Saturday 31 March 2018

مِن تقمُّص تاريخ العَدُو إلى حصارِه به: قراءة في مسرحية (شمشون ودليلة) لمُعين بسيسو



     منذ السطور الأولى التي يُنطِقُ بها الشاعر الفسلطيني الراحل الكبير (معين بسيسو) شخصيات مسرحيتِه هذه، يتبين أنه عازمٌ على كسر الحائط الرابع الافتراضيّ بين الممثلين والجمهور. الوجه الأول الذي لا يحملُ اسمًا في هذه المسرحية يقولُ أولَ ما يقول: "فلنكشِف أوراقَ اللُّعبة. وكفانا نرقصُ بالأقنعةِ على الخشبة". يتأكد هذا مع الإيغال في نصّ هذه المسرحية الشِّعرية، حيث يقول الرجُل ذو المِعطَف مثلاً: "هل تنتظرون يدًا تفتحُ سِردابًا تحتَ الخشبةْ. ويقودُكمُ السردابُ إلى الصّالةْ؟"، كما يتأكد مع تكرار الإشارة إلى عالم المتفرّجين في الصالة خلف الأسلاك الشائكة، ومع الممثّلين المندسّين بين الجمهور، يقومون في منتصف المسرحية ليُلقوا بالأربطة الطبية البيضاء والنقود والطعام إلى الممثلين من فوق السلك الشائك. هذا الفِعلُ المسرحيُّ المتبادَل بين الخشبة والصالة يُذَكِّرُنا بما أراد المسرحي العظيم (سعد الله ونُّوس) أن يفعلَه وضمَّنَه مقدِّمتَه لمسرحيتِه (مغامرة رأس المملوك جابر)، حيثُ تحدث عن الممثلين المبثوثين وسط الجمهور يشاركون في الفعل المسرحي ويتجاذبون الحوار مع ممثّلي الخشبة من آنٍ لآخَر، متمنّيًا أن يصبح ممثِّلو الجمهور هؤلاء نواةً لحوارٍ حقيقيٍّ يقومُ بشكلٍ تلقائيٍّ في مستقبل المسرح بين الجمهور وشخصيات المسرحية. وهذا الرسمُ الذي رسمَه (بسيسو) لمسرحيته يتقاطع كذلك مع مفهوم تسييس المسرح عند (ونُّوس)، حيثُ تصبح مشاركة المتفرجين في الفعل شكلاً من أشكال حضّ المتفرِّجين خارج المسرح (ويُقصَدُ بهم عامةُ العرب في تعاملهم مع القضية الفلسطينية) على المشاركة الإيجابية في الخروج من أزمة الاحتلال الصهيوني. يتجنب (بسيسو) هنا الدخول في تفاصيل واقعيّةٍ متعلقةٍ بالصراع العربي الإسرائيليّ، إلاّ بما يشكّل إطارًا عامًّا لأحداث المسرحية، مِن قبيل الإشارة إلى مرور ستة عشر عامًا على النكبة (وهو ما قد يوحي لوهلةٍ بأنّ زمن كتابة المسرحية هو عام 1964، حتى تسير الأحداث إلى تمام الاحتلال الصهيوني لسيناء وجولان وغزّة وضلوع الأردن الغربية، فنكتشف أنّ زمن إنجاز هذا النصّ هو بعد 5 يونيو 1967 بالتأكيد). وفي هذا التجنُّب ما يُبعِد هذه التجربة المسرحية عن مفهوم المسرح التسجيليّ كما نجدُه عند الكاتب المسرحي الألمانيّ (پيتر فايس) مثَلاً في مسرحيته (أنشودة غول لوزيتانيا) التي سجَّلَ فيها حَرفِيًّا وقائع الاستعمار البرتغاليّ لأنجولا. إلاّ أنَّ (بسيسو) يتقاطع مع (فايس) في مسرحية الأخير الأشهر (ماراصاد)، حيث الرجل الغارق في الصابون والذي يقوم من البانيو في منتصف المسرحية محرِّضًا على الثورة يشبه كثيرًا ملامح شخصية (مارا) الذي كان أحد أهم رموز الثورة الفرنسية وقُتِلَ بينما يستحمّ، إلاّ أنه يخرس سريعًا جدًّا في نصّ (بسيسو)، ربما لأن كاتبَنا يحاول أن ينقِّيَ الثورةَ من فرسان الكلمات البرّاقة الخاوية!
      الخلاصةُ أنّ هذه المسرحية تنأى بنفسها عن المسرح التسجيليّ بقَدر ما تهَبُ نفسها للمسرح السياسيّ في اقتدار.
     التحوُّل الأوضح في سير أحداث المسرحية هو خروج الشخصيات الفسلطينية من كونها محاصَرَةً في عالَم العَرَبَة (وهو الديكور الذي بالَغَ بسيسو في رسمِه للوحات المسرحية الأولى، قاصدًا به ديكور فلسطين المحتلّة)، إلى عالَم المقاومة والفعل الحقيقي. التفاصيل الشنيعة المتعلقة بهذه العَرَبَة ترسِّخُ حالةً كابوسيّةً أصيلةً، على غِرار الخراطيم الطويلة التي يثبتها الكمساري في سواعد وأفخاذ الركّاب ليسحب دمَهم وقودًا للعربة التي لا تمشي في الحقيقة.
     الاستعارةُ واضحةٌ في ديكور العربة، حيث الحالةُ العربيةُ الموسومةُ بالشَّلَل التامّ الذي يكرّسُهُ الزعماء العرب الرسميون، ممثَّلين هنا في سائق العربة والكمساري. كما أنَّ الرجُل ذا المِعطَف الذي يقولُ كلماتٍ رنّانةً ويحاول إغراء الثائر الفلسطينيّ (عاصم) بالتسلُّل عبر الأسلاك الشائكة إلى الصالة حيث عالَم المتفرجين، هذا الرجُل يمثّل في وضوحٍ كلَّ المتخاذِلين الذين يحاولون تمييع القضية الفلسطينية بتذويب الدَّم الفلسطيني في الجنسيات العربية الأخرى، وفي الحقيقةِ لا يتحقق خروج الأبطال من الحِصار إلى المقاومة إلاّ عبرَ الثورة على الأمر الواقع ممثَّلاً في الرجل ذي المعطَف أوّلاً، ثُمّ السائق والكمساري وعالَم العرَبة بأكملِه لاحِقا.
     المهمُّ هو الإحالاتُ الثقافية التي ترِدُ على ألسنةِ الأبطال الفلسطينيين في الجزء الأول من المسرحية في إشاراتهم إلى حالتهم الراهنة المحاصَرَة. الأمُّ التي يتّضِح لاحقًا أنَّ اسمَها (ريم) تقولُ في البداية عن رضيعِها الذي ألقَته من يدِها في إحدى ساعات الرُّعب: "كنتُ أطوفُ به تُرضِعُهُ هذي الأمُّ وتلكَ الأمّ. كان كمَن يتنبَّأْ. كان كمَن كُتِبَ عليه. أن يرضعَ مِن كُلِّ الأثداءْ. إلاّ مِن ثَديَي أُمِّهْ". هذا الطِفلُ الذي يتنبّأ بمستقبَل الشتات الفلسطينيِّ هو تُكَأةٌ لتماهي حالة المحاصَرين الفلسطينيين مع تاريخ العدو الصهيوني، وتحديدًا مع حالة الشتات Diaspora.
وهو في ذات الوقت نبيٌّ مقلوبٌ، كأنه موسى (نبي اليهود) وقد أُخِذَ من حضن أُمِّه، لكنّه لم تُحَرَّم عليه المراضع كما ورد في النص القرآني، ولكن أُبيحَت له كلُّ المراضع إلاّ أمُّه، فهو الآخَرُ تماهٍ لكنّه تماهٍ مقلوبٌ أشدُّ بُؤسًا من تاريخ الحالة اليهودية.
    أمّا في حوار الأب الفلسطينيّ مع ابنه (عاصم) فيقول: "أفضَلُ أن تقطعَ بالسِّكِّينِ أصابعَكَ وتُلقِيَها في النارْ/ تشويها، تأكُلَها/ مِن أن تنتظِرَ هُنا وهُنالِكَ في المنفى/ أن تسقُطَ مائدةُ المَنِّ عليكَ ومائدةُ السَّلوَى". فهنا تماهٍ آخَر مع الموروث اليهوديّ، فالحالُ الفلسطينيُّ في انتظارِ عون السماء وعون الأرض أقربُ إلى حال اليهود في خروجهم من مصر.
     الانقلابُ الأصيلُ الذي يأتي في أعقابِ الثورة على عالَم العربة الوهميّ يصاحبُهُ انسلاخٌ تامٌّ من هذا التقمُّص أو التماهي مع الموروث اليهودي، لصالح حِصار العدو الصهيوني بموروثه. فممّا قد يُؤخَذُ على هذا النصِّ لأوّل وهلةٍ مثَلاً عدمُ ظهور (شمشون) إلاّ قُربَ نهاية المسرحية. و(شمشون) هنا قائدٌ إسرائيليٌّ متعجرفُ يحاولُ إذلالَ (عاصم) و(ريم)، وتقنعُه زميلتُه (راحيل) بأنّ لـ(ريم) اسمًا آخر هو (دليلة). هنا فقط تتجسّد على خشبة المسرحِ الحكايةُ التوراتيّة عن (دليلة) بنت الفلسطينيين التي خدعت (شمشون) القاضي الربّاني وسلَبَته قوتَه بأن حلقَت له شعر رأسه. القائد الإسرائيليّ كذلك يظهر بضفائره ينفثُ سخطَه على الثوّار العرب، ويؤرِّقُه كما يؤرّقُ (راحيل) هاجسُ تجسُّدِ (دليلة) في (ريم)!  
     الشاهدُ أنّ تأخر ظهور (شمشون) مبَرَّرٌ تمامًا في سياق علامات النص المسرحي، حيث يحاصره الأبطال بأسطورتِه الخارجة من سِفر القُضاة، فتنتهي المسرحية وهو يدورُ في هياجٍ كالثور حول المدفع، بينما تقولُ له (ريم) وهي ممدَّدةٌ في محفَّتِها: "دُرْ حولَ المدفعْ. هذا هو طاحونُكَ يا شمشونْ. ستطلُّ تدورُ إلى أن تسقُطْ. هذا هو قَدَرُكْ". فهو انتصارٌ رمزيٌّ لهذه الفلسطينية المطعونة الموشكة على مفارقة الحياة، بكلماتِها الواثقة من سقوط عدوِّها في فخِّ هواجسِه وذُعرِه من انتفاضة الكيان العربي.
     لا ندري بالتأكيد ماذا كان يمكن لـ(معين بسيسو) أن يكتُبَ في ظلِّ ما آلَت إليه الحالُ العربية وقد مضى سبعون عامًا على النكبة. هل كان سيُنهي مسرحيتَه بهذه الثِّقة على لسان بطلته الفلسطينية؟ ليتَ لنا مثل ما أوتِيَ (مُعين) من إرادةِ الثورة، بعد تراكُم طبقات الخذلان على جسَد العروبة!   
محمد سالم عبادة
17 فبراير 2018 
نُشِر في صحيفة (مسرحنا) يوم 12 مارس 2018 

Thursday 22 March 2018

مسارٌ حتميٌّ للعِلم الجَمُوح: قراءة في مسرحية (إنسان روسوم الآلي) للكاتب التشيكي (كاريل تْشابِك)

     يظلُّ صعبًا أن يتعرض المرء لمحاولة قراءة نصٍّ مسرحيٍّ قديمٍ تواطأ الزمنُ وريادةُ كاتبه وشهرتُه العالمية على تكريسه كنصٍّ كلاسيكيٍّ في الوعي الجمعي لمحبّي المسرح. لكن يبدو أنه لا مفرَّ من أن يبسط المرءُ أفكاره عن النصوص التي مسَّت وترًا حسّاسًا في ذائقته، لعلَّ فيها جديدًا حقيقيًّا جديرًا بأن يُضافَ إلى كُلِّ ما كُتِب عن هذا النصّ.
     النسخةُ التي وقعت في يدي  هي التي قام بترجمتها إلى العربية أ.د. طه محمود طه، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة الكويت، لمصلحة سلسلة (المسرح العالمي) الصادرة عن وزارة الإعلام الكويتية، معتمدًا على ترجمةٍ وسيطةٍ من التشيكية إلى الإنجليزية، أنجزها (ب. سلفر) بحسب الغلاف الداخلي للنسخة. في الحقيقة لم يبخل أستاذنا (طه محمود طه) بمعرفته العميقة والموسوعية فيما يتعلق بتاريخ فكرة (اليوتوبيا) ومفهوم الإنسان الآلي وما يرتبط بهذين الموضوعين من  موضوعاتٍ فلسفيةٍ وإنسانيةٍ أثرى بها مقدمتَه لهذه النسخة.
     ومما أثبته (د.طه) في هذه المقدمة سَبقُ هذه المسرحية إلى تناول اليوتوبيا العلمية بعد فترةٍ طويلةٍ امتدّت من نهايات القرن التاسع عشر إلى سنة كتابة هذا النص عام 1920، انفردت فيها القصّة بهذا الحقل الخيالي. وفي تقديري أنَّ هذا التأخُّرَ في جانب الكتابة المسرحية مرجِعُه إلى طبيعة الخطاب المسرحي كتابةً وأداءً، فمن أخَصِّ خصائص خطاب هذا النوع الأدبي الفنّيِّ: المبالَغَة. المبالغة الأدائية من ممثلي المسرح ضروريةٌ للوصول إلى المتلقِّين، حيث العلاقة المباشِرة لمن يعتَلون الخشبةَ بالجمهور لا تضمنُ أن تصلَ الانفعالاتُ المُقَدَّرَةُ بقدرها الطبيعيِّ من الممثل إلى المتفرجين، وذلك بحكم المسافة الفيزيقية التي تفصل الخشبة عن مقاعد الجمهور ببساطة. ولأنَّ كل من يتعرضُ للكتابة المسرحية يشرعُ في الكتابة وفي خلفية وعيِه هذا الاعتبار، فهو لابُدَّ مستعينٌ بقدرٍ من المبالغة في توجيهاته لحركات الممثلين وفيما يبسطه من حوار شخصياته وفي انتقالات دفة الحوار ودفة الأحداث. المحصِّلَةُ أنَّ المبالغةَ تفرض نفسَها في المسرح. يأتي هذا ليصطدم بطبيعة اليوتوبيا العلمية القائمة على الخيال العلمي، وما يتطلبه هذا من قفزٍ على مفهوم الاستحالة المعرفية Epistemic Impossibility
بمعنى أنَّ الكاتب يتحدى المنظومة العلمية المستقرة في وقت كتابتِه عملَه هذا، فيأتي بتصوراتٍ لا يُعضِّدُ إمكانيةَ حدوثها الواقعيِّ حاضرُ العلم بتقنياتِه وحقائقه التي وقفَ عندها في اللحظة الراهنة. وفي هذا ما فيه من المبالغة بدَورِه، حيثُ يفترضُ صدمةً معرفيةً وتخييليَّةً للمتلقِّي، الذي يكفيه في العُرف المسرحي المستقِرِّ ما يواجهه من مبالغات المسرح المُكَرَّسَة كتابةً وأداء! وهو ما لا يحدث حتى مع اليوتوبيا (المثالية) التي لا دخل للعلم فيها، حيث الصدمةُ أقَلّ لأن العمل لا يواجهُ حقائق علميةً مستقرةً في وعي المتلقِّين. 
لهذا كان الإقدام على كتابة مسرح الخيال العلمي مغامرةً إبداعيةً عنيفة. ولا يُقاسُ مدى هذه المغامرة بالتناوُل          القصصيِّ لموضوعات الخيال العلمي، لكلِّ ما يتوافرُ في القِصِّةِ من حميميةٍ كوسيطٍ يحتضنه المتلقّي بين يديه ويُقبِلُ عل قراءتِه بإيقاعه الشخصيِّ الخاص.
معروفٌ بالطبع أن هذه المسرحية الشهيرة ديستوبيا، حيث تسير الأحداث في اتجاه سيطرة مجتمع (الناس الآليين) على البشر وإفناء حضارة الجنس البشري. ينقُد (تشابك) العلمَ بصفته إفرازَ الحضارة الضروري وقاطرتَها إلى التقدم في وقتٍ واحد. يفعلُ هذا على عدّة مستوياتٍ أوضحُها بالطبع هو الاتِّجاه العامّ لأحداث المسرحية، ثُمّ النقد المباشر بلسان الشخصيات، وبينها (دومين) مدير المصنع نفسُه حين يقول لـ(هيلينا): "أراد روسوم العجوز أن يشارك الله في قدرتِه وكان ماديًّا مخيفًا لذلك قام بكل هذا العمل. ولم يكن له من هدفٍ سوى أن يُمِدَّنا بالدليل على أن العناية الإلهية لم تعد ضرورة". لكن لعلَّ ألطفَ وأدَقَّ هذه المستويات هو إشاراتُ (تشابك) المنتثِرَة في ثنايا الحِوار. مِن أهمّ هذه الأشارات تعليق (هيلينا) على اسمَي الرجل والمرأة الآليين الذَين قدمهما لها (دومين)، حيث هما (سولا) و(ماريوس)
Sulla & Marius
فتصفُ اختيار هذيين الاسمين بالشناعة – لاسيَّما (سولا) المرأة – لأن (سولا) اسمُ رجُلٍ، والاسمان كانا لقائدَين رومانييّن قامت بينهما حربٌ أهليةٌ بين عامي 89 و88 ق.م. إجابة (دومين) الكوميدية هي أن فريق العمل ظنّ الاسمَين لعاشِقَين!
     هذه الإشارةُ إلى استغراق طائفةٍ من العلماء في العلم التجريبي وجهلهم المُطيِق بالتاريخ الإنساني، أو معرفتهم بقشوره بشكلٍ سطحيٍّ لا يُسمِنُ حكمةً ولا يُغني من حماقةٍ وتهوُّر، تمثّل نقدًا لاذعًا لمسار العلم الحديث وربّما مسار التعليم العلمِيّ كذلك في انقطاعه الصارم عن الإنسانيات كرافدٍ معرفيّ. وتزداد مناسبة اختيار هذين الاسمَين وتتعمق دلالةُ المفارقة حين نعرفُ أنّ الحرب الأهلية المُشارَ إليها في التاريخ كانت بسبب اغتيال (ماركوس ليفيوس دروسوس) وإلغاء إصلاحاته التشريعية الهادفة إلى منح حلفاء روما في عموم الأراضي الإيطاليةِ مواطنةً رومانيةً كاملةً تستتيعُ حقَّهم في التصويت على السياسات الخارجية والداخلية لروما. يشبه هذا إنذارًا من الكاتب في بداية المسرحية بأنَ هؤلاء الناس الآليين سيشعلونها حربًا مع تقدُّم الأحداث لسببٍ مشابهٍ لما حدث في روما القديمة، وهو ما يحدث بالفعل حين يطالبون بأن يقوم مجتمعُهم العالميُّ على حساب البشر الذين أصبحوا بلا عمل!
لطيفةُ أخرى في اختيار أسماء بعض الشخصيات. هناك عالِم الفسيولوجيا (جال) أو (جول) كما عرَّبَه (د.طه)
Gall
الذي اختار له (تشابك) هذا الاسم الذي يعني في التشيكية ما يعنيه في الإنجليزية: (العُصارة الصفراوية)! هذه العصارة التي كانت تمثّل في الطبّ القديم أحد الأخلاط الأربعة (مع البلغم والدم والسوداء) والتي أصبح اسمُها يمثل في تراث اللغات الأوربية إشاراتٍ مختلفةً إلى الخُبث أحيانًا والشجاعة أحيانا. هو يجسِّد هذه الورطة التي يخلقها العلم ويقعُ فيها، لاسيَّما حين يخلُقُ على صورة (هيلينا) البطلة زوجة (دومين) آلِيَّةً تحمل نفس الاسم المربِك الحافل بالإشارات بدوره .. (هيلينا) اليونانية التي اختطفها (باريس) أو (ألكساندروس) الطروادي والتي بسببها قامت حرب طروادة. هي هنا التي اختطفها أوّلاً مجتمع العلميين القائمين على المصنع من الجمعية الإنسانية التي ابتعثتها لتطَّلِع على أحوال الناس الآليين، ثُمّ اختطفها في صورةٍ آليّةٍ مجتمعُ الآليين أخيرا. هي المخطوفةُ أبدًا من يدٍ إلى يدٍ في حربٍ أبديةٍ، لكنّ (تشابك) يمنحها في الختام فرصةً لتكون حوّاء ما بعد فناء البشر!
من هذه اللطائف كذلك حديثُ (ألكويست) المهندس المدنيّ لـ(دومين): "لقد كان في العمل لذةٌ جميلة يا دومين. كان العمل شيئًا عظيمًا في الإنسانية. لقد كان هناك نوعٌ من الفضيلة في الكدح وفي التعب". (ألكويست) هو الوحيد الذي يعمل بيديه بين شخصيات المسرحية، ويظهر في أكثر من مشهدٍ ويداه متَّسِختان من أثر العمل، ويُبقِي عليه الآليُّون في مفارقةٍ دالَّةٍ لاعتقادهم أنه مثلُهم لأنه يعمل بيديه، ثُم يرجونه بعد ذلك أن يخبرَهم بكيفية صناعة المزيد من الروبوتات (حيث أحرقَت هيلينا مخطوطَ روسوم الأصليَّ لصناعة الروبوت قبل أن يقتلوها). الشاهد أنّ العلم بتوفيره الجهدَ البشريَّ من خلال قيام الآلة بالمزيد من العمل – قاطرًا الحضارة إلى تقدُّمٍ ما – يقضي على تلك الفضيلة الخلُقِيّة التي يتغني بها (ألكويست). هل يُدَكِرُنا هذا بالكثير من المأثورات في الأديان المختلفة، بينها قولُ نبي الإسلام: "إنَّ من الذنوب ما لا يكفِّرُها إلا السعيُ في الرزق" وإثناؤه على الرجل الذي أحجمَ عن مصافحتِه خجلاً من كفَّيه الخشنتين من أثر العمل: "إن هذين يدان يحبهما اللهُ ورسولُه"؟!
في تقديري أنّ ألطف إشارات (تشابك) في حبكة المسرحية تتمثل في الغياب الجسدي لـ(روسوم)! العالِم العجوز الذي بدأ الأمرَ كُلَّه وأعلن إلحادَه وبالتالي قتل مفهومَ الإله بشكلٍ مجازيٍّ قبل بداية أحداث المسرحية، جاءه ابنُ أخيه المهندسُ الواعدُ (روسوم) الشابّ الذي عمل معه فترةً ثُمَّ تمرَّد عليه وتركه ليجرِّبَ في معمله مع (مساخيطه) – بحسب قول (دومين) في ترجمة د.طه – وانطلق ليبني الإنسان الآلي الحقيقي الذي يشبه صورة الآدميين والمتكامل ميكانيكيًّا كما ينبغي للكمال أن يكون! لقد قتل هذا المهندسُ عمَّه (روسوم) مجازيًّا بدَوره. ثم جاء الغياب الجسديُّ لهذا المهندس العبقريِّ عن أحداث المسرحية رغم إنجازه العلميِّ الضخم قتلاً ضمنيًّا له هو الآخر. بهذه الطريقة المكرَّسَة بهذا اللطف في المسرحيةِ يُحَوِلُ العِلمُ الجَمُوحُ الذي لا يعترف بالعوائق الخُلُقيةِ المشتغلين به إلى مشروعاتِ آلهةٍ مقتولة! إنها عمليةٌ كأنها جزءٌ مفصليٌّ في بِنية النشاط العلمي الجَموح، وكأنها انتقامٌ إلهيٌّ - ينتمي للألطاف الخَفِيَّة – ممّن يجرؤون على القتل المجازي للمُحَرِّك الأوّل!
     في ختام المسرحية نكتشف أنَّ شكلاً من أشكال الرُّوح قد دَبَّ في رجلٍ وامرأةٍ آلِيَّين هما (بريموس) و(هيلينا) التي صنعها العالِم (جول) على هيئة (هيلينا) البطلة التي ماتت، وأنَّ هذين الآليين وقعا في حب بعضهما البعض. يسمح لهما (ألكويست) – بعد أن تسيَّد مجتمعَ الروبوتات الآيِلَ إلى الفناء بسبب احتراق مخطوط روسوم - بأن يذهبا بعيدًا ويؤسسا مجتمعًا بشريًّا – أو شبهَ بشريٍّ – جديدًا، ويدعوهما (آدم) و(حواء)، ثم يتلو من إنجيل (لوقا) آياتٍ: "فخلق اللهُ الإنسانَ على صورتِه. على صورة الله خلقَه" إلى: "الآنَ تطلِقُ عبدَكَ يا سيِّد، حسب قولِكَ بسلامٍ لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصَك". بهذا الاقتباس الأخير يبسطُ لنا (تْشابِك) رؤيتَه للدِّين كمقوِّمٍ للحضارة وضرورةٍ للاجتماع البشري، رغم تمرُّد (روسوم) العجوز على الدين في البداية في غمرة إخلاصه للحضارة! ويظهَر من هذا التناوُل أنَّ الدِّينَ يقوم بوظيفتين للحضارة تبدوان متعارضتين بالفعل، فهو يبعثُها ويحثُّ الناس على الإعمار وصولاً إليها، لكنَّه يقفُ كابحًا جموح هذه الحضارة في الوقت ذاتِه، ويبدو أنَّه لكي تتجاوز الحضارةُ نقطةً بعينِها من سيرورتها عليها أن تتجاوز الدِّين مع هذه النقطة، لكن المفارقة أن هذا التجاوُزَ يُسرِعُ الخَطى بالحضارة إلى نهايتِها وفَناء الجميع! هنا تبدو فضيلةُ العمل- التي حدَّثَنا عنها (ألكويست) والتي يحثُّ عليها الدِّينُ – بدورها قاطرةً للبشرية وفي نفس الوقت فإنَّ المزيد من العمل بلا تراخٍ يفرزُ بالضرورةِ بحثًا علميًّا يُفضي إلى استئصال العمل والكدح من النشاط البشري، وبالتالي اقتراب النهاية!
 هي معادلةٌ تبدو حتميةَ الحدوث وغيرَ قابلةٍ للحَلّ تبعًا للمسرحية، وليست المسرحية بحسب هذه القراءة إنذارًا شديد اللهجةِ من (تْشابِك) للبشرية بضرورة الإبطاء من عجلة التقدم العلمي لصالح الرجوع إلى الدين، بقدر ما هي إيضاحٌ لرؤيته المعقَّدَة ومحاولةٌ منه للفت انتباه جمهوره إلى أنَّ المصير قادمٌ وحتميّ وكلُّ ما هُنالِك أن نحاول إبطاءه، عسى ألاّ يحدُثَ ونحنُ على ظهرِها!
محمد سالم عبادة
 فبراير 2018
نُشِر في صحيفة (مسرحنا) الإلكترونية في عدد 19 فبراير 2018