Monday 25 December 2023

بولِنغ لبابا نويل Elf Bowling





في هذه اللعبة تقوم مجموعةٌ من الدمى/العفاريت في شكل (بابا نويل) مقام قطع البولينج العشرة المعروفة ، ويحاول اللاعب (بابا نويل بشريٌّ كبير) إسقاطها بتصويب كرة البولينج نحوها.

 ..........................................

العفاريتُ ذاتُ اللِّحَى والعَمائمِ في آخرِ السَّيرِ تصطَفُّ مُنتَظِرَةْ

لا دُمىً، لا بشَرْ!

عاد (پاپا نويلُ) من السنةِ المُدبِرَةْ

واحتَمى بالقَدَرْ

وارتَمَى في جميعِ الحُفَرْ

داعبَتْ كُرةٌ يَدَهُ كي يُصَوِّبَها نحوَ إخوتِهِ من عفاريتِ پاپا نويلَ، فصَوَّبَها، وأطاحَ بكلِّ العفاريتِ في ضَربةٍ مُقمِرَةْ

بَيدَ أنَّ يَدًا غيرَ مفهومةٍ لملمَتْ مَن أُطيحَ بهمْ وأتَتْ بصُفوفٍ أُخَرْ!

والعفاريتُ مُستَبشِرَةْ

غَيرُ معتَذِرَةْ

 

فارتَمى في جميعِ الحُفَرْ

وارتَمَى وانتشَرْ

وانتمى للحَذَرْ

لُعبةٌ خَطِرَةْ!

محمد سالم عبادة

26/12/2009

من ديوان "أواثقٌ أنتَ أنكَ تريدُ الخروج؟" الصادر ضمن كتابي "ديوانان من الشِّعر" رقميًّا عن مؤسسة هنداوي عام 2021

 


Saturday 20 May 2023

الأبُ والجثمان - من المجموعة القصصية (ما يَحدثُ في هدوء)

 



 

     يكادُ البردُ يقتلُني. أقولُ يكادُ لأنّي واثقٌ أنه لن يستطيعَ قتلي وإن أراد!

     ربما منذُ ألفِ عامٍ فقط كان الناسُ هنا يظنّون أني لا يُصيبُني البردُ ولا يدهمُني الحَرُّ، والحَقَّ أقولُ، كان هذا يُطريني ويُطربُني. والآنَ وأنا أجرّرُ قدمَيَّ مع جُثّة ابني على هذا السرداب- لا يعرفُ أحدُهم ما يحدثُ هنا، ولا يخطرُ ببالِهم أصلاً – أشعرُ ببردٍ ينقُرُ عِظامَ رُوحي ويوجِعُني.

     منذُ ألفٍ فقط من السنين، كنتُ أظنُّ أنّ القوةَ باقيةٌ لي. لكنني الآنَ مُدرِكٌ تمامًا أن ليسَ ثمّةَ ما يميزُني إلاّ الخُلودُ. فأيُّ بُؤسٍ هذا؟! خالدٌ في شيخوختي؟!

     واوَلَداه. وامَلِيكاه. حُزني عليكَ لم يخفُت ساعةً يا مَلِكَ مِصر. يا خالدَ الاسمِ بينَ البشرِ الذاهبينَ إلى النسيان. يا مَن أردتَ أن تَقومَ في النَّهارِ بعدَ موتِكَ لتلتحمَ بأبيك.

     خوفو. سامحني يا وَلَدي على ما أفعلُهُ الآن. جثتُكَ المحنَّطَةُ التي خفَّ وزنُها أصبحَت ثقيلةً على أبيكَ الإله العَجُوز. ولا ينتظرُهُ في الصحراءِ بعدَ أن يخرُجَ بك إلاّ مزيدٌ من البرد. سامحني. أعرفُ أنكَ أخلصتَ لي. وحفظتَ ولاءكَ لي سِرًّا، ولم تنتسِب إلى آلِهة مِصرَ الأخرى لأظلَّ وحدي في قلبِك. ذريتُكُ لم يسيروا في ظلِّكَ وأنتَ تعرف هذا. انتسبوا إلى (رَعْ). وتركوني. تركوا (سِتْ) الواحِدَ في الصحراء. تنوشُهُ الرّيحُ ولا يحتفي باسمِهِ ملِكٌ من بَنيه إلاّ قليلا.

     آهِ. ها أنَذا عند المَخرَجِ من الهرَم. الليلُ مُطبِق. وألوهيّتي لم تُبقِ لي إلاّ الخُلُودَ، فما أقسى هذا البَردَ ياخُوفو!

     تعالَ يا ولدي، امتثِل ليَدَي أبيكَ المرتعشتين، وسامحهُ إن جرّكَ في الرمالِ خارجَ قبرِكَ العظيم. آهِ لو كنتُ مستطيعًا أن أمنحَكَ من خُلودي. إذَن لرأيتَ بلادَكَ تسقُطُ في أيدي الغُزاةِ مرّةً ومرّةً ومرّة. ورعاياكَ ينسون أباكَ ويغرقونَ في النسيانِ وهم أحياءٌ، ويسلّمون أنفسَهم لكلِّ شجاع. لكن. شكرًا للقدَرِ الّذي حرمَكَ الخُلود. أنت الآنَ مستريحٌ من حُزني الذي أحملُهُ منذُ سقوطِ مصرَ الأول والثاني والثالث. غزاةُ الشّرق. يالَغُزاةِ الشّرق! لا يعرفون شيئًا عن (سِت) ملِكِ الصحراء. ومجيئُهم أغرى المصريين بي، فصاروا يكرهونني، ويقولون إنني أنا الشّرّ، وكأنهم نسوا أنهم جاءوا منّي، من الصحراء. ولماذا أقولُ (كأنهم)؟ بل قد نسوا بالفعل. ألم أقُل لك يا ولدي إنهم غرقوا في النسيانِ وهم أحياء؟!

     لو أستقبلُ من حياتي ما استدبرتُه. لكنتُ انتبهتُ إلى (حُور) المخاتل. ذلك الصقر الذي أذاقني الحسرةَ الأولى فزللتُ عن عرشي الذي كان على قلوبِ المصريين قائما.

     أذكرُ بالطبعِ ذلك اليومَ يومَ النحس. أغراني بالاحتكامِ إلى الآلِهة، ولم أكن أدري ما الآلِهة. وافقتُهُ ياولَدي، فقد كان في منقارِهِ المعقوفِ ما يمنعُني من الرفض، وكان في عينيه المدورَتين ما يُغريني بالقَبُول.

   قال: "ستنامُ معي، وسأنامُ معَك. وسترى الآلهةُ أكثرَنا فحولةً وسيكونُ له الأمرُ في مصر".

قبلتُ يا ولدي. وحينُ قذفتُ ماءَ حياتي تلقّاهُ بيدِه، ولم أدرِ ما فعلَ به، لكنّي رأيتُ فيما بعدُ ونحنُ نتحاكمُ لدى الآلهة أنه ألقاهُ في النيل. وحين قذفَ ماءَ حياتِهِ تلقّاهُ هو أيضًا بيدِه ولم أدرِ ما فعلَ به. لكني رأيتُ فيما بعدُ أني قد أكلتُه!

     نعم! أكلتُه ياولدي مع نبتة الخَسّ التي أحبُّها. المخاتلُ نثرَ ماءَ حياتِهِ عليها لأنه يعلمُ أني سآكلُها. وحينَ نُودِيَ ماءُ حياتي أجابَ النهر. ضاعَ ماءُ حياتي ياولدي. وحين نُودِيَ ماءُ حياتِهِ أجابَ مِن أحشائي!

     يالَخُسراني. يالَحسرتي يا ولدي.

     وأنتَ على ذلك عبدتَني وأفردتَني بالولاء. فكيفَ أنساك؟

     ازدحمَ الأكَلَةُ على مصر يا ولدي. غزاةُ الشرق.

     ها نحنُ في وسطِ الصحراءِ أيها الملِك. وأنا جائعٌ مطرودٌ وذنَبي يؤلمني. أظنُّهم سيقولون بعد ألفين من السنينَ في اختفاءِ جثمانِكِ الأقوال. ربما يقولون انتهبَه اللصوصُ مع كنوزِه. ربما يقولون شرّحه الغزاةُ ليعرفوا موضعَ رُوحِه. وسأكونُ أنا قد نُسيتُ تمامًا ومُحِيَ اسمي إلاّ من بقيّةٍ من نقوشٍ على المعابد التي أقامها أبنائي قديما. لكنني سأظلُّ هنا في الصحراء. خالدًا في الظُّلمةِ والبرد. واحدًا في حكايتي وكأنني لم يعبدني آلافُ آلافٍ من أبنائي. لن يخطُرَ ببالِهم أنكَ في أحشائي. فما أنتَ إلاّ بعضُ ماءِ حياتي. وها أنذا جائعٌ وأنتَ لن تشعُرَ بي آكلُكَ يا ولدي.

     امتثِل ليَدَي أبيك المُرتَعِشَتَين يا ولدي، وكُن حنونًا على ما بَقِيَ مِن أسنانِه التي أسقَطَها الغُزاة. كُن بارًّا بأبيكَ (سِتْ). وسامحهُ إن حرمَكَ من البعثِ في النهار، بينما الجوعُ يقرصُهُ في بردِ الصحراء.

 

2016




Saturday 28 January 2023

من رواية (دليلة) - من الفصل الثاني (المكتبة)

 


     

سحبَت (دليلةُ) يدَها من يدِ المُحَنّيَةِ النوبيةِ باستعلاءِ السّادة .. لم تَبدُ أماراتُ دهشةٍ على وجه المحنّية، وإنّما - لدهشتي أنا – ظلّت ترسُمُ بالحِنّاءِ، ولكن على كفِّها اليُسرَى الّتي كانت تمسكُ بكفِّ (دليلة) .. امرأةٌ مخلصةٌ لما تفعلُه!

   أقتربُ ..

   يخترقُني عطرٌ لا أدري لمَن هُو؟ عطرٌ كأنّه خلاصةُ العالَم الّذي كان .. خلاصةُ كلِّ ما مضى من الزمانِ، منذُ الخليقةِ إلى لحظةٍ راهنة ..

   أقتربُ لأرَى ما ترسُمُهُ وأتوقّعُ أن يكونَ طاووسًا ذَكَرًا أيضًا، لكنّني أرى امرأةً شابّةً هيفاءَ القَدِّ، ترتدي فستانًا وطرحةً، ومن الطّرحةِ يتدلّى اليَشمَكُ الّذي نَحَّتهُ المرأةُ إلى أسفلِ ذَقَنِها، وقد مدّت يُمناها في استعلاءٍ غيرِ مُبال .. لكنّ الطرحةَ غيرُ مكتملةٍ وكأنّها قُدّت من دُبُرٍ قبلَ أن تُرسَم، واليشمكَ غيرُ مكتملٍ وكأنَّ الزمانَ أكلَ عليه وشرِب حتى قاربَ الاهتراء، والفستانَ ملتصقٌ بفخذَيها يصفُ تفاصيلَهما وكأنَّ ريحًا هبَّت في لحظةٍ سابقةٍ على الصورةِ دفعَت بعضَ قماشِهِ بين فخِذَيها ولصقته بهما  .. لا أفهم!

   أنظرُ في وجهِ المُحَنّيةِ النّوبيّة وقد انكبّت بكاملِ تركيزِها على الرّسم .. أتساءلُ: هل ستُخلدينَ إلى الماءِ اليومَ أو غدًا أيتُها العجوزُ السمراءُ، أم انَّ الفتاةَ ستبقى طويلاً على كفِّكِ؟ يُدهشُني أنّها تنظرُ أمامَها وكأنّها تراني، ثُمَّ تضحكُ تضحكُ في مرحٍ بالغٍ، فأُجفِل ..

   مشَت (دليلةُ) من مقعدِها إلى باب الحرملِك، ثُمّ منه إلى باب المكتبة .. مِشيتُها الُهوَينَى الّتي مشَتها (هُرَيرةُ) الأعشى .. هل من خبيرٍ بالأنسابِ يُخبرُني بشجرةِ عائلةِ أبيها؟ أفي جدّاتِها (هُريرةُ) المذكورةُ أم انَّ النساءَ تشابَهنَ علَينا؟ مشَت (دليلةُ) وكأنَّ أفراخَ اليَمامِ نقرَت بيضَها السّاكنَ المتراصَّ في الطريقِ مِن مقعدِ (دليلة) بالحرملِك إلى باب المكتبةِ، واكتسَت بالزّغّب وطارَت، مُخلِّفةً البَيضَ قِشرًا، لتمشيَ عليهِ (دليلةُ) هُوَيناها الّتي تحبُّها ..

   طرقتان على باب المكتبة ..

- ادخُلي يا ابنتي!

   أتاها صوتُ أبيها عَبرَ القَروِ المَطلِيِّ بالأخضرِ الزرعِيِّ في باب المكتبة .. دلَفَت إلى الجالِسَين، والتقت عيناها بعينَي العريس .. لم يَفُتهُ شبَحُ ابتسامتِها قبلَ أن تُطرِق ..

- اجلسي يا ابنتي بجوارِ عريسِك ..

   جلَسَت ..

- دليلة .. عروسي المَصُون .. أما وقد ودّعتِ اليومَ – كما قال الفاضلُ أبوكِ - سنواتِ اللعِبِ إلى سنواتِ الجِدِّ، فإن أولَ ما أحبُّ أن تبتدئي به الحياةَ معي .. هذه!

   قالَها وهو يُبرِزُ من جيبِهِ قلادةً ذهبيةً ثقيلةً، مُحلاةً في منتصفِها بلؤلؤةٍ بيضاويّة.

   نقّلَت (دليلةُ) عينيها بين القلادةِ والعريسِ وأبيها في تردُّدٍ بادٍ، فبادرَها أبوها:

- خُذيها من عريسِكِ يا (دليلة) ..

   تناولَتها .. ثقيلةٌ في يدِها .. تنظرُ إلى القاضي (شهابِ الدّين) في استنكارٍ معاتِب:

- إنّها ثقيلةٌ يا أبي!

   يضحكُ القاضي، ويضحكُ العريس، ويتناولُها من يدِها:

- دَعيني أحيطُ جِيدَكِ بما يستحقُّه.

   تبتعدُ (دليلةُ) خطوةً إلى الوراءِ، وقد أمسكَت بالقلادة من يد العريس:

- لا .. سألبسُها .. أعني .. نعم سألبسُها ولكن ليسَ الآن ..

   يواصلُ أبوها ضحكه في هدوءٍ بينما ترتسمُ الحيرةُ على العريس.

- دعها يا ولَدي كما تشاء .. مازالت الحياةُ أمامكما طويلة ..

   تكوّرَت القلادةُ في كفِّ (دليلة) التي استدارَت وخرَجَت، كما دخَلَت. التفت العريس إلى أرفُف المكتبة المكتظّة بالمخطوطات الصفراء. تابعه القاضي بعينيه. قام (الحسيني) ومشى بمحاذاة أركان المكتبة الأربعة ثُمّ توقّف أمام أحد الأرفُف وسحَب مخطوطين متلاصِقَين وأخذ يقلّب أوراقهما.

- الحسيني: صفراء حَقًّا!

- القاضي (مبتسمًا): فاقعٌ لونُها، تَسُرُّ الناظرين!

     ابتسم (الحسيني) في صمتٍ ثُمّ أردف وهو لا يرفع عينيه عن عنوان كتابٍ مخطوطٍ بين يديه:

- (صناعةُ الموسيقا)؟ لماذا في مكتبتكَ مثلُ هذا الكتاب يا عَمّاه؟

- وماذا في وجوده في مكتبتي؟! هل من بأسٍ على القاضي أن يُلِمَّ بالموسيقا؟

- آه! ربّما يُلِمُّ بها إلمامًا عابرًا كأن يسأل مغنِّيًا عن شيءٍ ذاتَ مَرّة، أمّا أن يعكُفَ على كتابٍ في صناعة الموسيقا ويُنفِقَ من وقتِه في تعلُّمِها، فهذا ما لا أفهمُه!

- يا ولدي، الموسيقا تُخرِجُنا من سأَم حياتِنا. أنت لا تدري مقدار ما يبعثُه فيَّ مجلسُ القضاء من سأَم!

- (الحسيني هازًّا رأسه في اصطناع الموافقة): أعلَم أعلم. والموسيقا رَحبةٌ ومجلسُ القضاء ضيّقٌ، سمعتُ مثلَ ذلك من صديقٍ اعتزلَ التجارةَ وتفرّغَ لدرس الموسيقا ثُمّ اتخذَ الغناءَ والضربَ بالعُود بابًا للرزق.

- (القاضي في لهجةٍ محايدة): بالعكس! الموسيقا ضيّقةٌ فوقَ ما تتصور! إنها تشبهُ برزخًا بين بحرَين، لكنَّ أحدَهما بحرٌ تزاحمَت فيه السفُن والمراكبُ حتى سَدَّت الأفُق، والآخَرَ بَحرٌ هو والسماءُ ماءٌ واحد!

     أعادَ (الحسيني) المخطوطين إلى مكانهما بين الكتُب وهو يختلسُ النظرَ إلى القاضي في ضيقٍ، ثُمّ عادَ إلى مكانِه صامتا.

*          *          *

محمد سالم عبادة

فازت الرواية بالمركز الثاني في مسابقة ربيع مفتاح للرواية المخطوطة عام 2018، وفاز السيناريو المبني عليها بثالثة مسابقة ممدوح الليثي للسيناريو السينمائي في افتتاح مهرجان الإسكندرية السينمائي في العام نفسِه. صدرَت عن دار ميتابوك للنشر والتوزيع برعاية اتحاد الكُتّاب في يوليو 2022

Monday 23 January 2023

إيّاك نعبد (من المجموعة القصصية: ما يَحدث في هدوء)


 

     مرَّت ستُّ ليالٍ من الشهر الكريم. والليلة هي السابعة. شوارع (البساتين) المحتفيةُ بأكوام القُمامةِ طوالَ العام تحتفي بليالي رمضان بالمصابيح الكهربية منتظمةً في خطوطها بين شرفات المنازل، مُلقِيَةً نورًا يتجاوز محدوديةَ الموجَب والسالب على الشارع ومَن يمرُّون فيه، يتوسطها الفانوس العملاقُ في كل شارع. يذكرُ الكبارُ أنَّ الشوارع كانت تتبارى منذ خمسين عامًا في حجم وزينة وألوان الفانوس العملاق. لم يعد الأمر كذلك بالطبعِ، لكن العادةَ مازالت تتوارثُها الأجيال، ولا تكاد تمرُّ في شارعٍ لا يزدانُ بفانوسٍ عملاقٍ يُحَلِّقُ فوق رأسك.  أُضَحّي كلَّ عامٍ بختم القرآن في التراويح لأحققَ هدفًا آخر لا أظن كثيرين يشاركونني إياه. أحرصُ على صلاة العشاء والتراويح كلَّ ليلةٍ في مسجدٍ مختلفٍ من مساجد البساتين، وربما أصادف من الأئمة والقراء مَن لا ألقاهم طيلة العام إلا في رمضان، فيحملون إلى تلافيف مخي بين طيّات الوقف والمَدِّ والغُنَّةِ ذكرياتٍ من رمضاناتٍ فاتت.

     بين هؤلاء الشيخ (فريد). لم يكن شيخًا من جهة السن، فملامحه تنبئُ عن شابٍّ في منتصف ثلاثينياتِه، لكن من جهة الإمامة. فقد جرت العادةُ على تسمية من يتقدم من تلقاء نفسه للإمامة في الصلاة (شيخًا) بغضِّ النظر عن سنه، أمّا من يقدِّمُهُ الآخرون إذا رأوه بالصدفة فهو (عمّ فلان). كان الشيخ (فريد) حليقًا، وضّاء البسمة، نحيلاً متواضع الملبس الذي يتكون دائمًا من قميصٍ وبنطالٍ وربما كنزةٍ صوفيةٍ أثناء الشتاء إن صادف رمضان الشتاء. كان شَعره يميل إلى الشُّقرة، وعيناه عسليتان. وَثيقو العلاقة بكرة القدم الأوربية يعرفون جيدًا كَم يشبه (محمد شول) نجم (بايرن ميونيخ) بطل ألمانيا ذا الأصل التركي. كانت قراءة الشيخ (فريد) مضبوطةً بأحكام التجويد، ولم تكن خامةُ صوته عبقرية. عَهِدتُه صوتًا منهكًا بطبعه طوال الأعوام الماضية، وكما سبق أن أشرتُ، فإني لم أكن أراه إلا كل رمضان إن صليتُ في مسجد (العرب) أو (الذاكرين) أو (نور النبوة). كأنَّ متاعبَ العام كلِّهِ تحُلُّ عليه فتظهر كلَّ رمضان. لكنَّ حديثَهُ في جلسة الاستراحة بين الركعات الأربعة الأولى والآخِرَةِ من صلاة القيام كان حديثًا شائقًا دائمًا. كان يستطيع اجتذاب مسامع وقلوب وأفكار المصلين في بساطةٍ ودون صياح. وكنتُ أحبُّ في (محمد شول) حركته القياديةَ في خط وسط (بايرن ميونيخ) دون كثيرِ جلَبَة. وكنتُ أحبُّ الشيخ (فريد) قبل هذا العام، كما أحبُّ (محمد شول) بالضبط.

 الغريب في أمر الشيخ (فريد) هذا العامَ أني حين صليتُ التراويح خلفه في الليلة الثانية في مسجد (العرب)، فوجئتُ بأنَّ قراءته للفاتحة اعتراها تغيرٌ غريب. باعتباري طالبًا بالسنة النهائيةِ في كلية الطب، أعرف أن هذه القراءة تندرج تحت عَرَضٍ قد نسميه (الكلام المتعثر)، يحدث حين يكون هناك اختلالٌ بوظائف المُخَيخ الاتِّزانية. كان غريبًا أن يتقدم الشيخُ (فريد) للإمامة وهو يعرف من نفسِهِ هذا التغير. أليس في المصلين مثلاً من يستطيع قراءةَ الفاتحة بصورةٍ سليمة؟!  كان يمدُّ ما لا يُمَدُّ ويقصُرُ ما لا يُقصَرُ، وينطق حروفًا غير سويَّةٍ طوال الفاتحة. كنتُ مستاءً جدًّا. ما هذا يا شيخ (فـ..) !! لكن مهلاً! توقَّفَ الشيخ لنقرأ الفاتحة من بعده، ثم شرع في قراءة آياتٍ من سورة البقرة، وكان كما عهدته في السنوات الماضية سليمَ القراءة مبرَّءًا من كل نقص. ما هذا؟!

 تكرَّرَ الأمر في كل الركعات، وكان كلُّ متجاوِرَين ينظران إلى بعضهما بين كل ركعتين من التراويح في دهشةٍ ثم يتابعان الصلاةَ حين ترتفع تكبيرة الإحرام من فم الشيخ (فريد).

 لم أسمع استفسارًا من أيٍّ من المصلّين بعد انتهاء التراويح بشأن السبع المثاني إذ يتلوها الإمام. وفي الليلة الخامسة كنتُ أصلي العشاء في مسجد (الذاكرين)، ولمحتُ الشيخَ (فريد) بين المصلين في الصف الأول. نسيتُ أن أخبركم بأن هيئة الشيخ (فريد) لم تتغير كثيرا. مازال على قميصه وبنطاله ونحوله وشُقرَتِه، لكنَّ نورًا ما بعينيه وابتسامتِهِ – كنتُ أحسبُهُ انعكاسًا لمصابيح الموجَبِ والسالب – خفَتَ قليلاً عن ذي قبل. بعد أن صلَّينا العشاء خلف الإمام الأصليِّ للمسجد، تقدَّم الشيخُ (فريد) لِيَؤُمَّنا لصلاة التراويح. تقدَّم من تلقاء نفسه. وكان مثلَ ما كان في الليلة الثانية. لم أكن قد نسيتُ ما حدث منذ ثلاث ليالٍ، لكن كان لديَّ بارقةُ أملٍ في أن تكون حاله قد تحسنت وتعافى مما ألمَّ به. لكن الشيخ (فريد) قرأ كما قرأ منذ ثلاثٍ، يُعرِضُ هذا ويُعرضُ هذا، وهو ماضٍ في قراءته المتعثرة للفاتحة، ثم قراءته السليمة فيما تلاه من آيات (آلِ عِمران). بلغ العجب مني مبلغَه في تلك الليلة. لكني لم أسأل أحدًا خشيةَ أن أكونَ خوّاضًا في عِرضِ الرجلِ بما يكره.

 الليلة هي السابعة بتوقيت النور. خطوتُ فوق عتبة (الذاكرين) وانتظمتُ في الصفِّ بالفعل إذ كان الناسُ قد بدأوا صلاةَ العشاء خلف الإمام الأصلي. انتهت الصلاة وصلَّينا ركعتَي النفلِ فُرادَى، ثم وقفنا في صفوفنا من جديدٍ انتظارًا للتراويح. التفتَ الإمام خلفه فوجد الشيخَ (فريد) واقفًا مطأطئَ الرأس في الصف الأول. تراجع الإمام وأخذ ساعد الشيخ (فريد) ودفعه نحو مُصلَّى الإمام، ودفع آخرون الشيخَ (فريد) كذلك ممَّن يحيطون به في الصف الأول.

 كبَّر تكبيرة الإحرام. وقرأ الفاتحة كما قرأها في الليلتين الثانية والخامسة اللتَين صلَّيتُ فيهما خلفَه، ثم سكت فقرأْنا، ثم شرع في تلاوة سورة الأنعام، فقرأها كما كان يقرأ في الأعوام الفائتة، ثم فعل مثل ذلك في كل الركعات حتى ختمنا صلاة القيام.

 ثم قام الشيخُ (فريد) وأمسك (الميكروفون) وقال:

-       "السلام عليكم ورحمة الله. أيها الأحباب. هذه فاتحةُ الكتاب".

 ثم قرأ الفاتحة سليمةً كما قرأ البقرة وآل عمران والأنعام وغيرها مما لم أشهدهُ معه من المشاهد هذا العام، وكما كان يقرأ كلَّ الآيات في العام الماضي، ثم قال:

-       "لكني لا أستطيعُ أن أقرأها في الصلاة إلا كما فعَلْت. فسامحوني"!

 قام الأحباب وسلّموا على الشيخ (فريد) ومنهم من عانقَه، وانصرف كلٌّ إلى مُنصَرَفِه كما انصرف الشيخ (فريد) نفسه، ولم يبقَ في المسجد إلاّيَ وخادمُ المسجد. سلمتُ عليه فردّ بابتسامته المستسلمة، فسألتُه:

-       "هو إيه اللي حصل للشيخ فريد؟ أنا ظنيتُه مريض واللهِ لحد ما سمعنا منه الفاتحة دلوقتِ بعد الصلاة. مش فاهم يقصد إيه بإنه غير قادر على القراية في الصلاة إلا بالشكل دا. إيه اللي صابُه؟"

 قطَّب خادم المسجد جبينَه وأشار إليَّ بأصابعِ يُمناه الخمسةِ ممدودةً قائلاً:

-       "ما تخُوضْش يابني. عباد الله أسرار، واللهُ أعلم بحالُه. ما تخوضش".

 هززتُ رأسي مستسلمًا وسلمتُ على الرجل وخرجت.

 في طريق عودتي إلى البيت، كان (فريد) ماشيًا في الجهة المقابلة مُسرعَ الخطو كعادته، نحيلاً كدأبه، أشقرَ كما ألِفتُهُ. ألقيتُ عليه السلامَ فردَّهُ بأحسنَ منه. ورأيتُ عينيه. كانتا مختلفتين عن الأعوام الفائتة. خَفَتَ النور؟ كان خافتًا حين رأيته منذ قليلٍ في الصف الأول قبل أن يستقبل القِبلةَ إماما. أمّا الآنَ فقد غاب تماما.

.........................

محمد سالم عبادة

2011

فازت المجموعة بالمركز الثالث في المسابقة الأدبية المركزية لهيئة قصور الثقافة في موسم 2020/2021 ونُشِرَت ضمن سلسلة الفائزين في مارس 2022.

Saturday 19 March 2022

صُورةٌ لا تحملُ اسما

 

    


     كنتُ مُتعَبَةً للغايةِ في ذلك الصَّباح. قررتُ ألاّ أعمَلَ اليوم. سأخرُجُ فقط لشِراءِ بعض مُستَلزماتي من السُّوقِ وأَعودُ لدِفءِ المنزل. الهواءُ كَثيفٌ في الشوارع، مُثقَلٌ بالماء. كأنَّ البَحرَ يهدِّدُ الإسكندريَّةَ بإغراقِها. أمّا أنا فأشعُرُ أنّي جافَّةٌ كورقةٍ في شجرةٍ عَدا عليها الخَريف. الرَّجُلُ الذي قضى معي الليلَ أرهَقَني بمطالِبِه العَسيرَةِ دُونَ أن يَروِيَ لي غليلا. صحيحٌ أنه تركَ لي صُرَّةً كبيرًةً من المالِ، إلاّ أنه لم يَترُك في أحشائي شيئًا أتذكَّرُه به. تبخَّرَت ملامِحُهُ مِن ذاكِرَتي. لا أذكُرُ مِن تفاصِيلِهِ إلاّ يَدَه التي ناوَلَتني أُجرَتي عندَ الفَجر. هاه! لقد كان مُهَذَّبًا على أيَّةِ حال. وكانَت يَدُهُ ناعِمَةً كأيدي النِّساء. حِينَ عَرَّفَني بنَفسِهِ قالَ إنه مُشتَغِلٌ بالفلسفَةِ على مذهَبِ أرسطو، يَعهَدُ إليه عِليَةُ القَومِ بصِبيانِهم ليُؤَدِّبَهم ويُلَقِّنَهم مبادئَ الحِكمة. توقَّعتُ إذ ذاكَ أن يُلقِمَني أُجرَةً سَخِيَّةً، ورَجَوتُ أن يُلقِمَني قبلَها مِن اللَّذَّةِ ما يَكفيني، فصَدَقَ توقُّعي وخابَ رجائي!
     بينما أُحاسِبُ الباعَةَ في السُّوقِ مِن الصُّرَّةِ المُكتَنِزَةِ التي أعطانيها فيلسوفُ الليلِ، لاحظتُ وجودَ عُملَةٍ فِضِّيَّةٍ لم أَرَ مِثلَها مِن قبل. كان اسمُها (أنطونينيانوس) وكانت تَحمِلُ صورَةً جانبيَّةً لِوَجهِ شابٍّ وَقِحِ العينين طويلِ الأنف. حرصتُ على ألاّ أنقُدَ الباعَةَ أيًّا مِن هذه العُملاتِ الجديدة. طريقُ عودَتي إلى البيتِ تَمُرُّ بمعبدِ السَّراپْيوم
. جلستُ على مقعدٍ رخامِيٍّ غيرَ بعيدةٍ مِن البوّابة، ووضعتُ حولي حقائبي. قُلتُ لنفسي سأستريحُ قليلا. أَخرَجتُ قطعةً من العُملةِ الجديدةِ وأخذتُ أتأمَّلُها. لا أدري لماذا فكَّرتُ أنَّ هذا الوجهَ الإمبراطوريَّ هو عَينُ الوجهِ الذي تبخَّرَت ملامحُهُ مِن ذاكِرَتي بعد أن قضى معي الليلةَ الفائتة! ملأَني هذا بالنَّشوَةِ، كأنّي أعومُ في هذا البَحر المُعَلَّقِ في الهواءِ منذُ ما قبلَ شُروقِ الشَّمس. بل كأنَّ المَوجَ يَحمِلُني بمائةِ ذراعٍ لعَبيدٍ منذورينَ لي، وكأنَّ المقعَدَ الرُّخامِيَّ عَرَبَةٌ إمبراطوريَّةٌ كتلك التي كانت تحكي لي جَدَّتي عنها وأنا طِفلَة. ياه! لو كان فيلسوفُ الليلِ هو نفسُهُ الإمبراطور مُتَخَفِّيا!
     الكلُّ في الإسكندريَّةِ يَعرفُ أنَّه قد غدرَ بزَوجَتِه وقتلَها كما قتلَ أخاه. ماذا لو أنني رُقتُهُ كثيرًا إلى درجَةِ أن يتَّخِذَني زوجةً أو خليلة؟ هل أنتظِرُهُ الليلة؟ هل سيَعودُ بعدَ أن غنجتُ عليهِ وشَتَمتُهُ بما يَقدَحُ في رُجولَته؟
إنما كنتُ أُداعِبُ غريزتَه، وقد فَهِمَ هذا بلا شَكّ.
     حَكَت لي جَدَّتي أنَّ جَدَّتَنا الكُبرَى كانت تكسِبُ قُوتَها في راقودة، ولَمّا جاءَ الإسكندرُ فاتِحًا، راقَته كثيرًا وأتاها مُنسَلاًّ مِن بَينِ قادَةِ جيشِهِ ذاتَ ليلةٍ، مُتَخَفِّيًا، وقضى معها أجملَ ليلةٍ في حياتِها. لكنَّه أخبرَها بأنَّه الإسكندر. فَلِمَ لم يُصرِّح لي ذلك الرَّجُلُ بهُوِيَّتِه؟ هل اختلَفَ الزمانُ ولم يَعُد هذا مُمكِنًا؟ هل يبخَلُ القيصَرُ على بَغِيٍّ مسكينةٍ بلحظاتٍ من النشوةِ وذِكرَى تفخَرُ بها في ثِقَةٍ أمامَ بناتِها إذا بلَغنَ مبلغَ النِّساء؟ بماذا يُمكِنُني أن أفخَرَ أنا أمامَ ابنتي؟ بفيلسوفٍ يَدُهُ كأيدي النِّساءِ أتعبَني ولم يَشفِ لي غَليلاً؟ بفيلسوفٍ شَكا لي عسْفَ القيصر (كاراكالاّ) معَ فلاسفةِ أرسطو السكندريِّين؟!
    حِين سألتُهُ أمسِ عن كراهيَةِ القيصرِ لهم، قالَ إنَّ (كاراكالاّ) يعشَقُ الإسكندرَ ويحاولُ أن يكونَ مِثلَه في كُلِّ شيءٍ، ويصَدِّقُ الإشاعةَ التي تقولُ إنَّ أرسطو اشترَكَ في مؤامَرَةِ وَضْعِ السُّمِّ للإسكندر. قالَ إنَّ القيصَرَ يَكرَهُ الجميعَ ولا يَثِقُ بأَحَد.

     أضَعُ الصُّرَّةَ ذاتَ الرَّنينِ في صَدري. ما أجملَ هذا الصَّدرَ، إنني امرأةٌ ولا كالنِّساء. هل هي إشاعةٌ كاذبَة؟ لو كان فيلسوفُ الليلِ هذا صادقًا في دعواهُ أنه من أتباعِ أرسطو، فإنني أُصَدِّقُ أنَّ مُعلِّمَه القديمَ ذلك قد وضعَ السُّمَّ للإسكندر. لقد منحَ الإسكندرُ جَدَّتي الكُبرى ليلةً من المُتعَةِ مازلنا نتحدَّثُ عنها ونتوارَثُ خبرَها إلى الآنَ، رغمَ مُرورِ دَهرٍ عليها. وفَشِلَ فيلسوفُ الليلِ في أن يَروي غُلَّتي بنُقطَةِ ماء. فَشِلَ في أن يجعلَني أتذَكَّرُ حتى ملامِحَه. مُؤَكَّدُ أنَّ مُعلِّمَه القديمَ مِثلُه. يَطلُبُ ويَطلُبُ ويَطلُبُ مِمَّن بين يَدَيه، ثُمَّ يَترُكُها خواءً تصفِرُ فيها الرِّيحُ، كشَجَرَةٍ جوفاءَ عَدا عليها الخَريف. وحَرِيٌّ بمُعَلِّمٍ عاجِزٍ مِثلِهِ أن يُكِنَّ الحِقدَ للإسكندر. فمَن سَمَّمَ الإسكندرَ إن لم يَكُن أرسطو؟     
     جَلَبَةٌ مِن حولي. أصواتٌ متداخِلَةٌ للمارَّة. أحدُهم يقولُ إنَّ (كاراكالاّ) ستصِلُ سفينتُهُ اليومَ إلى الإسكندريَّة. يرُدُّ عليه آخَرُ بأنَّ السفينةَ قد رَسَت بالفِعل ونَزَلَ منها. لا يَذكُرُ أحدُهم القيصرَ بخَير. كلُّهم يَكرَهُه. غمزَ لي أحدُ المارَّة وهو في طريقِهِ إلى مدخَلِ المعبَد. إنه أحدُ زبائني. يريدُني أن أتبعَه إلى الدَّاخِل. رُبَّما يوَدُّ أن يحجِزَ الليلةَ لنفسِه، لكني لن أعملَ اليومَ كما عَزَمت. لَن أعملَ إلاّ إذا أتاني القيصَرُ نفسُه. ومَن يَدري، رُبَّما يكونُ في حقيقةِ الأمرِ سيُكرِّرُ الزيارةَ، إن كان هو مَن أتاني أمسِ وأجَّلَ التصريحَ لي بهُوِيَّتِه إلى اليوم. وربما سيأتيني الليلةَ ولن يُصَرِّحَ بشَيء!
     ازدادَت الجَلَبَةُ وأنا سارِحَة. لقد تحلَّقَ الناسُ في دائرةٍ حولَ مجموعةٍ من الساخِرِين. يمثِّلُون مسرحيةً يهزأون فيها من القيصَر وقولِهِ إنه قتلَ أخاهُ دفاعًا عن نفسِه. يهزأون مِن تقليدِهِ للإسكندر. يُظهِرونَه بمَظهَرِ الأحمَق. لا يَروقُني ذلك. يقولون إنه يَنوي زيارةَ قَبر الإسكندر.

- هاه! وهل في قبر الإسكندر جثمان؟ لقد ماتَ الغازي منذُ خمسةِ قُرونٍ، فما هنالك إلا الترابُ وبعضُ العظامِ النَّخِرَة.

- لالالا! لقد سمعتُ أنَّ الإسكندرَ دُفِنَ في بابلَ حيثُ ماتَ، ولم يُدفَن هنا إلاّ كلبٌ ادَّعَى بطليموسُ إنه رُفاتُ الإسكندر!

     علَت ضحكاتُ الناسِ، وساءَني هذا. جدَّتي الكبرى عشيقتُه وغانِيَتُه أيُّها السافِلُون، وإن تكُن عشيقةَ ليلةٍ واحدة. وسأكونُ أنا عشيقةَ هذا الذي تسخَرون بهِ ولا تقوَون على الوقوفِ له دقيقة.

     صَفُّوا أنفُسَهم صَفَّين ينتهيانِ إلى مدخَلِ المعبَد، ومشى الممثِّلُ الذي يقومُ بدَور (كاراكالاّ) بينهم مِشيَةَ السُّفهاءِ ضِعافِ العُقولِ، تاركًا لُعابَه يَسيلُ من شِدقَيه، ثُمَّ عَطَسَ في وجهِ أَحَدِ الواقِفِين في الصَّفّ، فانهالَ عليه ضربًا، والناسُ يكادُون يَقعُون على الأرضِ من فَرطِ الضَّحِك.

- اتركني اتركني! أنا داخِلٌ إلى أبي. أبي (سراپيس) رَبُّ هذا المعبَد وأنا ابنُهُ الوحيد. سأشكوكَ له وسأخبرُه بما تفعل، وسيَنطَحُكَ بقَرنَيه حتى يُدمِيَك!

- لكنَّ (سراپيس) ليست له قُرونٌ أيُّها الإمبراطور!

- قرناهُ داخلَ رأسِهِ، لا يَبرُزانِ إلاّ إذا غَضِب!

     مِن الجَمعِ مَن وقعَ على ظهرِه ضَحِكًا، ومنهم مَن دَمعَت عيناهُ ضحكًا وهو يُمسِكُ صدرَهُ مِن وجَعِ الضَّحِك. إنني أنا البَغِيُّ أعرِفُ أنَّ الإسكندرَ كانَ ابنَ آمون وابنَ زيوس. أفلاَ يَعرِفون هم ذلك؟ يالَهم مِن جُهَلاء! فمَن يكونُ ابنَ سراپيس إن لم يكُن إمبراطورٌ شابٌّ كالذي نُقِشَ وجهُه على العُملَةِ الجديدة؟ إنَّ عينيه الوَقِحَتَين الواسِعَتين تدُلاّن على أنه مِن نَسلِ الآلِهةِ، يَرَى مِن أمامِه ومِن خلفِه ومِن فوقِه ومِن تحتِه. ثُمَّ إنني أنا البَغِيُّ أعرِفُ أنَّ (سراپيسَ) أوزيرُ وآپيسُ معًا، فكيفَ يمكنُ ألاّ يكونَ له قُرون؟ ألَيسَ آپيسُ عِجلاً؟ إذن فمِن المؤكَّدِ أنه سيحتفِظُ بقَرنَيه وإن لم يَظهَرا للغوغاء. ابنُه بالتأكيدِ أدرَى به. ثُمَّ إنَّ ابنَه قد وَرِثَ قُوَّةَ العِجلِ، لا شَكَّ في ذلك. أتحسَّسُ بَطني وتغمُرُني سُخونَةٌ أعرِفُها. سيملأُني الإمبراطورُ الليلةَ حتى عَينَيّ. البارِحَةَ الجَزرُ والليلةَ المَدّ. عادَ الممثِّلُ الأحمقُ للصِّياحِ، مواجِهًا الجمهورَ وهو على بابِ المعبَد، رافِعًا ذِراعَيه إليهم كأنه يمنَحُهم البَرَكة. ابنُ العاهِرَةِ صَوتُهُ جهوَرِيٌّ كأنَّه إمبراطورٌ حقيقيّ. لم يُواتِني الضَّحِكُ إلاّ في هذه اللحظة:

- كلُّ الأحرارِ مُواطِنون رُومان. أوصاني أبي الإلهُ (سراپيسُ) بهذا!

     انهالَ عليهِ ممثِّلُو الصَّفَّين ضربًا بأيديهم، والناسُ مغمورون بالضَّحِك:

- مواطنون؟ مواطنون يا ابنَ العِجل؟! المَزيدَ مِن الضرائبِ إذَن، وهل بَقِيَ لدينا ما ندفعُه لِجُباتِك؟ لن تَخرُجَ منها سليمًا وحَقِّ أبيكَ العِجل!

     استردَدتُ عُبوسي، وتذكَّرتُ أني رُبَّما أكونُ خليلةَ الإمبراطور. أتحسَّسُ الصُّرَّةَ المُكتَنِزَةَ في صَدري. أعبَثُ بها، فتُلاحِقُ أصابعي أزواجٌ من الأعيُنِ الخبيثة. أُخرِجُ قطعةَ أنطونينيانوس. شعرتُ بالفَخرِ لأنّي تعرَّفتُ عليها بمُجرَّدِ اللَّمس. هذا يُثبِتُ أنّي رُبَّما كُنتُ خليلةَ الإمبراطور. أعرِفُ وَجهَه وظَهري لَهُ، بل أعرِفُه وأنا مغمضَةُ العينينِ وأنفُهُ الطَّويلُ مَدسوسٌ بينَ ثَديَيّ. نَظرتُ إلى العُملَةِ في شُموخٍ وإلى الجَمعِ الضاحكِ في ازدراء. مَن يَدري؟ رُبَّما يُنقَشُ وَجهي على عُملَةٍ كهذه يَومًا ما؟ رُبَّما يأتيني (كاراكالاّ) ذاتَ ليلةٍ ومعَه عَجينَةٌ ناعِمَةٌ كأيدي النِّساء، يَطلُبُ منّي أن أضعَ فيها وَجهي من الأمامِ ومِن الجانِبَين، لتحمِلَ ملامِحي حِينَ تَجمُد، فيَنقُلَها إلى دارِ السّكَّة وتُصَبُّ العُملَةُ على هيئتي. ولَن تَحمِلَ اسمًا، حتى لا يَعرِفَ أحَدٌ مَن خليلَتُه. سيغارُ عليَّ كما يغارُ أُوزيرُ وآپيس.

     وَلَّيتُ الجَمعَ ظَهري وأخذتُ وِجهَةَ البيت. لَم أَخطُ خُطوَتَين حتى علا صِياحُ القادِمِين صوبَ المعبد. لاهثون وملامحُهم تَنطِقُ بالذعر. لم يَعُد هناك شَكٌّ في وصولِ كاراكالاّ. لقد أعدَمَ وفدَ الكُبراءِ الذي وقفَ منتظرًا مَقدَمَه، حِينَ عَلِمَ باستهزاءِ الشَّعبِ به، ثُمَّ أطلقَ عساكِرَه في المدينةِ يُخَرِّبون ويَعِيثُون فسادا. العسكر في طريقهم إلى السرابيوم، وكاراكالاّ سيزورُ قبرَ الإسكندر ورُبَّما يزورُ المعبدَ بعد ذلك. تفرَّقَ الجَمع. تبعثروا في كُلِّ اتِّجاهٍ وأنا واقفةٌ متسمِّرَة. هل سيُخبِرُهُ الإسكندرُ بما كان بينه وبين جدَّتي الكُبرى؟ لكن ماذا لو لم يكُن في القَبرِ إلاّ رُفاتُ كَلبٍ كما قالوا في المسرحيَّة؟ ارتَطَمَ أحَدُ الفارِّين ذُعرًا بيَدي التي كانت قابضةً على نقشِ الإمبراطور، فطارَت قِطعَةُ الفِضَّةِ بعيدا. تسللت يدي دون إرادة مني إلى الصرة المكتنزة في صدري. هل تستيقظ الشجرة غَدًا جوفاء تصفِرُ فيها الريح؟
      دُرتُ على عَقِبَيّ. تردَّدتُ قليلا. لا أدري إن كان الرجُلُ مازال بالمعبد أم غادَر. حثثتُ الخُطا إلى البوّابةِ، قبلَ أن يتحوَّلَ صدري إلى عُقدَتَين جافَّتين في شجرةٍ عجفاءَ، عَدَا عليها الخَريف.

..............................................

محمد سالم عبادة

9 أغسطس 2019

    فازت هذه القصة بثانية مسابقة الدكتور هاني المرعشلي للقصة في ديسمبر 2021

    

Wednesday 8 December 2021

البُقعَةُ العَمياء (قِصَّة)


     

كانت شفتاها تنفرجان قليلاً، وحاجباها يرتفعان قليلاً عند طرفيهما الداخليين، ويرتجفُ أنفُها ارتجافةً لطيفة، وتُمعِنُ في النظرِ إلَيه. كان مدركًا أنها تبادلُه الحُبّ، لكن ما لم يتصورهُ أبدًا هو أنها متيَّمةٌ به إلى هذا الحدّ، كانت هكذا حين كانا يتقابلان بانتظام، وظلّت هكذا. إلى يومهما هذا. على ما يَعتَقِد.

     حين كان يَرجُوها أن تتوقفَ عن ارتداء العدسات اللاصقة لئلاّ تؤثِّرَ سلبًا على عينيها، كانت تبتسمُ في هدوءٍ وتظلُّ تنظرُ إليه في امتنانٍ صامت.

- يوم ما اتقابلنا أول مرة، أنا كنت لابسة فستان تركواز مشغول عند الصدر بخيوط فضّيّة، وإيشارب تركواز كنت عاملاه Spanish. (تضحك) وانت كنت لابس بدلة سودا مخططة خطوط خفيفة جدًا، موديل قديم، وكرافات حمرا منقطة بالإسود، مع إنك ماكانش عندك امتحان شفوي ولا حاجة، أناقة مجّانية كده! (تضحك من جديد) بس قميصك الأزرق كان عليه بقعة حمرا بتظهر من تحت الكرافات كل ما تتحرك، مكان عصير الفراولة اللي اتدلق عليك يومها.

 

     كانت تفاجئه بذاكرتها الفوتوغرافية كُلَّما تَقابَلا. ذكَّرَته هذا اللقاء الأول بعد مرور عشرة أعوامٍ تقريبًا عليه، وبعد زواجها رجلاً آخر، حين تقابلا بالصدفة في حفلٍ موسيقيٍّ للفرقة التي يحبُّها كلاهما.

- السما كانت مليانة سحُب يومها، وقُلنا أكيد حتمطّر، ولافتات انتخابات اتّحاد الطلّبة اتلمّت كلّها، وبتوع الأُسَر دخّلوها مبنى قسم الفسيولوجي والكيميا الحيوية. وبعد دا كلّه مافيش ولا نقطة ميّة نزلت من السما. مع إننا كمان سمعنا الرعد واتهيأ لنا اننا شفنا البرق. فاكر انت قلت إيه ساعتها؟

     هزَّ رأسه وهو لا يَجدُ ما يَقولُه، بينما عيناه مُعَلَّقَتان بشَفَتَيها الرقيقتَين تهتزّان مع كلماتِها.

- رفعت راسَك للسما وابتسمت ابتسامة جانبية غريبة، وقلت: "بَرقٌ خُلَّب".

     اتّسعَت عيناهُ دهشةً:

- أنا قلت كده؟! فعلاً؟!

     أغمضَت عينيها وأومأَت بالإيجاب.

     منذُ ذلك اليومِ أصبحَ صديقًا لأسرتِها الجديدة. زوجُها طبيبُ العُيون الأكبرُ منه بعامَين، وأطفالُهما الثلاثة. يقابلُهم خلالَ تجمُّعاتٍ أكبر، تضمُّهم إلى جِوارِ عددٍ من الأصدقاء القدامى.

     ظلَّ أعزَب بعد فراقِهما، لا إخلاصًا لقِصّة الحُبّ القديمةِ بِقَدرِ ما هو زُهدٌ في إقامة علاقةٍ جديدة. أعزَبُ في الثلاثين لا يعني كثيرًا، فالعائلةُ والرفاقُ يُلِحُّون في زواجِه ويبتكرون الفتياتِ الملائماتِ له كُلَّ حِين. أعزَبُ في الأربعين يَعني شكوكًا وريبةً حول رجولتِه. أعزَبُ في الخمسين يعني أن يَترُكَه الناسُ وشَأنَه. وهاهُوَ قد تجاوزَ الخمسينَ، وتجاوزَتها معه، وأطفالُها صاروا شبابًا على أعتاب الزواج.

     في اللقاءات الأخيرة التي جمعته بها وبأُسرتِها، لاحظَ تخلِّيَها عن عدساتِها اللاصقة.

- ياه! أخيرًا شِلتي العدسات!

- ماكنتش حاشيلها لولا ان عينيا بدأت توجعني جدًّا في الفترة الأخيرة.

     التفتَ إلى زوجِها الذي كان منهمكًا في الحديثِ مع صديقةٍ أخرى.

- إيه يا دكتور! باب النّجّار مخلّع ولاّ إيه؟

     ضحك طبيب العيون في هدوء:

- ياريتها يا عمّ سمعت كلامك من زمان وبطّلت تلبس العدسات دي. التهابات الملتحِمة بدأت عندها متأخرة شوية!

     عيناها أعظَمُ سِحرًا دون العدسات. هذا ما تردّدَ داخِلَ صَدرِه ولم ينطِق به. كانت هذه أولَ مرّةٍ يرَى عينيها هكذا كما خلقهما الله. يختلسُ النظرَ إليهما كلّما انشغل الآخَرون بالحديث. غَورٌ سحيقٌ من الذِّكريات يتراءى خافتًا من بُؤبُؤَيهما. لا يمكنُ أن تكون عيناها كبقيّة العيون!

- فاكرة لما دخلنا كنيسة الفرنسيسكان اللي ف وسط البلد؟

- طبعًا. إيه اللي فكّرك بالحكاية دي؟

     لم يُحِر جوابًا. هو لا يدري بالضبط لماذا تذكَّرَ هذا الأمر. مجرَّدُ النظَر في عينيها العاريتين ذَكَّرَه دخولَهما معًا الكنيسة. أطالَ النظَرَ إلي عينيها رغمًا عنه، ثُمّ انتبَه لنفسِه، فصرفَ وجهَه، وصرفَت وجهَها.

     بعد هذا اللّقاءِ، بدأ الألَمُ الخفيفُ في عينيها يأخُذُ مَنحىً آخر. تقابلا أربعَ مرّاتٍ خلالَ العامَين الأخيرَين، بالطبع من خلال لقاءات الأصدقاء. في كلِّ مرّةٍ كانت عيناها تَبرُزان للخارجِ أكثر، كما لو كانت تعاني زيادةً في إفرازِ هُرمون غدَّتِها الدرَقيّة. جحظَت ثُمّ جحظَت ثم جحظَت. وجهُها الرقيقُ مُنَمنَم الملامحِ رغم تخطّيها الخمسين، أصبحَ خَلقًا آخَر خلال هذين العامَين. تحرَّزَ من الكلامِ في هذا الشأن في المرّتين الأُولَيَين، إذ ما عساهُ يقدِّمُ وهو مجرَّد طبيبٍ نفسيٍّ يعملُ في مكانٍ متواضعٍ، بينما زوجُها من المعدودين في طبّ وجراحة العيون؟ لكنّ الأمر كان أوضَحَ في المرّةِ الثالثةٍ من أن يَسكُتَ عنه.

- إيه حكاية عينيكي؟ فيهم إيه؟!

     واجهَته بعينيها صامتةً، وترقرقَت فيهما دمعَتان، ثُمّ عادَتا من حيثُ جاءتا! كأنما بخلَت عيناها بالحُزن فابتلَعَته. لا يُمكِن! السِّحرُ أعظَمُ ممّا كان رغمَ هذا التشوُّه!

     في آخرِ لقاءٍ جمعهما أعلنَت أنها ستخضَعُ لجِراحةٍ في عينيها. زوجُها هو الذي سيُجريها. كان هذا ضِدَّ الوضع المثاليِّ في مثل هذه الظروف، فالطبيبُ عليه أن يتفادَى إجراء الجراحة لذَويه وأعزّائه بقدر الإمكان، وعليه أن يُوكِلَ الأمرَ لأحد زملائه الذين يثِقُ بهم. هذا ما صرّحَ به زوجُها، لكنّه أردف:

- بس انا اللي حاعمل لها العملية رغم كده. مش حاقدر أثِق في أي حد من زمايلي للأسف! الفحوصات اللي عملناها بتقول إنّ فيه ورَم غريب طالع من منطقة القُرص البصري في الشبكيّة في عينيها الاتنين. الحقيقة دا شيء غريب وفي غاية النُّدرة. وبما إنّ تخصُّصي الدقيق هو جراحة الشبكية، فدا صميم تخصصي، دا غير اني ...

     ضحكَت هي حينئذٍ في مرَحٍ، مقاطِعَةً:

- دا غير ان حضرته مهتمّ علميًّا بالموضوع، وطبعًا حينشر تقرير الحالة ونتايج الفحوصات قبل وبعد العملية في مجلة دولية! (التفتت إليه مصطنعةً وجهًا خبيثا) حتى على مراتك؟!

 

     اليوم أُجرِيَت الجراحة. لم أستطِع أن أمنع نفسي من الحضور في المستشفى قبل خضوعِها للتخدير. كان التخديرُ الكلّيُّ ضروريًّا بحسب فتوَى لجنة الأطبّاء المهتمّين بحالتِها: زوجها وجرّاح الأعصاب الذي استعان به زوجُها لاحتمالِ تأثُّر المراكز المُخّيّة للعصب البصريّ بالورَم، وطبيب التخدير وغيرهم. 

- خايفة جدًّا .. جدًّا!

     نظرتُ في عينيها.كُرَتان جميلتان في ذاتهما رغم تشويهِهما وجهَها بالكامل. كان هذا ما قالَته لي وأنا معها، حين دخلتُ غرفتَها التي بقيَت بها ساعةً قبل الجِراحة وخرَج كلُّ زُوّارِها لبعض شأنِهم. كنتُ معروفًا لعائلتِها الكبيرة باعتباري صديقًا لأسرتِها، وصديقًا قديمًا مؤتمَنًا لها بالتحديد.

- خايفة من إيه بالضبط؟ دا انتِ جوزك اللي حيعمل العملية، ودا أشهر جرّاح شبكية في البلَد.  

- مش خايفة من الجراحة. بالعكس، متفائلة جدًا بيها.

- أمّال خايفة من إيه بالضبط؟

- التخدير. البنج الكُلّي. خايفة أشوف حاجات أثناء الإفاقة من البنج، واقولها وانا مش داريانة.

     كانت تنظُر في عينيَّ في إشفاقٍ وهي تقول هذه الجملة الأخيرة. لم يكن الأمرُ صعبًا عليَّ ولم تَحتَجْ إلى مزيدِ إيضاح. مازالت بالتأكيد تذكُرُ تفاصيلَ قصَّتِنا القديمة. ذكرياتُها حيَّةٌ، وذكرياتي مجرَّدُ رُتوش. ذكرياتُها واقِعٌ في رأسِها، متجسِّدةٌ في غَور عينيها السحيق، وذكرياتي تدَّعِي أنها حقيقيّة! إن تكلمَت وهي تحت تأثير البَنج، سيعرفُ الجميعُ كُلَّ شيء. لن تُبقِي زاويةً من أركانِ غُرفةِ حُبِّنا القديمةِ إلاّ وصَفَتها، ولن تترُكَ حركةً من حركاتي حين كنتُ أحتويها إلاّ شرَّحَتها بدِقّة. سيُفتَضَحُ سِرُّنا الذي ظلَّ مدفونًا أكثرَ من ربُع قرن. بادلتُها نظرةَ الإشفاقِ مُرغَمًا، حتى عاد زُوّارُها إلى الغرفة، فأطرَقتُ، ثُمَّ أتَت ممرِّضَتُها لتصطحبَها إلى غرفة العمليات.

 

     مرّت الساعاتُ وئيدةً إلى أن عرفتُ انتهاءَ الجراحة. قابلَني زوجُها مرتديًا بِذلة العمليات، مبتسمًا في هدوءٍ كعادتِه. طيلةَ هذه الأعوام كنتُ واثقًا أنه يأخذُ صداقتي الحميمةَ بزوجتِه شيئًا مسلَّمًا به، لا يمكنُ أن يضايقَه، كما لا يمكن تغييرُه. ربَّتَ كتفي، فشعرتُ بغرابة الموقِف!

 

- اطّمّن! الورم استأصلناه بنجاح، الحمد لله. بس طبيعة الورم نفسها ومكانُه همّا اللي سَبْق في الحقيقة. شيء لا يُصَدَّق! احنا عمَلنا فحص لعيّنة مجمَّدَة من الورم أثناء الجراحة. مبدئيًّا، الورم كان طالع من البقعة العمياء. ـThe Blind Spot. فاكرها؟!

     أومأتُ برأسي إيجابًا، فأردف:

- البقعة العمياء دي هي الجزء من الشبكية اللي مافيهوش خلايا تستقبل الضوء وتحوّله لنبضات عصبية. بتبقى مليانة ألياف طالعة من الخلايا الموجودة في بقية الشبكية، عشان تكوّن العصب البصري. (يضحك في وقار) عند مراتي بقى الموضوع مختلف تمامًا. المكان دا عندها مليان خلايا نشِطة، متّصِلة مباشرةً بمراكز الذاكرة والعاطفة في المخ، وبينهم أعصاب بتنقل إشارات نازلة من المراكز دي للخلايا الغريبة، وأعصاب تانية نبضاتها ماشية في الاتجاه المُعاكِس. وواضح اننا مش بنتكلم عن ورَم تقليدي. احنا بنتكلم عن حاجة عاملة زي العيب الخِلقي أو الطفرة الغريبة جدًا، كانت مولودة بيها وفضلت معاها ومرّة واحدة بدأت تكبر زيادة عن معدّلها اللي كانت ماشية عليه. دي حاجة ما ورَدتش في تاريخ الطبّ كلّه. (يضحك من جديد) صديقنا جرّاح المخ والأعصاب اللي اشتغل معايا العملية بيضرب كفّ على كفّ، بس متحمّس جدًّا لتقرير الحالة اللي حننشره سوا بعد ما تخلص الفخوصات الأوسع على نسيج الـ... الشيء دا، اللي ما هوّاش ورَم!

 

     كنتُ أولَ من أُخبِرَ بنتيجة العملية. حتى قبلَ أولادِهما. شعرتُ بامتنانٍ بالغٍ له في هذه اللحظات. لم أشعر ناحيتَه أبدًا بأية مشاعر سلبيّة، لكنه في هذه اللحظات كان قريبًا إليّ جدًّا، بشكلٍ لم أتوقّع أن يحدُث. ارتبكتُ، وازداد إحساسي بضغط الموقف وغرابتِه. أردفَ بعد لحظات صمتٍ ظلَّ خلالَها يتفحّصُ تعبيراتِ وجهي:

- واضح ان الشيء اللي استأصلناه دا هو السبب في ذاكرتها الفوتوغرافية الاستثنائية. ذكرياتها كانت بتتحول لصُوَر ملموسة جوّا الخلايا النشطة دي. حاجة احنا – الناس العاديين – ما نعرفش عنها إلا أقل القليل. ذكرياتنا كلنا كجنس بشري كوم، وذكرياتها كوم تاني خالص.

     صمتُّ لحظةً، ثمّ سألتُه:

- فاقت من البنج ولاّ لسّه؟

     ضحك ضحكةً قصيرة:

- فاقت آه، وقعدت تقول كلام غريب. واضح ان الذكرى اللي كانت مسيطرة على تفكيرها حوالين وقت العملية كانت متعلِّقَة بالعَشا الأخير لينا امبارح في البيت. في الفترة الأخيرة بدأت تجمّع علب الزبادي الفاضية وتغسلها وتشيلها في دولاب مخصوص، وماحدّش فينا فاهم ليه!

(يضحك) المهم انها وهي بتفوق من البنج، قعدت تقول إيه؟!

 

     جاهدتُ لأبتسمَ في صمت، فأردف وهو يرقِّقُ صوتَه مقلِّدًا إيّاها:

- الزبادي! اوعوا ترموا علب الزبادي! سيبوها زي ما هي على ترابيزة السفرة وانا حاغسلها واشيلها. الزبادي! اوعي تخليهم يرموا الزبادي!

 

     أخذ يُقَهقِهُ وهو يُرَبِّتُ كتفي، ثم تركني ليشرح الموقف لأبنائهما وبقية المهتمّين من العائلة. ابتلعتُ رِيقي بصعوبة. حُزنٌ مُمِضٌّ اعتصرَ قلبي في هذه اللحظة. ازدادت ذكرياتُنا خفوتًا أمامَ عينيّ. التفتُّ ناحيةَ غرفةِ الإفاقة. اقتربتُ حتى لامستُ النافذة الزجاجية الصغيرة في بابِها. كانت هناك، مستلقيةً على جانبِها الأيمن تحت بطّانيّةٍ ثقيلة، وعيناها مغطّاتان تمامًا بالشاش الطبّي واللاصِق. التفتُّ ناحية سِكَّة الخروج متجاهلاً نداء أبنائها. ترقرقَت دمعتان، ثم ابتلعَتهما عينايَ، فكأنهما لم تكونا. تمامًا كالبَرقِ الخُلَّب.

20 آب/ أغسطس 2018

مِن مجموعتِي (النَّاظِرُون) الصّادِرة ضمن سلسلة (كِتابات جديدة) عن الهيئة العامّة للكتاب في آذار/ مارس 2021

كانت إحدى القصص الفائزة بجائزة إحسان عبد القُدُّوس لموسم 2018/2019

نُشِرَت لأوَّلِ مَرَّةٍ في عدد حُزَيران/ يونيو من مجلّة الثقافة الجديدة

Wednesday 11 August 2021

مَخرَج من الخَرَس المجتمعي: قراءة في مسرحية (أصوات الأعماق) لإدواردو دي فيليپُّو

 

"روزا: ماذا تريدين أن تعرفي؟ إنها عاملةُ اختزال. عندما يتكلمُ المُحامي تنقش على الورق رموزًا

      غريبةً لا يفهمها أحدٌ سواها، ثم تقوم بقراءتها وكتابتِها على الآلةِ الكاتبة. رمزٌ كهذا مثلاً

      (ترسم بسبابتها في الهواء خطًّا قصيرًا متعرّجًا) يعني: "سيداتي سادتي، لنواجِه الواقعَ

       بشجاعة. إنه حقًّا أمرٌ جَلَل...".
ماريا: كل هذا برمزٍ واحد؟!
روزا: أجل. لذا فهي تربح كثيرًا وتتقدم في عملِها".

     هذه الفقرة من الفصل الأول في مسرحيتنا قد تبدو هامشيّةً مع القراءة السريعة، إلا أنها حين تنضَمُّ إلى شواهد أخرى من حوار المسرحية تُعطينا مفتاحًا ثمينًا لفهمها. دي فيليپُّو Eduardo de Filippo (1900- 1984) كاتبٌ مسرحيٌّ وشاعرٌ وكاتب سيناريو وممثلٌ إيطاليٌّ مثّل للمسرح والسينما. وهذا النص الذي بين أيدينا Le Voci di Dentro كُتِبَ عام 1948. وكما يُتوقَّعُ من هذا التاريخ، نلمح في النص أصداءَ الحرب العالمية الثانية وآثارَها الاقتصاديةَ المدمِّرةَ على المجتمع الإيطالي. فالأحداثُ تدورُ بين أُسرَتين متجاورتَين في السُّكنى في ناپولي، إحداهما تتكون من أخَوين (ألبرتو وكارلو) وعمِّهما المُسِنّ (نيكولا) الذي اعتزل الناس وامتنع عن الكلام، وهم متعهدو حفلاتٍ يرتزقون بتأجير الفِراشة والألعاب النارية، ويُعانون أزمةً ماليةً طاحنةً جَرّاءَ الحرب، بعد أن عرفوا زمنًا أكثر انتعاشًا في حياةِ الأب الراحل (ساپوريتو). الأسرة الأخرى (تشيمّاروتا) تتكون من (پاسكوال) المريض غير القادر على العمل، وزوجته (ماتيلدا) التي تعول الأُسرة بالعمل في الدجل وقراءة الطالع، والابن (لويجي)، والابنة (إلفيرا) التي تتحدث الفقرة السابقة عنها، والعَمّة (روزا) والخادمة (ماريا).
     المُحرّك الأساسي للأحداث هو حُلمٌ رآه ألبرتو، يَحدثُ فيه أنَّ أُسرة تشيماروتا تقتُلُ صديقَه (أنيِلُّو أمِترانو) - الذي كان فيما يبدو واحدًا ممّن يترددون على ماتيلدا لقراءة طالِعه - وتسرقُ مالَه وتُخفي أدلّة الجريمة في حائط البيت. المهمُّ في الحُلم أنه يبدو واقعيًّا تمامًا لألبرتو، حتى أنه يتصرف بناءً عليه ويتحايل مع كارلو على أسرة تشيماروتا ذاتَ صباحٍ لإبقاء أفرادِها بالمنزل ريثما يُداهِمُ رجالُ الشرطةِ البيتَ ويُلقُون القبض عليهم، ولا يدرك ألبرتو أن ما رآه كان مجرد حُلمٍ إلا بعد أن تقتاد الشرطةُ جيرانَه إلى القِسم ويفشل هو والبوابُ (ميكيلي) في العثور على أدلّة الجريمة المزعومة! يُطلَق سَراحُ الجيران، ويُفاجَأ ألبرتو بعد عودتهم بأنّهم يتوافدون عليه واحدًا واحدًا، ليُلقِيَ كلٌّ منهم التُّهمة على غيرِه من أفراد الأسرة، فـ(روزا) تتهم لويجي الطائش المُسرِف ابن أخيها، ولويجي يتهم عمتَه روزا التي أحالَت البيت إلى مصنع صابون وشمع، حيث يُلمِح لويجي إلى أنّ العَمّةَ تستخدم دُهنًا من جثمان المقتول في صُنع الصابون، وپاسكوال يتّهم زوجتَه التي يشُكُّ في عِفَّتِها ويَرميها بأنها قادرةٌ على ارتكاب كل الفظائع، وهكذا! يرتَدّ ألبرتو إلى حالةٍ من الشكّ في حقيقة ما رآه، فيَغدو غير مُدركٍ تمامًا إن كان حُلمًا أم حقيقة. يحدثُ هذا بينما أخوه (كارلو) - الذي يُظهِر التديُّن ويتردد بانتظامٍ على الكنيسة – يتآمر مع التاجر الانتهازي (كاپا دانجيلو) ليستأثِر وحدَه بتَرِكَة مُعِدّات الفِراشة التي تركها أبوه للأخَوَين ويبيعَها لحسابِه بالكامل. في النهاية يكتشف ألبرتو مع الشرطة أن صديقه أمِترانو – الذي يَظهر ظهورًا خاطفًا في المشهد قبل الأخير- على قيد الحياة، فيتأكد من أنّ ما رآه كان حُلما. ولا يلتئم شمل أسرة تشيماروتا إلا ليدفعوا عن أنفسهم شبح التهمة ويحاولوا التغرير بألبرتو وقتلَه في مكانٍ ناءٍ، ولهذا يواجههم ألبرتو في النهاية بأنهم قد ارتكبوا جريمةً أفظع من قتل أمِترانو، وهي أنهم قتلوا الحُبَّ بينهم ولم يجتمعوا إلا على الشّرّ، كما يكتشف خيانةَ أخيه من حديث البواب المُخلِص ميكيلي معه، ويصفع كارلو صفعةً أخيرةً قبل أن يخرُج الجيران وتدخُل الشمس إلى الغرفة التي يبقى فيها الأخوان وحدهما ويتعانقان، في إشارةٍ إلى الأمل في بداية عهدٍ جديدٍ بينهما.
     بشكلٍ شخصيٍّ، تُحيلُني حادثةُ القتل التي تُلقَى تبعاتُها على أُسرةٍ بكاملِها إلى مسرحية (زيارة المفتش
An Inspector Calls) للكاتب الإنجليزي (چون بوينتون پريستلي)، لكن في هذه الأخيرة لدينا واقعة انتحار فتاةٍ من الطبقة العاملة، يَتّهم رجلٌ يدّعي أنه مفتشُ شرطةٍ أُسرةً من ميسوري الطبقة الوسطى بالمسئولية عن دفعها للانتحار. في (زيارة المفتش) يُعبّر پريستلي عن قَناعاته اليسارية فيما يتعلق بمسئولية كل فردٍ في المجتمَع عن المجتمَع كُلِّه، وهي قَناعاتٌ أخلاقيةٌ راسخةٌ في الأديان الكُبرى كذلك. أمّا حُلمُ ألبرتو في (أصوات الأعماق) فهو يسيرُ بالأحداث في مسارٍ عبثيٍّ يَفضحُ طوايا أفراد تلك الأُسرة المتهمَة وما يُكِنُّه كلٌّ منهم للآخَرين. اللافتُ للانتباه أنّ نَصّ پريستلي عرف طريقه إلى المسرح لأول مرّة عام 1945 في الاتحاد السوفياتي، بينما كتَب دي فيليپُّو مسرحيته عام 1948. ليس من السهل بالتأكيد أن نقطع بتأثُّر الإيطالي بالإنجليزي، أو بأنّ (أصوات الأعماق) تشبه رَدَّ فعلٍ على (زيارة المفتش)، فالمسألة تتطلّب غوصًا في مذكرات دي فيليپُّو وما كُتِبَ عنه، وليس هذا مجالَها، وإن كانت الإشارةُ واجبةً إلى هذا الاحتمال.
     نعود إلى الفقرة المقتبَسة في بداية المقال. هذه الإشارة العابرة إلى فُقدان اللغة أو اختزالِها الذي يكادُ يكونُ كوميديًّا إلى درجة العبث لدى الفتاة الصغيرة (إلفيرا)، تنضمّ إلى علاماتٍ أخرى خلال النصّ. أهمُّها حالة العم نيكولا الذي ابتكرَ طريقةً يعبّر بها عن انفعالاته وعواطفه واحتياجاته من خلال الألعاب النارية، فهاهُو كارلو يقول عنه: "إنه لا يتكلم لأنه لا يريد الكلام. استغنى عنه منذ وقت طويل. ومادامت البشرية صمّاء فلماذا لا يكون هو أبكم؟ ولَمّا كان يرفض الكلام إلى جانب أنه أُمّيٌّ لا يعرف القراءة والكتابة فقد لجأ إلى التعبير عمّا يَجيشُ في صدره بالقنابل والطلقات والصواريخ المضيئة. يسمونه في ناپولي قاذف الفرقعات، فما يُطلِقه ليس طلقاتٍ حقيقيةً وإنما فرقعات. رجلٌ غريبُ الأطوار". كذلك لدينا حوار لويجي وألبرتو. فضلاً عن صراع الأجيال الناضح من هذا الحوار السريع، فهو يركّز جدًّا على مسألة الفائض اللُّغوِي وتبرُّم الشباب به وحرص الكِبار عليه، كما يتضح من هذه الفقرة:
"ألبرتو: أعندَك ما تقولُه؟
لويجي: أنتم معشرَ الجيلِ الماضي لا تستطيعون الكلامَ دُون الرُّجوع إلى قواميسِ التقاليد. مادمتُ

         قد حضرتُ إلى هنا فلا شَكَّ أنَّ لديَّ ما أقولُه.

ألبرتو: وماذا ينبغي أن أقول حسب قاموس جيلِكم؟
لويجي: تقول (حسنًا؟)، متبوعةً بعلامة استفهامٍ طولُها متران ونصف."
     في هذه الإشارات الثلاث، لدينا مشكلةٌ عميقةٌ في التواصُل تُشفِي على الخَرَس. فالرمز المقتضَب الذي تصطنعه عاملةُ الاختزال (إلفيرا) يضرب بعرض الحائط مَدَىً واسعًا من ظِلال المعاني وألوان التعبير الإنسانيِّ التي لا سبيل إلى ضغطها في مثل هذا الرمز، والفائض اللغويُّ الذي لا يُطيقُه الشابُّ لويجي هو ما يمنح الأحاديثَ دفئَها بين البشَر. لنَمضِ خُطوةً أبعد ولنسمحْ لأنفسِنا بالاستطراد، في الحقيقة يبدو الفائض اللغوي باعثًا على الدفء بدرجةٍ ما في العلاقة بين العبد والربّ. هذا ما تشهدُ عليه فكرةُ تكرار الذِّكر والتسبيح في الأديان المختلفة، وإطالة السُّجود في الإسلام، والواقعة القرآنية مشهورةُ التفسيرِ في سورة (طه) بخصوص حديث سيدنا موسى مع الله: "وما تلك بيمينِك يا مُوسى؟ قال هي عصايَ أتوكّأُ عليها وأهشُّ بها على غنَمي ولِيَ فيها مآرِبُ أُخرى". عَودًا إلى موضوعنا، تبدو حالة العم نيكولا زُبدةَ اليأس مما وصل إليه حالُ المجتمع البشري من تفكُّك الروابط وفقدان القدرة على التواصُل والضيقِ بالكلام، ولأنه يأسٌ أصيلٌ جدًّا، فما يُطلِقُه الرجلُ "ليس طلقاتٍ حقيقيةً وإنما فرقعات". نلمح هنا وعيَ الكاتب متدخّلاً في تلقائية الحِوار، فبالتأكيد لا يُفترَض في بائع الألعاب النارية أن يُطلِق طلقاتٍ حقيقيةً، وإنما يحاول دي فيليپُّو أن يَلفِتَنا إلى لاجَدوى ما يفعلُه العم نيكولا، الذي لا ينطق خلال المسرحية إلا قبل أن ينتحر.       

      العلامةُ الأخيرة بخصوص الخَرَس المجتمعي تجيءُ على لسان (پاسكوال) في حواره مع ألبرتو: "عندما أصبحُ بعيدًا عن الناس أُكلّمُ نفسي وأشعُرُ بأني أُشرِفُ على الجُنون. أريدُ أحدًا أُفضِي إليه بأسراري. أحدًا يَسمعني. لم أعد أحتملُ أن أًصغِي دائمًا إلى نفسي". هنا يبدو الحديث مع النفس هو الحديث الوحيد الممكن.

     ثمة موضوعان آخَران يتراسلان مع فقدان التواصل، ويُسرِّبُهما الكاتبُ إلى وعينا بلُطفٍ شديد. أولُهما هو أنَّ الحُرّيّة الوحيدة المُتاحة حَقًّا هي حرية التخلص من عبء الحياة، حيث يقول كارلو عن نيكولا: "منذ قليلٍ طلبَ رجُلٌ ألعابًا ناريةً لعيد ميلاد زوجتِه. كان مستعدًّا لدفع أي مبلغ. لكن ما الفائدة؟! قال إنه لا يستطيعُ أن يقدِّمَها له لأنه يُعِدُّ عُبُوَّةَ بنغال خضراء استعدادًا لوفاته، لأن اللون الأخضر هو علامةُ خُلُوِّ الطريق. فهو يرى أن الإنسان ليس حُرًّا إلا في أن يموت". كذلك تقول روزا في حديثها مع ألبرتو: "أترى أن الإنسان يمكن أن يثق بأحدٍ في هذه الأيام؟ ما أستطيعُ أن أقولَه لك هو أنني أفكر أحيانًا في أن أفتح النافذة وألقي بنفسي منها".

      والموضوع الثاني هو الموقف المعرفيُّ للبطل (ألبرتو) إزاء ما رآه من أحداث قتلٍ وسرقة، فهو يكتشفُ مرّةً واحدةً أنّ ما رآه كان حلمًا، وكما تتبدّد أدلّة إدانة أُسرة (تشيماروتا)، تتبدد معها الصبغة المادية لما رآه (ألبرتو)، فهو لا يملك حتى دليلاً على أنّ ما رآه كان حلمًا. ويتضح هذا في قولِه للويجي حين سأله إن كان متأكدًا من أنه كان يحلم: "إنني لا أملك أدلّة. هذا متأكدٌ منه تأكُّدي من وجود الله".

     باختصارٍ، يضعُنا دي فيليپُّو في قلب أزمة الوُجود البشري. فأشخاصُ مسرحيتِه لا يستطيعون التواصُلَ فيما بينهم كما لو كانوا فقدوا اللُّغة بدرجاتٍ متفاوتة، كما لا يشعرون بحُرّيّةٍ إلا في التخلُّص من حياتِهم. والشخص الوحيد الذي يتحول إلى هدفٍ مشترَكٍ لتواصُل أفراد الأسرة المتهمَة هو ذلك الذي (حلَم) وآمنَ أنه كان يحلُم، فتجرَّدت معرفتُه من الأدلّة المادية التي يتطلبُها الواقعُ بقيُودِه وتحولَت إلى إيمانٍ مُتعالٍ على مثل هذه القيود. ربما حاول (دي فيليپُّو) منذ أكثر من سبعين عامًا أن يلفتَنا إلى الواقع الإنسانيِّ المثير للشفقة بضغط الحياة المادية وقيودِها، وأن ينبهَنا إلى أنَّ المَخرَجَ منه هو الحُلم - وهو المُعادلُ المعرفيُّ للإيمان تبعًا للنسَق البنائيِّ لهذه المسرحية، ويبدو أنه المفهومُ الأكثرُ ملاءمةً لعنوان المسرحية (أصوات الأعماق) – فبالإيمان/ الحُلم فقط يُرجى أن يعود الدفءُ إلى حياتنا. هو نَصٌّ تسامى على حِقبتِه التاريخية وقدّم أزمة الإنسان في مستوياتٍ مختلفةٍ للتلقّي، وأظنُّ تعريبَه وبعثَه على خشبة المسرح مُثريًا لحياتنا المسرحية والرُّوحية.

                                                   محمد سالم عبادة  14/1/2019

نُشِر في صحيفة (مسرحنا) الصادرة عن الهيئة العامة لقُصور الثقافة في 17 يونيو 2019