Tuesday 7 January 2020

عالَمُ بِنتِ الحاوي: قراءة في المجموعة القصصية (سِرّ السُّكَّر) لمريم حسين



     
"أنظرُ بدِقَّةٍ لحلقة النار. أراقِبُ تَلَوِّيَ ألسنتِها بعُنفٍ كأثَر مضاجعةٍ جنونية، بينما تستقرُّ في ثباتٍ الكراتُ السوداءُ التي يتمركزُ فيها الجاز. أرفعُ رأسي لأعلى تجاهَ شرفة منزلِنا وألمحُني أقفُ أترقَّبُني بحَذَر".
     بهذا الانقسام في الذّاتِ السّارِدة تبدأ (مريم حسين) قصّة (الحاوي) التي تُصَدِّرُ بها مجموعتها الصادرة عن (دار ميريت) منذ أسابيع قليلة. واقعُ الأمر أنَّ هذا الانقسام لا يتكرر على هذا النحو من الوضوح في أيٍّ من قصص المجموعة التِّسعَ عشرة. فتدريجيًّا نكتشفُ أننا بإزاء ذاتٍ تسعى لتوكيد حُضورِها المتقوقِعِ داخلَ صدفَةٍ من مُدرَكاتِها وهلاوسِها، فتُحاولُ باستمرارٍ خَلقَ عالَمٍ مُوازٍ لعالَمِنا الواقعِيِّ، يصبحُ نسختَها الخاصَّةَ جِدًّا، وهي لا تَقبَلُ أبدًا المساومةَ على الاعترافِ بمُفردات الواقعِ كما هي، وإن انصاعَت لضغط هذا الواقعِ بأشخاصِه الذين يَظهَرون ويختفون سريعًا كـ(فَرقَع لَوز)، فهي لا تلبَثُ أن تعودَ وتهدِمَ ما بَنَته على طريقتِهم، وتُلاحِقُهم بسِبابِها العنيف، لتعودَ سيرتَها الأولى: رافضةً ما يُملِيه الواقعُ، متمسكةً بنسختِها من العالَمِ التي تبنيها في دأَبٍ قاتل!
* الحاوي مركزُ الثقل:
     (الحاوي) من القصص القليلة في المجموعة التي يمكننا اعتبارُها محتويةً على (مركز ثقلٍ) واضح. أعني أنَّ هناك ما يشبهُ المَذهَب أو المُرَجَّع في القصيدةِ أو الأغنية، هو حضورُ الحاوي وابنتِه الفقيرةِ في الحارة، وموقفُها منهما في مواجهة موقف أهل الحارة. ونتبيّنُ من طبيعة السَّردِ هنا ورطةً وجوديَّةً يعانيها جميعُ الشخصياتِ في القصّة. فالذاتُ السّاردةُ منقسمةٌ إلى نصفٍ ينخرِطُ في لَعِبِ الحاوي وابنتِه "اقتربتُ أنا والحاوي من الحلقةِ المُوقَدَةِ استعدادًا للقفز، وعندما شعرتُ بهَبو النارِ يُلامِسُ وجهي خفتُ وتراجَعتُ، تركتُه يقفِزُ وحيدًا وصعدتُ أنا جريًا إلى شُرفَتي"، ونصفٍ يراقبُ ما يجري من الشُّرفة، ونكادُ نجزمُ طيلةَ القصّة أنّ النصفَ المتفاعلَ مع الحاوي نصفٌ طيفيٌّ حُلُمِيٌّ لا يشعُرُ به أحد "تحاشَيتُ ساقَ الحاوي أكثرَ من مرَّةٍ بينما اندمج هو متحمسًا للضحك والحوار وداسَ على قدمي اليُسرَى ممّا جعلني أصرخُ متألِّمةً: تصدق انا غلطانة؟!. وانسحبتُ من الزحامِ أعرُجُ متألمةً إلى شُرفتي". هو حضورٌ يشبهُ حضور شخصية (مالكولم كرُو) التي جسَّدها (بروس ويليس) في فيلم (الحاسّة السادسة The 6th Sense)، رُوحَ ميِّتٍ يمشي بين الأحياء. ومن ظواهرِ هذا السِّياقِ يمكنُنا أن نكتشف معنيين متشابكَين لكلمة (أعرُج) في هذه الجُملة، فقد تأتي من (العرَج) أي الإعاقة وهو المعنى الظاهر، وقد تأتي من (العُروج) بمعنى صعود هذه الرُّوح لتلتحمَ بالجسَد الواقفِ هناك في الشّرفة يراقبُ في حِياد!
لا يجعلُنا ندركُ أنَّ هذا النصفَ المُتَفاعِلَ ربما يكونُ حقيقيًّا إلاّ رَدُّ ابنةِ الحاوي في آخِر جملةٍ في القصّة على (مريم) إثر توسُّلاتِها لها ولأبيها بالبقاء: "يا شيخة رُوحي كِده، ينعل أبوكو!"
      كذلك الحاوي وابنتُه غارقان في هذه الورطة الوجوديّة، فهما يحاولان إثباتَ حضورِهما للجمهور دون جدوى، ولا أحد يُبدي إعجابَه بألعابِهما إلاّ حين يُضطَرّان إلى الإسفافِ فيأمر الحاوي ابنتَه: "قولي انا بنت حلال يابا" فتُجيب: "أنا بنت حمار يابا". شكلٌ بُدائيٌّ من تنازُل الفنّان عن معاييرِه الخاصّةِ لإرضاء ذوقِ العامّة!
     أمّا الشخصيات الثانويةُ في القصّة – وما أكثرها وما أكثر حبكاتِها الفرعيةَ القصيرةَ جِدًّا هنا وفي معظم القصص، بشكلٍ يبدو غيرَ متناسِبٍ مع الإحكامِ المفترَضِ وجودُه في عمَلٍ سرديٍّ قصيرٍ كهذا – فهي بدَورِها مؤرجَحَةٌ بين الوُجودِ والعدَم: المرأتان اللّتان تشاجرَتا منذ أسبوعين – حسبَ زمنِ القصّة – في نفس البقعة من الحارةِ التي يشغلُها عرضُ الحاوي بسبب خلافٍ يخصُّ سيد الكهربائي وخمسين جنيهًا، هاني وزوجتُه اللذان باتا ليلتَهما في علاقةٍ حميمةٍ مصحوبةٍ بآهاتٍ سَمِعَها كلُّ مَن في الحارةِ فأصبحا يُراقِبان عرض الحاوي مِن وراء سِتار شُرفتِهما خجَلاً، الأستاذ (نجمي) المحامي القدير الذي يعودُ إلى منزله كلَّ يومٍ في تاكسي ولا يظهرُ في المشهد إلاّ ليَصرِفَ الحاوي وابنتَه ليعود لنومِه، وهكذا!
     يحضُرُ الجسَدُ هنا حضورًا مُؤلِمًا دائمًا، فهو ألَمُ الغربة الاجتماعيّة التي يعانيها (هاني) وزوجتُه بعد ممارسة الجنس، وألَمُ (عين السمكة) في القدم اليُسرى لنصف (مريم) المتفاعِل مع عرض الحاوي، والذي يتفاقم بعد أن يدوسَها الحاوي غيرَ عابئٍ بوجودِها، وألَمُ الإنهاكِ في محاولةِ اجتذابِ الجمهور عند الحاوي وابنتِه، والذي نستنتجُ وجودَه رغم عدم التصريح به، وألَمُ ما بعد شِجارِ المرأتين الموشِكَتَين على تدمير جسدَيهما.
     ربّما يتحوّلُ الحاوي هنا إلى مُعادِلٍ موضوعِيٍّ يَكتنزُ هذه الورطةَ الوجوديّةَ بتمامِها ولذا لختارته مريم لتُعَنوِنَ به قصَّتَها الافتتاحيّة؟ سنعودُ إلى الحاوي في نهايةِ المقال!
* التشويقُ بين اليوميّات والفانتازيا الشِّعريّة:
     ابتداءً من القصة الثانية (الخُطّة) تترُكُ القاصّةُ قلمَها لإغراءِ ما يُشبِهُ اليوميّات، فالأحداثُ منطلِقةٌ في اتّجاهٍ واحدٍ لا عودةَ فيه للوراء، ويَصعُبُ أن نجدَ في أية قصّةٍ أخرى في المجموعةِ (مركزَ ثقلٍ) كما في الحاوي. تُبَرهِنُ (مريم) على مقدرتِها على التشويق Suspense في أكثرَ من قصّةٍ، ففي (الخُطّة) تُخفي عنّا تمامًا ما تعتزِمُه البطلةُ الرّاويةُ مُدَرِّسَةُ الموسيقى إلى الصفحة قبل الأخيرة لنكتشفَ أنها من البداية كانت تُخَطِّطُ لتدخين سيجارةٍ في حَمّام المَدرَسة. كذلك في (سِرّ السُّكّر) تجعلُنا نتساءِلُ مع السطورِ الأولى عن "فُتاتِ سُكَّر مرشوش علَيَّ، ألتقطُه في كَفِّي وأتلفَّتُ حولي لأتاكَّدَ مِن عدم وجود نمل".
     وهي حين تُفلِتُ من قبضةِ اليوميّات المسترسِلَةِ في وصف الأحداث الواقعيّة بإخلاصٍ شديد، تقعُ في براثن الفانتازيا الشِّعريّة، كما في الخُطَّة حين تصفُ حصانًا في مزرعة الخيول القريبة من المدرسة: "كان يرمَحُ بقوّةٍ. أبيض تمامًا. رأيتُ شَعرَ ذيلِه ورأسِه يزدادُ طولُهما كلّما جرى أسرع، ومع ازديادِ سُرعتِه عبر شَعرُه التُّرعةَ ودخلَ مِن شُبّاكِ المَطبَخ، وسرَح على الطاولة الطويلة وسقطَ طرفُه في كُوبِ القهوة، غضِبتُ بشِدَّةٍ ونَهرتُه بعُنفٍ فانكمشَ الشَّعرُ وانسحَبَ مَخذُولاً إلى مَزرعتِه". بِناءُ هذا الحدَث الفانتازِيّ يُذكِّرُنا ببناءِ قصيدةٍ مثل (بُوهيمِيَّتي Ma Boheme) لآرثر رامبو مثَلا.
* الكتابةُ عن الكتابة، والسيرةُ الذاتية:
    يُطِلُّ (الميتا-سَرد) في مواضع مختلفةٍ من المجموعة، أعني انشغالَ الكاتبة بالحديثِ عن الكتابة داخل قصصِها، وبالتالي كسرِ إيهامِنا بأنَّ ما نقرؤُه حقيقة. ففي (أهمية الساعة حداشر) تَروي: "أُكمِلُ قِصَّةً قصيرةً بعنوان (انعكاسات)، عن فتاةٍ تُحملِقُ في انعكاس وجوه الرُّكّاب على زجاج نوافذ سيارة أجرة تجري على كورنيش المعادي في الحادية عشرة ليلاً، وتفاجأ في الزجاج أيضًا بعَيني حبيبِها تراقِبُ مراقبتَها"، فهُنا الحبيبُ نفسُه يمارسُ الكتابةَ من طرفٍ خفيٍّ وهو ما سنعودُ إليه لاحِقًا. وفي (عن العلاقة بالتوابل) تروي: "مِن أسبوعٍ فشِلتُ في نَشر إحدى قصصي، وبالتالي زادَت كمّيّةُ الشطة والفلفل الأخضر الحارّ في أكلَتي المحبوبة: الكبد والقوانص". وفي القصة الأخيرة (اللعبة): "لكم اجتهدتُ في التأليفِ على السلالِم – سواءٌ في منزلِنا في بشتيل أو في منازل العائلة في الفيُّوم – وإشراكِ كُلِّ الأطفالِ معي في التمثيلِ فقط، فأنا هنا المؤلِّف، وكوَضعٍ تلقائيٍّ فأنا إلى الآن المؤلِّف. أنا القاصّةُ وكاتبةُ السيناريو. أنا خالِقُ الحِكايات". فضلاً عن هذا، فإنّ الأحداثَ العابِرةَ للقِصَص كمرض الأب ووفاةِ الجَدّةِ ولقاء الراويةِ بحبيبِها تلفتُنا إلى أنّ ما نقرؤُه هو كتابةٌ تخييليّةٌ Fiction، ومن ناحيةٍ أخرى تقرِّبُنا من أدب السيرة الذاتيةِ في مُراوَحةٍ لافتة.
     نلاحظُ في اقتباسات الفِقرة السابقة وفي غيرِها اهتمامَ الكاتبةِ بذِكر أماكِنَ حقيقيّةٍ متعيِّنةٍ للأحداثِ، ممّا يُقَرِّبُ قِصصَها كذلك من أدَب السيرةِ الذاتيّةِ أو اليوميّات المتأدِّبة.
* حضورٌ قويٌّ للحواسّ، ونشاطُ التسميةِ البديلة:
     خلالَ هذا الإبحار الذي لا يَلوي على شيءٍ في أحداثِ القِصَص، تحضُرُ بكثافة ٍحواسُّ البطلَة الرّاوية (التي لا تغيبُ عن أيٍّ من قصص المجموعة، فلا يوجدُ راوٍ عليمٌ مثلاً في أيٍّ منها). ففي (الخميس ألوانٌ متداخلة) تقول: "الاتنين أحمر. التلات برتقاني. وجدتُ فَرشةَ بائعِ لمبات الجاز، لكَم دأبتُ على إهدائه لمباتٍ متعددةَ الألوان. إلخ". وفي (أضواء): "حوض الريحان العملاق ترصَّدَ بي صابًّا كل رائحتِه الغالية التي ادّخرَها لي طوالَ اليوم" و"عيني فيها مغناطيس يجذبُ الضوء، الضوء هو الذي يخشى النظرَ إليَّ أصلاً". وتصِلُ بلاغةُ الحواسّ إلى مَداها في قصّة (عن العلاقة بالتوابل): "ميّزتُ صوتَ الفُلفل الأسود الأجَشّ، وصوتَ الكسبَرة المسرسع". إلاّ أنّ حاسّةَ الشَّمِّ تحديدًا تتضخّمُ في هذه المجموعةِ لتصطادَ روائحَ الناسِ بما تحملُه مِن آثارِ وجودِهم وتُصبِح مُحَدِّدًا قويًّا لعلاقةِ البطلةِ بِهم. يتضحُ هذا في (الخطّة): "لمحتُ شبشب دادة امُّ حنان البنفسجي مستقِرًّا أسفلَ الحوض وطرحتَها منسِيَّةً خلفَ الباب. سببتُها في سِرّي، فطَرحَتُها تلك جعلت الحمّامَ كلَّهُ كرائحتِها التي كانت كرائحةِ رُقاقٍ تمَّ تخزينُه لفترةٍ طويلة". وفي (القَرار) يتحوّل وعيُها بسُوء رائحة ضِرسِها المتسوِّس إلى مُحَدِّدٍ لعلاقتِها بذاتِها وخوفِها من عدوى هذه العلاقةِ إلى طبيب الأسنان، فتقول: "قرشتُ قرنفُلةً حتى لا يَضيقَ الدكتور برائحةِ فمي وينفعلَ في خلع الضرس".
     ويتسرّب هذا الحُضورُ القويُّ لحواسِّها – لاسِيَّما حاسّةَ الشّمّ – إلى نشاطٍ بارزٍ تقومُ به خلالَ مسارِ أحداث القِصَص، وهو نشاطُ إطلاق الأسماء البديلة! في (الخطة) مثلاً تقولُ: "كنتُ أُسَمِّيهِ (عُود النعناع)، فظهورُه كان يسبب لي حالة انتعاشٍ غريبةً". والواضحُ أنّها تحتفي بمجموعةٍ قليلةٍ من الأشخاص الذين تمنحُهم حقَّ إطلاقِ الأسماءِ البديلةِ بدَورِهم، بينهم جدَّتُها في (سعاد إسماعيل يوسف) حيثُ تقولُ الجَدّة: "جبت لِك ِبدَة يا سِوِخ (تدليل مهذَّب لكلمة وسِخ)"، وتحكي عنها القاصّة: "وتناولَت هي سندوتش المُخّ بمشاركة قرن فلفل صغير جدًّا نَعَتَته بالنصراني لشِدَّة حَرَقانِه". وبينهم ذلك الحبيب الذي يشاركُها بطولة القصّة الوحيدة الخالية من الظهورات (الفرقع لَوزِيّة) السريعة لشخصياتٍ ثانويةٍ، وهي القصّة التي تحملُ عنوانَ المجموعة (سِرّ السُّكَّر)، حيث يقولُ لها: "إنتي ريحانة رايقة"ـ وتقترح عليه أن يُطلِقا معًا اسمًا بديلاً لسُور مَجرى العُيون هو (أوَّل الدنيا) تأثُّرًا بأبيها الذي كان يُسَمّي هو وحبيبتُه قاهرةَ المُعِزّ نفس الاسم.
في هذا النشاط تتجلّى رغبةُ القاصّةِ في خَلقِ نسختِها الخاصّة من العالَم، التي تحدَّثنا عنها في بداية المَقال. فهي تسمّي ذلك الحبيب (ضَوئي الأثير) وتسمحُ له بأن يرى قميصَها أخضر بينما تراهُ هي تركواز، ويتحوّل هذا الخِلافُ إلى تُكأةٍ لاستعادةِ وجودِ الحبيب في قصّة (نَشيدي). أمّا في القصّتين اللتين تتمحوران حول فُقدان الجَدّة (الأربعين) و(سعاد إسماعيل يوسف)، فالقاصّةُ نفسُها تتوقف عن هذا النشاطِ تمامًا ويظهَرُ بدلاً منه نشاطُ السرقات الصغيرة، حيث تقول: "لمحتُ ملعقةَ جَدِّي الذي لم أرَهُ وبُسرعةٍ أدخلتُها بين طيّاتِ ملابسي وعُدتُ لتكملةِ جُزءِ القرآن"، و"قلّبتُ محتوياتِ الدولابِ بحثًا عن مجموعةِ صُوَر". هُنا لا تحاولُ خلقَ عالِمٍ بديلٍ وإنما تتشبَّثُ بمُفردات عالَم الأعزاء الراحلين كما هي، فتلجأُ إلى السَّرِقةِ لإبقائهم حولَها.
     لا تتناصّ (مريم) مع النُّصوص المقدَّسَةِ إلاّ في هاتين القصّتين (سِرّ السُّكَّر) و(نشيدي)، وتحديدًا مع (نشيد الأنشاد) من العهد القديم. هكذا يتّضِحُ تقديسُها لتلكَ العلاقةِ مع حبيبٍ يتمتّعُ مثلَها بالقدرة على إطلاق الأسماء البديلةِ وبالتالي خلق نسختِه الخاصّة من العالَم.
     مثَلٌ أخيرٌ لتَجَلِّي هذا الإصرار على العالَم المُوازي نجدُهُ في (عن العلاقةِ بالتوابل)، حيثُ تنصاعُ لنصيحة إحداهُنَّ بلَصقِ بطاقةٍ تعريفيّةٍ على كلِّ برطمانٍ لإنقاذِها من الخلط بين التوابل، لكنّها في النهاية تضيقُ ذرعًا بأكوامِ الأوراق المقصوصة والشريط اللاصِق اللازمَين للبطاقات المُرادة، وتكوِّمُها في چركن المُهمَلات، وتعودُ لخلط التوابل والرسمِ عليها والتجريبِ بها على طريقتِها الخاصّة.
* الضِّيقُ بالقواعد ملمحٌ أساسيّ:
     ويجرُّنا هذا الضِّيقُ بالقواعدِ الذي تعبّرُ عنه في (علاقتها بالتوابل) إلى ضيقٍ عامٍّ بكُلِّ القواعِد، يتبدَّى في بعض أحداث قَصَصِها كما في (الوَحش): "شرَعَت فتاةٌ في ترديدِ دُعاءِ الرُّكوب. ردَّدتُ معها في سِرِّي، وكعادتي بمُجَرَّدِ قولِها (اللهُ أكبَر) وتركيزِها على التشكيل الصحيح مع كسر الكاف ووتسكين الرّاء، قَلَّدتُها وأنا أُجاهِدُ بشِدَّةٍ لِكَتمِ ضِحكَتي". ويتبدّى في طريقةِ السَّردِ التي تجنَحُ كثيرًا إلى التّداعي الحُرّ للأفكار  Free Associationعلى طريقةِ (فرويد) في التحليلِ النفسيِّ كما لو كانت تمارِسُ الكتابةَ للاستشفاء، كما تجنَحُ أحيانًا إلى تيّار الوعي Stream of Consciousness على طريقةِ (چيمس چويس) و(ويليام فوكنر) وغيرِهما من الحداثيّين، بالعُكوفِ على استبطانِ ما تفكِّرُ فيه البطلةُ الراويةُ والتعبيرِ عنه لحظةً بلحظة.
وأخيرًا يتبدّى هذا الضِّيقُ بالقواعِد في لُغةِ المجموعةِ نفسِها. لا أعني المُراوَحة بين الفُصحَى ودرجاتٍ مختلفةٍ من العامّيّة، وإنّما أعني تلك الأخطاءَ النحويةَ والاشتقاقيّة والبِنائِيّة المنتشِرةَ بطول المجموعة، والّتي تتدعّم وتلفِتُ انتباهَنا بالحرص على التشكيلِ الخاطئِ كما في (أعلم أنه لا يوجد مدرسين غيري اليوم) بدلاً من (مُدَرِّسُون)، و(تصالح مع أخاهم الثالث) بدلاً من (أخيهِم)، وغير ذلك. في الحقيقةِ يدفعُنا المستويان الأوّلان من الضِّيق بالقواعد (في الأحداث وفي طريقة السَّرد) إلى التفكيرِ في أنَّ هذه الأخطاءَ الكثيرةَ ربّما تكونُ مقصودةً من الكاتبة رغبةً منها في خَلقِ نَحوٍ مُوازٍ ونسخةٍ خاصّةٍ من اللُّغةِ كذلك، فنتوقّفُ قبلَ أن نُقدِمَ على لوم المُصَحِّح اللُّغَوِيِّ لِدار النشر!
* بنتُ الحاوي: العلاقةُ بالأب:
     ختامًا، تبدو العلاقةُ بالأبِ ومتعلقاتِه ملمحًا هامًّا في المجموعة. فهو يحضُرُ حضورًا ملموسًا في معظم القصص. والملاحظةُ التي تُعيدُنا إلى (الحاوي) كما وَعَدنا في بداية المقال هي أنَّ السِّبابَ العنيفَ الذي تكيلُه الشخصيّة الراوية لكل مفردات الواقع التي تضغطُ على أعصابِها (مُدرّس الموسيقى الزميل في "الخُطّة" – التليفون في "أهمية الساعة حداشر" – ممرّضة طبيب الأسنان في "القرار" – السَّبّ غير المُحَدَّد لمُقترِحَةِ فِكرة بطاقات التعريف في "العلاقة بالتوابل" – المَمَرّ الطويل لوحدة شريف مختار لأمراض القلب في "الحرّيف" – القِطّ الذي أوقعَ كُوبَ الشاي على قدَمِها في "رثاء الرقاق" – إلخ)، هذا السِّبابَ لا يتحوَّلُ إلى سِبابِ شخصٍ لآخَرَ لها إلاّ مع الجُملة الختاميّة في (الحاوي) حين تسبُّها بنتُ الحاوي وهي تجري وراءَهما. هذه الملاحظةُ لواحدةٍ من أبرز ظواهر هذا النصّ السرديّ تؤدِّي بنا إلى استنتاجٍ مفادُهُ أنَّ الحاوي وابنتَه في مقدمة المجموعةِ يمثّلان معادلاً موضوعيًّا لعلاقةِ القاصّةِ بأبيها. فهي تسمحُ لنفسِها في شخصِ ابنةِ الحاوي بشتمِ نفسِها في الحقيقة، وإحباطُ الحاوي وابنتِه وهما يٌيمان عرضَهما الذي لا يُعجِبُ الجمهور هو ذلك الإحباطُ الموفورُ الذي يعانيه أصحابُ الموهبة المتمتِّعُون بأصالةِ إبداعِهم في مواجهةِ انحطاطِ الذوقِ العامّ، واضطرارُ الحاوي وابنتِه للإسفافِ هو أكبرُ مخاوفِ الذاتِ الرّاوِية أمامَ ضغطِ هذا الانحطاط، ونشاطُ (الحِوايَةِ) نفسُهُ بما يفترضُه من مهارةٍ وقدرةٍ على الخَلق المُبهِر هو مرادِفٌ لنشاط الكتابةِ عند الراويةِ، ولـ(حَرفَنَة) الأبِ التي عنونَت بها إحدى القِصص.
     لو سمَحَت لي القاصّةُ بممارسةِ نشاطِها الأثيرِ في إطلاقِ الأسماءِ البديلةِ، لما تردَّدتُ في تسميةِ هذه المجموعةِ بالاسمِ الّذي أدَّتني إليه هذه القراءةُ الپانوراميّةُ السريعةُ لظواهرِها اللغويةِ والسردية: (بِنتُ الحاوي)!  
محمد سالم عبادة
27 مارس 2018

    نُشِر في أخبار الأدب المصرية في 2018          



No comments:

Post a Comment