Saturday 31 March 2018

مِن تقمُّص تاريخ العَدُو إلى حصارِه به: قراءة في مسرحية (شمشون ودليلة) لمُعين بسيسو



     منذ السطور الأولى التي يُنطِقُ بها الشاعر الفسلطيني الراحل الكبير (معين بسيسو) شخصيات مسرحيتِه هذه، يتبين أنه عازمٌ على كسر الحائط الرابع الافتراضيّ بين الممثلين والجمهور. الوجه الأول الذي لا يحملُ اسمًا في هذه المسرحية يقولُ أولَ ما يقول: "فلنكشِف أوراقَ اللُّعبة. وكفانا نرقصُ بالأقنعةِ على الخشبة". يتأكد هذا مع الإيغال في نصّ هذه المسرحية الشِّعرية، حيث يقول الرجُل ذو المِعطَف مثلاً: "هل تنتظرون يدًا تفتحُ سِردابًا تحتَ الخشبةْ. ويقودُكمُ السردابُ إلى الصّالةْ؟"، كما يتأكد مع تكرار الإشارة إلى عالم المتفرّجين في الصالة خلف الأسلاك الشائكة، ومع الممثّلين المندسّين بين الجمهور، يقومون في منتصف المسرحية ليُلقوا بالأربطة الطبية البيضاء والنقود والطعام إلى الممثلين من فوق السلك الشائك. هذا الفِعلُ المسرحيُّ المتبادَل بين الخشبة والصالة يُذَكِّرُنا بما أراد المسرحي العظيم (سعد الله ونُّوس) أن يفعلَه وضمَّنَه مقدِّمتَه لمسرحيتِه (مغامرة رأس المملوك جابر)، حيثُ تحدث عن الممثلين المبثوثين وسط الجمهور يشاركون في الفعل المسرحي ويتجاذبون الحوار مع ممثّلي الخشبة من آنٍ لآخَر، متمنّيًا أن يصبح ممثِّلو الجمهور هؤلاء نواةً لحوارٍ حقيقيٍّ يقومُ بشكلٍ تلقائيٍّ في مستقبل المسرح بين الجمهور وشخصيات المسرحية. وهذا الرسمُ الذي رسمَه (بسيسو) لمسرحيته يتقاطع كذلك مع مفهوم تسييس المسرح عند (ونُّوس)، حيثُ تصبح مشاركة المتفرجين في الفعل شكلاً من أشكال حضّ المتفرِّجين خارج المسرح (ويُقصَدُ بهم عامةُ العرب في تعاملهم مع القضية الفلسطينية) على المشاركة الإيجابية في الخروج من أزمة الاحتلال الصهيوني. يتجنب (بسيسو) هنا الدخول في تفاصيل واقعيّةٍ متعلقةٍ بالصراع العربي الإسرائيليّ، إلاّ بما يشكّل إطارًا عامًّا لأحداث المسرحية، مِن قبيل الإشارة إلى مرور ستة عشر عامًا على النكبة (وهو ما قد يوحي لوهلةٍ بأنّ زمن كتابة المسرحية هو عام 1964، حتى تسير الأحداث إلى تمام الاحتلال الصهيوني لسيناء وجولان وغزّة وضلوع الأردن الغربية، فنكتشف أنّ زمن إنجاز هذا النصّ هو بعد 5 يونيو 1967 بالتأكيد). وفي هذا التجنُّب ما يُبعِد هذه التجربة المسرحية عن مفهوم المسرح التسجيليّ كما نجدُه عند الكاتب المسرحي الألمانيّ (پيتر فايس) مثَلاً في مسرحيته (أنشودة غول لوزيتانيا) التي سجَّلَ فيها حَرفِيًّا وقائع الاستعمار البرتغاليّ لأنجولا. إلاّ أنَّ (بسيسو) يتقاطع مع (فايس) في مسرحية الأخير الأشهر (ماراصاد)، حيث الرجل الغارق في الصابون والذي يقوم من البانيو في منتصف المسرحية محرِّضًا على الثورة يشبه كثيرًا ملامح شخصية (مارا) الذي كان أحد أهم رموز الثورة الفرنسية وقُتِلَ بينما يستحمّ، إلاّ أنه يخرس سريعًا جدًّا في نصّ (بسيسو)، ربما لأن كاتبَنا يحاول أن ينقِّيَ الثورةَ من فرسان الكلمات البرّاقة الخاوية!
      الخلاصةُ أنّ هذه المسرحية تنأى بنفسها عن المسرح التسجيليّ بقَدر ما تهَبُ نفسها للمسرح السياسيّ في اقتدار.
     التحوُّل الأوضح في سير أحداث المسرحية هو خروج الشخصيات الفسلطينية من كونها محاصَرَةً في عالَم العَرَبَة (وهو الديكور الذي بالَغَ بسيسو في رسمِه للوحات المسرحية الأولى، قاصدًا به ديكور فلسطين المحتلّة)، إلى عالَم المقاومة والفعل الحقيقي. التفاصيل الشنيعة المتعلقة بهذه العَرَبَة ترسِّخُ حالةً كابوسيّةً أصيلةً، على غِرار الخراطيم الطويلة التي يثبتها الكمساري في سواعد وأفخاذ الركّاب ليسحب دمَهم وقودًا للعربة التي لا تمشي في الحقيقة.
     الاستعارةُ واضحةٌ في ديكور العربة، حيث الحالةُ العربيةُ الموسومةُ بالشَّلَل التامّ الذي يكرّسُهُ الزعماء العرب الرسميون، ممثَّلين هنا في سائق العربة والكمساري. كما أنَّ الرجُل ذا المِعطَف الذي يقولُ كلماتٍ رنّانةً ويحاول إغراء الثائر الفلسطينيّ (عاصم) بالتسلُّل عبر الأسلاك الشائكة إلى الصالة حيث عالَم المتفرجين، هذا الرجُل يمثّل في وضوحٍ كلَّ المتخاذِلين الذين يحاولون تمييع القضية الفلسطينية بتذويب الدَّم الفلسطيني في الجنسيات العربية الأخرى، وفي الحقيقةِ لا يتحقق خروج الأبطال من الحِصار إلى المقاومة إلاّ عبرَ الثورة على الأمر الواقع ممثَّلاً في الرجل ذي المعطَف أوّلاً، ثُمّ السائق والكمساري وعالَم العرَبة بأكملِه لاحِقا.
     المهمُّ هو الإحالاتُ الثقافية التي ترِدُ على ألسنةِ الأبطال الفلسطينيين في الجزء الأول من المسرحية في إشاراتهم إلى حالتهم الراهنة المحاصَرَة. الأمُّ التي يتّضِح لاحقًا أنَّ اسمَها (ريم) تقولُ في البداية عن رضيعِها الذي ألقَته من يدِها في إحدى ساعات الرُّعب: "كنتُ أطوفُ به تُرضِعُهُ هذي الأمُّ وتلكَ الأمّ. كان كمَن يتنبَّأْ. كان كمَن كُتِبَ عليه. أن يرضعَ مِن كُلِّ الأثداءْ. إلاّ مِن ثَديَي أُمِّهْ". هذا الطِفلُ الذي يتنبّأ بمستقبَل الشتات الفلسطينيِّ هو تُكَأةٌ لتماهي حالة المحاصَرين الفلسطينيين مع تاريخ العدو الصهيوني، وتحديدًا مع حالة الشتات Diaspora.
وهو في ذات الوقت نبيٌّ مقلوبٌ، كأنه موسى (نبي اليهود) وقد أُخِذَ من حضن أُمِّه، لكنّه لم تُحَرَّم عليه المراضع كما ورد في النص القرآني، ولكن أُبيحَت له كلُّ المراضع إلاّ أمُّه، فهو الآخَرُ تماهٍ لكنّه تماهٍ مقلوبٌ أشدُّ بُؤسًا من تاريخ الحالة اليهودية.
    أمّا في حوار الأب الفلسطينيّ مع ابنه (عاصم) فيقول: "أفضَلُ أن تقطعَ بالسِّكِّينِ أصابعَكَ وتُلقِيَها في النارْ/ تشويها، تأكُلَها/ مِن أن تنتظِرَ هُنا وهُنالِكَ في المنفى/ أن تسقُطَ مائدةُ المَنِّ عليكَ ومائدةُ السَّلوَى". فهنا تماهٍ آخَر مع الموروث اليهوديّ، فالحالُ الفلسطينيُّ في انتظارِ عون السماء وعون الأرض أقربُ إلى حال اليهود في خروجهم من مصر.
     الانقلابُ الأصيلُ الذي يأتي في أعقابِ الثورة على عالَم العربة الوهميّ يصاحبُهُ انسلاخٌ تامٌّ من هذا التقمُّص أو التماهي مع الموروث اليهودي، لصالح حِصار العدو الصهيوني بموروثه. فممّا قد يُؤخَذُ على هذا النصِّ لأوّل وهلةٍ مثَلاً عدمُ ظهور (شمشون) إلاّ قُربَ نهاية المسرحية. و(شمشون) هنا قائدٌ إسرائيليٌّ متعجرفُ يحاولُ إذلالَ (عاصم) و(ريم)، وتقنعُه زميلتُه (راحيل) بأنّ لـ(ريم) اسمًا آخر هو (دليلة). هنا فقط تتجسّد على خشبة المسرحِ الحكايةُ التوراتيّة عن (دليلة) بنت الفلسطينيين التي خدعت (شمشون) القاضي الربّاني وسلَبَته قوتَه بأن حلقَت له شعر رأسه. القائد الإسرائيليّ كذلك يظهر بضفائره ينفثُ سخطَه على الثوّار العرب، ويؤرِّقُه كما يؤرّقُ (راحيل) هاجسُ تجسُّدِ (دليلة) في (ريم)!  
     الشاهدُ أنّ تأخر ظهور (شمشون) مبَرَّرٌ تمامًا في سياق علامات النص المسرحي، حيث يحاصره الأبطال بأسطورتِه الخارجة من سِفر القُضاة، فتنتهي المسرحية وهو يدورُ في هياجٍ كالثور حول المدفع، بينما تقولُ له (ريم) وهي ممدَّدةٌ في محفَّتِها: "دُرْ حولَ المدفعْ. هذا هو طاحونُكَ يا شمشونْ. ستطلُّ تدورُ إلى أن تسقُطْ. هذا هو قَدَرُكْ". فهو انتصارٌ رمزيٌّ لهذه الفلسطينية المطعونة الموشكة على مفارقة الحياة، بكلماتِها الواثقة من سقوط عدوِّها في فخِّ هواجسِه وذُعرِه من انتفاضة الكيان العربي.
     لا ندري بالتأكيد ماذا كان يمكن لـ(معين بسيسو) أن يكتُبَ في ظلِّ ما آلَت إليه الحالُ العربية وقد مضى سبعون عامًا على النكبة. هل كان سيُنهي مسرحيتَه بهذه الثِّقة على لسان بطلته الفلسطينية؟ ليتَ لنا مثل ما أوتِيَ (مُعين) من إرادةِ الثورة، بعد تراكُم طبقات الخذلان على جسَد العروبة!   
محمد سالم عبادة
17 فبراير 2018 
نُشِر في صحيفة (مسرحنا) يوم 12 مارس 2018 

No comments:

Post a Comment