Wednesday 19 December 2018

قصّة: الناظِر مِن أعلى




     رجفةٌ خفيفةٌ في قلبي. يبدو أنّ للسّنِّ حُكمَه كما يُقال! كنتُ أردِّدُ لنفسي أنّ الأمر سيسيرُ على ما يُرامُ من البداية إلى النهاية، خاصّةً أن صحّتي الآنَ وأنا في منتصف العِقد السادس كما كانت منذ عشرين عاما. لم أدخّن أبدًا ولم أشرب قطرةكحولٍ واحدةً ولم أترك تماريني الرياضية يومًا - باستثناء فترات الاكتئاب بالطبع- فلماذا يمكن أن يرتجف قلبي الآن؟!
     آه! لقد هدأ قلبي! لعلَّها رجفةٌ عابرةٌ من قلوبٍ أخرى، مرّت بقلبي لا تَلوي على شيءٍ، قاصدةً قلبًا آخرَ في طريقِها. يُطَمئِنُني هذا التفسير، خاصةً أنني الآنَ أخوضُ أغرب مغامرةٍ في حياتي. أتأكّدُ من إحكام الحزام العريض حول ظَهري وبطني وأجزائي الحميمة. مُحكَمٌ بالفعل. أتأكّدُ من وجودِ الكيس القماشيِّ الذي أعددتُه لمهمّتي وطويتُه في جيب بنطلوني. موجودٌ في مكمنِه الأمين. ها أنَا ذا مُعلَّقٌ في الهواء بحبلٍ عريضٍ مربوطٍ إلى داخل شُبّاك غرفة نومي، أترك له ثقلي فيهوي بي إلى أسفل، أو أشُدُّ امتداده المتدلّي بجواري من نفس نقطة الارتكاز في شُبّاكي، فيصعد جسدي إلى أعلى كمِصعدٍ ميكانيكي! لا أحتاجُ إلى كثيرٍ من حُرّيّة الحركة أفُقِيًّا، فكلُّ ما أريدُ أن أفحَصَه موجودٌ متراصًّا فوقَ بعضِه أسفل شُبّاكِ غرفةِ نومي.
     النشوةُ تهُزُّ كياني! اخترتُ ظروفَ هذا التَّدَلِّي بدِقَّةٍ أُحسَدُ عليها. ففضلاً عن أنَّ الشُّقَق المتراصّةَ أسفل شقّتي غيرُ مسكونةٍ أساسًا- باستثناء شقّة الدور الأرضي ذات الحديقة- فإنه تقريبًا لا أحدَ في العمارة الآن. إنه أول أيام العيد الكبير، وهذا يعني أن سُكّان الضواحي الجديدةِ الهادئة قليلةِ الكثافةِ تركوا شُقَقهم وراءهم وعادوا من حيثُ أتَوا. الآتُون من الرِّيف عادوا في زيارةٍ خاطفةٍ إلى الرِّيف، والآتُون من زِحام القاهرة القديمة عادوا إلى دُخانِهم القديم. حتى أُسرَتي الصغيرة لم تُستَثنَ من هذا الإجراء المُقدَّس. زوجتي وابنتاي الآنَ في بيت حماتي. سَيَبِتْنَ هناك، ثم يَقضِينَ أيام العيد الباقية بين منزل حماتي ومنزل عائلتي الرِّيفي. هذه هي المرّةُ الأولى التي أتركهنَّ فيها يمارسن زيارات العيد بمفردهِنّ. لم أخبرهنّ بنيّتي في البقاء في البيت إلاّ أمس:
- أنا محتاج اقضي العيد دا لوحدي. روحوا انتو.
     لم يَطُل الجِدالُ كثيرًا لأنهن يعرِفن صلابة دماغي في الآونةِ الأخيرة، أو هذا ما يُرَدِّدنَه على الأقلّ. ربما ندّت من زوجتي نظرةُ إشفاقٍ من أن أُقدِمَ على الانتحار، نظرًا لمعاناتي الاكتئابَ في العامين الأخيرين بشكلٍ متقطِّع، إلاّ أنّها استطاعت أن تخنُقَ قلقَها في مهدِه وانطلقت إلى زياراتها، وها أنا أنظرُ إلى أعلى وأتخيلُها واقفةً في شُبّاكِنا مذعورةً لمَشهَدي وقدماي تضربان حائط العمارةِ الخارجيّ!
     أنظرُ في اتجاه الشارع الموازي. رجلٌ يرتدي جلبابًا يعبرُ في سلام. يلمحُني فيتوقف. يُلوِّحُ لي بيُمناه ويرقع صوتَه عاليا:
- هيه!
     أُلوِّحُ له ضاحكًا فيبتسم وينصرف. ربما ظنّني لِصًّا وأراد أن يُبدِّدَ هذا الظنّ، فإن أجبتُ صيحتَه في ثباتٍ فلستُ لِصًّا، وإلاّ فالواجبُ أن يستدعي البوّابِين الذين لم ينصرفوا بَعدُ إلى بلادهم البعيدة، ليطوّقوا المتسلل المتدلّي قبل أن يلوذَ بالفرار! أظنُّه يعتقد أنني أقوم بمهمّةٍ ما في صيانة العمارة. لا أدري ماذا يمكن أن تكون هذه المهمة ولا ما خطر بباله بالضبط. أضحكُ في سِرِّي حينما تداعبُ خيالي جُملةٌ أتخيلُ أني أوجِّهُها له: "يا صديقي، كلُّ ما خطرَ ببالِك، فأنا غَيرُ ذلك"!
     أتدلّى حتى تلامسَ قدماي أغصان الأشجار المتناثرةِ في حديقة الدور الأرضي. تكادُ قدَمي تُطيحُ بعُشٍّ ساذَجٍ لأسرةٍ ساذجةٍ من العصافير، لكنّني أسمحُ للحبل أن يُدَلِّيَني أكثر، فأُعيد العُشَّ إلى مكمنِه بين الأغصان. هذه أولُ مرّةٍ في حياتي ألمس عُشًّا للعصافير. ليس هَشًّا كما تصورتُ، فقَشّاتُه لم تتطاير أو تتكسّر بفعلِ يدَيَّ القويتين. أو ربما لم تعد يداي قويتين كما عهدتُهما. نعم! ربما هذا أيضًا فِعلُ الزَّمَن. يُضعِفُ اليد حتى تتراخى، ويُرَقِّقُ القلب حتى يرتجف!
     آه! مَشابِكُنا! أولُ الغيث قطرة!
     بجوار العُشِّ، وفي تشابُكٍ من أغصان هذه الشجرة العملاقة التي لا أعرفُ اسمَها، وجدتُ ثلاثة مشابك غسيل. كلُّها لنا. مشبكان خشبيّان غليظان، ومشبك بلاستيكيٌّ رقيقٌ أصفر. كلُّها متّسخةٌ بالطبع. متّسخةٌ إلى أقصى درجة! كم عامًا مرَّت عليها وهي في هذه البقعة الخبيئة من الشجرة؟ لا عواصف بالطبع لأنّ الحديقة محاطةٌ بأسوارٍ عالية. لكن ماذا عن المطر وفضلات الطيور وما يحمله الهواء من التراب؟ كم حدثًا هامًّا مرَّ على أسرتنا وهذه المشابك مستقرّةٌ في مكانِها هذا الذي لم تَختره ولم يختره أحدٌ مِنّا؟
     هاه! لم أنتبِه مع النظرة الأولى! مشابِكُنا في كلِّ مكانٍ من الشجرة. الأحمر والأخضر الدّاكِنُ والفاتِحُ والبُنّيُّ والأبيَض. الرقيق الموشِكُ على الانكسار، والغليظُ الذي يبدو أزليًّا أبديّا. كلُّها هنا! لم يتبدَّد أيٌّ من مشابِكِنا المفقودة، وإنما استقرَّت في تشابُكاتِ البُقعة المباركة من الشجرة، منتظرةً هذا المُتَدَلِّي العَجُوزَ الشابّ ليستخرجَها ويعودَ بها.
     من يُصَدِّقُ أنني لم أُوقِعْ مشبَكًا واحدًا في حياتي؟!
     الاعتراض الجاهز على هذا التصريح سيكون: رُبَّما لم تَخُض تجربة نشر الغسيل من الأساس، ولهذا يبدو منطقيًّا أنك لو تُوقِع مشبكًا في حياتِك!
     لكن لا. في الحقيقة ظَلَّ نشرُ الغسيلِ خبرةً حبيبةً إلى قلبي منذُ طفولتي المبكِّرَة. طالما استمتعتُ بِرَصِّ صفوف الملابس والمُلاءات. القصيرُ قريبٌ والطويلُ بعيد. الداخليُّ مختبئٌ والخارجيُّ مكشوفٌ للمارّةِ والجِيرانِ إن وُجِدُوا. والمتعةُ الأكبرُ كانت في مراعاة توافُقِ الألوان. ليس فقط توافُقَ ألوانِ الملابس المتجاورة، وإنما توافُقَ المشبك وقطعة الملابس التي يُثَبِّتُها إلى الحبل. هكذا، كان قميصي المُخَطَّطُ عرضيًّا بالأبيض والأخضر الفاتح يقفُ هادئًا مبتسمًا على الحبل السابع، مثبَّتًا بمشبكَين من الأخضر الفاتح، يتجاوبان مع الطُّول المَوجِيِّ لألوانِه الرَّاضِيَةِ المُطمئِنَّة. وكنتُ أُحِبُّ أن يقِفَ وحيدًا على هذا الحبل، كما ينبغي لمِثلِه أن يَفعل. وكانت بنطلوناتُ بِنتَيَّ القصيرةُ و(شورتاتُهما) تشغلُ حبلَين متلاصِقَين، مع مراعاة تناسُبِ الأطوال بالطبع. هكذا كنتُ أرُصُّها بينما الكُبرى في الرابعةِ والصُّغرى في عامِها الأوّل. كنتُ أختارُ لهما پالِتَّة الألوان بعنايةٍ فائقة، ولم أكُن أخشى التجريب كلَّ فترة، فشبكتُ الشُّوْرْتَات الورديّة الخالصة بالمشابك البُنّيّة حين تخيّلتُهما قد كبرتا وأصبحتا شابَّتَين جذّابتَين، لأفقأَ أعيُنَ المتبجِّحِين، وشبكتُها بالمشابِك الزرقاءِ حين رأيتُهما ساحرتين رغم أنفي في أحدِ أحلامِ اليقظة، وشبكتُها بالمشابك الحمراء حين تمرَّدَتا على قِيَمي كلِّها في حُلمٍ آخر، وهكذا!
     كان هذا الحِرصُ يستغرقُ وقتًا طويلاً لا أُحِسُّ بمرورِه، وإنما أكتشفُه حين أنتَهي من النشر، أو حين تنبِّهُني زوجتي متأفِّفةً من بُطئي الشديد. كنتُ أُراجِعُ ما فعلتُه بين الفينةِ والفينة، فأتأكَّدُ من تناسُبِ الأطوال وتوافُق الألوان على الحِبال، قبل أن أغلِقَ الشُّبّاكَ في حرصٍ على ألاّ يبقى رِتاجُهُ مُوارَبًا، وألاّ ينضغِطَ زيادةً عن اللُّزومٍ كذلك. كنتُ حريصًا على أن ينغلق الشّبّاكُ دُونَ صوتٍ يُذكَر.
     آه. تلك الأيام! مضت أعوامُ وأعوامٌ منذُ نشرتُ الغسيلَ آخِرَ مَرّة. كبرت بنتايَ وورثتا ضِيقَ أُمِّهما ببُطئي الشديد، ولم يَعُدْ أحَدٌ في البيت يسمحُ لي بأن أُمارِسَ هوايتي الأثيرة، فبمُجَرَّدِ إعلان صَفّارةِ الغَسّالة انتهاءَ دورةِ الغَسل، تُسرِعُ إحداهُنَّ بطبَق الغسيل وتُعَبِّئُه، ثُمّ تَجري إلى جِوارِ الشُّبّاك، وتبدأُ مهمَّتَها وتُنهِيها في لاوَقتٍ، لتَصفِقَ الشُّبّاكَ مُغلِقةً إيّاهُ في عُنفٍ، ويَصرُخَ رِتاجُه المغبونُ مُستجيرا! هُنَّ مَن أَوقَعن هذه المَشابِك. لا أنا.
     فقط لو يَنظُرنَ الآنَ إلى العدد الهائلِ من المشابِكِ التي جمعتُها من أغصان هذه الشجرة في كيسي القماشيِّ العملاق!
     أنظُرُ حولي في جنَباتِ الحديقة. كلُّ المشابِكِ عَلِقَت بالشّجرة. لا يوجد مشبكٌ واحدٌ وقع خارجَها. أجذِبُ الحبل المُوازِي لثقلي إلى أسفل، فأرتفعُ إلى أن أُحاذِيَ شُرفةَ الدورِ الأول. أتسلّلُ إليها. سورُها مُترَبٌ جدًّا. إلى هنا سافرَت ملابسُهنّ الداخلية. العباراتُ المكتوبةُ بالإنجليزية عليها لم تنطمِس بفعل الزَّمَن. بعضُها في الحقيقة وصلَ إلى هنا قريبًا جِدًّا، فهذا الأحمرُ سافرَ من شُبّاكِنا أمسِ فقط. ربما لم يَمُرَّ أسبوعٌ لم تفقد أُسرَتي فيه قطعةَ ملابسَ ومشبكين أو ثلاثة. اتّسَخَ بعضُها هنا أو هناك، لكنّ العباراتِ ظلَّت مقروءةٌ في يُسر. كثيرٌ منها هُنا. كثيرٌ جِدًّا! أجثو على رُكبتَيَّ وأنا أنظرُ في حذَرٍ إلى الشارعِ المُوازي. أبتلعُ ريقي في صعوبةٍ ثُمّ أجمعُ أغراضَهُنّ الحميمةَ في الكيس. أشعرُ أنَّ عضلةً منهارةً في قفصي الصَّدرِيِّ يتمُّ ترميمُها مع كلِّ (پانْتي) ينضَمُّ إلى الكيس. أفردُ جسدي واقفًا، وترتفعُ ذقني الحليقةُ وتتوتَّرُ كما اعتدتُها تَفعَلُ متى أحسستُ بالزَّهو. أقفِزُ من الشُّرفةِ إلى الهواء، وأجذِبُ الحبل المُوازي، فيرتقع ثقلي إلى شُرفة الدور الثاني.
     هنا سقطت بِذلةُ العملياتِ الرّماديّةُ التي فقدتُها منذُ خمسة عشر عاما. كانت الأكثر أناقةً بين كُلِّ ما لبستُه من بِذلات العمليات. أجريتُ فيها أنجَح جراحاتٍ في حياتي. أعني تلك المَرّاتِ التي كان تدخُّلي فيها مُنقِذًا من الموت. كانت تُغدِقُ على رُوحي من أناقتِها فأثِقُ بقراراتي وأحترمُ أصابعي. وقعَت ذاتَ يومٍ من ابنتي الصُّغرى وهي تَلُمُّ الغَسيلَ، فتشاءمتُ، ولم أَعُدْ كما كنتُ من يومِها. وضعتُها في كيسي الحَنُون، وقفزتُ خارجًا، وجذبتُ الحَبل صاعدًا إلى أعلى.
     في شُرفةِ الدور الثالث تناثَرَت أوراقُ الخطابات. كلُّها خطاباتٌ تَخُصُّني. أنا الّذي نشرتُها على حِبالِنا منذُ عشرة أعوام. خطاباتُ صديقاتِ المُراسَلَة اللّاتي دَخَلنَ حياتي وأنا مُراهِقٌ في الرابعةَ عشرة. كنتُ قد أتيتُ بها ذاتَ يومٍ من بيتِ أُمِّي، وقررتُ أن أحتفظَ بنسخةٍ منها على حاسُوبي من خلال الماسحِ الضوئي. تركتُ رِزمةَ الخطاباتِ داخِلَ أظرُفِها على مكتبي في صباح اليوم التالي، وذهبتُ إلى العمَلِ في حماسٍ استثنائيٍّ، واعدًا نفسي بإبحارٍ فريدٍ في ذكرياتي حين أعودُ من المستشفى. ولمّا عُدتُ وجدتُها مفتوحةً، ومبلّلةً بالماءِ، حتى أنَّ كلماتِها اختلطت ببعضها ودخلَ الحِبرُ في الحِبر. ثُرتُ يومَها على زوجتي وابنتَيَّ، ولم تُخبرني أَيُّهُنَّ مَن فعل هذا بخطاباتي. كتَمنَ عليَّ في إصرار. نشرتُ الخطاباتِ والأظرُفَ مفتوحةً مفرودةً على حِبالِي. لا أدري كيفَ تراءى لي أن أفعلَ هذا. كنتُ ثائرًا وحزينًا وغاضِبًا ويائسا. نشرتُها وهُنَّ يضحَكن. وحين تفقَّدتُها بعد دقائقَ، كان معظمُها قد فارقَني، فلممتُ ما تبقّى، ودخلتُ نوبةَ اكتئابٍ طويلة.
     ها هي الآنَ تفترشُ أرضيّةَ الشُّرفة في الدور الثالث، أسفل شقّتي بالضبط. انحنيتُ عليها ورأيتُ صُورةَ أولِ فتاةٍ أحببتُها في حياتي، مشبوكةً بدبُّوسٍ في الرسالة. التقطتُها وابتسمَت شفتاي. ظللتُ هكذا وقتًا لا أعرفُ مِقدارَه، حتى أنني لا أدري كيف انطمس التاريخُ المكتوبُ تحت الصُّورة بخَطِّ يدِها وقد كان مقروءًا مازالَ حين التقطتُ الورقة. تداخلت الأرقامُ واختلط الحِبر.
وضعتُها في الكيس، ووضعتُ خلفَها كلَّ الورَق المتناثر. جذبتُ الحَبلَ فصعدت.
     ها أنَذا رفعتُ جسدي على إفريزِ شُبّاكِ شقّتي. أتأمَّلُ داخِلَ الشّقّة. أتذكَّرُ كيفَ أصرَّت زوجتي بينما نُعِدُّ هذه الشقّة للسُّكنَى على أن نضُمَّ مساحةَ الشُّرفةِ إلى الغُرفَة، ونغلِقَها بحوائطَ من جميعِ الجِهاتِ، إلاّ موضعًا لِشُبّاكٍ نستطيعُ من خلالِه أن ننشُرَ الغسيلَ فقط.
     في الكيس مشابكُ كثيرةٌ يمكنُ أن تتوزَّعَ على ثلاثة أطقُم، وملابس داخليّةٌ لهُنّ، وبِذلةُ عملياتٍ رماديّةٌ، وخطاباتٌ قديمة. أنظُرُ نظرةً أخيرةً إلى داخِلِ الشّقّة، وأُغَيِّرُ وِجهَتي. أدَعُ ثقلي يأخذُني إلى أسفل. إلى حديقةِ الدورِ الأرضيِّ مرّةً أخرى. أخلعُ الحزامَ العريض، وأحملُ الكيس على ظهري، وأتسلّقُ سُورَ الحديقة، إلى خارجِ العمارة.
..............
محمد سالم عبادة
7/8/2018     
نُشِرَت في عدد سبتمبر 2018 من مجلة الثقافة الجديدة   

Saturday 24 November 2018

الترجمة إلى العامية: همومٌ ورؤية



     في المقدمة الضافية التي كتبَها لترجمتِه لمسرحية (دكتور فاوستُسْ) لكريستوفر مارلو، أثار الدكتور عبد الواحد لؤلؤة مشكلة الترجمة إلى العامّيّةِ العربيةِ بشكلٍ يصعُبُ أن يمُرَّ القارئُ به مرورَ الكِرام. مثَّلَت الشخصيّاتُ الثانوية في المسرحية - المنتميةُ إلى طبقاتٍ اجتماعيةٍ دُنيا – مشكلةً في طبيعةِ الحِوار المتوقَّع أن يَصدُرَ عنها في وعي الدكتور لؤلؤة. فالرجُل ترجمَ المسرحيةَ في معظمِها إلى العربية الفصحى، ولإضفاء مزيجٍ من الكوميديا والواقعيّة على أجوائها قرّرَ أن يترجمَ حوارَ هذه الشخصيات إلى العامية، فواجَهَته مشكلة: "أيَّ العامّيّاتِ نَختار وعلى أي أساس؟!"، وعمَّقَ المشكلةَ أنَّ سلسلة المسرح العالَميّ الكويتيّة التي ترجمَ لمصلحتِها هذه المسرحيةَ موجَّهَةٌ إلى قُرّاء العربيةِ من المُحيطِ إلى الخليج. اختار الدكتور لؤلؤة في النهايةِ عامّيّةً (وُسطَى)، أقربَ ما تكونُ إلى فُصحى متخففةٍ من بعض قواعدِها، ليلائمَ جمهورَ السلسلةِ العريضَ بعامّيّاتِه المختلفة.
     يَجُرُّنا هذا الموقفُ إلى مصطلَحٍ شائعٍ في علم اللسانيّات الاجتماعي Sociolinguistics هو (ازدواجُ اللسان) Diglossia. أولُ مَن وصفَ الحالَ اللُّغَويَّةَ العربية بهذا الوصف كان المستشرق الفرنسي (وِيّام مارسيه) William MarÇais عام 1930، وكان يعني تحديدًا حال أهل المغرب العربي، حيث يستخدمون لهجةً لحديثِهم اليوميِّ العاديِّ تختلف كثيرًا عن اللغة العربية المعياريّة التي يجعلونها للمخاطبات الرسمية والأدب والتعليم، ولا يتكلمُها أحدٌ بصفتِها (لُغَةَ أُمّ) Mother's Tongue. ليس من الصعبِ بالطبعِ أن نجزِمَ بأنَّ هذا الوصف ينطبق على كلِّ مَن يعتبرون العربيةَ الفصحى لغتَهم الرسميّة في بقعتِنا من العالَم، وليس المغاربة فقط!
     في الحقيقةِ يُثارُ السؤالُ بشكلٍ أعنفَ وأكثرَ جذريَّةً هكذا: هل نقولُ (اللهجة المصرية) مثَلاً؟ أم الأصوَبُ أن نقول (اللغةُ المصرية الحديثة)؟ وبالتأكيد لإجابتِنا مردودٌ يتعلّقُ بحجم وطبيعةِ الترجمةِ المتوقَّعَةِ من اللغاتِ الأخرى إلى اللهجة/ اللغة المصرية.
     نعودُ إلى علم اللسانيات الاجتماعي لعلَّنا نظفرُ بإجابةٍ مُرضِيَةٍ أو نقتربُ منها مؤقتًا على الأقلّ. المصطلحان الأكثر استخدامًا للتعبير عن وضع اللغتين في حالة الازدواج اللساني هما: النسخة العليا H والنسخة السُّفلَى L. العُليا هي بالطبع تلك المستخدمة في الأدب والمواقف الرسميّة، العربية الفصحى في حالتِنا، والسُّفلَى هي المستخدمة في الحديث اليومي، المصرية عندنا. بَيدَ أنَّ لُغَوِيًّأ ألمانيًّا مهمًّا هو هاينتْسْ كْلُسْ Heinz Kloss (1904 – 1987) استخدم اصطلاحين بديلَين، ينطويان على دلالةٍ عميقة، هما اللسان الخارجي Exoglossia للنسخة العليا، واللسانُ الداخلي Endoglossia للسفلى، ولا يَخفَى أنَّ المقطعين exo&endo يشيران إلى ما للنسخة السفلى من رصيدٍ عاطفيٍّ عند مستخدميها باعتبارِها لغة الأمِّ الحقيقيةَ لهم، وفي المقابلِ ما يكتنزُه استخدام العُليا/ الفصحى من التصنُّع واللاطبيعيّة.
     في الواقعِ يأتي إسهامُ (كْلُسْ) الثريُّ ليُلقِيَ ضوءًا جديدًا على طبيعةِ مشكلتِنا اللغوية العربية، فقد نحتَ الرجلُ اصطلاحَين آخرَين أكثرَ أهميةً هما:
- اللغة المتباعِدة Abstandsprache: ويعني بها أية نسخةٍ أو مجموعة نسخٍ من لغةٍ ما، تفترقُ عن غيرِها بشكلٍ واضحٍ لا لبسَ فيه، إلاّ أنّ (كْلُسْ) عادَ فأشارَ إلى درجاتٍ مختلفةٍ من التباعُد بين كلِّ زوجَين من النسخ اللغوية المتقاربة!
- اللغةُ المتمَدِّدة Ausbausprache: أي نسخةً من النسخ المنتمية إلى متَّصَلٍ لَهْجِيٍّ معيَّن Dialect Continuum يتمُّ تطويرُها إلى لغةٍ معيارية Standard Language. وتحدَّثَ عالِمُنا عن مراحلَ محددةٍ لهذا التطوُّر، فأولاً تُستخدَمُ اللغة المتمددة في الفولكلور، ثُمَّ في الشِّعر (شِعر العامّيّة)، ثُمّ في السَّرد التخييلي النثريّ (الرواية والقصّة)، ثُمَّ تأتي مرحلةٌ حاسمةٌ حين تستخدَم هذه العامّيّة المتمددة في السَّرد غير التخييلي، حيث يُتوَقَّعُ بعد ذلك أن يَسهُلَ اختراقُها دوائرَ المخاطبات الحكومية الرسمية والتعليم والخطاب العلمي والتقني.
    والمهمُّ في آليّات (تمدُّد) اللغات بهذا الشَّكل هو قيامُها بوظائفَ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ معينةٍ تُكَرِّسُ استخدامَها بشكلٍ مستقِلٍّ عن قريباتِها من النسخ اللغوية.
    قبلَ أن نهبطَ إلى الواقع اللغويِّ العربيِّ، نذكرُ المثَل المعاصِر الذي غالبًا يقترنُ بالحديثِ عن اللغات المتمددة، وهو الحالة الاسكَندِنافية. عبرَ هذه البقعةِ من شمال أوربّا ينتشر المتَصلُ اللهجِيّ الاسكندنافي، ويتألَف من نسخٍ لغويةٍ مختلفةٍ يُطلَق عليها (مجموعة اللغات الجرمانية الشَّمالية) أو (لغات الشَّمال Norse Languages) اختصارًا. ورغم تحقُّق عامل الفَهم المتبادَل Mutual Intelligibility بين من يتحدثون هذه النسخ المختلفة، فإنَّ صعود التيارات القومية الرومانسيّة بدءًا من نهايات القرن الثامن عشر واكتمالاً في التاسع عشر (قَرن القوميات الأوربية بامتياز) عمل على تكريس النسخ الثلاث الأكبر من هذه المجموعة المتجانسة (السويدية والنرويجية والدنماركية) باعتبارها (لُغاتٍ) قوميةً، لا لهجاتٍ للغةٍ واحدة.
     فماذا عن الحالةِ العربية؟!
     يُشارُ إلى ما نحنُ فيه لُغَوِيًّا باعتبارِه هو الآخَر مُتَّصَلاً لَهجِيًّا، ومن الملاحظات المُطَّرِدَة في المتَّصلات اللهجية أنَّ أصحاب اللهجات المتقاربة جغرافيًّا يتمتعون فيما بينهم بقدرٍ أكبر من الفهم المتبادَل، ومع التباعُد الجغرافيِّ تتراكمُ الفُروقُ بين اللهجاتِ حتّى تصِلَ إلى صعوبةٍ شديدةٍ في فهم الآخَر. يمكننا أن نفهمَ هذا حين نتصورُ لقاءً بين قاهريٍّ وبيروتيٍّ مثلاً، في مقابلِ لقاءٍ بين عُمانِيٍّ ومغربيّ. في الحالة الأولى يتوافق القرب الجغرافيُّ مع القُرب اللغوي فيتمتع الطرفان بقَدرٍ معقولٍ من الفهم المتبادَل، وعكس ذلك بالضبط يُتوَقَّعُ في الحالةِ الثانية. لهذا تبدو مشكلة الدكتور (لؤلؤة) مُبَرَّرةً تماما!
     فماذا إذا تناولنا الحالة المصريةَ تحديدًا؟!
     تعدَّدت محاولاتُ تقعيد العامية المصرية ورفعِها إلى مصاف اللغات المعيارية، حتى لم يعُد الحديثُ عنها مدهشا. لكن ما لم يفقِد إدهاشَه بالنسبةِ لي على الأقلِّ هو تحقُّقُ المرحلة الحاسمة من مراحل (التمدُّد) التي تحدثَ عنها (كْلُسْ) في الآونةِ الأخيرة، بظهور (ويكيبيديا المصري) من ناحيةٍ، وشيوع محاولة ترجمة سُوَرٍ من القرآن إلى العامية المصرية بعد ثورة 25 يناير بقليل.
     أجدُني أتساءلُ عن جدوى قولِنا: "ويكيبيديا مصري هي النسخة المصري بتاعة الموسوعة الحُرّة، وفيها 18251 مقاله دلوقتي" بدلاً من: "هي النسخة المصرية من الموسوعة الحرة، وفيها 18251 مقالةً الآن". أعني أنني لا أتصور أن أقلَّ الناس حظًّا من التعليم والقدرة على القراءة في مصر يمكن ألاّ يفهم النسخة الفصيحة من الجملة السابقة!
     كذلك يبدو التساؤلُ مشروعًا جدًّا حين نقرأُ الفاتحة بالعامية المصرية، لينتهي النصُّ المقدس بـ(ولا سِكّة التايهين) بدلاً من (ولا الضالّين)! صحيحٌ أنَّ مقولةَ الإمام عليٍّ في نقطةِ الباء من (بسم الله الرحمن الرحيم) شائعةٌ، وصحيحٌ أن للمفسِّرين اختلافاتهم بالطبع، لكنّ ملايين المسلمين المتدينين الذين يقرأون الفاتحة يوميًّا سبع عشرة مرّةً على الأقل في صلاتِهم لم يشتكوا قطيعةً معرفيةً مستحكِمةً مع نَصِّها لينتظروا الترجمةَ إلى العامية! فكيف نفهمُ هذا؟!
     رأيي المتواضِع يتّفق مع الحكمة الخالِدة التي أشاعَها اللُّغَوِيُّ الرُّوسي (ماكس فاينرايش Max Weinreich) في أربعينيات القرن العشرين. أعني الحكمة التي تقولُ: "اللغة ما هي إلا لهجة، بجيش وأسطول!". قال (فاينرايش) عن هذه الحكمة إنها تعبِّر عن الأزمة الاجتماعية للغة اليديش (لغة يهود أوربا الأشكنازيين) باعتبارِها مَحكِيَّةً ومكتوبةً من دون جيشٍ أو أسطولٍ يحميها، وبالتالي فهي لا تتمتعُ بالصفة الرسمية – وقتذاك – على أي صعيد. وفي التأويل الأوسع لهذه المقولة، نجدُها تعبِّرُ عن اعتباطيّة الفصل بين وضعَي اللغة واللهجة، حيثُ لا يبدو على أرض الواقعِ أيُّ مُسَوِّغٍ لاعتبارِ نسخةٍ لغويةٍ ما لغةً – لا لهجةً - إلاّ وصولُ الإرادة السياسية والتوافق الاجتماعيِّ بشأن ترسيمِها إلى حدٍّ حرِجٍ، عنده تُعتبَر هذه النسخةُ لُغةً مستقِلَّةً، لا مُجرَّدَ لهجة. ولنا في المثال الاسكندنافي نموذجٌ صارخ!
     الشاهدُ من هذه المقولةِ أنَّ المسألة خاضعةٌ في المقام الأول لصراع الإرادات، لا لحقائق ملموسةٍ بوضوحٍ في دراسة الظواهر اللسانية كما تبدو على أرض الواقع. المنادون بترسيم العامية المصرية لغةً مستقلّةً – لا لهجةً عربيةً – يمثلون إرادة القومية المصرية، وهم مرتبطون أكثر من غيرِهم بمقولة (الاحتلال) العربيِّ لمصر منذ عام 21 للهجرة. والمنادون بـ(بقائها) لهجةً عربيةً يتبنَّون في العادة خطابًا إمّا قوميًّا عربيًّا أو إسلاميًّا، وإن لم يَعُوا ذلك!
     لكن تبقى المشكلة الأكثر استعصاءً على الحلّ أمام إرادة ترسيم العامّيّة هي النص المقدس المركزيَّ للغة العربية. ماذا سيبقى من الصِّدق في آية "بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ" حين نترجمُها إلى المصرية إلى "بِلُغَة عربي واضحة" مثلاً؟!
     تجذبُنا هذه النقطةُ إلى رأيٍ أوردَه اللغويُّ الألمانيُّ الكبير (فلوريان كولماس Florian Coulmas) في كتابه (اللغة والاقتصاد) الذي ترجمَه د.أحمد عوض (إلى العربية الفصحى!) ضمن سلسلة عالَم المعرفة. يُورِد (كولماس) أولاً نقدَ (ماكس فيبر Max Weber) لتفسير الماركسيّة للتحوّل الرأسماليِّ الكبير في أوربّا بإرجاعِه إلى عوامل اقتصاديّةٍ بَحتَةٍ ترتكزُ على وسائل الإنتاج، حيثُ يرى (فيبر) أنَّ العنصر المهمَّ الذي أغفلَته الماركسيّةُ هو رُوحُ الحياة الاقتصادية Wirtschaftethik، وهي الإدارة الرشيدة للعمَل، التي يعتبرُها (فيبر) نتيجةً للزُّهد المسيحيِّ الذي رفعَته حركةُ الإصلاح البروتستانتيِّ إلى مستوى المبدأ العامِّ الموجِّه للحياة اليومية. ثُمَّ يعقِّبُ (كولماس) على رأي (فيبر) بأنَّ النصوصَ التي فحصَها الأخيرُ ليَخرُجَ منها بوِجهةِ نظرِه هذه كان معظمُها مكتوبًا بالألمانية أو الهولندية أو الإنجليزية، وليس باللاتينية، ورغم ذلك لم يلتفت (فيبر) إلى هذه الحقيقة، ويلخّصُ (كولماس) فكرتَه بقولِه: "فمِن دون صياغة الإنجيل بلُغة عامَّةِ الناسِ فإنَّ إخضاعَ الحياةِ اليوميّةِ للنظامِ الصارِمِ كما أنجَزَته الأخلاقُ البروتستانتيّةُ كان سيُصبِحُ مستحيلاً تماما".    
     المهمُّ من هذه الانعطافة، هل (ترجمةُ) القرآن إلى العاميات العربية، وبينها (اللغةُ) المصرية يمكن أن تؤتِيَ أثرًا مشابهًا؟ في الحقيقةِ يفترِضُ الردُّ بالإيجابِ على هذا السؤالِ أنَّ الهُوَّةَ شاسِعةٌ بالفعل بين سَواد الناس في مصر وبين فهم النص القرآني. مرّةً ثانيةً لا يمكننا أن نُنكِرَ مستويات التلقّي وغموضَ كثيرٍ من الإشارات القرآنية، لكنَّ الحِسَّ المُشترَكَ يأبى أن يجعلَ هذا الغموض ينسحبُ على مستوى الأوامر والنواهي الأخلاقيّة الواضحة في المستوى العامِّ من التلقّي لدى الأُمِّيِّ والمتخصصِ في اللُّغَةِ على حَدٍّ سواء!

     القفزةُ الأخيرةُ لكاتبِ هذا المقال بعيدًا عن موضوعه المباشِر وقبل الختام، تتعلقُ بشهادةٍ شخصيّة. ربما في عام 2007، ألقيتُ تجربةً شِعريةً بالعاميّة المصرية في ندوةٍ شعريّةٍ مجمَّعة. ومن أكثر ردود الأفعال حضورًا في ذاكرتي، تعليقُ شاعر عاميّةٍ مصريٍّ صديقٍ على تجربتي: "مش دي العامّيّة اللي احنا عارفينها!". أثار هذا التعليقُ شهيّتي لملاحظة فرُوق التعبير بيني وبين غيري من المتكلمين بالعامية المصرية! باتّساع الملاحظةِ تبيَّنتُ أنَّ العاميةَ المصريةَ كما تفترقُ عن غيرِها من العاميات العربية، فإنها هي بحد ذاتِها كِيانٌ متفلِّتٌ جدًّا، لأنَّ عاميّة القاهرة غير عامّيّة (بحري) غير عامية الصعيد، ثُمّ إنَّ في القاهرة نفسِها نسخًا لهجيَّةً مختلفةً، ويصل الأمر إلى أنَّ لكلِّ فردٍ مجموعةً من الألفاظ قد لا يفهمها إلاُّ هو وقِلَّةٌ من أخِصَّائه بالفعل!
     الفكرة الحُلوةُ المُرَّة التي قدَّمَها لنا الفيلسوف الأمريكي (ويلارد كواين Willard Quine) في كتابِه المهمّ (الكلمةُ والشيء Word & Object) هي لاتَحَدُّد الترجمة Indeterminacy of Translation. تحت مظلّة هذه الفكرة يوجد مفهومان مهمّان بالنسبة لموضوعِنا. الأولُ هو غموضُ المرجِع Inscrutability of Reference حيثُ المفرداتُ يحملُ كلٌّ منها كثيرًا من المعاني الممكنة، والثاني هو لاتَحَدُّد العبارات الكاملة Holophrastic Indeterminacy حيث ما يصدُقُ على المفردات ينسحبُ على الوحدات اللغوية الأكبر: الجُمَل. تبعًا لهذين المفهومين، ينحَلُّ الفهم الصحيح لأيِّ منطوقٍ – لا في لغةٍ غريبةٍ عنّا فقط، بل في لغة الأمِّ التي نتكلمُها – إلى مجموعةٍ من الاحتمالات، كلُّها صائبةٌ بدرجةٍ ما! وبهذا، يمكننا أن نُعِيدَ بناء تعقيب الشاعر الصديق على تجربتي الشِّعرية بتعديل ضمائره ليُصبِح: "مش دي العامّيّة اللي أنا عارفها" بدلاً من "اللي احنا عارفينها"!
     لهذا أتوقَّعُ أن تُعمِّقَ ترجمةُ نصٍّ مركزيٍّ كالقرآن إلى العامية المصريةِ أزمةَ المعنى، لا أن تَحُلَّها.
     انتهاءً، أجِدُني مُضطَرًّا إلى تلخيص موقفي من مسألة ترسيم العامية المصرية وممكنات الترجمةِ إليها. حين يقرأ المرءً روايةً ضخمةً كـ(بيت كئيب Bleak House) لتشارلز ديكنز، أو مسرحيةً مثل (بيجماليون) لبرنارد شو، يجد الحِوار متراوحًا بين مستوياتٍ مختلفةٍ من العامّيّة كما يمكن أن نتوقعَها على أرض الواقع، رغم أنّ مَتنَ السرد عند (ديكنز)، ومقدمةَ المسرحية عند (شو) تتطابقان مع الإنجليزية المعيارية. في تقديري أنَّ هذا الحَلَّ يجذبُ العامّيّات إلى مظلة اللغة الفصحى باعتبارها تجلّياتٍ مختلفةً لنفس النظام اللغوي. وعلى ذلك، تبدو لي مناورةُ الدكتور (عبد الواحد لؤلؤة) التي صدَّرتُ بها المقال موفَّقةً جدًّا من الناحية النظرية على الأقل. رغم هذا الانحيازِ الواضحِ من ناحيتي، أتوقَّعُ أن تسيرَ الأمورُ في الاتجاه المضاد، وتكتسب دعوى ترسيم العامّيّات العربية -وبالتالي الترجمة إليها بشكلٍ كاملٍ- أنصارًا جُدُدًا يومًا بعد يوم، حتى تُكتَبَ لها الغَلَبَةُ في صراع الإرادات. فمزيدٌ من تعقُّد الحضارةِ يعني مزيدًا من اللغاتِ، وتبدو حكايةُ بُرج بابل الواردةُ في العهد القديم أقربَ إلى النبوءة المستقبليةِ منها إلى الحكاية القديمة. استقراءُ محطّات مسار الحضارةِ يُخبرُنا بذلك، أو هكذا يبدو لي!
محمد سالم عبادة
21 أبريل 2018
نُشِر في عدد أبريل 2018 من مجلة عالَم الكتاب 

Saturday 31 March 2018

مِن تقمُّص تاريخ العَدُو إلى حصارِه به: قراءة في مسرحية (شمشون ودليلة) لمُعين بسيسو



     منذ السطور الأولى التي يُنطِقُ بها الشاعر الفسلطيني الراحل الكبير (معين بسيسو) شخصيات مسرحيتِه هذه، يتبين أنه عازمٌ على كسر الحائط الرابع الافتراضيّ بين الممثلين والجمهور. الوجه الأول الذي لا يحملُ اسمًا في هذه المسرحية يقولُ أولَ ما يقول: "فلنكشِف أوراقَ اللُّعبة. وكفانا نرقصُ بالأقنعةِ على الخشبة". يتأكد هذا مع الإيغال في نصّ هذه المسرحية الشِّعرية، حيث يقول الرجُل ذو المِعطَف مثلاً: "هل تنتظرون يدًا تفتحُ سِردابًا تحتَ الخشبةْ. ويقودُكمُ السردابُ إلى الصّالةْ؟"، كما يتأكد مع تكرار الإشارة إلى عالم المتفرّجين في الصالة خلف الأسلاك الشائكة، ومع الممثّلين المندسّين بين الجمهور، يقومون في منتصف المسرحية ليُلقوا بالأربطة الطبية البيضاء والنقود والطعام إلى الممثلين من فوق السلك الشائك. هذا الفِعلُ المسرحيُّ المتبادَل بين الخشبة والصالة يُذَكِّرُنا بما أراد المسرحي العظيم (سعد الله ونُّوس) أن يفعلَه وضمَّنَه مقدِّمتَه لمسرحيتِه (مغامرة رأس المملوك جابر)، حيثُ تحدث عن الممثلين المبثوثين وسط الجمهور يشاركون في الفعل المسرحي ويتجاذبون الحوار مع ممثّلي الخشبة من آنٍ لآخَر، متمنّيًا أن يصبح ممثِّلو الجمهور هؤلاء نواةً لحوارٍ حقيقيٍّ يقومُ بشكلٍ تلقائيٍّ في مستقبل المسرح بين الجمهور وشخصيات المسرحية. وهذا الرسمُ الذي رسمَه (بسيسو) لمسرحيته يتقاطع كذلك مع مفهوم تسييس المسرح عند (ونُّوس)، حيثُ تصبح مشاركة المتفرجين في الفعل شكلاً من أشكال حضّ المتفرِّجين خارج المسرح (ويُقصَدُ بهم عامةُ العرب في تعاملهم مع القضية الفلسطينية) على المشاركة الإيجابية في الخروج من أزمة الاحتلال الصهيوني. يتجنب (بسيسو) هنا الدخول في تفاصيل واقعيّةٍ متعلقةٍ بالصراع العربي الإسرائيليّ، إلاّ بما يشكّل إطارًا عامًّا لأحداث المسرحية، مِن قبيل الإشارة إلى مرور ستة عشر عامًا على النكبة (وهو ما قد يوحي لوهلةٍ بأنّ زمن كتابة المسرحية هو عام 1964، حتى تسير الأحداث إلى تمام الاحتلال الصهيوني لسيناء وجولان وغزّة وضلوع الأردن الغربية، فنكتشف أنّ زمن إنجاز هذا النصّ هو بعد 5 يونيو 1967 بالتأكيد). وفي هذا التجنُّب ما يُبعِد هذه التجربة المسرحية عن مفهوم المسرح التسجيليّ كما نجدُه عند الكاتب المسرحي الألمانيّ (پيتر فايس) مثَلاً في مسرحيته (أنشودة غول لوزيتانيا) التي سجَّلَ فيها حَرفِيًّا وقائع الاستعمار البرتغاليّ لأنجولا. إلاّ أنَّ (بسيسو) يتقاطع مع (فايس) في مسرحية الأخير الأشهر (ماراصاد)، حيث الرجل الغارق في الصابون والذي يقوم من البانيو في منتصف المسرحية محرِّضًا على الثورة يشبه كثيرًا ملامح شخصية (مارا) الذي كان أحد أهم رموز الثورة الفرنسية وقُتِلَ بينما يستحمّ، إلاّ أنه يخرس سريعًا جدًّا في نصّ (بسيسو)، ربما لأن كاتبَنا يحاول أن ينقِّيَ الثورةَ من فرسان الكلمات البرّاقة الخاوية!
      الخلاصةُ أنّ هذه المسرحية تنأى بنفسها عن المسرح التسجيليّ بقَدر ما تهَبُ نفسها للمسرح السياسيّ في اقتدار.
     التحوُّل الأوضح في سير أحداث المسرحية هو خروج الشخصيات الفسلطينية من كونها محاصَرَةً في عالَم العَرَبَة (وهو الديكور الذي بالَغَ بسيسو في رسمِه للوحات المسرحية الأولى، قاصدًا به ديكور فلسطين المحتلّة)، إلى عالَم المقاومة والفعل الحقيقي. التفاصيل الشنيعة المتعلقة بهذه العَرَبَة ترسِّخُ حالةً كابوسيّةً أصيلةً، على غِرار الخراطيم الطويلة التي يثبتها الكمساري في سواعد وأفخاذ الركّاب ليسحب دمَهم وقودًا للعربة التي لا تمشي في الحقيقة.
     الاستعارةُ واضحةٌ في ديكور العربة، حيث الحالةُ العربيةُ الموسومةُ بالشَّلَل التامّ الذي يكرّسُهُ الزعماء العرب الرسميون، ممثَّلين هنا في سائق العربة والكمساري. كما أنَّ الرجُل ذا المِعطَف الذي يقولُ كلماتٍ رنّانةً ويحاول إغراء الثائر الفلسطينيّ (عاصم) بالتسلُّل عبر الأسلاك الشائكة إلى الصالة حيث عالَم المتفرجين، هذا الرجُل يمثّل في وضوحٍ كلَّ المتخاذِلين الذين يحاولون تمييع القضية الفلسطينية بتذويب الدَّم الفلسطيني في الجنسيات العربية الأخرى، وفي الحقيقةِ لا يتحقق خروج الأبطال من الحِصار إلى المقاومة إلاّ عبرَ الثورة على الأمر الواقع ممثَّلاً في الرجل ذي المعطَف أوّلاً، ثُمّ السائق والكمساري وعالَم العرَبة بأكملِه لاحِقا.
     المهمُّ هو الإحالاتُ الثقافية التي ترِدُ على ألسنةِ الأبطال الفلسطينيين في الجزء الأول من المسرحية في إشاراتهم إلى حالتهم الراهنة المحاصَرَة. الأمُّ التي يتّضِح لاحقًا أنَّ اسمَها (ريم) تقولُ في البداية عن رضيعِها الذي ألقَته من يدِها في إحدى ساعات الرُّعب: "كنتُ أطوفُ به تُرضِعُهُ هذي الأمُّ وتلكَ الأمّ. كان كمَن يتنبَّأْ. كان كمَن كُتِبَ عليه. أن يرضعَ مِن كُلِّ الأثداءْ. إلاّ مِن ثَديَي أُمِّهْ". هذا الطِفلُ الذي يتنبّأ بمستقبَل الشتات الفلسطينيِّ هو تُكَأةٌ لتماهي حالة المحاصَرين الفلسطينيين مع تاريخ العدو الصهيوني، وتحديدًا مع حالة الشتات Diaspora.
وهو في ذات الوقت نبيٌّ مقلوبٌ، كأنه موسى (نبي اليهود) وقد أُخِذَ من حضن أُمِّه، لكنّه لم تُحَرَّم عليه المراضع كما ورد في النص القرآني، ولكن أُبيحَت له كلُّ المراضع إلاّ أمُّه، فهو الآخَرُ تماهٍ لكنّه تماهٍ مقلوبٌ أشدُّ بُؤسًا من تاريخ الحالة اليهودية.
    أمّا في حوار الأب الفلسطينيّ مع ابنه (عاصم) فيقول: "أفضَلُ أن تقطعَ بالسِّكِّينِ أصابعَكَ وتُلقِيَها في النارْ/ تشويها، تأكُلَها/ مِن أن تنتظِرَ هُنا وهُنالِكَ في المنفى/ أن تسقُطَ مائدةُ المَنِّ عليكَ ومائدةُ السَّلوَى". فهنا تماهٍ آخَر مع الموروث اليهوديّ، فالحالُ الفلسطينيُّ في انتظارِ عون السماء وعون الأرض أقربُ إلى حال اليهود في خروجهم من مصر.
     الانقلابُ الأصيلُ الذي يأتي في أعقابِ الثورة على عالَم العربة الوهميّ يصاحبُهُ انسلاخٌ تامٌّ من هذا التقمُّص أو التماهي مع الموروث اليهودي، لصالح حِصار العدو الصهيوني بموروثه. فممّا قد يُؤخَذُ على هذا النصِّ لأوّل وهلةٍ مثَلاً عدمُ ظهور (شمشون) إلاّ قُربَ نهاية المسرحية. و(شمشون) هنا قائدٌ إسرائيليٌّ متعجرفُ يحاولُ إذلالَ (عاصم) و(ريم)، وتقنعُه زميلتُه (راحيل) بأنّ لـ(ريم) اسمًا آخر هو (دليلة). هنا فقط تتجسّد على خشبة المسرحِ الحكايةُ التوراتيّة عن (دليلة) بنت الفلسطينيين التي خدعت (شمشون) القاضي الربّاني وسلَبَته قوتَه بأن حلقَت له شعر رأسه. القائد الإسرائيليّ كذلك يظهر بضفائره ينفثُ سخطَه على الثوّار العرب، ويؤرِّقُه كما يؤرّقُ (راحيل) هاجسُ تجسُّدِ (دليلة) في (ريم)!  
     الشاهدُ أنّ تأخر ظهور (شمشون) مبَرَّرٌ تمامًا في سياق علامات النص المسرحي، حيث يحاصره الأبطال بأسطورتِه الخارجة من سِفر القُضاة، فتنتهي المسرحية وهو يدورُ في هياجٍ كالثور حول المدفع، بينما تقولُ له (ريم) وهي ممدَّدةٌ في محفَّتِها: "دُرْ حولَ المدفعْ. هذا هو طاحونُكَ يا شمشونْ. ستطلُّ تدورُ إلى أن تسقُطْ. هذا هو قَدَرُكْ". فهو انتصارٌ رمزيٌّ لهذه الفلسطينية المطعونة الموشكة على مفارقة الحياة، بكلماتِها الواثقة من سقوط عدوِّها في فخِّ هواجسِه وذُعرِه من انتفاضة الكيان العربي.
     لا ندري بالتأكيد ماذا كان يمكن لـ(معين بسيسو) أن يكتُبَ في ظلِّ ما آلَت إليه الحالُ العربية وقد مضى سبعون عامًا على النكبة. هل كان سيُنهي مسرحيتَه بهذه الثِّقة على لسان بطلته الفلسطينية؟ ليتَ لنا مثل ما أوتِيَ (مُعين) من إرادةِ الثورة، بعد تراكُم طبقات الخذلان على جسَد العروبة!   
محمد سالم عبادة
17 فبراير 2018 
نُشِر في صحيفة (مسرحنا) يوم 12 مارس 2018 

Thursday 22 March 2018

مسارٌ حتميٌّ للعِلم الجَمُوح: قراءة في مسرحية (إنسان روسوم الآلي) للكاتب التشيكي (كاريل تْشابِك)

     يظلُّ صعبًا أن يتعرض المرء لمحاولة قراءة نصٍّ مسرحيٍّ قديمٍ تواطأ الزمنُ وريادةُ كاتبه وشهرتُه العالمية على تكريسه كنصٍّ كلاسيكيٍّ في الوعي الجمعي لمحبّي المسرح. لكن يبدو أنه لا مفرَّ من أن يبسط المرءُ أفكاره عن النصوص التي مسَّت وترًا حسّاسًا في ذائقته، لعلَّ فيها جديدًا حقيقيًّا جديرًا بأن يُضافَ إلى كُلِّ ما كُتِب عن هذا النصّ.
     النسخةُ التي وقعت في يدي  هي التي قام بترجمتها إلى العربية أ.د. طه محمود طه، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة الكويت، لمصلحة سلسلة (المسرح العالمي) الصادرة عن وزارة الإعلام الكويتية، معتمدًا على ترجمةٍ وسيطةٍ من التشيكية إلى الإنجليزية، أنجزها (ب. سلفر) بحسب الغلاف الداخلي للنسخة. في الحقيقة لم يبخل أستاذنا (طه محمود طه) بمعرفته العميقة والموسوعية فيما يتعلق بتاريخ فكرة (اليوتوبيا) ومفهوم الإنسان الآلي وما يرتبط بهذين الموضوعين من  موضوعاتٍ فلسفيةٍ وإنسانيةٍ أثرى بها مقدمتَه لهذه النسخة.
     ومما أثبته (د.طه) في هذه المقدمة سَبقُ هذه المسرحية إلى تناول اليوتوبيا العلمية بعد فترةٍ طويلةٍ امتدّت من نهايات القرن التاسع عشر إلى سنة كتابة هذا النص عام 1920، انفردت فيها القصّة بهذا الحقل الخيالي. وفي تقديري أنَّ هذا التأخُّرَ في جانب الكتابة المسرحية مرجِعُه إلى طبيعة الخطاب المسرحي كتابةً وأداءً، فمن أخَصِّ خصائص خطاب هذا النوع الأدبي الفنّيِّ: المبالَغَة. المبالغة الأدائية من ممثلي المسرح ضروريةٌ للوصول إلى المتلقِّين، حيث العلاقة المباشِرة لمن يعتَلون الخشبةَ بالجمهور لا تضمنُ أن تصلَ الانفعالاتُ المُقَدَّرَةُ بقدرها الطبيعيِّ من الممثل إلى المتفرجين، وذلك بحكم المسافة الفيزيقية التي تفصل الخشبة عن مقاعد الجمهور ببساطة. ولأنَّ كل من يتعرضُ للكتابة المسرحية يشرعُ في الكتابة وفي خلفية وعيِه هذا الاعتبار، فهو لابُدَّ مستعينٌ بقدرٍ من المبالغة في توجيهاته لحركات الممثلين وفيما يبسطه من حوار شخصياته وفي انتقالات دفة الحوار ودفة الأحداث. المحصِّلَةُ أنَّ المبالغةَ تفرض نفسَها في المسرح. يأتي هذا ليصطدم بطبيعة اليوتوبيا العلمية القائمة على الخيال العلمي، وما يتطلبه هذا من قفزٍ على مفهوم الاستحالة المعرفية Epistemic Impossibility
بمعنى أنَّ الكاتب يتحدى المنظومة العلمية المستقرة في وقت كتابتِه عملَه هذا، فيأتي بتصوراتٍ لا يُعضِّدُ إمكانيةَ حدوثها الواقعيِّ حاضرُ العلم بتقنياتِه وحقائقه التي وقفَ عندها في اللحظة الراهنة. وفي هذا ما فيه من المبالغة بدَورِه، حيثُ يفترضُ صدمةً معرفيةً وتخييليَّةً للمتلقِّي، الذي يكفيه في العُرف المسرحي المستقِرِّ ما يواجهه من مبالغات المسرح المُكَرَّسَة كتابةً وأداء! وهو ما لا يحدث حتى مع اليوتوبيا (المثالية) التي لا دخل للعلم فيها، حيث الصدمةُ أقَلّ لأن العمل لا يواجهُ حقائق علميةً مستقرةً في وعي المتلقِّين. 
لهذا كان الإقدام على كتابة مسرح الخيال العلمي مغامرةً إبداعيةً عنيفة. ولا يُقاسُ مدى هذه المغامرة بالتناوُل          القصصيِّ لموضوعات الخيال العلمي، لكلِّ ما يتوافرُ في القِصِّةِ من حميميةٍ كوسيطٍ يحتضنه المتلقّي بين يديه ويُقبِلُ عل قراءتِه بإيقاعه الشخصيِّ الخاص.
معروفٌ بالطبع أن هذه المسرحية الشهيرة ديستوبيا، حيث تسير الأحداث في اتجاه سيطرة مجتمع (الناس الآليين) على البشر وإفناء حضارة الجنس البشري. ينقُد (تشابك) العلمَ بصفته إفرازَ الحضارة الضروري وقاطرتَها إلى التقدم في وقتٍ واحد. يفعلُ هذا على عدّة مستوياتٍ أوضحُها بالطبع هو الاتِّجاه العامّ لأحداث المسرحية، ثُمّ النقد المباشر بلسان الشخصيات، وبينها (دومين) مدير المصنع نفسُه حين يقول لـ(هيلينا): "أراد روسوم العجوز أن يشارك الله في قدرتِه وكان ماديًّا مخيفًا لذلك قام بكل هذا العمل. ولم يكن له من هدفٍ سوى أن يُمِدَّنا بالدليل على أن العناية الإلهية لم تعد ضرورة". لكن لعلَّ ألطفَ وأدَقَّ هذه المستويات هو إشاراتُ (تشابك) المنتثِرَة في ثنايا الحِوار. مِن أهمّ هذه الأشارات تعليق (هيلينا) على اسمَي الرجل والمرأة الآليين الذَين قدمهما لها (دومين)، حيث هما (سولا) و(ماريوس)
Sulla & Marius
فتصفُ اختيار هذيين الاسمين بالشناعة – لاسيَّما (سولا) المرأة – لأن (سولا) اسمُ رجُلٍ، والاسمان كانا لقائدَين رومانييّن قامت بينهما حربٌ أهليةٌ بين عامي 89 و88 ق.م. إجابة (دومين) الكوميدية هي أن فريق العمل ظنّ الاسمَين لعاشِقَين!
     هذه الإشارةُ إلى استغراق طائفةٍ من العلماء في العلم التجريبي وجهلهم المُطيِق بالتاريخ الإنساني، أو معرفتهم بقشوره بشكلٍ سطحيٍّ لا يُسمِنُ حكمةً ولا يُغني من حماقةٍ وتهوُّر، تمثّل نقدًا لاذعًا لمسار العلم الحديث وربّما مسار التعليم العلمِيّ كذلك في انقطاعه الصارم عن الإنسانيات كرافدٍ معرفيّ. وتزداد مناسبة اختيار هذين الاسمَين وتتعمق دلالةُ المفارقة حين نعرفُ أنّ الحرب الأهلية المُشارَ إليها في التاريخ كانت بسبب اغتيال (ماركوس ليفيوس دروسوس) وإلغاء إصلاحاته التشريعية الهادفة إلى منح حلفاء روما في عموم الأراضي الإيطاليةِ مواطنةً رومانيةً كاملةً تستتيعُ حقَّهم في التصويت على السياسات الخارجية والداخلية لروما. يشبه هذا إنذارًا من الكاتب في بداية المسرحية بأنَ هؤلاء الناس الآليين سيشعلونها حربًا مع تقدُّم الأحداث لسببٍ مشابهٍ لما حدث في روما القديمة، وهو ما يحدث بالفعل حين يطالبون بأن يقوم مجتمعُهم العالميُّ على حساب البشر الذين أصبحوا بلا عمل!
لطيفةُ أخرى في اختيار أسماء بعض الشخصيات. هناك عالِم الفسيولوجيا (جال) أو (جول) كما عرَّبَه (د.طه)
Gall
الذي اختار له (تشابك) هذا الاسم الذي يعني في التشيكية ما يعنيه في الإنجليزية: (العُصارة الصفراوية)! هذه العصارة التي كانت تمثّل في الطبّ القديم أحد الأخلاط الأربعة (مع البلغم والدم والسوداء) والتي أصبح اسمُها يمثل في تراث اللغات الأوربية إشاراتٍ مختلفةً إلى الخُبث أحيانًا والشجاعة أحيانا. هو يجسِّد هذه الورطة التي يخلقها العلم ويقعُ فيها، لاسيَّما حين يخلُقُ على صورة (هيلينا) البطلة زوجة (دومين) آلِيَّةً تحمل نفس الاسم المربِك الحافل بالإشارات بدوره .. (هيلينا) اليونانية التي اختطفها (باريس) أو (ألكساندروس) الطروادي والتي بسببها قامت حرب طروادة. هي هنا التي اختطفها أوّلاً مجتمع العلميين القائمين على المصنع من الجمعية الإنسانية التي ابتعثتها لتطَّلِع على أحوال الناس الآليين، ثُمّ اختطفها في صورةٍ آليّةٍ مجتمعُ الآليين أخيرا. هي المخطوفةُ أبدًا من يدٍ إلى يدٍ في حربٍ أبديةٍ، لكنّ (تشابك) يمنحها في الختام فرصةً لتكون حوّاء ما بعد فناء البشر!
من هذه اللطائف كذلك حديثُ (ألكويست) المهندس المدنيّ لـ(دومين): "لقد كان في العمل لذةٌ جميلة يا دومين. كان العمل شيئًا عظيمًا في الإنسانية. لقد كان هناك نوعٌ من الفضيلة في الكدح وفي التعب". (ألكويست) هو الوحيد الذي يعمل بيديه بين شخصيات المسرحية، ويظهر في أكثر من مشهدٍ ويداه متَّسِختان من أثر العمل، ويُبقِي عليه الآليُّون في مفارقةٍ دالَّةٍ لاعتقادهم أنه مثلُهم لأنه يعمل بيديه، ثُم يرجونه بعد ذلك أن يخبرَهم بكيفية صناعة المزيد من الروبوتات (حيث أحرقَت هيلينا مخطوطَ روسوم الأصليَّ لصناعة الروبوت قبل أن يقتلوها). الشاهد أنّ العلم بتوفيره الجهدَ البشريَّ من خلال قيام الآلة بالمزيد من العمل – قاطرًا الحضارة إلى تقدُّمٍ ما – يقضي على تلك الفضيلة الخلُقِيّة التي يتغني بها (ألكويست). هل يُدَكِرُنا هذا بالكثير من المأثورات في الأديان المختلفة، بينها قولُ نبي الإسلام: "إنَّ من الذنوب ما لا يكفِّرُها إلا السعيُ في الرزق" وإثناؤه على الرجل الذي أحجمَ عن مصافحتِه خجلاً من كفَّيه الخشنتين من أثر العمل: "إن هذين يدان يحبهما اللهُ ورسولُه"؟!
في تقديري أنّ ألطف إشارات (تشابك) في حبكة المسرحية تتمثل في الغياب الجسدي لـ(روسوم)! العالِم العجوز الذي بدأ الأمرَ كُلَّه وأعلن إلحادَه وبالتالي قتل مفهومَ الإله بشكلٍ مجازيٍّ قبل بداية أحداث المسرحية، جاءه ابنُ أخيه المهندسُ الواعدُ (روسوم) الشابّ الذي عمل معه فترةً ثُمَّ تمرَّد عليه وتركه ليجرِّبَ في معمله مع (مساخيطه) – بحسب قول (دومين) في ترجمة د.طه – وانطلق ليبني الإنسان الآلي الحقيقي الذي يشبه صورة الآدميين والمتكامل ميكانيكيًّا كما ينبغي للكمال أن يكون! لقد قتل هذا المهندسُ عمَّه (روسوم) مجازيًّا بدَوره. ثم جاء الغياب الجسديُّ لهذا المهندس العبقريِّ عن أحداث المسرحية رغم إنجازه العلميِّ الضخم قتلاً ضمنيًّا له هو الآخر. بهذه الطريقة المكرَّسَة بهذا اللطف في المسرحيةِ يُحَوِلُ العِلمُ الجَمُوحُ الذي لا يعترف بالعوائق الخُلُقيةِ المشتغلين به إلى مشروعاتِ آلهةٍ مقتولة! إنها عمليةٌ كأنها جزءٌ مفصليٌّ في بِنية النشاط العلمي الجَموح، وكأنها انتقامٌ إلهيٌّ - ينتمي للألطاف الخَفِيَّة – ممّن يجرؤون على القتل المجازي للمُحَرِّك الأوّل!
     في ختام المسرحية نكتشف أنَّ شكلاً من أشكال الرُّوح قد دَبَّ في رجلٍ وامرأةٍ آلِيَّين هما (بريموس) و(هيلينا) التي صنعها العالِم (جول) على هيئة (هيلينا) البطلة التي ماتت، وأنَّ هذين الآليين وقعا في حب بعضهما البعض. يسمح لهما (ألكويست) – بعد أن تسيَّد مجتمعَ الروبوتات الآيِلَ إلى الفناء بسبب احتراق مخطوط روسوم - بأن يذهبا بعيدًا ويؤسسا مجتمعًا بشريًّا – أو شبهَ بشريٍّ – جديدًا، ويدعوهما (آدم) و(حواء)، ثم يتلو من إنجيل (لوقا) آياتٍ: "فخلق اللهُ الإنسانَ على صورتِه. على صورة الله خلقَه" إلى: "الآنَ تطلِقُ عبدَكَ يا سيِّد، حسب قولِكَ بسلامٍ لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصَك". بهذا الاقتباس الأخير يبسطُ لنا (تْشابِك) رؤيتَه للدِّين كمقوِّمٍ للحضارة وضرورةٍ للاجتماع البشري، رغم تمرُّد (روسوم) العجوز على الدين في البداية في غمرة إخلاصه للحضارة! ويظهَر من هذا التناوُل أنَّ الدِّينَ يقوم بوظيفتين للحضارة تبدوان متعارضتين بالفعل، فهو يبعثُها ويحثُّ الناس على الإعمار وصولاً إليها، لكنَّه يقفُ كابحًا جموح هذه الحضارة في الوقت ذاتِه، ويبدو أنَّه لكي تتجاوز الحضارةُ نقطةً بعينِها من سيرورتها عليها أن تتجاوز الدِّين مع هذه النقطة، لكن المفارقة أن هذا التجاوُزَ يُسرِعُ الخَطى بالحضارة إلى نهايتِها وفَناء الجميع! هنا تبدو فضيلةُ العمل- التي حدَّثَنا عنها (ألكويست) والتي يحثُّ عليها الدِّينُ – بدورها قاطرةً للبشرية وفي نفس الوقت فإنَّ المزيد من العمل بلا تراخٍ يفرزُ بالضرورةِ بحثًا علميًّا يُفضي إلى استئصال العمل والكدح من النشاط البشري، وبالتالي اقتراب النهاية!
 هي معادلةٌ تبدو حتميةَ الحدوث وغيرَ قابلةٍ للحَلّ تبعًا للمسرحية، وليست المسرحية بحسب هذه القراءة إنذارًا شديد اللهجةِ من (تْشابِك) للبشرية بضرورة الإبطاء من عجلة التقدم العلمي لصالح الرجوع إلى الدين، بقدر ما هي إيضاحٌ لرؤيته المعقَّدَة ومحاولةٌ منه للفت انتباه جمهوره إلى أنَّ المصير قادمٌ وحتميّ وكلُّ ما هُنالِك أن نحاول إبطاءه، عسى ألاّ يحدُثَ ونحنُ على ظهرِها!
محمد سالم عبادة
 فبراير 2018
نُشِر في صحيفة (مسرحنا) الإلكترونية في عدد 19 فبراير 2018