفات غلاف هذه الرواية، وكان التوصيف الأول "مِن أدب الرُّعب". بالتأكيد يتحقق الرعب الوجودي والفيزيقي هنا بكثافة. ثمة مشاهد تتواصل مع إرث سينما الرعب في وضوح. منها مشهد الشيطان ورقبته تميل إلى كتفه ليظلّ في وقفته ساكنًا ساعاتٍ
طويلةً، كما يحدث في مشهدٍ رهيبٍ من فيلم Paranormal Activity، وحدَث تشوه ابنة البطل في رحم أمها يشبه بشكلٍ ما تشوه الوليد في فيلم Rosemary's Baby. الرعب هنا نتيجةٌ لصدمة الخارق للمألوف. الأحداث التي يصعب أن نتوقع ما يليها تصيبُنا عادةً بالرُّعب والرغبة في إنهاء الموقف برُمّته.
* التواصل مع منجَز الكاتب خارج الرواية:
     ختامًا، نزيح قليلاً الجدار الخامس – بلغة أهل المسرح – بين كاتب روايتنا وبين أعماله السابقة. نجدُ استمرارًا لفكرة اليأس من الغفران/ خيبة المسعى إلى الله في قصيدته (الفرقة الناجية) من ديوانه (منهجٌ تربويٌّ مُقترَحٌ لفاوست): "عن جميع الناس أنّي لن أرَىٰ اللهْ/ لن أراهُ أبدًا
حتى إذا قامَ الجبلْ/ وإذا شقتْهُ آبادُ المللْ/ وإذا صار ترابًا نثرتْهُ الريحُ يومًا في المُقلْ/ وإذا ظل قرونًا يكتملْ/ وإذا قيلَ له: كنْ، فامتثَلْ/ لن أراهُ، لن أراهُ أبدًا في أيّ مرآهْ!"، وهو مقطعٌ مكتنزٌ باللوعة الوجودية، يتجاوب مع مضمونها شكلُها الإيقاعي حيث تمتدّ تفعيلة الرمَل (فاعلاتُن) مع لفظ الجلالة وما يوافقُه في الرّوِيّ لتصبح (فاعلاتان). الديوان مهتمٌّ بعلاقةٍ خاصةٍ مع الشيطان كما يشي اسمه، كما أنّ بقيةَ العنوان: "بقلم: أنتَ تعرفُ مَن" يتجاوب مع الجملة التي قالها الشيطان في مشهد الحديث الأول بينه وبين بطل روايتنا "من أنتَ؟/ أنت تعرفُ مَن"!
     كذلك نجد الموتة الغريبة للبطل المتمتع بأصالة الفكر في قصةٍ بعنوان (بئر لَملَم) في مجموعة قصصية هي (الرجال Y) لكاتبنا، حيث منح (كريم) بطل القصة اسمَ نبيٍّ هناك أيضًا (إسماعيل) ليتناصّ مع قصة (بئر زمزم) الإسلامية تناصًّا مقلوبًا يكرّس لعنةً وجوديةً يصابُ فيها البطل بمرضٍ كأنه صُمِّمَ خصّيصًا له، هو سرطانُ الزجاج، حيث يتشقق جسده ويتكسر كالزجاج المصاب تماما!
     يظل (كريم الصياد) نسيجَ وَحدِه في منجزِه الروائي والقصصي والشعري والفلسفي. تظل لوعته الوجودية بصمةً تميزُ تجليات روحه الإبداعية. ويظلّ رعب اللعنة مطلاً برأسه من كتاباته الأيقونية. ولنا أن نتمنى له خروجًا من هذه اللوعة إلى حضورٍ أدفأ وأفقٍ أكثر ترحيبًا بالحياة.

محمد سالم عبادة

9 مارس 2017     
........
نُشِرَ في عدد أبريل 2017 من مجلة (عالَم الكتاب) الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب في مصر
     

Friday 5 May 2017

الإمعانُ في الكتابة: قراءة في المجموعة القصصية (موسيقى لليلة قصيرة) لحاتم حافظ

في مقدمة كتابها المؤسِّس (الميتا-سَرد: النظرية والتطبيق في الأدب الواعي بذاته) تقول (پاتريشيا ووه): "بشكلٍ ما، يتّكئُ الميتا-سرد على نسخةٍ من مبدأ عدم التأكُّد لهايزنبرغ، فحواها أنّه بالنسبة لأصغر الوحدات البنائية المكوِّنة للمادة، تتسبب كلّ محاولةٍ للرصد في اضطرابٍ ما في طبيعة المرصود". وبالتالي فإنه لا يمكن التحقق من وجود عالَمٍ موضوعيٍّ مفارقٍ لعين الراصد.
     هذا ما يتجلى في المستوى الأعقد من السّرد في هذه المجموعة القصصية التي بين أيدينا. المجموعة هي الثانية لمؤلفها (حاتم حافظ) والتاسعة بين إصداراته المتنوعة بين الرواية والقصة والمسرحية والمقالات البحثية. وليكون كلامنا مفهومًا عن مستوىً ما من السرد فعلينا أولاً أن نبدأ من حيث انتهت قراءة المجموعة: السرد هنا يتحقق في ثلاثة مستويات. أبسطها هو مستوى الواقع، وفوقه مستوى الحلم، وفوق الاثنين – وربما في مكانٍ محايدٍ يراهما معًا ويسخر منهما ومن العالَم ومن السرد نفسه- مستوى الكتابة!
     أما المستوى الأبسط (الواقع) فإنه يوجد بكثافة في قصتين هما (الأربعيني) و(شاي بالنعناع). أهدى الكاتب ثانيتهما إلى الراحل (إبراهيم أصلان)، وفي هذه الثانية فقط يوجد البطل البسيط الذي لا يقف ليفكر في أفعاله ثم ليفكر في التفكير أكثر ممّا (يفعل)! فقط في (شاي بالنعناع) يوجد ما يشبه (الراوي العليم) الذي لم يمنحنا قِصَر القصة فرصةً للاطّلاع على كل ما يَعلَمه. وربما لهذين السببين – وربما لسببٍ آخر لا أعرفه – أُهدِيَت هذه القصة دون سواها إلى كاتبٍ كبيرٍ راحلٍ، لتكون شكلاً من أشكال التواصل مع طريقةٍ راسخةٍ في السرد سلكها الآباء الراحلون كإبراهيم أصلان وخيري شلبي وغيرهما للتعبير عن هموم البسطاء في نصوعٍ يتناسبُ ونصوعَ خبرة هؤلاء البسطاء بالحياة، ولتكون في الوقت ذاته إعلانًا عن تدشين سردٍ جديدٍ في غير هذه القصة، يعتزم الكاتبُ أن يسلُكه بعيدًا عن طرائق الآباء.
    في (الأربعيني) يوجد واقعٌ أيصًا لكنّه واقعُ النخبة المثقفة/ المعقَّدة بالضرورة. العنوان – بما له من دلالةٍ في الوعي الجمعي تفترضُ وصولاً إلى الحكمة واقترابًا من عتبة النبوّة المنصوبة على سنّ الأربعين – يتراسل مع المحتوَى المقسّم إلى عشرة مقاطع متفاوتة الطول، تصف لحظاتٍ مختلفةً من الحوار الدائر على مقهىً بين شخصين ربما يكون أحدهما مجرّد آخر خيالي جرّده الكاتبُ من ذاتِه. المهم أنّ الحوار يصل دائمًا إلى نقطة الاحتفاء بالحَيرة والركون إلى الكآبة: "لا نكونُ أشخاصًا جيّدين لمجرد أننا نفعل أشياء جيّدةً بين الحين والحين"/ "المأساة الحقيقية تتلخص في أن العالَم لم يعد يسمح لنا بأن نستمتع بأوقات اكتئابنا"/ "ليس صحيحًا أن المعصية هي الخطيئة الأصلية، فالأحرى أنّ الوجود نفسه هو خطيئة هذا الكائن"/ "لم تعد حتى الإجابات الصعبة مناسبة للأسئلة السهلة". فهنا اللايقين هو النبوّة المرتبطة بسنّ الأربعين التي وصل إليها البطل، فهي نبوّةٌ غنوصيّةٌ أو سالبةٌ إن جاز التعبير، ربما تمتاح من بئر الإرث الغنوصيّ الحائر الموجود في مدارس التصوّف ولا سيّما الإسلامية (كالدعوة التي ينسبُها ابنُ عربيّ إلى النبي عليه الصلاة والسلام والتي ترفضُ نسبتَها فِرَقٌ إسلاميةٌ كثيرة : "اللهمّ زِدني فيكَ تَحَيُّرا"). ولا يمكن إغفال تراسل حالة الديالوج القائمة في كل المقاطع مع الدعوة القرآنية للتفكير: "قل إنما أعظُكُم بواحدةٍ أن تقوموا للهِ مثنى وفُرادى ثُمّ تتفكروا"، إذ إنّها ربما تخلقُ في المتلقي استعدادًا للتحاور مع النص وتأهُّبًا لتجريدِ آخرَ مِن نفسه على غرار ما يمكن أن يكون الكاتبُ قد فعلَه.
     مستوى (الحُلم) يضم ستّ نصوص متتالية هي (اتفاق/ خُضرة مدهشة/ الشيء الذي حدث/ إنسانية/ لجنة التحقيق/ الحرب). يعمد الكاتب في الأولَيَين إلى الديباجة الأشهر لسرد الأحلام "رأيتُني..."، ثُمّ يغفلها فيما يتلوهما، لكنّ لوازم أسلوبيةً بعينها، وفانتازيةً صارخةً في بعض الأحداث تُحيلُنا إلى عالَم الأحلام. فمن اللوازم المشار إليها التنكير المصاحب للمفردات الأساسية في الحدَث: "كنتُ وسطَ رحلةٍ ما في الصحراء/ جلستُ أمامَ لجنة تحقيق. كنتُ مديرَ تحرير موقعٍ ما في دولةٍ أوربية/ وجدتُني وسط حربٍ أهليةٍ لا أعرفُ أطرافَها ولا أعرفُ إلى أي طرفٍ أنحاز" وهو ما يضفي إبهامًا حُلميًّا على الأحداث من البداية. أمّا الفانتازية فكما في (الشيء الذي حدث): "حين اتسع مشهد موقف السيارات أمامي فوجئتُ برجالٍ ونساءٍ كثيرين كلهم يمارس الحب وكانوا جميعًا بكامل ملابسهم وأناقتهم". وهو مشهدٌ يذكّرني بالعالَم السينمائي الكابوسي لـ(ستانلي كيوبْرِك). في تقديري أن هذه النصوص هي محاولةٌ من الكاتب للإفلات من قبضة وعيه المفرط بالكتابة (والتي سنتحسسها معًا بعد قليل)، فهو يسلم نفسه لطزاجة الخبرة الحُلمية دون كثيرِ تدخُّلٍ منه فيما يبدو، ويدعُنا نطّلعُ على همومه الشخصية دون أن تُنضِجها نارُ القلَم إذا جاز التعبير، والتي من بينِها بالتأكيد السعيُ للوصول إلى مشترَكٍ إنسانيٍّ رَحبٍ مع المختلفين فكريًّا كما في (إنسانية)، والحيرةُ أمام حماقة الجنس البشري وعنفه المفرط كما في (الحرب)، والهَمّ الوطني الآنِيّ كما في (الشيء الذي حدث) حيث يقول: "لماذا اخترتم للثورة أن تكون في برج الدلو؟ لماذا؟!" إلى غير ذلك مما أدَعُ للقارئ محاولة اكتشافه.
     أما مستوى (الكتابة) أعقد المستويات الذي صدّرنا المقال بالإشارةِ إليه، فهو في رأيي المستوى الغالبُ على هذه المجموعة. يبدأ ضمنيًّا مع القصة الافتتاحية (المساء والسهرة)، حيثُ البطل مصابٌ بمرضٍ يمنعه من مغادرة الفِراش إلاّ قليلاً – ربما لتجنُّب الإصابة بقُرَح الفِراش!- ونشهد تفاعُلَه مع عالَمَين أحدهما حميمٌ تمثَله زوجته التي تساعده على الحركة وتقوم عليه، والآخَر بعيدٌ افتراضيٌّ تمثله المباراةُ التي يشاهدها في التليفزيون. هنا نشهد تفكيره في حدَث إحراز هدف المباراة في اللحظة الأخيرة، واسترساله في تصور سيناريوهات مختلفة لما حدث، وصولاً إلى سيناريوهات تتعلق بأعضاء اللجنة التي وضعت قوانين لعبة كرة القدَم! لسنا أمام بطلٍ بسيطٍ إذَن كما في (شاي بالنعناع)، وأجازف بقول إنه ما من سبيلٍ للاسترسال في تصور السيناريوهات البديلة بهذا الشكل إلا بمصاحبة قلَمٍ وورقة! إنه بطلٌ كاتبٌ وإن لم يكتب حرفًا في هذه القصة، حتى أنّ سيناريوهاته تلك تتقاطع مع حدَث هدف المباراة بشكلٍ لا يخلو من قصدية، فعضو اللجنة الذي "يأتي في اللحظة الأخيرة يرفع يدَه أو لا يرفعها فيتحدد قانون اللعبة كلُّه" هو نفسه اللاعبُ الذي سجّل الهدف في اللحظة الأخيرة من المباراة. ما يميّز هذه القصة عن بقية قصص (مستوى الكتابة) هو نهايتها المتفائلة المحبِّذة للفعل الإنساني، فالبطل الذي يشعر بإثارةٍ حسّيّةٍ تجاه زوجتِه رغمَ مرضِه يستدعي إصرار اللاعب على أن يحاول التسديد في اللحظة الأخيرة فربّما يحالفُه الحظ. يحيلني النص إلى جملةٍ في رواية (الجريمة والعقاب) قالها البطل (راسكولنيكوف): "لو أنّ كُلَّ شيءٍ تُرِكَ للعناية الإلهيةِ ابتداءً لما كان هناك فعلٌ لأي شيء!".
     مع متابعة مستوى (الكتابة) نجد الإحالاتِ إلى نصوصٍ أدبيةٍ عالميةٍ مؤثرةٍ أكثر تجسُّدًا وصراحةً، ففي (الجثّة) يحيلنا القاصّ إلى مسرحية (أميديه/ أو: كيف نتخلَص منها؟) لـ(يوجين أونسكو) في بداية القصة، ويرسم موقفًا مشابهًا لكنه يلفت أنظارنا إلى أن الكاتب البطل هنا يعرفُ من أين جاءت الجثة بخلاف مسرحية أونسكو. في تقديري أنّ هذه الجملة البسيطة تحملُ إشارةً إلى إرهاصات تيارٍ في الكتابة الأدبية/ المسرحية ربما يكون من اللائق أن نسميه (ما بعد العبث)، يتشارك مع تيار العبث في وجود الحدث العبثي، لكنّه بخلافه يُقرّ بمعرفة جذور ذلك الحدث، حيث يتنحى السؤال المعرفيُّ تمامًا (مِن أين؟) ليفسح المجالَ للوجودي (ماذا نفعلُ الآن؟). وفي تقديري أن هذا التيار (ما بعد العبث) هو بالضرورة أقلّ تشاؤميةً كما أنه ربما يحصر العبث في (عبث مجتمعي) قابلٍ للتعامل معه، لا عبثًا كونيًّا فوق طاقة البشر. رجوعًا إلى قصتنا نجدُ البطل "لم يكن بمقدوره استعادة لحظة القتل ولا تذكر التفاصيل/ علينا مشاركته التفكير في الجثة التي لم يعد هو أو نحن في حاجةٍ لوجودها في هذا المكان أو في أي مكانٍ آخر". هو موقفٌ يشبه منطلقات العلاج المعرفي السلوكي حيث المعالِج والمريضُ يبدآن من هنا والآن Hic et Nunc! ثَمّ إحالةٌ أخرى هنا إلى رواية (الجريمة والعقاب) لدوستويفسكي، كأنّ استمراءَ بطل هذه الأخيرة لقتل المرأة العجوز التي تمثّل في تصوره كيانًا طفيليًّا ضارًا بالمجتمع كان دافعًا لبطل قصتنا لاستمراء قتل صاحبة الجثّة ليكتب عنها قصة! المهم أنّ هناك حالةً من الإيغال في التأمل اللغوي من جانب البطل الكاتب/ القاتل، تضفي حيادًا ساخرًا على الموقف الذي تُفترَض فيه الكارثيّة، ويعضّد هذا الحيادَ بحثُ البطل عن آخرين (زوجته ثم أمّه) ليشاركوه العلم بوجود الجثة في بيته لعلّ هذا يخفف المشكلةَ عن كاهلِه، وهو في هذا البحثِ يمارسُ الكتابةَ أيضًا بشكلٍ ضمني، فإذا كانت الكتابة/ اللغة أساسًا وسيلةً للتواصل، فإن وجود الآخرين ومعرفتهم بالمشكلة هو تواصلٌ مباشر يحاول أن يتغلب على كارثية الموقف هو الآخَر. تخلق هذه الاختيارات من قِبَل القاصّ حالةَ (إمعانٍ في الكتابة) كأن الكتابة بديلٌ عن الفعل، وبالتالي هروبٌ من الاضطرار للفعل.
     هذا الإمعان في الكتابة يحدثُ أيضًا في (فردة حذاء ثانية)، ممتزجًا بظلالٍ من ممارسة البصبصة voyeurism حيث يتابع البطل من خلال نافذته رجلاً يحاول عبور الشارع الخطِر، وهو ما يذكّرني بفيلم (النافذة الخلفية) The Rear Window بشكلٍ شخصي. هنا نجدُ الكتابة متماهيةً مع رغبةٍ دفينةٍ في نكوصٍ طفوليٍّ إلى رؤية العالَم من زاويةٍ واحدة (مثاليةٍ ذاتيةٍ ما) تجسدها جملة: "وجود الرجُل الآخَر أربك كل التسميات. لم يعد الحق في تسمية الأشياء حصريًّا لهذا الواقف في نافذته شاهدًا على تجربة رجلٍ غريبٍ مع الموت".
     اللعبة الأكبر التي نجد أنفسنا متورطين فيها بين جدران هذه المجموعة ترتسم بين قصص (شارعٌ لا يعبره الغرباء) و(قصة قصيرة أخرى) و(عزيزي السيد حاتم حافظ). عنوان المجموعة هو عنوانٌ للمقطوعة الموسيقية الأشهر بين أعمال موتسارت Eine kleine Nachtmusik أو السيرينادة الثالثة عشرة. هي مقطوعةٌ فرِحةٌ في سلّم (صول الكبير)، وموسيقى السلم الكبير فرِحة الطابَع بشكلٍ أساسي. يحاول بطل قصة (شارع لا يعبره الغرباء) أن يستمتع بها منفردًا لكن زوجته وضيوفه لا يسمحون له بذلك، وحين ينتظر أن يختار ضيفُه موسيقى من مكتبته العامرة يختار أغنية (غريبة منسية) لنجاة الصغيرة، بكلماتها الحزينة الميلودرامية إذا جاز التعبير، ولحن (كمال الطويل) من مقام (النهاوند) وتعريجه على (الحجاز) في جملة (عيون حزينة وبال مشغول) ثُمّ (الهُزام) في كوپليه (بقى لي زمان حبايبي مشغولين عنّي)، مما يجعله واحدًا من أوفر الألحان العربية نصيبًا من الحُزن! البطل الذي لا يستسيغ اختيار ضيفه في سِرِّه، والراوي الذي يشاركه شعورَه هذا يضعاننا كمُتلقّين في قلب مفارقةٍ بين الزهد في الكلام الميلودرامي لأغنية (نجاة) والإفاضة في الكلام والتأمل اللغوي في هذه القصة وفيما سواها. ويظهرُ أنّ هذا (الإمعان في الكتابة) هو محاولةٌ لتحييد الميلودراما المبتذلة التي يفرضها العالَم على القاصّ/ البطل/ صاحب البيت، طالما أن الموسيقى الخالصةَ غيرُ ممكنة!
     يقنعنا القاص كما يقنع بطل قصته بأن سيرينادة موتسارت لها اسمٌ سلوفينيّ، ويبدأ البطل في تخيل سيناريو لعشيقةٍ سريةٍ سلوفينيةٍ لـ(موتسارت) تمشي في جنازته، ويتقاطع هذا السيناريو بشكلٍ غامضٍ مع حكايةٍ فرعيةٍ عن ابنة الضيفين التي تركت منزل أبويها ومات حصانها السلوفيني! نكتشف في (قصة قصيرة أخرى) أن كل ذلك كان خدعةً كبيرةً، فلم يكن هناك اسمٌ سلوفينيٌّ لسيرينادة موتسارت من الأساس (وهي الحقيقةُ التي حيّرتني كقارئٍ مع القراءة الأولى للمجموعة)، وإنما هي وسوسةُ الكاتب لشخصياته، في استرسالٍ صارخٍ للميتا-سَرد، تَبرُز من خلاله نزعةُ اللايقين التي حدّثَتنا عنها (پاتريشيا ووه) في بداية هذا المقال! 
     أما في (عزيزي السيد حاتم حافظ) التي تمثل رسالةً من قارئٍ ما إلى القاصّ، فهناك امتعاضٌ من كاتب الرسالة من السُّلطة التي يمارسها القاص على شخصياته واعترافه بتصليله تلك الشخصيات. وفي ثنايا الرسالة قصةٌ تبدو كأنها قصةٌ لكافكا يرويها الأبُ بدلاً من الابن الثائر. واستنادًا إلى ظاهرة تفكيك السُّلطة البادية في هذه المجموعة (انتهاب خصوصية وحصانة الكاتب/ ثورة الشخصيات على مبدعها/ فضح ألاعيب الكاتب بشكل صارخ)، يمكن أن نقول إنّ هذه الرسالة الأخيرة هي فرصةٌ عادلةٌ يمنحها (حاتم حافظ) للأب ممثل كل سُلطة ممكنة ليعبّر عن وجهة نظره.
     لا يفوتُنا أن نلقي الضوء على ثلاثة أدوارٍ مهمّةٍ تلعبُها المرأة بين أدوارها المختلفة في هذه المجموعة. الأول هو دور المُحَرِّضة المُغوِية في (الجثة) حيث الجارة التي وسوست بشكلٍ ما للبطل أن يقتُل لإيجاد جثة يكتبُ عنها قصةً، وينتظرُ الكاتبُ منها أن توسوس لكاتبٍ آخر بشيءٍ مماثل. وهي امرأةً لا تظهرُ في الحقيقة إلا مرةً واحدةً في نهاية القصة كأنها (هتشكوك) مؤنّثٌ فضّل أن يُتحِفنا بظهورٍ عابرٍ cameo appearance في أحد أفلامه! المرأةُ هنا مُخرجةُ المشهد الماكرة!
     الثاني هو دور المرأة التي يتأرجح وجودها بين الحقيقة والخيال، وهي ابنةُ الضيفين صاحبة الحصان السلوفيني/ العشيقة السرّية السلوفينية لموتسارت في (شارعٌ لا يعبره الغرباء). إنها المحور شديد اللطف لدوران أحداث هذه القصة، حتى أنها للطافتها وافتقارها إلى الجسد تذكّرني بمفهوم (الاختلاف المُرجئ) عند (دريدا)! السياقُ يفرض هذا التذكير في الحقيقة، لأنها – كالاختلاف المرجئ في فلسفة دريدا – تمنحُ الأحداثَ حقَّ الوجود دون أن يكون لها هي نفسِها وجودٌ ملموس!
     الثالث هو دور البطلة (نورا) في (قصةٌ قصيرة) حيثُ تبدأ شخصيةً غائمةً ابتكرها القاصّ بديلاً عن شخصٍ ذكَر (عامر)، وتتدرّج في التجسُّد حتى تثور في النهاية على مبدعها (حاتم حافظ) وتقرر لنفسها حق اختيار الملاءة الزرقاء، لتدفع القاصّ إلى أن يدير جدلاً حول حدود الاختيار بينه وبينها وبين الله، وكأننا في نقاشٍ حول مستويات الخَلق، وهو في الحقيقة نقاشٌ يحتدمُ بالضرورة في عالَم الميتا-سَرد كما تُخبرنا (پاتريشيا ووه) وغيرُها. لا يخفى أنّ اسم البطلة يحيلُنا ضمنيًّا إلى مسرحية (بيت دمية) لهنريك إبسن حيث تثور المرأة على وضعها الاجتماعي. أمّا هنا، فإن (نورا) تتجاوزُ ما فعلته في عالَم (إبسن) وتتصالحُ ضمنيًّا مع وضعها الاجتماعي حين تقرر ألاّ تترك الرسالةَ لأمّها وألاّ تهرب من بيت الزوجية، لكنّها تبدأ ثورةً أهدأ، ربما على تراتُبيّةٍ كونيةٍ وجدت نفسها محكومةً بها كشخصيةٍ مخلوقةٍ في قصةٍ قصيرةٍ غُفلٍ من الأسماء (فاسمُها ببساطةٍ: قصة قصيرة)!
     قبل النهاية، تَجدُر الإشارة إلى اختيار القاصّ (سلوفينيا) و(بوليفيا) في قصّتي (شارع لا يعبره الغرباء) و(عزيزي السيد حاتم حافظ). دولتان هامشيتان في النظام العالمي القائم، مع كامل الاحترام لشعبيهما! ربما هو اختيارٌ واعٍ يلفت به الكاتب انتباه المتلقّين للهامش إجمالاً، ويعكس انحيازَه لهذا الهامش.
     ختامًا، هذا عملٌ أدبيٌّ متشابكٌ مُحيلٌ إلى ذاته. يتحقق فيه السرد على مستوياتٍ عِدّة، أبسطها الواقع وأعقدُها الإمعانُ في الكتابة للهروبِ من ضرورة مجابهة الواقع، ورغم سطوة وعي الكاتب بذاته وبموضوعه، يؤصّل لديمقراطيةٍ ما من خلالِ منح السلطةِ التي يقاومُها فرصة التعبير عن نفسها. حاول الكاتبُ أن يستمتع بموسيقى فرِحةٍ لليلةٍ قصيرةٍ، لكنّ ميلودراميةَ العالَم لم تسمح له بذلك، فأمعن في الكتابة، ولم يُبقِ لنا من الموسيقى إلا اسمَها، ماثلاً أمامنا في العنوان!    
................    
 محمد سالم عبادة

11 فبراير 2017
......
نُشِرَت في صحيفة (أخبار الأدب) في 30 أبريل 2017