Thursday 8 April 2021

سقوط دولة الفوازير: فكرة من فلسفة الدِّين!

 

* بماذا تُخبرُنا اللغة؟!:

     تُخبرُنا الجولة السريعة في معاجم اللغة العربية بأنّ الجذر اللغوي (فَزَرَ) –وهو جذر كلمةِ فازورة (أو فَزُّورة) بمعني لُغزٍ أو أُحجِيَة- يرتبط دائمًا بالكَسر أو الشَّقّ، ما يَفترض أنّ المتلقّي حين يهُمّ بحَلّ الفازورة إنما يَكسِرُ قشرتَها وصولاً إلى المعنى. وبتطبيقِ مبدأ الاشتقاق الكبير الذي أخذَه فيلسوفُ اللغة العربية (أبو الفتح عثمانُ بنُ جِنّي) عن أستاذِه (أبي عليٍّ الفارسيِّ) وطوَّرَه ونماه في كتابه العُمدة (الخصائص)، يمكننا أن نضع أيديَنا على علاقاتٍ وفيرةٍ بين الكلمات المبنية بهذه الحروف الثلاثة (الفاء والزاي والراء)، فكلمة (فَرَزَ) مثلاً تحملُ معنى تمييز المجموعات الجزئية عن بعضِها البعض، وصولاً إلى (الفِرْز) بمعنى القطعة. وكلُّ (فَزرٍ) أو كسرٍ يَنتُجُ عنه مجموعةٌ من القِطَع أو (الفُرُوز)، فكأنَّ الفِعلَين (فَزَرَ) و(فَرَز) متّصلان برابطٍ خفيٍّ لا يصعُبُ أن نكشفَ عنه. وقُل مثلَ ذلك في الجذر (زَرَفَ) بمعنى اقتربَ مُسرِعًا، فهو يتجاوبُ مع فكرة الإنجاز الموجودة في كُلٍّ من (فَزَرَ) و(فَرَز)، وكذلك (زَفَرَ) بمعنى (أخَرَجَ نَفَسَه)، فكأنَّ الإنسانَ حين يَزفِرُ يكسِرُ كيانَه الذي يبدو متماسكًا لِيُخرِجَ معنى حياتِه ملخَّصًا في النفَس، أو هو (يَفرِزُ) هذا النَّفَسَ الذي (يَزفِرُه) كما يَفرِزُ العَرَق. وهكذا تتجاوب معاني التباديل والتوافيق الصادرة عن مجموعة هذه الحروف الثلاثة، وهذا هو جوهر نظرية الاشتقاق الكبير لابنِ جِنِّي!

     هل ابتعدنا كثيرًا عن موضوع الفوازير؟!

* حلاوة الرُّوح:

     في فوازير (ماونتن فيو) لرمضان 1439ه/ 2018م القائمة على النجمين ماجد الكدواني ودنيا سمير غانم، لا نصادف الكثير من الجهد التمثيلي من ناحية الكدواني ودنيا، فالممثلان المتمتعان بشعبيةٍ كبيرةٍ -والمشهود لهما بمقدرة أدائية محترمة وخفّة ظِلٍّ موفورة وحضورٍ آسِرٍ أمام الكاميرا- لا يُخرِجان من طاقتهما الإبداعية إلا أقلّ القليل. سيناريو الحلقات السبع الموغلة في القِصَر يتلخّص في أنّ الكدواني ودنيا يظهران في المقدمة بشخصيتِيهما الحقيقيتين، باعتبارهما ضيفين في مهرجان سينمائي إيطالي (ربما يكون مهرجان فينيسيا باعتباره الأشهر)، وتضطرُّهما الظروف لأن يستقلاّ موتوسيكل بكابينة للّحاق ببرنامج المهرجان، وتتلف فرامل الموتوسيكل فيتعرضان لحادث يُفقِدُهما الذاكرة، ويكتشفان في جيوبهما ميداليتي آي-سيتي I-City وهو أحد المشروعات العقارية لشركة ماونتن فيو، ومن خلال الحلقات السبع يُكشَف عن مزايا سبعٍ لهذا المشروع، والفزورة هي استخلاص المزايا من الحلقات. وجائزة الفزورة الواحدة إيصال بمائة ألف جنيه تُخصَم من إجمالي قيمة الوحدة السكنية حين يتعاقد الفائز على شرائها، وصولاً إلى الإيصال الأعظم بمليون جنيه، يُمَثل الجائزة الكبرى للفوازير. 

    ربما يمثل هذا الظهور الخاطف للفوازير وسط حمّى المسلسلات الرمضانية شيئًا أقربَ إلى حلاوة الرُّوح بالنسبة لتقليد فوازير رمضان الذي بدأ في الإذاعة المصرية مع آمال فهمي وسامية صادق عام 1960 لينتقل سريعًا إلى التليفزيون في العام التالي، ويشهد طفراتٍ متعاقبةً مع بطولات ثلاثي أضواء المسرح ثُمّ نيللي ثم فؤاد المهندس وسمير غانم وشريهان مرورًا بعبد المنعم مدبولي ويحيى الفخراني مع صابرين وهالة فؤاد وفوازير الكاريكاتير مع الإعلامية سوزان حسن، ووصولاً إلى نادين ونيللي كريم.

     مسألة سقوط دولة الفوازير تُناقَش في الإعلام المصري كلَّ عامٍ تقريبًا مع دخول رمضان، ويُرجِع كثيرون سبب هذا السقوط إلى عوامل بعينِها، ربما أكثرُها تردُّدًا في هذه المناقشات ارتفاعُ الميزانية المتوقَّعَة لإحياء هذا التقليد التليفزيوني الذي يعتمدُ على مزيجٍ من فنون الاستعراض والموسيقى والدراما وغيرِها، فضلاً عن نضوب مَعين المواهب الجبّارة التي قد تضارع موهبتَي نيللي وشريهان تحديدًا في جمع الغناء والأداء الحركي إلى التمثيل إلى خفّة الظِلّ، أو تضارع مواهب الشعراء والموسيقيين ومصممي الرقصات ومصممي الملابس والديكور والمخرجين وكتّاب السيناريو الذين صنعوا مجد دولة الفوازير من الستينيات إلى تسعينيات القرن الماضي.  

     بشكلٍ شخصيٍّ لا أرتاحُ لحصر الأسباب فيما سبق ذِكرُه. يوجد سببٌ آخَر بسيطٌ ومباشِرٌ قد ينساه المناقشون لهذا السقوط، هو بُطلان موضة الفوازير. لكن يبقى السؤالُ وراء هذا السبب الساذَج بدَورِه: لماذا بَطَلت موضة الفوازير؟!

*قفزةٌ إلى فلسفة الدين:

     ربما مِن أهمِّ إسهامات فيلسوف الأديان الروماني مِرتْشِيا إلياد Mircea Eliade (1907-1986) فِكرة تَجَلّي المُقَدَّس Hierophany التي تعني تلك الظُّهورات التي تنسبُها النصوصُ المقدسَة والأساطيرُ إلى الإله (أو الآلِهة) والملائكة والكائنات العُلوِيّة الغيبية، والتي تغزو فيها عالَمَنا/ عالَم الشهادة المُدَنَّس. وتتأسس الأديانُ إجمالاً على هذه الفكرة. وفي رأي (إلياد) فإنّ تجلّي المقدَّس هو الذي يؤسس العالَم وجوديًّا، فهو الذي يمنحه قيمةً وتوجُّهًا وغاية. يقول إلياد في كتابه (المُقَدَّس والمُدَنَّس The Sacred and The Profane) ما معناهُ إنّ العالَم المدنَّس للخبرة اللادينية على حالتِه النقيّة لا يمكن تقسيمُه إلا بشكلٍ هندسيٍّ حياديٍّ بارد، فبِنيَتُه الداخلية غير قادرة على خلق أيّ تمايُزٍ قِيمِيّ Qualitative Differentiation، ومِن ثَمَّ فهو لا يُعطي الإنسانَ أيَّ نموذجٍ سلوكيٍّ للاقتداء. ويُعضِّد إلياد هذه الفكرة بفكرة العَود الأبدي في الممارسة الدينية Eternal Return، والتي تختلف عن مفهوم العَود الأبدي الفلسفي (تكرار حدوث العالَم عددًا لانهائيًّا من المرّات)، فالعَود الأبدي الذي يقصده إلياد في فلسفتِه هو ذلك المُعتقَد لدى المؤمنين بدِينٍ ما، أنهم يصبحون قادرين على المشاركة في الأحداث الأصلية لتجلّي المُقَدَّس في دينِهم من خلال اتباعِ طقوسٍ معيَّنة.

     بالنسبة للحالة الإسلامية، يحتلُّ رمضان موقعًا مركزيًّا مهمًّا في مفهوم تجلّي المقدَّس، فالثابِتُ إسلاميًّا أنَّ الظهور الأول لمَلَك الوحي جبريل للنبي محمد –صلى الله عليه وسلَّم- كان في رمضان، وبالتحديد في ليلة القَدر. ولِذا يحتفل المسلمون بالشهر بطقوسٍ تطهُّريّةٍ أهمُّها الصوم والصلاة وقراءة القرآن والصدقة، ويتكثّف هذا السلوك الإسلاميُّ في العشر الأواخر من رمضان تحرِّيًا لذِكرى ليلة القَدر التي يُمنَحُ بركتَها من يُعينُه الله على أن يسمُو بسلوكِه إلى درجةٍ يرضاها (فهو بشكلٍ ما أو بآخر يصبح مشاركًا في الحدَث الأصلي لتلقّي الوحي القرآني، انطلاقًا من رأي إلياد). وفي الحقيقة، يصبح هذا الشهرُ المقدَّس إسلاميًّا قادرًا على إعطاء المعنى للزَّمَن نفسِه بهذا التمييز الذي يُحيط به في الموروث الإسلامي، فالسنة القمرية التي تشبه أيامُها بعضَها -ولا يميّز الإنسانُ منها وقتًا على غيرِه- تتوقف لمجيء رمضان، ويلتفت المسلم لحقيقة مرور الزَّمَن وانقضاء العُمر بالتالي، من خلال طقس الصوم بمراقبته ميعادَي الإمساك والفِطر يوميًّا، فضلاً عن ارتقاب بداية ونهاية الشهر، كما يتحدد له في رمضان النموذَجُ السلوكيّ المطلوبُ الاقتداءُ به على مدار الحياة.

* نعودُ إلى الفوازير!

     يبدو أنّ ارتباطَ الفوازير برمضان في مصر على الأقل أقدَم من ظهور الإذاعة والتليفزيون، فكما يحكي (إدوارد لين) في كتابه (المصريون المُحدَثُون)، كان أهلُ الريف يتحلّقون في رمضان حول الحكّائين ليسردوا حكاياتِهم مشفوعةً بالفوازير البسيطة. الفزورة باعتبارِها لغزًا تقليدٌ إنسانيٌّ بالطبع، متجاوزٌ لحدود الجغرافيا، لكننا مازلنا نلمس -مع ما نشهده من سقوط موضة الفوازير التليفزيونية هذه الأيام- بقاء هذا التقليد في أشكاله البسيطة في بعض الصحف والمجلاّت، فضلاً عن ممارستِه حتى في بعض مساجد القاهرة بعد صلاة التراويح! هل لهذا الارتباط علاقةٌ بالمقدمة المعجمية لمقالِنا، التي تكشفُ عن أنّ حل الفازورة هو التنقيبُ عن المعنى؟ وإذا كانت الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب، فهل يُلقي هذا ضوءًا على مركزية رمضان في الممارسة الإسلامية باعتباره مانحًا المعنى للزَّمَن وبالتالي للعالَم كُلِّه؟

     في تقديري أن هذا الارتباط بين الفازورة ورمضان وتمحوُر الاثنين حول فكرة منح المعنى، كل هذا حاضرٌ في اللاوعي الجمعي Collective Unconscious للجماعة المسلمة التي كرَّسَت تقليد الفوازير الرمضانية في هذه البقعة من العالَم، تمامًا كما تفترض نظرية الاشتقاق الكبير -التي ذَكَرنا طرَفًا منها في بداية المقال- حضورًا لذلك التراسُل بين معاني تباديل وتوافيق المادّة الصوتية الواحدة –أو الجذر اللُّغَوي- في اللاوعي الجمعي للجماعة العربية الأولى التي اصطلحَت على وضع اللغة.

     فلماذا إذن سقطت الفوازير؟ أو لِنَكُنْ أكثر تحديدًا: لماذا سقطت موضة الفوازير التليفزيونية باعتبارها نوعًا خاصًّا هجينًا من الفن التليفزيوني مميِّزًا لهذا الشهر؟

     يبدو لي أنّ تبنّي الإذاعة والتليفزيون لتقليد الفوازير الرمضانية منذ الستينيات كان ينطوي في داخلِه على عمليتين تبدُوان متناقضتين. أُولاهما هي علمنة الدِّين Secularization of Religion بمعنى تحويل المناسبة الدينية إلى مناسبة دنيوية مرتبطة بطقوس احتفالية معيَّنة، وهذه العملية هي الأوضَح لدى قطاعٍ عريضٍ من أثِمّة المساجد مثَلا. نلاحظ هذا في دأَبِهم القديم المتَّصِل إلى الآن على حَضّ المُصَلّين على اعتزال التليفزيون ومقاطعة برامجِه في رمضان. العملية الثانية التي لا ينتبهُ لها هذا القِطاع من المجتمع على الأقلّ هي عمليةٌ في الاتجاه المضاد، بمعنى تديين المجال الدنيوي، وانسحاب المعنى الذي يمنحُه رمضان للزَّمَن على برنامج التليفزيون، فما يَحدُث بالفعل هو أنّ نمطًا خاصًّا من الدراما والاستعراض وغير ذلك ممّا يكوِّن فنّ الفوازير يميّز برنامج التليفزيون في هذا الشهر.

     في ضوء هذه الرؤية، يبدو سقوط دولة الفوازير انكماشًا لذلك المعنى الذي يمنحُه رمضان للزمن لدى صانعي برنامج التليفزيون، وبمعنىً أدَقّ، يبدو الأمرُ تراجُعًا لسطوة الدِّين وهيمنتِه على تفكير المشتغلين بالفنّ. ما حدث في العِقد الأخير مواكِبًا لانفجار عدد قنوات التليفزيون الفضائية هو انفجارٌ مماثِلٌ في عدد المسلسلات التي تخصص عرضَها الأول لشهر رمضان، في مقابل انكماشٍ واضحٍ للفوازير. صحيحٌ أن فكرة تخصيص العرض الأول لرمضان تُعَدُّ بِدَورِها شكلاً من أشكال تديين الفنّ أو المجال الدنيوي، لكن بالتأكيد بدرجةٍ أقلّ من تخصيص فنِّ بعينِه لهذا الشهر لا يُعرَضُ إلاّ خِلالَه. نستطيعُ أن نعبِّرَ في أمانٍ عن هذه العملية باعتبارِها ازديادًا في عَلمنة رمضان في مقابلِ الانكماش في تديين الفنّ.

     ربما نلمسُ شواهِدَ أخرى على هذه العلمنة في انكماش نسبة المسلسلات المصرية المهتمّة بتاريخ العُصور الإسلامية السابقة ممّا يُشارُ إليه بالمسلسلات الدينية. كذلك فإنّ حلاوة الرُّوح التي أشَرنا إليها سابقًا في حديثِنا عن فوازير ماونتن فيو لهذا العام، هي في الحقيقة فوازير تستهدفُ شريحةً عُليا مميَّزَةً في المجتمع، فمن نافلة القول أنّ المهتمّين بحلّ هذه الفوازير هم من يملكون ثمن شراء الوحدات السكنية الممتازة لمشروعات ماونتن فيو ويرغبون في الاستفادة من الخصم الذي تقدمه الفوازير. هذا في مقابل تراث الفوازير الرمضانية الطويل الموجَّه لكل قطاعات المجتمع دون تفرقةٍ في أغلب الأحيان. يمثل هذا بدوره شكلاً صُلبًا من الرأسمالية لا يهتمُّ كثيرًا بمفاهيم الخير والصدقَة والتكافل التي كانت ترتبط قديمًا بتقليد الفوازير التليفزيونية والإذاعية.

     ختامًا، يبدو أنّ سقوط فنِّ مهتمٍّ بفكرة الكشف عن المعنى كالفوازير يمثّل اتجاهًا عامًّا في المجتمع إلى فقدان الثِّقة في حقيقة وجود المعنى. ورجوعًا إلى فلسفة إلياد، يجسّد هذا بدوره انكماشًا يائسًا لسطوة الدِّين بصفتِه مانِحَ المعنى لفضاءات الزمان والمكان للموجود البشري. هي درجةٌ قاسيةٌ من العلمنة، التي يعتبرُها فلاسفةٌ متباينون في مواقفهم إزاء دور الدِّين في المجتمع -مثل ماركس من ناحيةٍ وماكس فيبر من ناحيةٍ مضادة- عمليةً تسير في اتجاهٍ واحد: العلمنة ثم مزيد من العلمنة، وهكذا إلى النهاية.

 ........................

محمد سالم عبادة

16/6/2018

...................

نُشِرَ في موقع (منشور) في 2 أغسطس 2018.

https://manshoor.com/art/end-of-tv-fawazeer-era/ 

Friday 2 April 2021

زمن القلش! - هل هو عُطلٌ في ماكينة الكلام؟!

 https://www.youtube.com/watch?v=H5I_DNMtknI

     ربّما ليست هذه أقدم قلشة في تاريخ السينما المصرية كما يقول عنوان المقطَع على يوتيوب. لكنّها على كلّ حالٍ تصلح مقدمةً لهذا المقال بشكلٍ اعتباطيٍّ تمامًا.

     في كتابه العلامة (الضحك: البحث في دلالة المُضحِك Le Rire. Essai sur la signification du comique) يَخلُص الفيلسوف (هنري برجسون) إلى أنَّ تحوُّلَ الحياة إلى نظامٍ آليٍّ هو أصل الإضحاك في كل أنواعِه ومهما تعددت طرائقُه ومواقفُه. ما يحدُث في مقطع الفيديو السابق هو أن (محمد رضا) يُحوِّل مجرى الكلام اتّكاءً على تشابُه كلمتين هما (دهب) بمعنى الذهب (المعدن النفيس) و(ذهب) الفعل الماضي. الطبيعيّ أن يتصفَ الكلامُ بالحيوية والانسياب التلقائي تبعًا للموقف، وهو ما يحدث في المشهد حتى تقول نيللي الجملة الأخيرة، ثُمّ نكتشف مع جملة "دهب مع الرِّيح" لمحمد رضا أنّ هناك آليّةً كامنةً في الكلام كانت تنتظر من يَكشف عنها. هذه الآليّة تعبّر عن نفسها من خلال فقدان الكلام لوظيفته الاتصالية وكأنَّ (آلةَ) الكلام – لا الكائن الحي المسمَّى (كلامًا) – تعطَّلت في هذه اللحظة!

     هكذا تتحدد طبيعة القلش! عُطلٌ يَحدُث في ماكينة الكلام يلفِت انتباهَنا إلى أنها ماكينةٌ وليستَ كائنًا حَيًّا كما ظننّاه. وبهذا يصبح القلش نوعًا شديد الخصوصية من النكتة. فالنكتة المعتادة تستخدم الكلام كوسيط لنقل مشهد – يمكن أن ينقُلَه المسرح أو السينما أو غيرُهما من الوسائط – ينبُع فيه الإضحاك من آليّةٍ نكتشفُها في تيار الحياة عبر موقفٍ محدّد (مثل موقف: الغبي اللي دخل امتحان فطلع التاني، حيث ينكسر المنطِق وتتعطل طبيعة الأمور في تآمُر غريب لإثبات غباء بطل النكتة). أمّا في القلشة فلا يوجدُ مشهدٌ يُحاول القلاّش أن يستحضرَه أمام خيالِنا، وبهذا يصبح الكلامُ مادةَ القلشة ولحمتَها وسداها، لا مجرّد وسيطٍ لنقل موقفٍ متخَيَّل.

     ولهذا قد تطول النكتة وقد تقصُر حسب الموقف المتخَيَّل فيها، أمّا القلشة فالطبيعيُّ أن تكون شديدة القِصَر، حيث العُطل يحدث في وظيفة الكلمة الواحدة داخل الجُملة. بالطبع يوجد شكلٌ هجينٌ من مادّة الإضحاك يجمع النكتة التقليدية مع القلشة، مثل النكتة القديمة البايخة "مرّة واحد جه يقعد على قهوة قعد على شاي"، وفي الغالب تميل مثل هذه النُّكَت إلى القِصَر الشديد ولا تتمتع بقوّة الإضحاك التلقائيّة التي يتمتع بها القلش. ويَلحَق بهذه الموادّ الهجينة نمَط خاصّ من النُّكَت المُحَمَّلة بالتساؤلات اللُّغَوِيّة، مثل النكت التي ظهرَت في تسعينيات القرن العشرين بين شباب الجامعة في مصر، ومنها:

" – شايف الـsubstitution اللي واقفة في البلكونة؟!

  - يعني إيه بلكونة؟!".

     عودًا إلى برجسون، يقترحُ كتابُه المُشارُ إليه في بداية المقال دورًا أخلاقيًّا للضحِك، ففي تلقِّي مسرحيةٍ كوميديةٍ كـ(البخيل) لموليير مثلاً، نضحك من فُقدان (آرپاجون) بطل المسرحية مُرونةَ الحياة وتحوُّلِه ضمنيًّا إلى آلةٍ مهمتُها الحفاظ على المال بكل الطرُق، وفي هذا الضحك عقابٌ افتراضيٌّ لخصلة البُخل، وبهذا يصبح الضحكُ وسيلةَ المجتمع للحفاظ على حيويته ككُلٍّ وحيوية أفرادِه.

     إذا قفزنا من هذا الاقتراح إلى طبيعة القلش كما بَسَطناها منذ قليلٍ، فسنشعر بالحيرة أمام ظاهرة الضحك من القلش. القلاّش يقف على الكلمات ويجرّدها من مرونتِها بمحض إرادته ليُضحِكَنا، فأيُّ عقابٍ في الضحك هنا؟ وما مردودُ الضحكِ في إعادة الحيوية إلى الكلمات؟!

     ينقذُنا من مأزق هذا السؤال فيلسوفٌ آخَر هو (سارتر)!  

     في كتابه (ما الأدب؟ Qu'est-ce que la littérature?) يَبسُط (سارتر) عقيدتَه بخصوص الفَرق بين الأنواع الأدبية السردية (من رواية وقصّة ومسرح) من ناحيةٍ، والشِّعر من ناحيةٍ أخرى. عنده أنّ السَّردَ بالضرورة مُلتَزِمٌ ووثيقُ الصِّلة بالسياقاتِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ والتاريخيةِ لكاتبِه، وبالتالي فهو (دالٌّ على شيء)، بينما في الشِّعر – كما في الفن التشكيلي والموسيقى الخالصة – يصبح العملُ نفسُه هو (الشيء) محلّ التأمُّلِ والتأويلِ الجماليّ. ويصف (سارتر) الشاعرَ بأنه يعيش خارج اللغة، ولا يستخدمُها بالطرُق التي اصطلح الآخَرون على استخدامها بها، وإنما ينتزعُ المفردات من سياقِها المتعارَفِ عليه ليُبدِعَ لها سياقاتٍ بديلةً جديدةً، وهو بهذا (يَخدُم) اللغةَ في مقابل الروائي الذي (يستخدمُها). وفي هذه العقيدة الفلسفية نجد عند (سارتر) أصداء من الفيلسوف المثالي الإيطالي (بندتّو كروتشه) الذي اعتقدَ أنَّ الشِّعر أسبَق في الوجود من النثر، على اعتبار أنّ النشاط الإنساني الأول في إطلاق أسماء جديدةٍ على الموجودات أدخَلُ في الشِّعر منه في النثر.

     صحيحٌ أنَّ هذه النقطةَ عند (سارتر) انتُقِدَت كثيرًا على اعتبار أنَّ المثال الشِّعريَّ الذي تأمَّلَه  ليَخرُجَ بهذه التعميمات كان شِعرَ الرمزيين الفرنسيين من (فيرلان) إلى (فاليري) خاصةً، وهم المشهورون بانتزاع المفردات من سياقاتها اللغوية المعتادة، إلاّ أنَّ للتعميم وجاهتَه رغم ذلك، فحتى في أكثر النصوص الشِّعرية تماسُكًا من ناحيةِ المَشهدية تظلُّ مقاومةُ الشاعر لإغراء الإخلاص لجمال اللغة المحض أضعفَ من مقاومة الروائي والكاتب المسرحي!

     الشاهدُ مِن تأمُّلِ هذه التفرقة بين الشعر والسرد عند (سارتر) أنَّ ما يحدث في القلش أقرب ما يكون إلى ما يحدث في الشِّعر! حين يرُدّ (محمد رضا) على (نيللي) في مقطع الفيديو قائلاً "دهب مع الريح"، لا يَنصُبُ أمامَ عينِ خيالِنا مشهدًا بعينِه، وإنما يُخلِص لِلُّغَة في ذاتِها ويُخَلِّصُها من حالة الوسيطيّة لتُصبحَ هدفَه الوحيد. لا يعود هناك شكلٌ ومضمونٌ لمادة الإضحاك، فالشكل هو المضمون، تمامًا كما في الموسيقى الخالصة، وفي الشِّعر كذلك عند (سارتر) ومَن قال برأيِه!

 

     بعيدًا عن هذا التأمُّل الفلسفي لظاهرة القلش، لن نخسر شيئًا إذا راجَعنا مادة (قلش) في (لسان العرب)، لنجد أنّ المفردةَ الوحيدةَ المتولِّدةَ من هذه المادة هناك هي (أَقلَش)، ويعرِّفُها ابنُ منظور صاحب اللسان بأنها "اسمٌ أعجميٌّ وهو دخيلٌ، لأنه ليس في كلام العرب شِينٌ بعد لامٍ في كلمةٍ عربيةٍ مَحضة، إنما الشيناتُ كلُّها في كلامهم قبل اللامات". أمّا في قاموس المعاني فنجد في تعريف كلمة (قَلاّش): "اسم علَمٍ تُركِيٌّ معناه الداهية المحتال، وورد كذلك في اللغتين الفارسية والكُردية بمعنى التافه، العاطل المحتال".

     شخصيًّا، لا أعرفُ إن كانت مفردة القلش - قبل أن تكتسب في السنوات الأخيرة معناها الذي ندور حولَه في هذا المقال – كانت تُتَداوَل بعيدًا عن التعليق على مباريات كرة القدَم، حيث اللاعب (يقلش) الكرة إذا خرجت من ركلتِه في غير الاتجاه الذي أرادَها فيه. اصطدمتُ بالمعنى الجديد للمرّة الأولى في لقاءٍ مع صديقٍ – ربما بعد 25 يناير – وصفَ ما أفعلُه بتلقائيّةٍ بأنه (قلش)، واستخدم جملة "انت قلاّش؟ ويتحب تاكل جُلاّش؟" لأعرفَ فيما بعد أن (أحمد مكي) قالها في فيلم (طير انت).

     المهم أنّ هذا الاستخدام الجديد للمفردة، والذي يَستَحضِرُ دائمًا مَشهدَ اللاعبِ الذي يَركَلُ الكُرةَ فلا تطاوعُ إرادتَه، يوقعُنا في مفارقةٍ دالّةٍ، مفادُها أنَّ الفِعل الحافلَ بالقصديّةِ المتمثّلَ في انتزاع الكلمات مِن سياقِها الطبيعي وإفقادِها مرونتَها، يوصَفُ بمفردةٍ ترتبطُ في خيالِنا باللاقصدية والاعتباط (في عصيان الكرة لقدم اللاعب)! هل هي بالفعل مفارقةٌ دالّة؟! ربما نعودُ إلى دلالتِها بعد قليل!

     قفزًا إلى ما قبل ظهور هذا المعنى مباشرةً، نجد أنّ (القفشة) كانت هي المفردة الدالّة على سرعة البديهة وخِفّة الدَّم لعقودٍ طويلةٍ عند المصريين خاصة. فكثيرون يتحدثون عن قفشات أم كلثوم وقفشات كثير من المشاهير. والقفشُ في (لسان العرب) يُطلَقُ على النكاح والأكل في شِدَّةٍ كما يُطلَق على الجَمع، والأقرب للمعنى المقصود هنا هو الجَمعُ أو الاصطياد، فالقفشَجي – كما اعتاد المصريون تسميتَه – هو ذلك الذي يصطاد التفاصيل التي يغفل عنها الآخَرون وينسج حولَها نكتةً تُحيلُ المستمعين إلى موقفٍ مضحكٍ متخَيَّل، ونتمسّك بهذا التعريف حتى ولو خلَطَ بعضُ الناس بين القفشة والقلشة كما في الرابط التالي!

http://www.arablite.com/2017/11/02/%D9%82%D9%84%D8%B4-%D8%A3%D9%85-%D9%83%D9%84%D8%AB%D9%88%D9%85-%D9%87%D9%84-%D9%83%D8%A7%D9%86%D8%AA-%D9%82%D9%81%D8%B4%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AA-%D8%A8%D8%AA%D8%B6%D8%AD%D9%83-%D9%81/

     نقطتان بخصوص القفشة مهمّتان هنا: الأولى أنّها تَستخدِمُ اللغةَ كوسيطٍ لاستحضار مضمونٍ مشهديٍّ متخَيَّل، لا كما في القلشة، والثانية أنّ الأسلافَ سمَّوا من اشتُهِر بهذا الفعل: (قفشَجي)! المقطع (جي) له ظروفه التاريخية لأنه يدلّ على النسَبِ للحِرفةِ في اللغة التركية التي تأثرت بها العاميةُ المصريةُ وكثيرٌ من العامّيّات العربية لظروفِ وقوعِ كثيرٍ مِن الأقطار العربية تحت الحكم العثماني. وهو بهذا يَفتَرِضُ أنّ (القفشجي) يَمتَهِنُ (القفشَ)، فكأنه يتكسّبُ به، والشاهدُ هو القصديّة الّتي توحي بها التسمية.

     أمّا (القلاّش) فهي مجرد صيغة مبالغة من (قَلَشَ) – ذلك الفعل المستحدَث – لا تفترضُ في ذاتِها قصديّةً من أي نوع، فربما يكون هذا القلاّش مريضًا ولا يستطيعُ فكاكًا من دافعٍ مبهَمٍ لديه يحثُّه على مواصلة القلش!

     نعودُ هنا إلى المفارقة التي أرجَأنا الحديثَ عنها منذ قليل. هنا ترتبط استعارةُ مفردةِ (القلش) من ملاعب كرة القدم (حيثُ تعصي الكرةُ قَصْدَ اللاعب)، بالتواطؤ المجتمعي على اختيار صيغة المبالغة – المحايدة بخصوص القصدية أو عدمِها – لتسمية فاعل القلش، فلم نجد كثيرين يسمُّونَه (قلشَجي) مثلاً على غرار (قفشَجي)!

     لا أحبُّ أن أبدُو قافزًا من مقدماتٍ بسيطة إلى نتائجَ هائلةٍ غيرٍ مناسبةٍ للمَقام، لكن يبدو لي أنَّ لهذا التآمُر اللاواعي على إظهار هذا الفعلِ - الحافلِ بالقصديّة والمُدَمِّرِ للُّغة كوسيطٍ للتواصُل من أجل الإضحاك – بمظهر الفعل العبثي اللاإرادي، علاقةً وثيقةً بتزايُد إحساس مجتمعاتِنا بالعبثية. ربما تكون العبثية سياسيّةً ومجتمعيّةً عند الغالبية العظمى من الناس، وربما تكون عبثيةً كونيةً عند قِلَّةٍ منهم، إلاّ أنها هناك حاضرةٌ بالتأكيد!

     ختامًا، أزعُم أنّ ظاهرةَ تفشّي تعاطي القلش في المجتمَع تؤهِّل القلش كظاهرةٍ جَماليّةٍ لدخول حلبة المنافسة مع الرواية والدراما في الجدَل النقدي العربي الذي أدارَه أستاذنا د.جابر عصفور بمقولته (زمن الرواية) وأستاذنا د.حسن عطيّة بمقولته المضادة (بل هو زمن الدراما). فالقلش مِن ناحيةٍ ليس بعيدًا عن الشِّعر إذا تأمَّلناه تأملاً فلسفيًّا كما فعلنا استنادًا إلى رؤية كلٍّ من (كروتشه) و(سارتر)، وهو من ناحيةٍ أخرى أكثر ارتباطًا من الروايةِ والدراما والشِّعرِ نفسِه بواقع الحياةِ لأنّه يُولَدُ لحظيًّا وتلقائيًّا في أكثر الحوارات يوميّةً وعاديّةً، وهو أخيرًا لا يعدو كونَه فَنًّا بما فيه من الموهبةِ القابلةِ للتدريب والصَّقل والعمَل وبقدرتِه المشهودةِ على الإضحاكِ كالكوميديا الدرامية وربما أكثر في بعض المواقف. ربما هو أقرب إلى الفنونِ الزائلةِ الآنَ كالجرافيتي، لكن مَن يدري؟ ألا يمكن أن نجد مشروعًا اليوم أو غدًا لجمع قلشاتٍ أضحكَت الناس كثيرًا في كتاب؟ أنثولوچيا لأهمّ القلاّشين في مصر مثلاً؟! مَن يدري؟! ربما تتكرّس قريبًا مقولةُ (زمن القلش) بشكلٍ رسميّ!

 

محمد سالم عبادة

14 مارس 2018

نُشِر على موقع (منشور) في 21 مارس 2018

https://manshoor.com/life/comedy-pun-egypt/