Sunday 31 December 2017

عن أهمية اللاقراءة: نفايات ثقافية وأشياء أخرى!

     "الكتب بتُثقِل الروح يابو سالم. كان نفسي الواحد يقتصر على مجموعة قليلة جدًا من أمّهات الكتب كده، لأن الباقي دا نفايات ثقافية فعلاً".
     هكذا حدَّثَني الصديق العزيز (محمد فهمي زكي) - طبيب الأمراض الباطنة الشاعر المثقف الموسوعي – ذاتَ أصيلٍ في صيف عام 2013، ونحن واقفان مستندان إلى إفريز النافذة في مطبخ سكن الأطباء بمستشفى دار السلام العام (هرمل) بمنطقة الملِك الصالح/ مصر القديمة.
     الجدير بالذِّكر أنّ جزءًا يسيرًا من مكتبة المذكور كان قد أَغرقَ بالفعل أسطح دواليب السَّكَن، متنوعًا بين الدوريات الثقافية والكتب في معظم حقول المعرفة. ولأنه كان أسبق منّي انتظامًا في هذا المستشفى، سمعتُ به ولم أكن قد رأيتُه مع ابتداء انتظامي. سمعتُ اسمَه من بائع الكتب الذي يفترش الشارع الموصِل من خلف المستشفى إلى محطة مترو الملِك الصالح. وسمعتُ اسمَه من زملائنا حين سألتُ عن صاحب كلِّ هذه الكتب.
     أتذكَّر نصيحةً أسداها إلى قُرّائه (چوزيف بوجر Joseph Boggs) في كتابه (فن الفرجة على الأفلام)، مفادُها أنه من المفيد جدًّا ألاّ يتسرع المُشاهِد في الخروج من قاعة السينما مع انتهاء أحداث الفيلم، وأن يتريّثَ حتى يستمع إلى موسيقى النهاية ويجلس صامتًا بينما يُعرَض شريط صنّاع الفيلم credits. ذلك أنّ هذا التريُّث – من وجهة نظر (بوجز) – يساعد المُشاهِد كثيرًا في فهم ما شاهده وفي تزويد وعيِه بمفتاح استيعاب العمل الفني، ويمنحه القدرة على استعادتِه بشكلٍ ما.
     كما أتذكَّر نصيحةً أخرى أسداها إليَّ وإلى مجموعةٍ من أصدقائي أيامَ نشاط جماعة (سيميا) الأدبية – ربما في 2007 أو 2008 – أستاذنا وأبونا الطيّب الملهِم د.رمضان بسطاويسي, أستاذ علم الجمال بأكاديمية الفنون والناقد الأدبي الكبير. كان د.رمضان يوصينا بألاّ نفوّت كتابًا قرأناه دون أن نعلّقَ عليه. يعني أن نكتب عنه قدرَ ما نستطيع، لأسبابٍ أزعم الآنَ أنها تتفق وما ترمي إليه نصيحةُ (چوزيف بوجز).
     هاتان النصيحتان في تقديري تقفان مع القراءة وضدَّها في وقتٍ واحد. هل يبدو هذا لغزًا؟!
     الأمر بسيط! الفهم دائمًا يقتضي التمهُّل في التلقّي. مدخلاتنا الثقافية - من مقروئات ومسموعات ومرئيات وغير ذلك – تكون أسهل في هضمها وامتصاصها كلما (مضَغناها) جيِّدًا، تمامًا كمُدخلاتِنا الغذائية من نشويات وبروتينات ودهون وغير ذلك. لكنّ هذا يعني أن يتقلّص كَمُّ هذه المُدخلات في النهاية، فهل ثَمَّ ما يبرر هذا التقليص لصالح (الهضم والامتصاص)؟!
     ربما يبرز سؤالٌ ضروريٌّ هنا، هو: "هل هذا التشبيه صائبٌ من الأساس؟"
     في الحقيقة، تبدو لي الإجابة القاطعة على هذا السؤال صعبةً لأنها في تقديري تستندُ إلى الخبرة الذاتية التي لا مجال لنقلِها إلى الآخَرين، لكنّي مضطَرٌّ إلى تأكيد موقفي بالإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب. نعم هو تشبيهٌ صائبٌ إلى أبعد مدىً ممكن!
     في خبرتي المتواضعة، تتابع المدخلات الثقافية يسبب ارتباكًا لا يُجحَد. قد يسفر هذا الارتباكُ عن إبداع تجربةٍ جماليةٍ في حقلٍ من حقول الفن. أذكرُ في هذا الصدد لقاءً تليفزيونيًّا قديمًا للفنان التشكيلي الكبير (محمد عبلة)، قال فيه ما معناه إنه يعمَد إلى رشق وعيه بالمدخلات الثقافية (مشاهدة لوحات بعينها أو قراءة أعمال أدبية أو الاستماع إلى موسيقا ما) بُغيةَ حَفز ملَكَاتِه الإبداعية، وأزعم أني دأبتُ طويلاً – على بدائية تجربتي الإبداعية وتواضعها إلى جوار مُنجَزِه التشكيلي - على فعل الشيء ذاتِه، ولكن ..
     خلال فعل (الرشق) هذا نفسه لابُدَّ من توقُّفٍ أمام هذه المدخلات لتُحدِثَ أثرَها. أمّا بعيدًا عن هذا الفعل فإنّ الارتباكَ الناجمَ عن تتابع المدخلات الثقافية في سرعةٍ يشبه بشكلٍ ما أو بآخر (التلبُّكَ المعويّ)! أنت لا تستطيعُ أن تقف على جماليات روايةٍ عظيمةٍ وإحالاتِها المعرفية إذا أتبعتَها روايةً أخرى غيرها بمجرد انتهائك من قراءتها، وقُل مثل ذلك في أي منجَزٍ فنّيٍّ تتلقاه.
      
     تخبرنا الدراسات التي تتناول الآثار الصحية للصوم بأنّ الجسم يبدأ في التغذّي على مخزونه من النشويات (الجليكوجين المخزون في الكبد تحديدًا) ثُمّ الدهون ثم البروتينات في النهاية كلما طالت فترة الصوم. ما يحدثُ حين تنتهي من روايةٍ عظيمةٍ ووتوقف على إثرِ ذلك مُدَّةً ما عن القراءة (أو في جلوسك أمام شاشة السينما بعد انتهاء أحداث الفيلم كما ينصح بوجز) هو أنك تُحيلُ معرفتك المكتسبة حديثًا من خلال الرواية أو الفيلم إلى خزانة معارفك القديمة، فتتلاقح معارفُك في هذه المُدَّة وتُنتج معرفةً جديدةً وبصيرةً وليدة. وكلما طالت هذه المُدَّة كانت فرصتُك لتأمُّل المكنون في خزانة معارفك الداخلية أكبر.
     في الحقيقة، يبدو أنك تحظى بفرصةٍ أكبر لـ(تقرأ) بشكلٍ أعمق وأهدأ كلما قلَّصتَ عدد مقروئاتِك! الانكباب على موالاة كتابٍ بآخر في سرعة يحوِّل الكتب إلى نفاياتٍ ثقافيةٍ بالفعل. مواد غذائية تزيد عن حاجتك ولا تسبب لك إلاّ ترهُّلاً يُمرِضُك ويُثقِلُ رُوحَك.
     عند هذه النقطة أتذكر حديثًا آخر مع صديقٍ عزيزٍ آخر هو (د.وليد الخولي) الجَرّاح الشاعر كاتب السيناريو الناقد الأدبي. منذ عِدَّة أعوامٍ أخبرني بأنَّ التحاقَه بأكاديمية الفنون ساعدَه على (تنظيم) قراءاتِه. بَدَهَني تعبيرُه (تنظيم القراءة) يومّذاك كما لو كنتُ لم أسمع به من قبل!
     تنظيم القراءة يقتضي أن تكون هناك أولويّاتٌ مُلِحَّة، ومشروعاتٌ مؤجَّلَة، و .. نعم: (نُفاياتٌ ثقافية)!
     لكن في تقديري، نفاياتُك (أنت) الثقافية ليست بالضرورة نفاياتٍ ثقافيةً في تقدير غيرك. الحُكمُ ليس مُطلَقًا وهو غير قابلٍ للإطلاق. قراءة (الإلياذة والأدويسا) مهمة لكثيرين يهتمون بمعرفة تاريخ أمّة اليونان القديمة وأساطيرها ومكوناتها الثقافية، لكنّها قد تصبحُ مُجَرَّدَ نُفايةٍ ثقافية لشخصٍ أولويتُه الآن تكوينُ رأيٍ بخصوص سياسة الانفتاح في عهد (السادات) مثلاً! وقِس على ذلك.
     المهم أن تتسامح مع فكرة النفايات الثقافية ولو بشكلٍ مؤقَّت لتستطيع ترتيب أولوياتك في طمأنينة. والمهمُّ قبل ذلك أن تُدرك تمامًا أن اللاقراءة لا تقلُّ أهميةً للثقافة عن القراءة!
..............
محمد سالم عبادة
25 ديسمبر2017

نُشِر في موقع (هاف بوست عربي) يوم 29 ديسمبر2017     

No comments:

Post a Comment