Wednesday 11 August 2021

مَخرَج من الخَرَس المجتمعي: قراءة في مسرحية (أصوات الأعماق) لإدواردو دي فيليپُّو

 

"روزا: ماذا تريدين أن تعرفي؟ إنها عاملةُ اختزال. عندما يتكلمُ المُحامي تنقش على الورق رموزًا

      غريبةً لا يفهمها أحدٌ سواها، ثم تقوم بقراءتها وكتابتِها على الآلةِ الكاتبة. رمزٌ كهذا مثلاً

      (ترسم بسبابتها في الهواء خطًّا قصيرًا متعرّجًا) يعني: "سيداتي سادتي، لنواجِه الواقعَ

       بشجاعة. إنه حقًّا أمرٌ جَلَل...".
ماريا: كل هذا برمزٍ واحد؟!
روزا: أجل. لذا فهي تربح كثيرًا وتتقدم في عملِها".

     هذه الفقرة من الفصل الأول في مسرحيتنا قد تبدو هامشيّةً مع القراءة السريعة، إلا أنها حين تنضَمُّ إلى شواهد أخرى من حوار المسرحية تُعطينا مفتاحًا ثمينًا لفهمها. دي فيليپُّو Eduardo de Filippo (1900- 1984) كاتبٌ مسرحيٌّ وشاعرٌ وكاتب سيناريو وممثلٌ إيطاليٌّ مثّل للمسرح والسينما. وهذا النص الذي بين أيدينا Le Voci di Dentro كُتِبَ عام 1948. وكما يُتوقَّعُ من هذا التاريخ، نلمح في النص أصداءَ الحرب العالمية الثانية وآثارَها الاقتصاديةَ المدمِّرةَ على المجتمع الإيطالي. فالأحداثُ تدورُ بين أُسرَتين متجاورتَين في السُّكنى في ناپولي، إحداهما تتكون من أخَوين (ألبرتو وكارلو) وعمِّهما المُسِنّ (نيكولا) الذي اعتزل الناس وامتنع عن الكلام، وهم متعهدو حفلاتٍ يرتزقون بتأجير الفِراشة والألعاب النارية، ويُعانون أزمةً ماليةً طاحنةً جَرّاءَ الحرب، بعد أن عرفوا زمنًا أكثر انتعاشًا في حياةِ الأب الراحل (ساپوريتو). الأسرة الأخرى (تشيمّاروتا) تتكون من (پاسكوال) المريض غير القادر على العمل، وزوجته (ماتيلدا) التي تعول الأُسرة بالعمل في الدجل وقراءة الطالع، والابن (لويجي)، والابنة (إلفيرا) التي تتحدث الفقرة السابقة عنها، والعَمّة (روزا) والخادمة (ماريا).
     المُحرّك الأساسي للأحداث هو حُلمٌ رآه ألبرتو، يَحدثُ فيه أنَّ أُسرة تشيماروتا تقتُلُ صديقَه (أنيِلُّو أمِترانو) - الذي كان فيما يبدو واحدًا ممّن يترددون على ماتيلدا لقراءة طالِعه - وتسرقُ مالَه وتُخفي أدلّة الجريمة في حائط البيت. المهمُّ في الحُلم أنه يبدو واقعيًّا تمامًا لألبرتو، حتى أنه يتصرف بناءً عليه ويتحايل مع كارلو على أسرة تشيماروتا ذاتَ صباحٍ لإبقاء أفرادِها بالمنزل ريثما يُداهِمُ رجالُ الشرطةِ البيتَ ويُلقُون القبض عليهم، ولا يدرك ألبرتو أن ما رآه كان مجرد حُلمٍ إلا بعد أن تقتاد الشرطةُ جيرانَه إلى القِسم ويفشل هو والبوابُ (ميكيلي) في العثور على أدلّة الجريمة المزعومة! يُطلَق سَراحُ الجيران، ويُفاجَأ ألبرتو بعد عودتهم بأنّهم يتوافدون عليه واحدًا واحدًا، ليُلقِيَ كلٌّ منهم التُّهمة على غيرِه من أفراد الأسرة، فـ(روزا) تتهم لويجي الطائش المُسرِف ابن أخيها، ولويجي يتهم عمتَه روزا التي أحالَت البيت إلى مصنع صابون وشمع، حيث يُلمِح لويجي إلى أنّ العَمّةَ تستخدم دُهنًا من جثمان المقتول في صُنع الصابون، وپاسكوال يتّهم زوجتَه التي يشُكُّ في عِفَّتِها ويَرميها بأنها قادرةٌ على ارتكاب كل الفظائع، وهكذا! يرتَدّ ألبرتو إلى حالةٍ من الشكّ في حقيقة ما رآه، فيَغدو غير مُدركٍ تمامًا إن كان حُلمًا أم حقيقة. يحدثُ هذا بينما أخوه (كارلو) - الذي يُظهِر التديُّن ويتردد بانتظامٍ على الكنيسة – يتآمر مع التاجر الانتهازي (كاپا دانجيلو) ليستأثِر وحدَه بتَرِكَة مُعِدّات الفِراشة التي تركها أبوه للأخَوَين ويبيعَها لحسابِه بالكامل. في النهاية يكتشف ألبرتو مع الشرطة أن صديقه أمِترانو – الذي يَظهر ظهورًا خاطفًا في المشهد قبل الأخير- على قيد الحياة، فيتأكد من أنّ ما رآه كان حُلما. ولا يلتئم شمل أسرة تشيماروتا إلا ليدفعوا عن أنفسهم شبح التهمة ويحاولوا التغرير بألبرتو وقتلَه في مكانٍ ناءٍ، ولهذا يواجههم ألبرتو في النهاية بأنهم قد ارتكبوا جريمةً أفظع من قتل أمِترانو، وهي أنهم قتلوا الحُبَّ بينهم ولم يجتمعوا إلا على الشّرّ، كما يكتشف خيانةَ أخيه من حديث البواب المُخلِص ميكيلي معه، ويصفع كارلو صفعةً أخيرةً قبل أن يخرُج الجيران وتدخُل الشمس إلى الغرفة التي يبقى فيها الأخوان وحدهما ويتعانقان، في إشارةٍ إلى الأمل في بداية عهدٍ جديدٍ بينهما.
     بشكلٍ شخصيٍّ، تُحيلُني حادثةُ القتل التي تُلقَى تبعاتُها على أُسرةٍ بكاملِها إلى مسرحية (زيارة المفتش
An Inspector Calls) للكاتب الإنجليزي (چون بوينتون پريستلي)، لكن في هذه الأخيرة لدينا واقعة انتحار فتاةٍ من الطبقة العاملة، يَتّهم رجلٌ يدّعي أنه مفتشُ شرطةٍ أُسرةً من ميسوري الطبقة الوسطى بالمسئولية عن دفعها للانتحار. في (زيارة المفتش) يُعبّر پريستلي عن قَناعاته اليسارية فيما يتعلق بمسئولية كل فردٍ في المجتمَع عن المجتمَع كُلِّه، وهي قَناعاتٌ أخلاقيةٌ راسخةٌ في الأديان الكُبرى كذلك. أمّا حُلمُ ألبرتو في (أصوات الأعماق) فهو يسيرُ بالأحداث في مسارٍ عبثيٍّ يَفضحُ طوايا أفراد تلك الأُسرة المتهمَة وما يُكِنُّه كلٌّ منهم للآخَرين. اللافتُ للانتباه أنّ نَصّ پريستلي عرف طريقه إلى المسرح لأول مرّة عام 1945 في الاتحاد السوفياتي، بينما كتَب دي فيليپُّو مسرحيته عام 1948. ليس من السهل بالتأكيد أن نقطع بتأثُّر الإيطالي بالإنجليزي، أو بأنّ (أصوات الأعماق) تشبه رَدَّ فعلٍ على (زيارة المفتش)، فالمسألة تتطلّب غوصًا في مذكرات دي فيليپُّو وما كُتِبَ عنه، وليس هذا مجالَها، وإن كانت الإشارةُ واجبةً إلى هذا الاحتمال.
     نعود إلى الفقرة المقتبَسة في بداية المقال. هذه الإشارة العابرة إلى فُقدان اللغة أو اختزالِها الذي يكادُ يكونُ كوميديًّا إلى درجة العبث لدى الفتاة الصغيرة (إلفيرا)، تنضمّ إلى علاماتٍ أخرى خلال النصّ. أهمُّها حالة العم نيكولا الذي ابتكرَ طريقةً يعبّر بها عن انفعالاته وعواطفه واحتياجاته من خلال الألعاب النارية، فهاهُو كارلو يقول عنه: "إنه لا يتكلم لأنه لا يريد الكلام. استغنى عنه منذ وقت طويل. ومادامت البشرية صمّاء فلماذا لا يكون هو أبكم؟ ولَمّا كان يرفض الكلام إلى جانب أنه أُمّيٌّ لا يعرف القراءة والكتابة فقد لجأ إلى التعبير عمّا يَجيشُ في صدره بالقنابل والطلقات والصواريخ المضيئة. يسمونه في ناپولي قاذف الفرقعات، فما يُطلِقه ليس طلقاتٍ حقيقيةً وإنما فرقعات. رجلٌ غريبُ الأطوار". كذلك لدينا حوار لويجي وألبرتو. فضلاً عن صراع الأجيال الناضح من هذا الحوار السريع، فهو يركّز جدًّا على مسألة الفائض اللُّغوِي وتبرُّم الشباب به وحرص الكِبار عليه، كما يتضح من هذه الفقرة:
"ألبرتو: أعندَك ما تقولُه؟
لويجي: أنتم معشرَ الجيلِ الماضي لا تستطيعون الكلامَ دُون الرُّجوع إلى قواميسِ التقاليد. مادمتُ

         قد حضرتُ إلى هنا فلا شَكَّ أنَّ لديَّ ما أقولُه.

ألبرتو: وماذا ينبغي أن أقول حسب قاموس جيلِكم؟
لويجي: تقول (حسنًا؟)، متبوعةً بعلامة استفهامٍ طولُها متران ونصف."
     في هذه الإشارات الثلاث، لدينا مشكلةٌ عميقةٌ في التواصُل تُشفِي على الخَرَس. فالرمز المقتضَب الذي تصطنعه عاملةُ الاختزال (إلفيرا) يضرب بعرض الحائط مَدَىً واسعًا من ظِلال المعاني وألوان التعبير الإنسانيِّ التي لا سبيل إلى ضغطها في مثل هذا الرمز، والفائض اللغويُّ الذي لا يُطيقُه الشابُّ لويجي هو ما يمنح الأحاديثَ دفئَها بين البشَر. لنَمضِ خُطوةً أبعد ولنسمحْ لأنفسِنا بالاستطراد، في الحقيقة يبدو الفائض اللغوي باعثًا على الدفء بدرجةٍ ما في العلاقة بين العبد والربّ. هذا ما تشهدُ عليه فكرةُ تكرار الذِّكر والتسبيح في الأديان المختلفة، وإطالة السُّجود في الإسلام، والواقعة القرآنية مشهورةُ التفسيرِ في سورة (طه) بخصوص حديث سيدنا موسى مع الله: "وما تلك بيمينِك يا مُوسى؟ قال هي عصايَ أتوكّأُ عليها وأهشُّ بها على غنَمي ولِيَ فيها مآرِبُ أُخرى". عَودًا إلى موضوعنا، تبدو حالة العم نيكولا زُبدةَ اليأس مما وصل إليه حالُ المجتمع البشري من تفكُّك الروابط وفقدان القدرة على التواصُل والضيقِ بالكلام، ولأنه يأسٌ أصيلٌ جدًّا، فما يُطلِقُه الرجلُ "ليس طلقاتٍ حقيقيةً وإنما فرقعات". نلمح هنا وعيَ الكاتب متدخّلاً في تلقائية الحِوار، فبالتأكيد لا يُفترَض في بائع الألعاب النارية أن يُطلِق طلقاتٍ حقيقيةً، وإنما يحاول دي فيليپُّو أن يَلفِتَنا إلى لاجَدوى ما يفعلُه العم نيكولا، الذي لا ينطق خلال المسرحية إلا قبل أن ينتحر.       

      العلامةُ الأخيرة بخصوص الخَرَس المجتمعي تجيءُ على لسان (پاسكوال) في حواره مع ألبرتو: "عندما أصبحُ بعيدًا عن الناس أُكلّمُ نفسي وأشعُرُ بأني أُشرِفُ على الجُنون. أريدُ أحدًا أُفضِي إليه بأسراري. أحدًا يَسمعني. لم أعد أحتملُ أن أًصغِي دائمًا إلى نفسي". هنا يبدو الحديث مع النفس هو الحديث الوحيد الممكن.

     ثمة موضوعان آخَران يتراسلان مع فقدان التواصل، ويُسرِّبُهما الكاتبُ إلى وعينا بلُطفٍ شديد. أولُهما هو أنَّ الحُرّيّة الوحيدة المُتاحة حَقًّا هي حرية التخلص من عبء الحياة، حيث يقول كارلو عن نيكولا: "منذ قليلٍ طلبَ رجُلٌ ألعابًا ناريةً لعيد ميلاد زوجتِه. كان مستعدًّا لدفع أي مبلغ. لكن ما الفائدة؟! قال إنه لا يستطيعُ أن يقدِّمَها له لأنه يُعِدُّ عُبُوَّةَ بنغال خضراء استعدادًا لوفاته، لأن اللون الأخضر هو علامةُ خُلُوِّ الطريق. فهو يرى أن الإنسان ليس حُرًّا إلا في أن يموت". كذلك تقول روزا في حديثها مع ألبرتو: "أترى أن الإنسان يمكن أن يثق بأحدٍ في هذه الأيام؟ ما أستطيعُ أن أقولَه لك هو أنني أفكر أحيانًا في أن أفتح النافذة وألقي بنفسي منها".

      والموضوع الثاني هو الموقف المعرفيُّ للبطل (ألبرتو) إزاء ما رآه من أحداث قتلٍ وسرقة، فهو يكتشفُ مرّةً واحدةً أنّ ما رآه كان حلمًا، وكما تتبدّد أدلّة إدانة أُسرة (تشيماروتا)، تتبدد معها الصبغة المادية لما رآه (ألبرتو)، فهو لا يملك حتى دليلاً على أنّ ما رآه كان حلمًا. ويتضح هذا في قولِه للويجي حين سأله إن كان متأكدًا من أنه كان يحلم: "إنني لا أملك أدلّة. هذا متأكدٌ منه تأكُّدي من وجود الله".

     باختصارٍ، يضعُنا دي فيليپُّو في قلب أزمة الوُجود البشري. فأشخاصُ مسرحيتِه لا يستطيعون التواصُلَ فيما بينهم كما لو كانوا فقدوا اللُّغة بدرجاتٍ متفاوتة، كما لا يشعرون بحُرّيّةٍ إلا في التخلُّص من حياتِهم. والشخص الوحيد الذي يتحول إلى هدفٍ مشترَكٍ لتواصُل أفراد الأسرة المتهمَة هو ذلك الذي (حلَم) وآمنَ أنه كان يحلُم، فتجرَّدت معرفتُه من الأدلّة المادية التي يتطلبُها الواقعُ بقيُودِه وتحولَت إلى إيمانٍ مُتعالٍ على مثل هذه القيود. ربما حاول (دي فيليپُّو) منذ أكثر من سبعين عامًا أن يلفتَنا إلى الواقع الإنسانيِّ المثير للشفقة بضغط الحياة المادية وقيودِها، وأن ينبهَنا إلى أنَّ المَخرَجَ منه هو الحُلم - وهو المُعادلُ المعرفيُّ للإيمان تبعًا للنسَق البنائيِّ لهذه المسرحية، ويبدو أنه المفهومُ الأكثرُ ملاءمةً لعنوان المسرحية (أصوات الأعماق) – فبالإيمان/ الحُلم فقط يُرجى أن يعود الدفءُ إلى حياتنا. هو نَصٌّ تسامى على حِقبتِه التاريخية وقدّم أزمة الإنسان في مستوياتٍ مختلفةٍ للتلقّي، وأظنُّ تعريبَه وبعثَه على خشبة المسرح مُثريًا لحياتنا المسرحية والرُّوحية.

                                                   محمد سالم عبادة  14/1/2019

نُشِر في صحيفة (مسرحنا) الصادرة عن الهيئة العامة لقُصور الثقافة في 17 يونيو 2019


Sunday 1 August 2021

الكاتبُ يُحكِمُ نَصَّه: قراءة في مسرحية (مسرحية في القصر) لفَرَنتْسْ مُلْنار

 

"- مانسكي: ولكنّ الحياةَ ليست كلُّها مسرحا.
- توري: بل هي كذلك يا عزيزي إذا كنتَ تكتبُ للمسرح! هل تعرف ما يقول ألفونس دوديه في مذكراتِه؟ عندما وقف ذلك الكاتب الفرنسي إلى جوار أبيه وهو على فِراش الموت، لم يَدُر بخَلَدِه سوى فكرةٍ واحدةٍ ليس غَير، وهي أن ذلك الموقف يَصلُحُ مشهدًا رائعًا للمسرح."


     حين بدأ برتولد بريخت يكرّسُ فكرة التغريب ويدعو إليها
Verfremdungeffekt -والتي يُقالُ إنه استقاها من الشكليِّين الروس وتحديدًا شْكْلُوڤسْكِي Shklovsky، كان رائدُهُ في هذه الدعوة هو إحداثُ انفصالٍ عاطفيٍّ بين الجمهور وما يشاهدُه على المسرح، فيصبح الحُكم النقديّ الذي يُصدِرُه المتلقّي على أفعال أشخاص المسرحية صادرًا عن العقل الواعي للمتلقّي، لا عن عاطفتِه وتوحُّدِه الانفعاليِّ مع هؤلاء الأشخاص. وكانت الآلية التي اعتمدَها لإحداثِ هذا الأثَر التغريبيّ/التحييديِّ هي تجاهُل ما يُسَمَّى في العُرف المسرحي (الحائطَ الرابعَ)،  - وهو الحائط الافتراضي الذي يفصل الممثلين عن الجمهور، فيَسمح للجمهور بمشاهدة الممثلين ويمنع الممثلين من التفاعل مع الجمهور - ويكونُ ذلك بمخاطبة الجمهور مباشرةً أو لفت نظَرِه إلى الطبيعة التخييلية لما يُمثَّلُ أمامَه، أو باختصارٍ، يكونُ بتذكير الجمهور طيلةَ الوقت أنَّ ما يشاهدونه مسرحيةٌ، لا حقيقة. ولَمّا كانت النقطة الأبرز في مقارنة التراجيديا بالكوميديا هي أنّ الأولى تعملُ على تجنيد عاطفة المشاهِد، بينما تتسلل الكوميديا إلى عقلِه الواعي عاريًا من العواطف، فإنّ الكوميديا في أي زمانٍ ومكانٍ تنطوي بالضرورة على قَدرٍ من الأثَر التغريبيّ، هذا إذا سلَّمنا بصحّة تلك النقطة في مقارنة المأساة بالملهاة.
     في هذا النصّ المسرحيّ الذي أبدعَه الكاتب المجريَ مُلنار
Ferenc Molnár  (1878 – 1952) وترجمَه (محمد فتحي) إلى العربية عام 1961، يعمَد المؤلّف إلى كَسر إيهامِنا وتغريبِنا منذ السطور الأولى في الحِوار. الحكاية باختصارٍ تدورُ حول كاتبَين مسرحيين شريكين في الكتابة (شاندور توري ومانسكي) يذهبان إلى قصرٍ على شاطئ الريفييرا الإيطالية بعد الانتهاء من تأليف مسرحيتهما الغنائية، بصحبة موسيقار فرقتهما المسرحية (ألبرت آدم) خطيب الممثلة الأولى للفرقة (إيلونا سابو) التي نزلت إحدى غرف القصر قبلهم. وبطريقةٍ ما، يعرف الممثل الكبير (ألمادي) بوجود (إيلونا) فينجح في الحصول على دعوة لحضور الحفل الكبير الذي يعتزم الكونت صاحبُ القصر إقامتَه وتشترك (إيلونا) في إحيائه بغناء أغنيتين. ونعرفُ أنّ (ألمادي) كان يُعطي (إيلونا) دروسًا في الإلقاء في بداية مشوارها المسرحي، وأنّ علاقةً حميمةً كانت تجمعُهما، رغم فارق السّنّ بينهما، ورغم أنه متزوّجٌ وأبٌ لأربعة أطفال. يتطفّل (ألمادي) على (إيلونا) التي تصُدُّه في البداية لأنها أصبحت خطيبة الموسيقيِّ الشاب (آدم)، لكنها سرعان ما تنصاعُ جزئيًّا لرغبتِه في إعادة علاقتهما القديمة، ولسوء الحظّ يسمعُ ما يدورُ بغرفةِ (إيلونا) من حوارٍ غزَلِيٍّ كلٌّ من توري ومانسكي وآدم، حيثُ يكتئب هذا الأخير ويسهرُ ليلتَه مفكرًا فيما عسى أن يكون التصرف الأمثل تجاه خطيبتِه الخائنة. (توري) يعتقد أنّ ما حدثَ يشكّل أزمةً كبيرةً للفرقة، فـ(آدم) ألمَحَ إلى تفكيرِه في تمزيق المدونة الموسيقية التي أنجزَها للأوپريت، كما أنّ حالتَه النفسية المحطمة تهدد بنضوب مَعِين إلهامِه، وهو ما يعني عُطلاً في الفِرقة. يفاجئنا (توري) باهتدائه إلى حلٍّ بالِغِ الغرابة لهذه الأزمة، يَعرِضُه على (إيلونا) و(ألمادي) الذي يستدعيه (توري) مهددًا إياه بإرسال برقيةٍ إلى زوجتِه يكشفُ لها فيها ما اطّلَع عليه من مسلك الزوج الخائن. يهاتِف (توري) (مِل) كبير تشريفاتيّة الكونت ومنسَق الحفل ليغيّر برنامج الحفل، فبدلاً من أن تغنّي (إيلونا)، ستمثل مع (ألمادي) مسرحيةً قصيرةً من تأليفِه، حيث يأتي ما سمعَه (آدم) من حوارٍ بينَ إيلونا وألمادي ضمن حوار المسرحية، وبالتالي يقتنع (آدم) بأنّ ما سمعه بأذنيه كان مجرد پروڤة في غرفة إيلونا لهذه المسرحية. يعكف ألمادي وإيلونا على حفظ دورَيهما وتنجح خطّة (توري) العبقري، وتنتهي المسرحية و(ألمادي) قد انسحب من حياة إيلونا، وتزول زوبعة الفنجان التي عكّرَت صفو علاقتِها بآدم.
     في تقديري، تجسّد الحكاية التي أبدعَها (مُلنار) ذلك التوتُّر الحتميّ بين كاتب النص ّالمسرحي من جِهةٍ، والممثلين من جهةٍ أخرى. طبيعةُ الأمور تقتضي أنّ الممثلين حين يقومون بأدوارِهم في مسرحيةٍ ما، يحاولون  -بوعيٍ أو دون وعيٍ- الإفلاتَ من قبضةِ النّصّ، ويكونُ هذا بالارتجال والخروج عن النصّ، ويَصِلُ في أقصى مداهُ إلى كَسر الحائط الخامس، بمعنى إحالة الجمهور إلى الأعمال التمثيليّة السابقة للممثلين إن كانوا يَحظَون بشعبيةٍ جارفةٍ أو على الأقل معروفين لدى جمهورهم جيّدا. لن نعدم أمثلةً على هذا التصرُّف في المسرح والسينما، وكلُّنا يتذكّرُ الفنان (عادل إمام) في (الواد سيد الشغال) وهو يُحيلُ الجمهورَ إلى فوازير ألف ليلة وليلة التي اشترك في بطولتها الفنان (عمر الحريري)! المهمُّ أنّ هذا التوتُّر يُعَبِّرُ في جوهرِه عن صراعٍ بين حُرّيّتَين: حريّة الكاتب من جهة، وحرية الممثل من الأخرى، ومن وجهة نظرٍ وجوديّة، يحاولُ كلٌّ من الطرفَين تحقيقَ وجودِه بفرضِ كلمتِه – ومِن ثَمَّ حُرّيّته- على أرض الواقع، وعلى حساب الآخَر بالضرورة. ما يفعلُه البطل (توري) بالضبط هو أنه يستعيدُ زمامَ الأمور من الممثلين، فهو لا يُدرِج ما ارتجلوه على خشبة المسرح في نَصّه المسرحي، وإنما يتعدى ذلك إلى مُصادَرَة ما قِيلَ داخل غرفة نوم الممثلة، في قلب خُصوصِيَّتِها الشخصيّة، ليُصبِحَ جزءًا من نصٍّ مسرحيٍّ يُبدِعه، وكأن ما تفوّه به ألمادي وإيلونا إن هُو إلاّ جزءٌ من حِوارٍ كتبَه هو أزَلا! ألا يُحيلُنا هذا إلى إشارةٍ قرآنيةٍ طالما أثارت الجَدَل بين منتقدي الإسلام والمُدافعين عنه، وهي الآية 52 من سورة الحَجّ وما يرتبط بها من حادث الغرانيق: "وما أرسلنا من قَبلِك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلاّ إذا تَمنَّى ألقى الشيطانُ في أُمنِيَّتِه فيَنسَخُ اللهُ ما يُلقِي الشَّيطانُ ثُمَّ يُحكِمُ اللهُ آياتِه، واللهُ عليمٌ حَكيمٌ"؟! تبعًا لوجهة نظرِ قراءتنا في أحداث هذه المسرحية، يبدو المخلوقُ - سواءٌ أكان النبيَّ أم الشيطانَ - ممثّلاً لا يدري من أمر نفسه إلا قليلاً، قاصِرَ العلم تمامًا ولا يرى أبعدَ من أنفِه، بينما الأمرُ كلُّه بيَد الله. ولنَعُدْ سريعًا من استطرادتِنا!
     ثَمَّة إشاراتٌ في حوار (توري) مع الممثِّلَين إلى هذا القَهر الذي يُمارِسُه عليهما بصفتِه كاتبَ النص المُنقِذ لسمعتِهما ولعلاقة الخطيبَين، فإيلونا مثَلاً تُشيرُ إلى سطرٍ في النصّ تقولُ فيه لألمادي: "إنّ قُبلتَك تدعو إلى الاشمئزاز" بينما الحقيقةُ أنها قالت في غرفة نومها: "إنها تذكّرُني بقبلاتِك الأولى، حلوةٌ حارّةٌ كالنبيذ الساخن"، ويعقّبُ ألمادي: "أنت تصفُ قُبلَتي بأنها تدعو إلى الاشمئزاز. أحبُّ أن أعرفَ لماذا"، فيرُدّ (توري): "هكذا أراها، فأنا مؤلّف المسرحية، وهذا هو رأيي في قُبلتِك". هو يَنسخُ ما قِيلَ داخل غرفة النوم ليُحكِمَ نَصَّه كما يليقُ بإرادة الكاتب!

     كذلك هناك تبرُّم (ألمادي) أثناء الپروڤة بطُول الأسماء الفرنسية في النّصّ الذي يمثلانِه، والذي نَحَلَه (توري) للكاتب الفرنسي (ساردو Victorien Sardou) مستغِلاًّ عدم إلمام (مِل) منسّق الحفلة بأعمالِ هذا الأخير، وليُبعِد عن نفسِه أمامَ (مانسكي) و(آدم) شُبهةَ تلفيق النّصّ لإنقاذ الموقف. يَخلع ألمادي قبعتَه وقفّازَيه ويضع السَّوط (وكلُّها من لوازم الدور) ويقول: "هذا شيءٌ مُخجِل. أن أُضطَرَّ إلى أن أردد هذه الأسماء اللعينة من البداية للنهاية، بينما هي لا تقولُ إلا (اسمك)"، مُشيرًا إلى أسماء مثل (المركيز چان فرانسوا جيليت دي لاتور دارجان، سيّد بيريچود دي شابينيون وسانت سوبليس دي لاجراند بارمنتيير)! هكذا يُلقِي الكاتبُ ممثِّلَه في أَتُون التجربة المسرحية بكل ما تتسِم به من مبالَغَةٍ وإسرافٍ في التمثيل إذا جاز التعبير، فيتقزّم وجودُه الحقيقيٌّ ويتحول إلى شيءٍ أقربَ إلى الدُّمية في يد الكاتب الذي يملك الخيوطَ كُلَّها. المُلاحَظ أنّ (توري) يشيرُ في موضعٍ من حديثِه إلى أنه للمرة الأولى في حياتِه يكتبُ لغرضٍ غير أنانيٍّ، فهو يبتغي إنقاذ قلب الموسيقي (آدم) وسُمعة (إيلونا) وأُسرة (ألمادي)، لكنّا نعرفُ أنه إن لم يكُن ذهنه قد تفتّق عن هذا الحلّ العبقري لكان مجهودُ الأيام الفائتة على زمن المسرحية -والذي بَذَلَه مع شريكه (مانسكي) و(آدم)- قد ضاع سُدى، فهو في التحليل الأخير مُخلِصٌ للحالة المسرحية إجمالاً، ومُخلِصٌ لمكانته ككاتبٍ مسرحيٍّ بالتحديد.
     إشارةٌ أخرى لطيفةٌ إلى هذا الإخلاص للحالة المسرحية تأتي مع تكرار نسيان (توري) اسمَ خادم القصر (يوهان دْفُورِنتْشِكْ). هنا الكاتب المسرحيُّ الذي تذكَّرَ بالحَرف الواحدِ الحِوارَ الذي سمعَه عبر حوائط الغرفة الرقيقة لممثلتِه يفشلُ أو يتظاهرُ بالفشل في تذكُّر اسمِ الخادم. في رأيي أنَّ هذه إشارةٌ إلى أنّ وعيَه مُنصَبٌّ بالكاملِ على ما يَخدُمُ نَصَّه، وكلُّ ما عدا ذلك لا يَعنيه، ونتفهّم صنعةَ اللطافة التي خلق بها (مُلنار) هذا الأثَر حين نعرف أن أسماء أبطال هذه المسرحية كلَّها أسماء مجَريةٌ خالصة (شاندور-إيلونا سابو-ألبرت آدم-ألمادي)، إلا فيما يتعلق بـ(مانسكي) المُوحي بأصلٍ سلافيٍّ، واسم الخادم الغريب (دْفُورِنتْشِكْ) الآتي من إقليم السلاف الشمالي (التشيك وپولندا تحديدا)، فكأن غُربةَ الاسمَين معادلٌ سياقِيٌّ لطيفٌ لغربة الشخصَين عن الحالة المسرحية، لاسيَّما أنّ (مُلنار) يجعلُ (مانسكي) أخَفَّ وزنًا وأميَلَ إلى الكسل العقلي من شريكِه بطل المسرحية (شاندور توري).    
     نحنُ في حضرة نصٍّ مسرحيٍّ كوميديٍّ يُعَدُّ مثالاً صارخًا على الميتا-مسرح، ويطرح ما يطرحُه الميتا-مسرح من أسئلةٍ حول الحقيقة وأصالةِ الإبداع وطبيعة الحُرّيّةِ والوجود. باختصارٍ، هو نَصٌّ مُنفَتحٌ على مستوياتٍ مختلفةٍ للتَّلقِّي، جديرٌ بالبقاء والتَّمَثُّل وإعادة القراءة ما بَقِيَت الإنسانية بأسئلتِها الأبديةِ الشائكة.  

محمد سالم عبادة

24 يناير 2019

نُشِر في صحيفة (مسرحنا) إلكترونيًّا في 25 فبراير 2019