Sunday 30 May 2021

ثوراتُ الفنِّ المضادّة 1-(مايكل چاكسون) نموذَجًا

 


    التعقُّدُ قدَرٌ محتومٌ إذا تعلّقَ الأمرُ بمسيرةِ الفنّ .. وهذا التعقُّدُ ليس بالضرورةِ في طبيعةِ النتاجِ الفنّيِّ النهائيِّ، وإنما يمكنُ أن يكونَ في وعي الفنانِ أو في الخلفياتِ التاريخيةِ والمعرفيةِ والاجتماعيةِ للنتاجِ الفنيّ ..

     الأمثلةُ على هذا التعقُّدِ الحتميِّ أكثرُ من أن تُحصَى .. ولنأخذ مثالاً مسيرةَ الشِّعر .. يرى الناقدُ (چفري وينرايت Geoffrey Wainright) في كتابه (الشِّعرُ: القواعِدُ) أنَّ الإنسانَ – ذلك الكائنَ المتكلِّمَ - اكتشفَ ما للقافيةِ من طبيعةٍ خاصّةٍ بالصُّدفةِ، فالسيناريو الاختزاليُّ الأقربُ للتصوُّرِ هو جماعةٌ من الناسِ يتجاذبونَ أطرافَ الحديثِ من خلالِ لغةٍ اعتباطيّةٍ، ثُمّ تَرِدُ في حديثِهم كلماتٌ متفقةُ الفواصِلِ في نهايةِ جُمَلٍ متلاحِقةٍ، تثيرُ دهشتَهم لمخالفتِها تيّارَ الحديثِ المعتادِ، فيستحسنونها لأنها تذهبُ بهم بعيدًا عن مَلَلِ الكلامِ المكرور .. ربما يأتي لاحِقًا اكتشافُ الوزن الشِّعريِّ لأنّه يستلزمُ مَلَكَةَ ملاحظةٍ أرهفَ، ومِن هنا يتطورُ الشِّعرُ كما عرفَهُ الأقدمون .. فإذا تركنا كلامَ (وينرايت) لنستعرِضَ في عُجالةٍ تطوُّرَ الشِّعر العربيّ، فسنجِدُ الشكلَ  يتعقَّدُ من سَجعِ الكُهّانِ وحُداءِ الإبِلِ، إلى أرجازٍ شبهِ منتظمةٍ، إلى تنوُّعٍ إيقاعيٍّ آخِذٍ في الاتساعِ، إلى ثورةٍ على الأشكال الشعريةِ المعروفةِ فيما يُعرَفُ بمُنجَز (المُوَلَّدين)، وصولاً إلى المقطَّعاتِ المملوكيةِ الزخرُفية .. وفي لحظةٍ بعينِها يثورُ على هذا الإرثِ شعراءُ يحررونَ الوَحدةَ الوزنِيّةَ من تقاليدِها ليَظهرَ شِعرُ التفعيلةِ .. وفي لحظةٍ تاليةٍ تقومُ ثورةٌ مضادّةٌ للاكتشافِ الأولِ الّذي رَسَّخَ الوزن والقافيةَ، لتحتفيَ بغيابِهِما في شِعرٍ يَركنُ في صنعتِهِ إلى البساطة .. وهي اللحظةُ التي رُبَّما تجسّدُ نقطةَ اعتراضٍ وجيهةً على الفرضِ الذي سُقناهُ في بدايةِ المقالِ، مِن أنَّ التعقُّدَ هو قدَرُ الفَنِّ المحتومُ، فهاهُوَ الشِّعرُ يَنفُضُ عنهُ تقاليدَهُ التي تراكمَت عبرَ القرونِ آخذةً في التعقُّد، ليَركنَ إلى البساطةِ، وكأنَّ الأمرَ يَشي بمسيرةٍ دائريّةٍ لا خطّيّةً أو حلزونيةً كما يُوحي الافتراضُ المبدئيُّ للمقال .. لكنّ هذا الاعتراضَ يُغفِلُ ما قُلناهُ مِن أنَّ التعقُّدَ ليس بالضرورةِ في شكل المنتَج الفنيّ، وإنما يجوزُ أن يكونَ في وعي الفنان أو في الخلفياتِ التاريخيةِ التي يَظهَرُ عليها المنتَجُ، والتي تجعلُ تلقِّيَهُ قابلاً لتآويلَ ربما لا يستوعبُها منتَجٌ افتراضِيٌّ مشابهٌ له تمَّ إنتاجُهُ في عصرٍ سابق .. فحينما يقول (رامبو) في نهاية القرن التاسع عشر: "عَفَقتُ أشرطةَ حِذاءَيَّ الممزَّقَين كأوتار لِيرٍ، وإحدى قدمَيَّ أقربُ إلى قَلبي"، فإنَّ هذه الجملةَ تكونُ محمَّلةً بشحنةٍ دلاليةٍ أثرى بكثيرٍ ممّا لو قيلَت هي نفسُها في القرن الأولِ قبل الميلاد مثلاً لأنّها قادرةٌ بحكمِ ظرفِها التاريخيِّ على أن تُحيلَ قارئها إلى كل التاريخ السابقِ على قولِها ..

     نصلُ إلى موضوعنا .. لابأسَ من الرجوعِ إلى تعريفٍ نتفِقُ عليه للثورةِ حتى نُدركَ من جهةٍ ما سيعنيهِ حديثُنا اللاحِقُ، وحتى نحاولَ من جهةٍ أخرى أن نتداركَ ذلكَ الخطأَ المنهجِيَّ المتمثِّلَ في استخدامِ لفظةٍ غيرِ متفَقٍ على معناها!

     فَلتَكُن الثورةُ هي كلَّ تمرُّدٍ على وضعٍ قائمٍ، يبتغي القائمونَ به إزاحةَ منظومةٍ قيميّةٍ ومعياريةٍ بعينِها، وإحلالَ أخرى محَلَّها ..

     أمّا (الثورةُ المضادّةُ) فهي مصطلَحٌ أَلصَقُ بالخطابِ السياسيّ .. وهو يرِدُ كثيرًا في سياقِ الحديثِ عن محاولاتِ الرّجعيّين في كلِّ مجتمعٍ إجهاضَ الثوراتِ التي قد تهدِّدُ مصالحَهم .. ولنَعُدْ إلى تعريف (چوزيف دي مسْتْرْ Joseph de Maistre) للثورة المضادّة باعتبارِه أهمَّ رموزِها في أعقابِ أشهر ثورات العصر الحديثِ؛ الثورة الفرنسية. يقول: "إنها – أي الثورة المضادة  -Counter Revolution ليست ثورةً في اتجاهٍ معاكسٍ لثورةٍ سبقَتها، بل هي ضِدُّ الثورةِ في عمومِها!". وربّما يتّسِقُ هذا مع اعتبارِ هذا الرجُل من قِبَل المحلِّلين المتأخّرين – وأهمُّهم (أشِعيا بِرلين) – الوجهَ الأبرَزَ في تيّار التنوير المضادّ (أو بالأحرى: ضدّ التنوير Counter Enlightenment) بما يجسّدُهُ من نكوصٍ إلى تقديس الملَكيّة واحتفاءٍ بقيَم المجتمَع المستقرّة قبل الثورة الفرنسية.

     أمّا في مقالِنا، فرَغمَ استخدامِنا المصطلحَ آنِفًا في سياقِ التقديمِ لظُهورِ (قصيدةِ النثر)، إلاّ أنّهُ في الفنِّ الذي قدّمنا لمدى تعقُّدِهِ، لا يوجدُ تجاوُزٌ في مستويَي الإبداعِ والتلقّي، بقدرِ ما يوجدُ تجاوُر .. فثورةُ الموسيقى اللّامقاميّة -بصفتِها ثورةً مضادّةً في التأليف الموسيقيّ- على يدِ (كلود ديبوسي) وغيرِهِ مَثَلاً لم تُلغِ من الوجودِ أعمالاً رائعةً سابقةً عليها حفلَ بها سجِلُّ الموسيقى الأوربية؛ وهذا من ناحيةِ التلقّي، كما لم تُلغِ محاولاتِ معاصِري القائمين بهذه الثورةِ واللاحقين عليهم إبداعَ موسيقى تحتفي بالقوالبِ والقواعدِ الأقدَم؛ وهذا من ناحيةِ الإبداع ..     

     ولهذا لا نزعُمُ أنّ الثورات المضادّة الّتي نحاولُ تبيُّنَ ملامحها في هذا المقالِ وما سيَتلوهُ من مقالاتٍ -إن شاء الله- ألغَت ما قبلَها أو احتكرَت الفنونَ الّتي قامت في سياقِها، كما لا نزعمُ مع (دي مسْتْرْ) أنّها ضِدُّ الثورةِ كمفهومٍ عامٍّ .. ذلك أنّ هذا لا يَدورُ بخَلَدِ فنّانٍ مُخلِصٍ للفنّ القائمِ على الحُرّيّة ومِن ثَمَّ الثَّورة ..

وإنما الغرضُ تعقُّلُ الثورة في الفنّ وعبقريةِ القائمين بها ..

     ولنبدأ بـ(مايكل چاكسون) الذي أثرى العالَمَ بثورةٍ مضادّةٍ في الغناءِ والرّقصِ ..

     ورغمَ أنَّ موضوعَنا الأساسيَّ هُنا هو الرقصُ إلاّ أنه يَحسُنُ بنا أن نُلقِيَ نظرةً على ثورتِه الغنائيّةِ أولاً، من مُنطلَقِ أنّ الغِناءَ أسبَقُ في التصوُّرِ من الرّقصِ إذا كان لنا أن نتأمَّلَ تراتُبًا زمَنيًّا للفُنون .. وذلك أنَّ الإنسانَ عادةً لا يَرقُصُ إلاّ لتأثُّرِه بموسيقى، يصاحِبُها الشِّعرُ غِناءً أو لا يصاحِبُها، ويستمرُّ التراتُبُ الزمنيُّ ليدخُلَ بنا المسرحَ ثُمّ السينما في النهايةِ باعتبارِها أكثرَ الفنونِ تركيبًا وآخِرَها ظُهورًا تاريخيًّا .. وهذا لا ينفي بالطبع أن تظهَرَ تجلياتُ الفنون الأعقدِ في الفنون الأبسط، كأن يستوحِيَ شاعرٌ فيلمًا سينمائيًّا أو حتى يستوحي لُغَةَ السيناريو السينمائيّ في تبويبِ ديوانِه، أو يُغنّي أحدُهُم لرقصةٍ أو راقصةٍ بعينِها ..

     نعودُ من استطرادِنا إلى لُبّ موضوعِنا  ..    

     دأبَ الإنسانُ منذُ أقدمِ العُصورِ على محاولةِ استنطاقِ الجَماد .. يتجلّى هذا في تأليهِ ظواهرِ الطبيعةِ في الحضاراتِ القديمةِ، كما يتجلّى بشكلٍ أكثرَ حميميّةً في إشراكِ الجَمادِ في التعبيرِ عن عواطفِهِ بتحويلِهِ إلى آلةٍ موسيقيّة ..

     أزعمُ أنَّ اللحظةَ السحيقةَ من عُمر البشريةِ التي اكتشفَ فيها الإنسانُ ما في الجَمادِ من قدرةٍ على مشاركتِهِ التعبيرَ عن أفراحِهِ وأتراحِهِ من خلالِ الموسيقى الآلِيَّةِ، هذه اللحظةَ تمثلُ ثورةً في علاقةِ الإنسانِ بالطبيعةِ، وبنفسِهِ وصوتِهِ كذلكَ حينَ جعلَ غناءَهُ وآلاته الموسيقيةَ تتجاوبانِ في لحنٍ ما ..

     وهنا نتذكَّرُ المقاطِعَ الصوتيةَ غيرَ المفهومةِ التي كان يغنّيها (مايكل) في أغانيهِ: زِحام Jam، مَن يَكونُ Who is it، تذكّري ذلكَ الزمان Remember The Time، أبيض أو أسود Black or White، إنهم لا يهتمون بنا They Don't Care About Us، وغيرها .. كثيرًا ما يتردّدُ أنّ (مايكل) تأثّر كثيرًا بطريقةِ أداءِ المطربةِ (ديانا روسّ Diana Ross)، وهو شخصيًّا صرّحَ بذلك، كما لا يَخفَى أنَّ مثلَ هذه المقاطعِ الصوتيةِ الخالصةِ تُسمَعُ لدى مطربي الچاز الكبار مثل (إلاّ فيتزجيرالد Ella Fitzgerald) حتى لتمثّلُ علامةً لأدائهِم، إلاّ أنها تكتسبُ بُعدًا آخَرَ مع (مايكل)، حيثُ تحُلُّ معه تارةً محلَّ الآلة الموسيقيّةِ النغميةِ وتارةً محلَّ آلةِ الإيقاعِ، كما مكّنَهُ تقدُّمُ تكنولوچيا الصوتيّاتِ من تقديمِها مسجَّلَةً مركَّبَةً على شريطِ صوتِهِ هو، فضلاً عن شريط صوتِ الكورَس أو الموسيقى الآليّة الحقيقية ..

     نتذكَّرُ بينما نتحدثُ عن الموسيقى الخالصةِ قولَ (شوپنهاوَرْ) فيها، حيثُ يُسكنُها قِمَّةَ هرمِ الفنونِ التي تحاولُ استنساخَ الإرادةِ، لأنّها بتجريدِها لا تُشيرُ إلى الإرادةِ وإنّما تتماهى معها .. كما نتذكَّرُ روايةَ أوسكار وايلد (صورة دوريان غرِاي) حيثُ يُعلِّقُ الراوي العليمُ على تأثُّرِ (دوريان) بحديثِ (لورد هنري) فيقولُ إنه لم يكن حديثًا مشوَّشًا فيما أثاره من مشاعرَ كما تفعلُ الموسيقى بتجريدِها .. يُلقي هذا التذكُّرُ بظلالِهِ على إدراكِنا لوظيفةِ تلك المقاطعِ لدى (مايكل) .. فهو فيها يصعدُ من محاولةِ استنساخِ الإرادةِ متمثلةً في غنائه النصَّ الشِّعريَّ للأغنيةِ، إلى التماهي مع الإرادةِ حين يتحوَّلُ صوتُهُ البشريُّ إلى آلةٍ تُصدِرُ موسيقى مجرَّدةً، وهو في ذاتِ الآنِ ينطلِقُ من المشاعرِ الواضحةِ التي تخاطبُها وتعبِّرُ عنها غنائيّةُ النصِّ الشِّعريِّ، إلى هَيُولَى المشاعرِ المتشابكةِ المتأبّيَةِ على التعبيرِ المباشر ..

     ولأنّها (مقاطِعُ)، فإنَّ الإرثَ الإسلامِيَّ يَحضُرُنا، فنتذكَّرُ الحُروفَ (المُقَطَعةَ) في أوائلِ سُوَرِ القرآن، وإثارتَها لسؤالٍ أبديٍّ عمّا تعنيه، لتبقى في الوعي الإسلاميِّ معجِزَةً في مبناها ومعناها الذي لا سبيلَ لسَبرِ غَورِه .. فكأنَّ مقاطِعَ (مايكل) الصوتيةَ كذلك تعبّرُ عمّا لا يُسبَرُ غَورُهُ من المعاني، وتضعُ المستمعين في دائرةٍ من التحدّي بمعنىً ما، من حيثُ إنّها - بحُكمِ تَكرارِها الذي ضمنَتهُ تكنولوچيا التسجيل – غيرُ قابلةٍ للتبديلِ، كما سيَفسَدُ بناءُ الأغنيةِ – كما يحفظُه محبُّوه - دُونَها!

     أمّا في الرقصِ فثورةُ (مايكل) المضادةُ أوضحُ بكثير .. فنُّ الرقصِ هو فنُّ التعبيرِ بالجسَد، وهو يحتملُ أشكالاً لا حَصرَ لها، إلاّ أنّ ما استقرَّت عليه الممارسةُ عبرَ العصورِ كانَ إظهارَ مُرونةِ الجسدِ ومخالفتِهِ لخطوط الجَمادِ الصارمة ..

     من جديدٍ نعودُ إلى الحديثِ عن (الجَماد)! نعَم .. فلُبُّ هذه الثورةِ الفنية المضادةِ التي نحنُ بصددِها هو غزوٌ عبقريٌّ من عالَمِ اللا أحياء لعالَم الفنونِ الإنسانيّةِ، غناءً ورقصًا في هذا المقال الافتتاحيّ لسلسلتِنا ..

     المهمُّ أنَّ الرقصتَين الأشهرَ في سجلِّ (مايكل) هما رقصةُ الروبوت ورقصةُ الماشي على القمَر ..

      رقصَ (مايكل) رقصةَ الروبوت في أغانٍ عدّةٍ وبلغَت أقصى تطرُّفِها في أغنيتِه (المجرم الناعِم Smooth Criminal) حين استخدمَ جهازًا مضادًّا للجاذبيّةِ ليقتربَ مائلاً من الأرضِ ويقاومَ السقوطَ عائدًا إلى وضع الوقوفِ بآلِيّة .. هو يثورُ على نعومةِ الجسدِ منتصِرًا لعالَمِ اللاأحياء .. وهي ثورةٌ مضادّةٌ لثورةٍ افتراضيّةٍ موغلةٍ في القِدَمِ حين اكتشفَ الإنسانُ إمكانياتِ جسدِهِ في التعبيرِ عن مشاعِرِه. يمكننا أن نُفيضَ في بيانِ ما دفعَ الفنَّ في تلك اللحظاتِ من التاريخِ إلى هذه الثورةِ المضادّةِ بالذات، ولن يخرجَ الحديثُ عن سطوةِ التكنولوچيا وإحساسِ الإنسانِ بالتشيُّؤِ وما إلى ذلك .. وهو ما قد نجدُ صداهُ في ثورةٍ مضادّةٍ أخرى أخذَت نفسَ التوجُّهِ في الفنِّ التشكيليِّ على أيدي (پابلو پيكاسُّو) و(خوان جريس) وغيرِهما ممّن أرسَوا تيّارَ التكعيبيّة لتتحولَ كلُّ الأشكالِ حيّةً وجماديّةً إلى جُذاذاتٍ مكعّبَةٍ مجازًا، غير منتظمةٍ حقيقةً، حتى أنّ إحدى مٌشاهِداتِ أحدِ معارضِ (پيكاسُّو) رأت لوحتَه الشهيرةَ (ثلاثة موسيقيين) طبيعةً صامتة Still Life!

     ومن نافلةِ القولِ أن نذكُرَ أنَّ رقصةَ (الروبوت) التي ازدهرَت مع (مايكل) أثّرَت في اللاحقين عليه حتى ظهرَ الرقصُ المُكَسَّر Break Dance باستسلامِ جسدِ الراقصِ فيه للتشيُّؤِ في أقصى درجاتِه ..

     نتأملُ الرقصةَ الثانيةَ التي سُمِّيَ بها (مايكل) وارتبطَت بأسطورتِه .. الماشي على القمر Moonwalker .. هي انتقالٌ ممّا دأبنا على رؤيتِهِ مباشَرةً بأعيُنِنا إلى ما رأيناهُ عبرَ وسائط الاتصالِ الحديثة .. أعني أنَّ (مايكل) عدَلَ عن المشيِ الذي يمشيه الناسُ في شوارِعِهم إلى المشيِ الذي رأينا (نيل أرمسترونج) ورفاقَهُ يَمشونَهُ على القمر عبر شاشات التلفاز في نهاية الستينيات .. كأنّه يمشي مِشيةً غير حقيقيةٍ، فيَكسرُ من خلالِها يقيننا وثقتَنا في عالمِ الحِسّ .. هو يُقلِّدُ صورةً تبدو كأنّها لرجلٍ يُقلِّدُ مِشيَتَنا..تقليدُ التقليد .. إيغالٌ في التغريب ..

 

     هذا بإيجازٍ عن دَور (مايكل) في ثورة الغِناءِ والرقصِ المضادّة .. أمّا دورُ هذا المقالِ، فهو محاولَةُ نقلِ أثَرِ ثورةِ (مايكل) من لاوَعيِ المتلقي إلى وعيِه، والتمهيدُ في عُجالةٍ لحديثٍ متشعِّبٍ عن تجلّياتِ (الثورةِ المضادّةِ) في حقولِ الفنِّ المختلِفة .. وكلُّ ما يرجوهُ كاتبُ هذا المقالِ هو أن يُسهِمَ هذا الحديثُ المتواضِعُ في إنتاجِ وعيٍ فنّيٍّ نقديٍّ لدى قارئهِ يوفِّرُ لصاحبِهِ منطلَقًا إبداعِيًّا قائمًا على ذائقةٍ جماليّةٍ حادّةٍ، تحاولُ جاهِدَةً ألاّ تفوتَها فائتةٌ، ولا يَخشَى صاحبُها أن يفقدَ طزاجةَ دهشتِهِ أمامَ الفنِّ، بينما يُراكِمُ معرفتَهُ بالعالَم.  

................. 

.......محمد سالم عبادة

..................

نُشِرَ في مجلة (فُنون) في نوفمبر 2016