Friday 10 November 2017

الظاهرةُ المُتحَفِيّة انتصارٌ للإنسانية




     أتذكّر زيارة المتحف الوطني المجري Magyar Nemzeti Múzeum في فبراير 2006، فيقفز إلى ذهني تقريظ (أندريه مالرو) في كتابه (المتحف الخيالي Le Musée Imaginaire) لظاهرة المتحف باعتباره المكان الذي تتحول فيه لوحاتُ الفنانين وتماثيلُهم ومُنجز أيديهم من مجرد (أشياء) إلى (أعمال فنية بحَق)! ويتجاوز هذا الفعل المتحفيّ منجز الفنانين إلى أزياء وأثاث وآلات الأقدمين والمعاصرين من الشعوب النائية في الجزء الأنثروپولوچي والتاريخي من هذا المتحف وغيره، حيث تفقد هذه (الأشياء) شيئيتها المبنية على العلاقات النفعية التي تربط الناس بها، لتتحول هي الأخرى إلى أعمالٍ فنّيّة تشاهَد وتحترَم لذاتِها. ويلحقُ برأي (مالرو) ويصارعه رأي (موريس ميرلوپونتي) الذي ينطلق من وجوديته في الفصل المعنون (اللغة غير المباشرة وأصوات السكون Le Langage Indirect et les Voix du Silence) من كتابه (علامات Signes) ليرى أنّ المتحف يجني على مقتنياته الفنية لنفس السبب الذي يُقرّظه من أجله (مالرو) في الحقيقة! ففي رأي (ميرلوپونتي) أنّ الفن يكتسب قيمته الحقيقية من ارتباطه بلحم الحياة وعلاقته الجدلية أخذًا ورَدًّا مع معطياتها، وبانعزاله عن الحياة بين جدران المتحف يتسرب إلى المتلقّين إحساسٌ زائفٌ بأن اللوحة مثلاً هي منجزٌ تامٌّ وصل إليه مبدعه لحظةً واحدةً ولم يصارعه ويصارع معه الحياة!
     مَن نصدّق إذَن؟ (مالرو) أم (ميرلوپونتي)؟! نتذكّر كذلك الدور الدعائي/ القومي/ الاستعماري للمتحف مع (چون ديوي) في كتابه (الفن خبرة Art as Experience)، حيث يشير إلى وقائع بعينها على غرار اقتناء (اللوفر) في پاريس تحفًا وأعمالاً فنيةً تُعَدّ من أسلاب (ناپوليون)، فنكتشف مع (ديوي) أنّ للمتحف – بوصفه ظاهرةً أوربيةً بزغت في القرن الثامن عشر وتطورت فيما بعده - دورًا في تكريس الإمپريالية الغربية لا يمكن جحوده!
     في تقديري أنّ الظاهرة المتحفية تنطوي على هذه الإمكانيات جميعها دون تضادّ. فالعزلة التي يضمنها المتحف لمقتنياته كفيلةٌ بإضفاء قدرٍ من التوثين عليها، والوثَن في وعي المؤمنين به كاملٌ في ذاته غير محتاجٍ إلى غيره، وحول هذا المعنى يدور (مالرو) و(ميرلوپونتي) كما أفهمهما بشكلٍ شخصيّ! والمتحف بما يجسّده من (اقتناءٍ) يُسَرِّبُ إلى مرتاديه إحساسًا بعُلُوّ وثراء الشعب الذي ينتمي إليه المتحف، وفي هذا دعمٌ للروح القومية ربما يتجاوزها إلى الروح الإمپريالية إذا أخذنا بعين الاعتبار واقعة (اللوفر) وأسلاب (ناپوليون)!
     بعد هذه الإلمامة السريعة المختزلة بآراء فيلسوفين فرنسيين وثالثٍ أمريكيٍّ في الظاهرة المتحفية، لا يسعني إلاّ الطواف في الذاكرة ببعض ما علِق فيها من زياراتٍ متحفيةٍ (وشِبه متحفية) في خمس رحلاتٍ إلى ثلاث دولٍ هي التشيك والمجر وإيطاليا، هُيِّئَت لي من خلال التجمع العالمي لرابطات طلَبة الطب
 International Federation of Medical Students'  Associations (IFMSA) ،
 ثُمّ مهرجان قلعة (دوينو) الشِّعري بإيطاليا Castello di Duino Poesia بين عامَي 2003 و2013.
     ابتداءً، يَحسُن بي أن أوضح الزيارة شبه المتحفية، فأقول إن زيارة الجامعة الطبية بمدينة )سَجَد Szeged) في المجر، وتأمل التمثال النصفي لعالِم الكيمياء الحيوية (ألبرت سان چورچ (Albert Szent-Györgyi الحاصل على (نوبل) لاكتشافه (فيتامين ج)، هذه الزيارة – من زاويةٍ ما – هي زيارةٌ شبه متحفية! كذلك يمثل المرور في شارع (چواكينو روسّيني) فوق القناة الكبيرة في (ترييستِا) بأقصى الشمال الشرقي الإيطالي، وتأمُّل تمثال الروائي والقاص الأيرلندي الأشهر (چيمس چويس) هناك، يمثل هذا بالتأكيد زيارةً شبه متحفية، هذا إذا اعتبرنا المتاحف هي فقط تلك المساحات المؤطَّرَة بالجدران التي دأَبَت على اقتناء ما اتفقنا على استحقاقه المشاهدة!
     لكنني في الحقيقة أودّ أن أتجاوز هذا التقسيم الذي ابتدأتُ به، لأعتبر كل شارعٍ أو مساحةٍ غير مؤطَّرة تضم ما يستحق المشاهدة متحفًا بمعنى الكلمة. يمكننا أن نتحقق من هذا إذا أخذنا جولةً سريعةً في القاهرة الفاطمية ومررنا بخان الخليلي حيث معروضات الباعة تتضافر مع الطرز المعمارية المسيطرة على المكان لتخلق متحفًا مفتوحًا بالفعل. وباعتبار أن محور حديثنا هو متاحف أوربا ودورها في اقتصاد بلادها، فإنّ جولةً مماثلةً في شوارع المدينة القديمة Staré Město  في پراغ يمكن أن تؤكّد لنا أن (المتحف) بمعناه الواسع الحقيقي يوجد خارج أسوار (المتحف) كما اصطلحنا على تسميته!
     في شوارع پراغ القديمة يجد السائح نفسه يستكشف شخصية هذه المدينة ويتماسّ معها عن قُرب. حركة البيع والشراء تجسّد إعادة خلقٍ في كل لحظةٍ لمتعلقات وجود الشخصية البوهيمية/ التشيكية وتوسّع دائرة الانتماء إليها. وهذا الوجود إيجابيٌّ وسلبي.
     الإيجابيٌّ بمعنى إبراز المعروضات لما تحرص الشخصية الاعتبارية لپراغ على إثباته، كتماثيل (فرانز كافكا) التي لا يخلو منها دكّان تحف وتذكارات صغير، في تأكيد على انتماء (كافكا) إلى هذا المكان بسحره وحضوره في أدبه، فهو تشيكيٌّ پراغيّ قبل أن يكون يهوديًّا أو متحدثًا كاتبًا بالألمانية! كذلك يطالعنا الوجود الإيجابي في الجولة المنظَّمة للسياح داخل أروقة وقاعات الپرلمان المجري في (بوداپست)، حيث احتفاء المجريين بثالث أكبر بيوت الپرلمان في العالَم وربما أجملها قاطبةً، واقفًا على ضفة الدانوب وشاهدًا على ديمقراطيةٍ فريدةٍ وإن كانت مجهولةً لكثيرين لتواضع أثرها في مجريات السياسة العالمية. هنا تتضافر العمارة مع المدونات التاريخية والأدبيات السياسية لتخلق جوًّا متحفيًّا حاضرًا بكثافةٍ في مكانٍ لا يُعَدّ متحفًا بالمعنى المتعارف عليه بالتأكيد! 
     أما الوجود السلبي لشخصية المكان Negative Ontology - إذا جاز استخدام هذا المصطلح – فهو تحديد هذه الشخصية بإبراز ما تحرصُ على نفيه وتؤكدُ التخلصَ منه لدرجة السخرية والتهكم! والمثالُ أيضًا من تذكارات پراغ المتناثرة في شوارعها المتحفية القديمة: أغطية الرأس الرسمية لقادة الجيش الأحمر السوفياتّي! تلك (الباريهات) المحلاّة برموز القوة العسكرية الضاربة للقوة العظمى التي كانت، والتي تمثّل بالنسبة لكثيرٍ من التشيكيين ماضيًا قريبًا بغيضًا بدأ من قبل ربيع پراغ عام 1968 وانتهى مع الثورة المخملية التي قادها الكاتب المسرحي (فاتسلاف هافل) عام 1989. يمكن للسائح أن يفاوض البائع في سعر الباريه – بحسب الرتبة التي يمثلها الباريه بالطبع – ليحتفظ في منزله بغطاء رأسٍ غير تقليديٍّ يعلن من خلاله توحُّدَه مع عاطفة أبناء بوهيميا بينما يتهكم على المجد السوفياتي الذي كان!
     قريبٌ من هذا التذكار الخاصّ دخولُك بيت الرعب في بوداپست Terror Háza! إذا سمعت به فربما تتوقع معرضًا لأشباح الحكايات الشعبية المجرية مثلاً، لكنك ستفاجأ بأن الرعب هنا هو ذكريات التهديد النازي ثُمّ الشيوعي السوفياتي. مقتنيات المتحف تتسع لأجهزة إرسال الراديو الضخمة المعقدة وأجهزة التنصت التي تقبع في أماكنها شاهدةً على عهدٍ منتفخ بالجاسوسية، وقصاصات من جرائد قديمة صفراء تقول بالمجرية وربما بالروسية أو الألمانية أخبارًا تدور حول العهدين النازي والسوفياتي، ولوحةً هنا أو هناك لـ(فلاديمير لينين)! قريبًا من بيت الرعب – وبعيدًا عنه كذلك – ستجد لدى بازارات بوداپست تماثيل نصفيةً لـ(يوسف ستالين) وهو يحمل لافتةً تقول بالمجرية:

"Nem sajnálom Magyarországot" لستُ آسفًا أيها المجريون!

      والمهم أنك ستعود إلى بيتك متوحدًا مع الشخصية المجرية التي مازالت تحتفل بتخلصها من هذين العهدين إلى الآن!

      إذا خرجنا من دائرة إثباتات الوجود الإيجابي والسلبي، فربما نعرّج على ظاهرةٍ قريبةٍ مما أشار إليه (ديوي) في بداية المقال، أعني علاقة المتحف بالقومية والإمپريالية. أعود إلى تمثال (چيمس چويس) الذي ينتصب في (ترييستِا) شاهدًا على السنوات التي أمضاها الرجل في هذه البقعة من شرق إيطاليا. هنا لا تكتفي إيطاليا بما يزخر به تاريخُها من رموزٍ أثرَت الإنسانية وأضافت إلى الحضارة، لكنها تصادر كاتبًا قادمًا من الجزر البريطانية – يَعُدُّه الأيرلنديون أحد رموزهم الوطنية – لصالح الثقافة الإيطالية! في اللحظة التي أتأمل فيها (مستر چويس) متقبّعًا كعادته، مبتسمًا، مُميلاً رأسه قليلاً إلى اليمين، أتذكر مجموعته القصصية الأشهر (أهل دبلن) وأجده يُسرّ إليّ بأنه ربما كان إيطاليًّا بقدر ما كان (أيرلنديًّا) لكن هذا سِرٌّ لا يعرفه الكثيرون! والخلاصة أنني إذا فتشتُ في قرارة نفسي أجد أحد أسباب حبي لـ(ترييستِا) حضور (چويس) هناك بابتسامته وقبعته و(برونزه)! هنا خلع الإيطاليون على الرجل قوميةً إيطاليةً وعززوا مكانة بقعةٍ من أرضهم بحضور رمزٍ أدبيٍّ لا تنقصه محبة المهتمين بالأدب من كل بقاع المعمورة.

     أعود سريعًا إلى پراغ لأطوف بنمطٍ استثنائيٍّ من المتاحف يتخذ منها موطنًا له! هنا متحف (السيمياء) حيث تجتمع نثرياتٌ بعضها ملفّق في الحقيقة، لخلق حالة سيمياء العصور الوسطى وسعي المشتغلين بها إلى حجر الفلاسفة وتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب! هنا (متحف الأشباح) حيث تطالعنا قصاصات ملصقة على الجدران تحكي بعض الحكايات الشعبية البوهيمية والمورافية (من غرب التشيك وشرقها على الترتيب)، مدعَّمةً بنماذج مثيرةٍ لتوجُّس الرعب وإضاءة خافتة  low key

كالتي يستخدمها السينمائيون في أفلام الرعب! هذا النمط من المتاحف يعزز الصورة المرتسمة لپراغ في الوعي الجمعي البشري باعتبارها عاصمةً من عواصم العالم القوطي الغامض الغارق في تفاصيل القرون الوسطى وما بعدها إلى عصر التنوير الأوربي!

     وفي الحقيقة، يبدو التشيكيون من أوفر الشعوب حظًّا من البراعة في تسويق بلادهم باعتبارها متحفًا مفتوحًا كبيرًا، ففي پراغ كذلك نجد (متحف الجنس) الذي يحتفي بعرض بعضٍ من الألعاب الجنسية التي جادت بها قرائح بني البشر لمضاعفة اللذة المتوقعَة من العلاقة الحميمة، وصولاً إلى الاحتفاظ بواحدٍ من أقدم الأفلام الپورنوغرافية السينمائية لعرضه على مرتادي المتحف! فإذا خرجتَ من المتحف، اصطدمت بالـ(تي شيرتات) المعروضة لدى باعة التذكارات، مرسومًا عليها أكواب (البيرة) التشيكية بأنواعها المختلفة التي يعتبرها لأجلها متعاطو الكحوليات عاصمة البيرة في العالم، فضلاً عن كونها عاصمةً للمتع الحسّيّة إجمالا!

     ربما يحل طرح المتحف المفتوح إشكالية عزلة الفن التي أثارها (ميرلوپونتي) - كما قدّمتُ في بداية المقال – بدرجةٍ ما، وفي حقيقة الأمر فإنه يبدو من التعسف أن نغفل ما تكتنزه المتاحف  - مفتوحها ومُغلَقها - من الجَمال لأجل تأمل (ميرلوپونتي) أو غيرِه! وبغض النظر عن دور المتحف في تكريس الإمپريالية كما أشار إليه (ديوي) – وهو دورٌ يمكن تقليصه إذا اشتدّ عُود الدول التي هُرِّب تراثُها ضمن أسلاب ناپوليون وغيرِه فطالبت بعودته سالكةً ما درج المتفاوضون على سلوكه من طرق الدبلوماسية والحِجاج الدولي – فإن المتحف سيظلّ ذلك المكان الذي يستحق اسمه في اللغات الأوربية

Museum

المشتقّ من اسم ربّات الفنون عند اليونان الأقدمين، لكل ما يكفله من براح للتأمل والمتعة العقلية والدراسة، وما يثيره من ارتباطٍ عاطفيٍّ يجُرّ بالضرورة ارتباطًا ماليًّا بالبلد التي يوجد في أرضها، سواءٌ كان محاطًا بالجدران كاللوفر والپرادو أو مفتوحًا للسابلة كخان الخليلي وشوارع (پراغ) القديمة! فحتى في المصادرات الثقافية الضمنية التي تثيرها رؤية مستر (چويس) في ترييستِا، يمكننا أن نلمح في الظاهرة المتحفية انتصارًا عابرًا للحدود متعاليًا على القوميات. وهو – إذا تأملناهُ جيّدًا - انتصارٌ للإنسانية.

محمد سالم عبادة

15 يوليو 2017

.................
نُشِر في عدد يوليو 2017 من مجلة عالَم الكتاب   
     

No comments:

Post a Comment