Thursday 11 June 2020

قِصَّة: لايُبصِرُون بِها



يقولون إنّ كلّ جرّاح يشبه النسيج الذي يعمل فيه. سمعتُها من جرّاح عيون في درس (رَمَد) وأنا بَعدُ طالبٌ بالفرقة الرابعة في كلّيّتي. كان بالتأكيد يحاول إقناعَنا بأنّ أمامَنا واحدًا من المجموعة الأرقى من الجرّاحين الذين سنتعامل معهم منذ تلك اللحظة. بحسب كلامه، كان جرّاحو العيون دقيقين رقيقين، جرّاحو الأنف غارقين فيما يبعث على التقيُّؤ، جرّاحو العِظام قُساةً صخريين، جرّاحو النساء مرِنين إلى درجة الغموض وجرّاحو القولون والشرَج مولعين بالدهاليز المُظلِمةِ القذرة.
     أؤمن تمامًا بتلك المقولة. أبي كان قاسيًا كالنسيج الذي يعملُ فيه كذلك. اختار الصوّان منذُ شبابه واحترف النحت. كثيرٌ من أصدقائي الذين عرفوه قالوا إنه بدا لهم رجلاً طيّبًا بشوشا. نُقّاد الفنّ الذين اقتربوا منه لم يتركوا مناسبةً يذكرونه فيها إلاّ وذكروا معه ابتسامتَه ورحابة صدره وتواضُعَه، وكأنها كائناتٌ تعيش مرافقةً له لا صفاتٍ فيه! وحدي اختبرتُ قسوتَه. ربما لم يجد متنفَّسًا لها إلاّ معي أنا وحيدَه. سمَّوه ملِك الصّوّان لأنه كان يفضّل العمل مع ذلك الحجَر الصُّلب، وقالوا إنه كان ملِكًا طاغيةً مع حجارتِه لا يرحمها ولا يرِقُّ قلبُه لها وهو ينهالُ عليها بإزميله ومطرقتِه. وكنتُ أراهُ رقيقًا معها كجرّاحي العيون أو أرَقّ، ديمقراطيًّا يقبلُ رأيَ الحجَر ولا يسمعُ مشورتَه فقط بل يلمسُها ويشمُّها! نعم، يتحرّى العُروق التي تتخلل حجارتَه ليعمل دون أن يصطدمَ بها، ويختبرُ صلابة القِطع المختلفة بأن يَطرُقَها بأصابعه، بل ويتشمم كلَّ حجَرٍ قبلَ أن يُعمِلَ فيه مِشرَطَه فيَعرفُ كيف يبدأ معه ومن أين يبدأ!
     أمّا أنا فكنتُ حَجَرَه الذي لا يقوى على أن يُبدِيَ رأيًا ولا عِرقا. لم يَكُنْ يُعطيني الفرصةَ لأبدِيَ في الحقيقة. يعاجلُني بإزميلِه من اللحظةِ التي أفتحُ فيها عينيَّ في الصباح، ولا يرحمُني منه إلاّ أن يُغَيِّبَني القدَرُ عن عينيه، ولَشَدَّ ما كنتُ أفرَحُ كلّما أنعم عليّ القدَرُ بغَيبةٍ كهذه. مازال في وجهي أثرُ دَفعَته إيّاي حتى ارتطمَت جبهتي بالبابِ حين سخِرَ أطفالُ الشارعِ مِن سِمنَتي فلَم أرُدّ عليهم، وأثَرُ مِشرَطِه -أعني إزميلَه- في خدّي الأيسَر حين طوَّحَ يدَه في وجهي وهو يحملُه غاضبًا من قولي له إنّ مدرّسي الفصل يقولون إنّ مهنتَه حرامٌ وإنّه أشَدُّ الناسِ عَذابًا يومَ القِيامة، وأثَرُ صوتِه وسكونِه في رُوحي وهو يعلّقُ في تَهكُّمٍ على إخفاقاتي ويتجاهلُ نجاحاتي في إصرار.
     لكنّ الجُرحَ الأعمقَ في رُوحي كان من عمل يدِهِ كذلك، لكن بشكلٍ غير مباشر. كانت نظرةُ أمّي هي السبب المباشِر في هذا الجُرح. ليست نظرةَ أُمّي التي من لحمٍ ودَم. إنما أعني أُمّي التي في الحِجارة. تماثيلَ أمّي التي صنعَها أبي وحقّقت له مزيدًا من الشُّهرة.
     شيءٌ ما زَهَّدَني في فنّ هذا الرجُل منذُ صِباي. لا أعني فنَّه هو بشكلٍ خاصّ، وإنما أعني النحت والتماثيل وكلّ تلك الأشياء. ليس شيئًا متعلّقًا بالدّينِ أو الفقه, فقد تشكّلَ هذا الزهدُ وترعرعَ حتى قبل أن أصطدِم برأي الفقه في عملِ أبي. ربّما – وأقولُ رُبّما لأنني لستُ متأكدًا تمامًا – هي نظرةُ أعيُن التماثيل، فقد كانت كراهيتي للنحت تتضاعف مع كل تمثالٍ لإنسانٍ أو كائنٍ حيٍّ بعينين. إنه ذلك الخواءُ المُطِلُّ من أعيُن التماثيل. العدَم. حين اصطحَبني أبي إلى الاستوديو في المرّةِ الأولى وأنا في الرابعةِ أخافَني هذا الخواء. أخافَني حتى ارتعدتُ فلمّا حاولَ أن يُهَدهِدَني – وتلك كانت المرّةَ الوحيدةَ التي أذكرُها له – بكيتُ وأدرتُ وجهي بعيدًا، فلمّا أدارَني ونظرَ في عينيّ أخافَني أكثر، لأنّي رأيتُ في عينيه مِثلَ ما رأيتُ في أعيُن التماثيل. الخواء. العدَم.
     أشارَ إليّ بالكَفّ عن البُكاء وهو لا يحاولُ أن ينظُرَ في عينيّ مُجَدَّدًا، وأخذني من يدي وعادَ بي إلى البيت. ظللتُ بعدَها عشرةَ أعوامٍ لا أقوى على زيارة الاستوديو. وحين أعَدتُ الكرّةَ في الرابعةَ عشرةَ ارتعدتُ كذلك لكنني لم أبكِ. كنتُ رابِطَ الجأشِ كمراهِقٍ طبيعيٍّ يكرهُ أباه، لكن رباطةَ جأشي هذه كانت مرهونةً بألاّ أنظُرَ أبدًا في أعيُن التماثيل، ولا في عينَي أبي.
     في الأعوام العشرة التي تفصل الزيارتين كوّنتُ رأيًا احتفظتُ به لنفسي. من أجلِ هذه النظرةِ الخاويةِ تُعبَد التماثيل. عُبِدَت قديمًا ومازالت تُعبَد لِسواد عيون العدَم المُطِلِّ من عيونِها. الناسُ يهربون فيها من وجودهم بكلِّ مشاقِّه وأزماتِه وكوارثه. يهربون حيثُ لا مشاقَّ ولا أزماتٍ ولا كوارث. لا همومَ ولا امتحانات. لا شيء. لذلك توعّدَ مُدَرِّسُو الفصلِ أبي، ولذلك غضِبَ حتى كادَ يقتلُني يومها بإزميلِه!
     يومًا ما، وكنتُ مازلتُ طالبَ طِبّ، قابلتُ في مقهىً حقيرٍ زميلين لي، لم يكونا صديقين حميمين وإنما كنت أجَرّبُ صُحبتَهما وقد جذبَتني غرابةُ حديثِهما. قابلَنا في المقهى صديقٌ لهما عرّفاهُ إليّ بصفتِه طالبَ فلسفة. أخذوا يتحدثون طويلاً عن الفنّ. حين عرفَ صديقُهما من هو أبي احتفى بي. كان هذا وحدَه كافيًا لإقامة حاجزٍ بين رُوحَينا. لكنّني أدليتُ بدَلوي في الحديثِ الدائرِ بينهم رغم كلّ شيء، وتحدثتُ عن خبرتي مع أعيُن أصنامِ أبي. ضحك يومها زميلاي كثيرًا، وشردَ بعيدًا صديقُهما الفيلسوفُ ووضع سبابتَه على شفتيه المزمومَتين ثُمّ أخبرنا بأنّ (سارتر) كان يقولُ إنّ الفنانَ في عملِه يُطارِد العدَم، وإنّ العدم هو جوهرُ الفنّ الأصيل.
     أعودُ إلى عينَي أمّي! لم يكتَفِ الرجُلُ بأن يزرعَ الخواءَ في عينيها. قدَّمها للناظرين عارية. أُمّي أنا، التي كانت تتأذّى من اضطرارِها للانكشاف على طبيبٍ حين كانت تعاني ما يعانيه الفَانُون من الألَم، عاريةٌ أمام مَن هَبَّ ودَبّ. كلُّ نُقّاد الفنّ يعرفون أنها كانت موديلَه العاريَ الوحيد. تقاليدُه الريفيةُ منعَته من العارياتِ بأجرٍ، وكانت أمامَه دائمًا، فلماذا لا؟!
     أُمّي أنا التي لم أرَها تترك صلاةً منذُ وعيتُ عليها، عاريةٌ أمامَ الجميع. صنع لها تماثيلَ كثيرةً، وهي واقفةٌ شامخةً، وهي نائمةٌ مستسلمةً، وهي مُتّكِئةٌ شاردةً، وهي جالسةُ منهمكة. وكلُّها تماثيلُ عارية! بالطبعِ لم أجرُؤ على أن أُكَلِّمَه في هذا الأمر. كان الردُّ المتوقَّعُ عنيفًا، والأثَرُ المحتمَلُ غائرا. أنا الآنَ جَرّاحٌ قديمٌ وأعرفُ عواقبَ كُلّ ضربة!
     كان عُريُها المُخَلَّدُ في الحجارة عدَمًا آخَرَ مع العدَم المُطِلّ من عينيها، كما أشبعَ عدمَ عينيها غموضًا على غموضه. أهناك ما لم أعرِفهُ عنها؟ أكانت امرأةً أخرى غيرَ التي أشبَعَتني حنانًا ورِفقًا وفَرِحَت لخطواتي الأولى حتى زغردَت، كما فرِحَت لخطواتي الأخيرةِ حتى دمعَت عيناها؟ وراءَ وقارِها شبَقٌ غفلتُ عنه؟ وراءَ تستُّرِها فُجورٌ لم أُدرِكهُ في خِضَمِّ حياتيَ الأولى؟ أكانَ يَجرؤُ على تقديمِها هكذا لو لم تكن قدَّمَت نفسَها له ولغيرِه بنفسِ الطريقة؟ أينتقِمُ منها على هذا النحوِ وهي بريئةٌ غافلة؟! نزفتُ دمَ رُوحي على نظراتِها ولم يَخثُر الدّمُ ولم تندمل الجُروح. ظلّت الأسئلةُ تعذبني وستظلّ، رغمَ ما فعلتُه لإخمادِها!
     كان بنيانُه القويُّ الحَجَريُّ أولَ ما يُطالِعُه الناظرُ إليه. لم تفارقه قوّةُ الجسَد، حتى كتبَ نُقّادُ الفنّ إنّ قوة الجسد لا تقلُّ أهميةً للمَثّال عن الموهبة. وبذلك كان قادرًا على أن يظلَّ يصنع تماثيلَه وهو في الثمانين، بعد موتِ أمّي بعشرة أعوام. كيف أكرهُه زيادة؟!
     اكتملت خُطّتي في ذهني أوّلاً ولم أُدخِل عليها أي تعديلٍ يُذكَر وهي تدخل حيّزَ التنفيذ. كانت خُطّةً بسيطةً تقليديّةً، لكنّها نجحَت بسهولةٍ وأبعَدَتني عن الشكوك. كانت واسطتي في تنفيذ الخطة مريضًا أجريتُ له جراحةً ناجحةً ويتمنى أن يَخدُمَني من كلِّ قلبِه. أتاني في نوبتجيةِ ليلٍ مطعونًا في صدره وبطنه طعناتٍ أوشكَت أن تُودِيَ بحياتِه. خرجَ بعد أسبوعٍ من المستشفى قادرًا على أن يثأرَ لنفسِه. مازالت معي أرقامُ هواتفِه. اتصلتُ به وطلبتُ مقابلتَه في أمرٍ عاجل. التقينا في مقهىً بعيدٍ عن دائرتَي حياتَينا. وطلبتُ منه أن يقتُلَه. هكذا دون لَفٍّ أو دورَان. هكذا مرّةً واحدة! لم أُخبِره عمَّن يكون. أُخِذ الرجُل من طلبي الذي لم يتوقعه وسألني لماذا أكرهُ هذا المقتولَ إلى هذا الحدّ.
- "هو رجل في الثمانين. أكثر رجل آذاني في حياتي، وإن عاش أكثر من ذلك فسيستمر في إيذائي"!
     أنا جرّاحٌ طيّب، أنقذُ حياة مرضاي. أستحقُّ أن أُخدَم بعيونهم. هذا ما قاله لي. كان قادرًا على تنفيذ ما طلبتُه منه، ولذا استعنتُ به، ولذا مرّ الأمرُ بسلام.
     اقتحمَ الاستوديو ذاتَ صباحٍ وكان العجوزُ قد باتَ به ومازال نائما. طعنه في صدره وبطنه طعناتٍ لا تدَع لجرّاحٍ فرصةً لإنقاذه. وأخذ ما في الاستوديو من المال. لم يكن العجوز يحتفظ بمالٍ يُذكَر في الاستوديو. قال صديقي إنه لم يجد إلاّ ألف جنيهٍ أخذها لكَي يُبعِد الشبهاتِ عن هدف العملية. لم يشُكّ أحدُهم في المسألة، وسارت جنازةُ العجوزِ كما يليقُ بفنّانٍ كبيرٍ أنجبَ جَرّاحًا ماهرا.
     لم تكَد تمُرّ الأيام الأربعون على العمليةِ حتى دخلتُ كعبتَه. لم أكن قد دخلتُها منذُ ما يربو على عشرين عاما. كانت الأمورُ كما عهدتُها في ذلك الزمن البعيد. أدواتُه في كلِّ مكان. صوتُ طرقاتِه على الحجَر يتردد صداه بعد أن مات. كان يحبُّ العمل في الاستوديو المغلَق أكثر من الهواء الطلق بعكس معظم أبناء مهنته. ولذا كان العملُ مازال جاريًا في الاستوديو على قدمٍ وساق. تمثالان آخَران لها. أحدُهما وهي جالسةٌ، ورأسها ملفوفٌ إلى الوراء وهي تنظرُ إلى مَن يواجهون ظهرَها. والثاني وهي نائمةٌ تمسكُ ثدييها بيديها. الإزميلُ في يسراي والمطرقةُ في يمناي. لم أُبقِ من التمثالين ما يصلُح أن يَدُلَّ على شيء. كان عملاً شاقًّا أنهكَني إلى درجة الإعياء. في نفس اللحظات التي كنتُ أنجزُ فيها هذه العملية، كان مريضي المخلص ورفاقُه يتسللون إلى ثلاثة معارض دائمةٍ تقتني تماثيلَها التي أنجزها العجوز. في غضون هذا اليوم لم يعُد لها تمثالٌ واحدٌ على الأرض. تكسّرت عارياتُها النائمةُ والجالسةُ والواقفةُ والمتّكئة، بعد أن أُخلِيَت منها المعارض.
 - "لن تُعبَدي في الأرضِ بعد اليوم".
     في ركنٍ قصيٍّ من الاستوديو وجدتُ تمثالاً من الواضح أنه أنجزه مؤخَّرًا، أو بالأحرى كان على وشكِ الانتهاءِ منه. كان تمثالاً لفلاّحٍ يرتدي جلبابًا مُشَمَّرًا إلى ما فوق ركبتيه، ذي لحيةٍ وشاربٍ كَثَّين، يرفع إلى مستوى رأسه طِفلَه الرضيع عاريًا، وجزءٌ من رأس الرضيع في فمِ الفلاّح المجنون. كان يأكلُ ابنَه كما يفعلُ (زُحَل) في لوحاتِ (جويا) وغيرِه التي كنتُ أشاهدُها في الكتالوجات التي يحتفظُ بها العجوز في البيت والاستوديو. لكنّه كما قُلتُ لم يكن قد انتهى بعدَ من التمثال. كان مكانُ العينين غير منحوت. مجرد كتلةٍ من الصوّان متصلةٍ بالجبهة دون تضاريس. كان باعثًا على الحُزن. لم أشعر بالحُزن في حياتي كما شعرتُ به وأنا أشاهدُ هذا التمثال. حتى يوم موتِ أمّي. لكنّه كان حزنًا بلا دموع. ملأ وجودي بكاملِه ولم يترُك لي نافذةً على العدَم. تحاملتُ على رُكبتيَّ اللتين خانتاني، وربّتُّ على كتف الفلاّح الأعمى. وولّيتُ جِهةَ باب الاستوديو.

محمد سالم عبادة
السبت 26 أغسطس 2017
نُشِرَت في ملحق الأهرام الأدبي يوم الجمعة 12 أبريل 2019 بعنوان (الجُرح الكبير - من اختيار هيئة التحرير)، ثُمَّ نُشِرَت في أخبار الأدب في ديسمبر 2019 باعتبارِها فائزة بجائزة نادي القصة.