Saturday 19 March 2022

صُورةٌ لا تحملُ اسما

 

    


     كنتُ مُتعَبَةً للغايةِ في ذلك الصَّباح. قررتُ ألاّ أعمَلَ اليوم. سأخرُجُ فقط لشِراءِ بعض مُستَلزماتي من السُّوقِ وأَعودُ لدِفءِ المنزل. الهواءُ كَثيفٌ في الشوارع، مُثقَلٌ بالماء. كأنَّ البَحرَ يهدِّدُ الإسكندريَّةَ بإغراقِها. أمّا أنا فأشعُرُ أنّي جافَّةٌ كورقةٍ في شجرةٍ عَدا عليها الخَريف. الرَّجُلُ الذي قضى معي الليلَ أرهَقَني بمطالِبِه العَسيرَةِ دُونَ أن يَروِيَ لي غليلا. صحيحٌ أنه تركَ لي صُرَّةً كبيرًةً من المالِ، إلاّ أنه لم يَترُك في أحشائي شيئًا أتذكَّرُه به. تبخَّرَت ملامِحُهُ مِن ذاكِرَتي. لا أذكُرُ مِن تفاصِيلِهِ إلاّ يَدَه التي ناوَلَتني أُجرَتي عندَ الفَجر. هاه! لقد كان مُهَذَّبًا على أيَّةِ حال. وكانَت يَدُهُ ناعِمَةً كأيدي النِّساء. حِينَ عَرَّفَني بنَفسِهِ قالَ إنه مُشتَغِلٌ بالفلسفَةِ على مذهَبِ أرسطو، يَعهَدُ إليه عِليَةُ القَومِ بصِبيانِهم ليُؤَدِّبَهم ويُلَقِّنَهم مبادئَ الحِكمة. توقَّعتُ إذ ذاكَ أن يُلقِمَني أُجرَةً سَخِيَّةً، ورَجَوتُ أن يُلقِمَني قبلَها مِن اللَّذَّةِ ما يَكفيني، فصَدَقَ توقُّعي وخابَ رجائي!
     بينما أُحاسِبُ الباعَةَ في السُّوقِ مِن الصُّرَّةِ المُكتَنِزَةِ التي أعطانيها فيلسوفُ الليلِ، لاحظتُ وجودَ عُملَةٍ فِضِّيَّةٍ لم أَرَ مِثلَها مِن قبل. كان اسمُها (أنطونينيانوس) وكانت تَحمِلُ صورَةً جانبيَّةً لِوَجهِ شابٍّ وَقِحِ العينين طويلِ الأنف. حرصتُ على ألاّ أنقُدَ الباعَةَ أيًّا مِن هذه العُملاتِ الجديدة. طريقُ عودَتي إلى البيتِ تَمُرُّ بمعبدِ السَّراپْيوم
. جلستُ على مقعدٍ رخامِيٍّ غيرَ بعيدةٍ مِن البوّابة، ووضعتُ حولي حقائبي. قُلتُ لنفسي سأستريحُ قليلا. أَخرَجتُ قطعةً من العُملةِ الجديدةِ وأخذتُ أتأمَّلُها. لا أدري لماذا فكَّرتُ أنَّ هذا الوجهَ الإمبراطوريَّ هو عَينُ الوجهِ الذي تبخَّرَت ملامحُهُ مِن ذاكِرَتي بعد أن قضى معي الليلةَ الفائتة! ملأَني هذا بالنَّشوَةِ، كأنّي أعومُ في هذا البَحر المُعَلَّقِ في الهواءِ منذُ ما قبلَ شُروقِ الشَّمس. بل كأنَّ المَوجَ يَحمِلُني بمائةِ ذراعٍ لعَبيدٍ منذورينَ لي، وكأنَّ المقعَدَ الرُّخامِيَّ عَرَبَةٌ إمبراطوريَّةٌ كتلك التي كانت تحكي لي جَدَّتي عنها وأنا طِفلَة. ياه! لو كان فيلسوفُ الليلِ هو نفسُهُ الإمبراطور مُتَخَفِّيا!
     الكلُّ في الإسكندريَّةِ يَعرفُ أنَّه قد غدرَ بزَوجَتِه وقتلَها كما قتلَ أخاه. ماذا لو أنني رُقتُهُ كثيرًا إلى درجَةِ أن يتَّخِذَني زوجةً أو خليلة؟ هل أنتظِرُهُ الليلة؟ هل سيَعودُ بعدَ أن غنجتُ عليهِ وشَتَمتُهُ بما يَقدَحُ في رُجولَته؟
إنما كنتُ أُداعِبُ غريزتَه، وقد فَهِمَ هذا بلا شَكّ.
     حَكَت لي جَدَّتي أنَّ جَدَّتَنا الكُبرَى كانت تكسِبُ قُوتَها في راقودة، ولَمّا جاءَ الإسكندرُ فاتِحًا، راقَته كثيرًا وأتاها مُنسَلاًّ مِن بَينِ قادَةِ جيشِهِ ذاتَ ليلةٍ، مُتَخَفِّيًا، وقضى معها أجملَ ليلةٍ في حياتِها. لكنَّه أخبرَها بأنَّه الإسكندر. فَلِمَ لم يُصرِّح لي ذلك الرَّجُلُ بهُوِيَّتِه؟ هل اختلَفَ الزمانُ ولم يَعُد هذا مُمكِنًا؟ هل يبخَلُ القيصَرُ على بَغِيٍّ مسكينةٍ بلحظاتٍ من النشوةِ وذِكرَى تفخَرُ بها في ثِقَةٍ أمامَ بناتِها إذا بلَغنَ مبلغَ النِّساء؟ بماذا يُمكِنُني أن أفخَرَ أنا أمامَ ابنتي؟ بفيلسوفٍ يَدُهُ كأيدي النِّساءِ أتعبَني ولم يَشفِ لي غَليلاً؟ بفيلسوفٍ شَكا لي عسْفَ القيصر (كاراكالاّ) معَ فلاسفةِ أرسطو السكندريِّين؟!
    حِين سألتُهُ أمسِ عن كراهيَةِ القيصرِ لهم، قالَ إنَّ (كاراكالاّ) يعشَقُ الإسكندرَ ويحاولُ أن يكونَ مِثلَه في كُلِّ شيءٍ، ويصَدِّقُ الإشاعةَ التي تقولُ إنَّ أرسطو اشترَكَ في مؤامَرَةِ وَضْعِ السُّمِّ للإسكندر. قالَ إنَّ القيصَرَ يَكرَهُ الجميعَ ولا يَثِقُ بأَحَد.

     أضَعُ الصُّرَّةَ ذاتَ الرَّنينِ في صَدري. ما أجملَ هذا الصَّدرَ، إنني امرأةٌ ولا كالنِّساء. هل هي إشاعةٌ كاذبَة؟ لو كان فيلسوفُ الليلِ هذا صادقًا في دعواهُ أنه من أتباعِ أرسطو، فإنني أُصَدِّقُ أنَّ مُعلِّمَه القديمَ ذلك قد وضعَ السُّمَّ للإسكندر. لقد منحَ الإسكندرُ جَدَّتي الكُبرى ليلةً من المُتعَةِ مازلنا نتحدَّثُ عنها ونتوارَثُ خبرَها إلى الآنَ، رغمَ مُرورِ دَهرٍ عليها. وفَشِلَ فيلسوفُ الليلِ في أن يَروي غُلَّتي بنُقطَةِ ماء. فَشِلَ في أن يجعلَني أتذَكَّرُ حتى ملامِحَه. مُؤَكَّدُ أنَّ مُعلِّمَه القديمَ مِثلُه. يَطلُبُ ويَطلُبُ ويَطلُبُ مِمَّن بين يَدَيه، ثُمَّ يَترُكُها خواءً تصفِرُ فيها الرِّيحُ، كشَجَرَةٍ جوفاءَ عَدا عليها الخَريف. وحَرِيٌّ بمُعَلِّمٍ عاجِزٍ مِثلِهِ أن يُكِنَّ الحِقدَ للإسكندر. فمَن سَمَّمَ الإسكندرَ إن لم يَكُن أرسطو؟     
     جَلَبَةٌ مِن حولي. أصواتٌ متداخِلَةٌ للمارَّة. أحدُهم يقولُ إنَّ (كاراكالاّ) ستصِلُ سفينتُهُ اليومَ إلى الإسكندريَّة. يرُدُّ عليه آخَرُ بأنَّ السفينةَ قد رَسَت بالفِعل ونَزَلَ منها. لا يَذكُرُ أحدُهم القيصرَ بخَير. كلُّهم يَكرَهُه. غمزَ لي أحدُ المارَّة وهو في طريقِهِ إلى مدخَلِ المعبَد. إنه أحدُ زبائني. يريدُني أن أتبعَه إلى الدَّاخِل. رُبَّما يوَدُّ أن يحجِزَ الليلةَ لنفسِه، لكني لن أعملَ اليومَ كما عَزَمت. لَن أعملَ إلاّ إذا أتاني القيصَرُ نفسُه. ومَن يَدري، رُبَّما يكونُ في حقيقةِ الأمرِ سيُكرِّرُ الزيارةَ، إن كان هو مَن أتاني أمسِ وأجَّلَ التصريحَ لي بهُوِيَّتِه إلى اليوم. وربما سيأتيني الليلةَ ولن يُصَرِّحَ بشَيء!
     ازدادَت الجَلَبَةُ وأنا سارِحَة. لقد تحلَّقَ الناسُ في دائرةٍ حولَ مجموعةٍ من الساخِرِين. يمثِّلُون مسرحيةً يهزأون فيها من القيصَر وقولِهِ إنه قتلَ أخاهُ دفاعًا عن نفسِه. يهزأون مِن تقليدِهِ للإسكندر. يُظهِرونَه بمَظهَرِ الأحمَق. لا يَروقُني ذلك. يقولون إنه يَنوي زيارةَ قَبر الإسكندر.

- هاه! وهل في قبر الإسكندر جثمان؟ لقد ماتَ الغازي منذُ خمسةِ قُرونٍ، فما هنالك إلا الترابُ وبعضُ العظامِ النَّخِرَة.

- لالالا! لقد سمعتُ أنَّ الإسكندرَ دُفِنَ في بابلَ حيثُ ماتَ، ولم يُدفَن هنا إلاّ كلبٌ ادَّعَى بطليموسُ إنه رُفاتُ الإسكندر!

     علَت ضحكاتُ الناسِ، وساءَني هذا. جدَّتي الكبرى عشيقتُه وغانِيَتُه أيُّها السافِلُون، وإن تكُن عشيقةَ ليلةٍ واحدة. وسأكونُ أنا عشيقةَ هذا الذي تسخَرون بهِ ولا تقوَون على الوقوفِ له دقيقة.

     صَفُّوا أنفُسَهم صَفَّين ينتهيانِ إلى مدخَلِ المعبَد، ومشى الممثِّلُ الذي يقومُ بدَور (كاراكالاّ) بينهم مِشيَةَ السُّفهاءِ ضِعافِ العُقولِ، تاركًا لُعابَه يَسيلُ من شِدقَيه، ثُمَّ عَطَسَ في وجهِ أَحَدِ الواقِفِين في الصَّفّ، فانهالَ عليه ضربًا، والناسُ يكادُون يَقعُون على الأرضِ من فَرطِ الضَّحِك.

- اتركني اتركني! أنا داخِلٌ إلى أبي. أبي (سراپيس) رَبُّ هذا المعبَد وأنا ابنُهُ الوحيد. سأشكوكَ له وسأخبرُه بما تفعل، وسيَنطَحُكَ بقَرنَيه حتى يُدمِيَك!

- لكنَّ (سراپيس) ليست له قُرونٌ أيُّها الإمبراطور!

- قرناهُ داخلَ رأسِهِ، لا يَبرُزانِ إلاّ إذا غَضِب!

     مِن الجَمعِ مَن وقعَ على ظهرِه ضَحِكًا، ومنهم مَن دَمعَت عيناهُ ضحكًا وهو يُمسِكُ صدرَهُ مِن وجَعِ الضَّحِك. إنني أنا البَغِيُّ أعرِفُ أنَّ الإسكندرَ كانَ ابنَ آمون وابنَ زيوس. أفلاَ يَعرِفون هم ذلك؟ يالَهم مِن جُهَلاء! فمَن يكونُ ابنَ سراپيس إن لم يكُن إمبراطورٌ شابٌّ كالذي نُقِشَ وجهُه على العُملَةِ الجديدة؟ إنَّ عينيه الوَقِحَتَين الواسِعَتين تدُلاّن على أنه مِن نَسلِ الآلِهةِ، يَرَى مِن أمامِه ومِن خلفِه ومِن فوقِه ومِن تحتِه. ثُمَّ إنني أنا البَغِيُّ أعرِفُ أنَّ (سراپيسَ) أوزيرُ وآپيسُ معًا، فكيفَ يمكنُ ألاّ يكونَ له قُرون؟ ألَيسَ آپيسُ عِجلاً؟ إذن فمِن المؤكَّدِ أنه سيحتفِظُ بقَرنَيه وإن لم يَظهَرا للغوغاء. ابنُه بالتأكيدِ أدرَى به. ثُمَّ إنَّ ابنَه قد وَرِثَ قُوَّةَ العِجلِ، لا شَكَّ في ذلك. أتحسَّسُ بَطني وتغمُرُني سُخونَةٌ أعرِفُها. سيملأُني الإمبراطورُ الليلةَ حتى عَينَيّ. البارِحَةَ الجَزرُ والليلةَ المَدّ. عادَ الممثِّلُ الأحمقُ للصِّياحِ، مواجِهًا الجمهورَ وهو على بابِ المعبَد، رافِعًا ذِراعَيه إليهم كأنه يمنَحُهم البَرَكة. ابنُ العاهِرَةِ صَوتُهُ جهوَرِيٌّ كأنَّه إمبراطورٌ حقيقيّ. لم يُواتِني الضَّحِكُ إلاّ في هذه اللحظة:

- كلُّ الأحرارِ مُواطِنون رُومان. أوصاني أبي الإلهُ (سراپيسُ) بهذا!

     انهالَ عليهِ ممثِّلُو الصَّفَّين ضربًا بأيديهم، والناسُ مغمورون بالضَّحِك:

- مواطنون؟ مواطنون يا ابنَ العِجل؟! المَزيدَ مِن الضرائبِ إذَن، وهل بَقِيَ لدينا ما ندفعُه لِجُباتِك؟ لن تَخرُجَ منها سليمًا وحَقِّ أبيكَ العِجل!

     استردَدتُ عُبوسي، وتذكَّرتُ أني رُبَّما أكونُ خليلةَ الإمبراطور. أتحسَّسُ الصُّرَّةَ المُكتَنِزَةَ في صَدري. أعبَثُ بها، فتُلاحِقُ أصابعي أزواجٌ من الأعيُنِ الخبيثة. أُخرِجُ قطعةَ أنطونينيانوس. شعرتُ بالفَخرِ لأنّي تعرَّفتُ عليها بمُجرَّدِ اللَّمس. هذا يُثبِتُ أنّي رُبَّما كُنتُ خليلةَ الإمبراطور. أعرِفُ وَجهَه وظَهري لَهُ، بل أعرِفُه وأنا مغمضَةُ العينينِ وأنفُهُ الطَّويلُ مَدسوسٌ بينَ ثَديَيّ. نَظرتُ إلى العُملَةِ في شُموخٍ وإلى الجَمعِ الضاحكِ في ازدراء. مَن يَدري؟ رُبَّما يُنقَشُ وَجهي على عُملَةٍ كهذه يَومًا ما؟ رُبَّما يأتيني (كاراكالاّ) ذاتَ ليلةٍ ومعَه عَجينَةٌ ناعِمَةٌ كأيدي النِّساء، يَطلُبُ منّي أن أضعَ فيها وَجهي من الأمامِ ومِن الجانِبَين، لتحمِلَ ملامِحي حِينَ تَجمُد، فيَنقُلَها إلى دارِ السّكَّة وتُصَبُّ العُملَةُ على هيئتي. ولَن تَحمِلَ اسمًا، حتى لا يَعرِفَ أحَدٌ مَن خليلَتُه. سيغارُ عليَّ كما يغارُ أُوزيرُ وآپيس.

     وَلَّيتُ الجَمعَ ظَهري وأخذتُ وِجهَةَ البيت. لَم أَخطُ خُطوَتَين حتى علا صِياحُ القادِمِين صوبَ المعبد. لاهثون وملامحُهم تَنطِقُ بالذعر. لم يَعُد هناك شَكٌّ في وصولِ كاراكالاّ. لقد أعدَمَ وفدَ الكُبراءِ الذي وقفَ منتظرًا مَقدَمَه، حِينَ عَلِمَ باستهزاءِ الشَّعبِ به، ثُمَّ أطلقَ عساكِرَه في المدينةِ يُخَرِّبون ويَعِيثُون فسادا. العسكر في طريقهم إلى السرابيوم، وكاراكالاّ سيزورُ قبرَ الإسكندر ورُبَّما يزورُ المعبدَ بعد ذلك. تفرَّقَ الجَمع. تبعثروا في كُلِّ اتِّجاهٍ وأنا واقفةٌ متسمِّرَة. هل سيُخبِرُهُ الإسكندرُ بما كان بينه وبين جدَّتي الكُبرى؟ لكن ماذا لو لم يكُن في القَبرِ إلاّ رُفاتُ كَلبٍ كما قالوا في المسرحيَّة؟ ارتَطَمَ أحَدُ الفارِّين ذُعرًا بيَدي التي كانت قابضةً على نقشِ الإمبراطور، فطارَت قِطعَةُ الفِضَّةِ بعيدا. تسللت يدي دون إرادة مني إلى الصرة المكتنزة في صدري. هل تستيقظ الشجرة غَدًا جوفاء تصفِرُ فيها الريح؟
      دُرتُ على عَقِبَيّ. تردَّدتُ قليلا. لا أدري إن كان الرجُلُ مازال بالمعبد أم غادَر. حثثتُ الخُطا إلى البوّابةِ، قبلَ أن يتحوَّلَ صدري إلى عُقدَتَين جافَّتين في شجرةٍ عجفاءَ، عَدَا عليها الخَريف.

..............................................

محمد سالم عبادة

9 أغسطس 2019

    فازت هذه القصة بثانية مسابقة الدكتور هاني المرعشلي للقصة في ديسمبر 2021