Monday 10 April 2017

مِن الغربة وإليها: قراءة في المجموعة القصصية (في بيت مصّاص دماء) لـ(سمر نور)

    
 "يقولونَ إنّ العينَ مرآةُ الرُّوح، وإن صدقَت تلك المقولةُ فالعالَم لا يرى سوى نصف رُوحي في الواقع".
     في هذه الجملة على لسان البطلة في قصة (أذنٌ ترى وعينٌ تسمع) تختزنُ (سمر نور) الغُربة التي تبسطُها في اثنتي عشرة قصّةً هي محتويات هذه المجموعة. إنها الغربةُ التي تتمترسُ بها شخصياتُها في مواجهة العالَم، ثم تقلب هذه الشخصيات لذواتِها ظَهرَ المِجَنّ – كما يقول المثَل العربي – فتعاني هذه الغربةَ ولا تجد منها مفرًّا رغم السعي الدءوب للفرار في الفنّ وعلاقات الحب وفي الدين، وتظلّ شخصياتُ (سمر) متأرجحةً بين الاحتماء بالغربة والفرار منها، إلى أن تتجمع خيوطُ هذه الشخصيات في بطلة القصة الأخيرة (ابنة صانع التوابيت) التي تتصالح مع الفَناء وتستسلم للموت لتكتمل دائرةُ الوجود الإنساني المُغلَقَة بأختامٍ إلهيةٍ لحمتها وسداها الغُربةُ كما عبّر عنها المعرّي: "وهل يأبَقُ الإنسانُ مِن مُلكِ رَبِّهِ .. فيَخرُجَ من أرضٍ لهِ وسماءِ؟!".
     القصة الأولى (غرفةٌ تخصُّ صبري وحدَه) تحيلُني بشكلٍ شخصيٍّ إلى رواية (القمر وسِتة بنسات) لسومرست موم، التي صوّر فيها حياة التشكيلي (بول جوجان) ونقلها إلى اسمٍ مستعار (تشارلز سْترِكْلاند). إننا نجد مشهد البطلة التي ترتاع من حائط الغرفة الفقيرة المنقوش برسومٍ دقيقةٍ شديدة الجمال هنا، ونجدُ البطل الراوي عند (موم) يرتاعُ لنفس المشهد بالضبط، مع فارق أنّ (صبري) نقّاش في بيئة شعبية هجر السعي للقمة العيش إلى العكوف على فنّه في دأبٍ عنيدٍ يذكّرُنا بجُملة (ستركلاند) التي تشبهُ الوسواس القهري: "I have to paint عليَّ أن أرسُم"! الفن هنا جِنٌّ يتلبس البطل حتى يودي بحياته في عُرف المحيطين به، والراوية متماهيةٌ معه تمامًا حتى أن حبل المشنفة المدلَّى من سقف غرفته يطاردها حيثما حلّت، بعد مُضِيّ عشرين عامًا على انتحاره.
     يصبح الفن محاولةً للإمساك باليقين في القصة الثانية (ساندوتش وسيجارة): "الكمان المنفعل يعلو بنعومة فوق صوت الضجيج المتحكم في رأسي. لا أسمعه بالطبع لكنني في احتياج إلى اليقين من أية فكرة تعبر رأسي بين هذا الضجيج المشكوك في أمره"، لكنّ الموسيقى تظل مثيرةً لمزيدٍ من الفوضى في رأس البطلة الراوية في غيبة كلمات الأغنية، ولا يصبح قرارها واضحًا إلا مع نهاية القصة حين تتذكر الكلمات من أغنية فريق (مشروع ليلى): "قوم نحرق ها المدينة ونعمّر واحدة أشرف" حيث تقرر تحدّي كل سلطات القهر مجتمعةً – ضباط القِسم والعريس والأعراف المجتمعية – وتشتري علبة سجائر وساندوتش للفتاتين المحتجزتين في التخشيبة. هذه الحالة من فوضى الموسيقى التي لا تكتسب جسدًا/ يقينًا حقيقيًّا إلا مع الشِّعر تذكرنا بـ(صورة دوريان غرِاي) لأوسكار وايلد، حيث وصف (وايلد) لطبيعة الأفكار التي سيطرت على عقل (دوريان) بعد لقائه الأول بـ(لورد هنري) بأنها كانت واضحةً وضوح الشعر لا فوضويةً كالموسيقى! الشاهد أن اللياذ بالفن هنا كان جوهر الغربة، وكان محاولةً للفرار منها كذلك، اكتمل تمامًا بتجسُّد كلمات الأغنية الثورية في وعي البطلة الراوية.
     القصة الثالثة التي تحمل عنوان المجموعة تستنزل فانتازيا مصّاصي الدماء إلى الحياة الواقعية لرُفقة عددٍ من الصديقات في مطبخ إحداهُنّ، وتحتفي بالغربة من خلال رفض البطلة مبدأ التحول إلى مصّاصة دماءٍ لتحافظ على بقائها، فيتماهى مفهوما النُّبل والغُربة تمامًا في هذه القصة.
    أما في (ثالثهما الديناصور الأخير) فالغُربة ماثلةٌ بقسوتها ونهائيتها حتى في مشروع العلاقة الحميمة مع الجنس الآخَر، فـ(عُمَر) يضع قناع مرَحِه و(ليلى) تضع قناع توهجها، ويصاحب كلٌّ منهما ديناصورًا أخيرًا يحسبُه كلٌّ منهم صديقَه السّرّي الذي لا يراه غيرُه، وهو نفس الديناصور! المدهش في العنوان هو اتكاؤه على الحديث النبوي الذي رواه الترمذيّ وأحمد وغيرهما: "ألا لا يخلُوَن رجلٌ بامرأةٍ إلا كان ثالثهما الشيطان". هنا يترك الشيطانُ مكانَه - بما يرمز إليه من شغَفٍ حسّيٍّ وتمرُّدٍ على المفروض في الوعي الجمعي – للديناصور بما يرمز إليه من انقراضٍ محتومٍ فضلاً عن غربته بعد فناء جنسِه! تمارس الكاتبة شكلاً سرديًّا من أشكال التغريب في نهاية القصة حين تقول: "ففرح ثالثُهما الجالس على مسندي الكرسيين بينهما وفكّر أنه جائعٌ وأنّ الويكيبيديا تقول: (الديناصور المصري من أكلة اللحوم) وأن عليه أن يتعشى الآن، حتى وإن كان ذلك بدماء صديقه وصديقتِه". هنا يتخذ التغريبُ شكلَ كسرِ الإيهام، حيث يلجأ كائنُ الغربةِ هذا   Spinosaurus Aegyptiacus إلى ويكيبيديا ليعرف ما يتعين عليه فعله في ختام القصة! وهو ما يضع المتلقّي في مواجهة النّصّ باعتباره كيانًا غريبًا عنه – فهو يَفصِلُه عن الذوبان في أحداث القصة – مما يحقق الغربة على كل الأصعِدة في النهاية.
     في مواجهة القصة الثانية (ساندوتش وسيجارة) التي تتميز بوضوح مشاهدها بشكلٍ مُغرٍ تمامًا لكُتّاب السيناريو لتحويلها إلى نصٍّ سينمائي، تأتي القصة الخامسة (مقعد في الأوتوبيس) مكتنزةً بالاستدراكات الموضوعة بين أقواسٍ بطول النّصّ، كما في: "تملأُني رغبةُ الانفجار في الضحك (استلقت الشمسُ ضحكًا داخل جمجمتي)"، في مغامرةٍ سرديّةٍ لـ(سمر نور) تنتمي إلى تيار الوعي كما نجدُه عند (فوكنر) مثَلاً، لكنّ الحرص على وضع هذه الاستدراكات بين أقواسٍ يجعلُهُ وعيًا مُرّكَّبًا بشكلٍ واضحٍ، وعيًا واعيًا بذاتِه إذا جاز التعبير، ولهذا لا تصبح مهمة كاتب السيناريو سهلةً في العمل على هذه القصة بالذات، خاصةً مع تعقُّد الأحداث وانتقالاتها الحادّة في الزمان والمكان في جوٍّ كافكاوي معبّر عن أزمة إنسان هذه اللحظة من الحياة ووعيه بحتمية مصيره كما في تنبُّؤ البطل/ الراوي بأنه يومًا ما سيصبح رئيس العمَل ذا الأذن الكبيرة الذي يطارد الفتيات الصغيرات مرءوساتِه ويتندّر به مرءوسوه! يحيلُني هذا إلى تصريح الشاعر (ويستن هيو أُودِن) بخصوص أهمية (كافكا) لتعبيره عن ورطة الإنسان المعاصر، فهكذا تأتي أهمية هذا النص لتعبيرِها من ثنايا جدليةِ شكلها ومضمونها عن ورطة الإنسان المصري المعاصر. يلاحَظ أيضًا أنّ المرّة الوحيدة التي اختارت فيها (سمر) هذا الشكل السردي من تيار الوعي، اختارت لها بطلاً رجُلاً بخلاف بقية قصص المجموعة. ربّما لتخرج بالمتلقي خارج افتراضاته المسبّقة عن إخلاصها لهّمٍّ نسويٍّ ما، إلى رحابة الهمّ الإنسانيّ وضيقِه في الوقت ذاتِه!
     تتواصل المغامرات السردية في (أذنٌ ترى .. عينٌ تسمَع) حيث البطلة الراوية عمياء تستعين بمبصِر ليرافقها في دروس الرقص وهو غير قادر على الرقص. وكذلك في (حفلة بينوكيو) حيث الراوي هو بينوكيو! تحيلنا هذه المغامرات مرّةً أخرى إلى (كافكا) الذي جَرُؤَ على أن يروي قصةً بلسان كلب! في (بينوكيو) تكسر (سمر) الحائط الرابع لتتواصل مع القارئ في بداية النص: "أرجو ألاّ ينزعج الجيران من صوت صفير منغَّم أُصدِره أثناء صعودي تلك البناية القديمة، علَّه يسلّيني ويسلّيكم حتى نصل إلى الهدف". في هاتين القصتين تجثُم الغربة على العلاقة بين الرجُل والمرأة كما في (وثالثهما الديناصور الأخير)، لكنّ (بينوكيو) في الثانية يحُلّ محَلّ الديناصور فيسمعُ الرجُل وقعَ خطواتِه الخشبية يتتبعُه ويصيبه بالصداع. بالطبع تَحضُر ظلالُ الشرط الوجوديّ الغريب لـ(بينوكيو) -كطفلٍ خشبيٍّ يكبرُ أنفُه كلّما كذب- هنا، لتحقن علاقة الرجل والمرأة بكل هذه الغرابة. تدَعُنا (سمر) نخمّن مصير هذه العلاقة في النهاية: "لن تظلَّ جالسةً في مكانِها، ولن يقفَ العُمر كلَّه خلف باب المقهى، الأبواب المُغلقَةُ دائمًا تُفتَح، ومن يرى نفسه في المرآةِ سيرى عالَمًا آخر لو أنه فقط اقتحم الجدار"، لكنّها تفرشُ لنا الطريق إليه بإشارات الخيبة من البداية. يتجاوبُ هذا مع جملةٍ في (أذنٌ ترى .. عينٌ تسمع) ربّما تلخّصُ بها رؤيتَها لوظيفة السرد وما يجبُ أن يكونَ عليه: "كلُّ ما نحتاجُه هو أن ننتشيَ في مساحةِ البوح رغم غياب المعنى، كمن يهوى السيرّ في الطرقات بلا هُدى".
    في القصص الأقصر تبزغ (أقنعةٌ عابرة) وحيدةً بين قصص المجموعة كما لو كانت نهايتُها منحوتةً في سلّمٍ موسيقيٍّ كبيرٍ فرِح! وقعة مرور الدرّاجة التي لوّثت بمياه البِركة الموحلة ملابس الرجُل والمرأة وأضحكت كل من شهدوا الوقعة وأضحكتهما "حتى عادت ملامحهما كما كانت في أوّل لقاء"، هذه الوقعة بمشهدها القصير للغاية تختزن كل الشوق إلى الفرَح الذي حُرِمَته قصص المجموعة.
     في القصة الأخيرة (ابنة صانع التوابيت)، تتحول الموسيقى التي كانت تداعب وعي الراوية في (ساندوتش وسيجارة) وتحاول التعلَّق بها كيقينٍ وحيدٍ ينقذها من السيولة الشاملة، تتحول إلى قُدس الأقداس في المعبد المُخيف، الذي تتوق البطلة الصغيرة إلى رؤيتِه. تدور الأحداث في زمنٍ فرعونيٍّ يهرب فيه الكاهن إلى قريةٍ ما ومعه أسرار التحنيط، ويحلم بأن يلقّنَها الصغيرةَ لتحنطه بعد وفاته وتضمن له الخلود. لكنّه يموت وهي تلقي نفسها بجواره في تابوته مستسلمةً للزوال وهي "تنبض بحياةٍ مؤقتةٍ في انتظار الموت".
     هذه المحاولة الأخيرة الفاشلةُ للهروب من الغربة إلى يقينٍ دينيٍّ متمثلٍ في قدس الأقداس وضمان الخلود، تذكّرُ من قرأ عددًا مِن مسرحياتِ (إبسن) في مجلَّدٍ واحدٍ بخَتمها في مسرحيته (البَنّاء العظيم) التي تجسّد نزوعًا روحيًّا إلى المُطلَق محكومًا كذلك بخيبة المسعى.
     بقي ألاّ نُغفِل جِدّة الصورة عند كاتبتِنا، والتي تُطِلّ من هنا وهناك كما في جُملةٍ من (حفلة بينوكيو): "ولن تشُدَّ وجهها كطبلةٍ تنتظرُ من يطبع شفتيه أو أصابعَه عليها بإيقاع القبلاتِ أو الصفعات". في تقديري أنّ هذا الابتكار البياني يتجاوب مع تيمة الغربة التي لا يُفلتُ من قبضتِها أبدًا قَصَصُ هذه المجموعة. هذا إذا سلّمنا ابتداءً بأنّ كُلّ أصالةٍ غربةٌ في جوهرها. 

محمد سالم عبادة

23 مارس 2017
...................
نُشِر بصحيفة (أخبار الأدب) في 2 أبريل 2017

No comments:

Post a Comment