Tuesday, 26 August 2025

في مئوية ميلادِه: وجدانُ (محمد الموجي) الديني في لحنَين


     

 في الرابع من آذار/ مارس 2023 حلّت الذكرى المئوية لميلاد الموسيقيّ المجدِّد المرحوم محمد الموجي. وممّا يَبعث على

 الأسف أن يُحتفلَ بذكرى الركن الظاهر من أركان العمل الفنّي دون الأركان الباطنةِ الآصَل في إنتاج ذلك العمل. هكذا يأخذ الممثّلون نصيبَ الأسَد من الاحتفاء الشعبيّ والرسميّ في حياتِهم وبعدَ مماتِهم، بوَصفِهم الركن الظاهر في العمل الدرامي، وكذلك المُطربون بوَصفهم الأظهَر في الأغنية. ويتوارى الشعراء الغنائيّون والملحّنون كما يتوارى الكُتّاب والمُخرجون. وقد مثَّلَ محمد الموجي مع كمال الطويل وبليغ حمدي ثلاثيًّا وضع لمساتٍ جديدةً في صرح الأغنية المصرية والعربية، وسواءٌ آتّفقنا مع مشاربهم التلحينية أم اختلفنا، وسواءٌ أراقَتنا أم لم تَرُقنا، فإنّ بصماتِهم تبقى واضحةً ومهمّةً، ومنجزَهم يبقى جديرًا بالقراءة والالتفات إليه.

     وصحيحٌ أنّ إنجازَ الموجي الأشهر كان ما لحّنه من أغانٍ طويلةٍ لأمّ كلثوم ("للصبر حدود" مثلًا)، وقصائد لعبد الحليم حافظ، لاسيّما قصيدتَي نزار قبّاني "رسالة من تحت الماء" و"قارئة الفنجان" الجديرتَين بدراسةٍ مستفيضةٍ لنَهج الموجي التلحينيّ فيهما، لكنّ الأغنية الدينية تحملُ من رُوح الفنّان نفَسًا يصعبُ أن نلمسَه بكامل تجسُّدِه في غيرِها من الأنواع الغنائية. ولذا سنتناول نموذجَين منها في هذا المقال الاستعاديّ القصير.

* أوقدوا الشموس:

https://www.youtube.com/watch?v=ZnSu0JSCkOI

     لحّنَ الموجي هذه القصيدةَ من شِعر طاهر أبو فاشا للسيدة أم كلثوم لتشدو بها في مسلسل إذاعي عن رابعة العدوية عام 1954، ثمّ تحوّل المسلسل إلى الفِلم الشهير الذي أخرجَه نيازي مصطفى عام 1963. وضع أبو فاشا الكلمات في أشطر قصيرة في وزن "فاعلُن فَعُولْ"، وهو اختيارٌ عَروضيٌّ يدفعُ المتلقّي إلى تأمُّل ما تكتنزُه الجُمَلُ القصيرةُ من معانٍ كبيرة. يبدأ اللحن بمقدمةٍ في مقام الحجاز على درجة دو، تؤديها الجوقة النسائية بآهات على خلفية الوتريات، ويساندها الناي. وهي مقسّمة إلى أشطر قصيرة يبدأ كلٌّ منها من النغمة التي انتهت بها سابقتُها، صاعدةً المقام من قراره إلى جوابه. ويتضافر هذا التصرُّف اللحني مع مقام المقدمة الممسوس بالحُزن الرصين في الإيحاء برحلة مجاهدة النفس التي خاضتها شهيدةُ العشق الإلهي ومراحلِها المتعاقبة إلى أن فاضَت رُوحُها إلى بارئها. ثم ما تلبث الآهات أن تتبدّل وتتجسّد في كلماتٍ "أوقدوا الشُّموسْ/ انقُروا الدُّفوفْ/ موكِبُ العَروسْ/ في السَّما يَطوفْ". ثمّ يكونُ جسرٌ قصيرٌ في مقام الراست على درجة (فا) تعزفه الكمنجات، لتتسلّم أمّ كلثومٍ عائدةً باللحن إلى مقامه الأصلي (الحجاز) وهي تشدو بـ"الرضا والنُّور/ والصَّبايا الحُور/ والهوى يَدور/ آنَ للغريبْ/ أن يَرى حِماهْ/ يومُه القريبْ/ شاطئٌ الحياةْ" ليستقرّ مع صوتِها القويّ الواثقِ المُعجِز جوُّ التأمّل الرصين الممسوس بالحُزن، ثم تتحول إلى فرحة مقام الراست التي هيَّأَنا لها ذلك الجسر القصير الذي تسلَّمَت به اللحنَ من الجوقة، وذلك حين تبدأ في "والمُنى قُطوفْ/ في السما تَطوفْ/ انقُروا الدُّفوفْ" على خلفية الكمنجات والكونتراباص، مع مسانداتِ الناي المتّقِدة، فتُخرجُنا بذلك إلى فرحة العُرس السماويّ بصعود رُوح العارفةِ بالله. تتكرر المقدمة بالآهات من الجوقة، ثمّ يتكرر الجسر القصير في مقام الراست، قبل أن تتسلّم أم كلثوم قائلةً "يا حبيبَ الرُّوح/ تائهٌ مجروحْ/ كلُّهُ جُروحْ" في مقام الحجاز، حيث تصعد في الشطرَين الأوَّلَين من "فا" إلى "سي بيمول" لتهبط في الشطر الثالث "كلُّه جروح" من "دو الجواب" إلى "فا" هبوطًا موحيًا بما في جروح رحلة الدنيا من تعبٍ ووهَن. ثم تتحول إلى الراست على درجة "فا" مجدَّدًا مع "لائذٌ بالباب/ شوقُه دَعاهْ/ والرِّضا رِحابْ/ يَشملُ العُفاةْ" لتُخرجَنا ثانيةً من تعب الرحلة الدنيوية إلى فرَح العودة إلى الله وقَبول الله للّائذِ ببابِه وعفوِه عنه. أمّا الغصن الأخير من الأغنية "طافَ بالسلام/ طائفُ السلام/ يوقِظُ النِّيامْ/ عهدُه الوثيقْ/ شاطئُ النجاةْ/ أولُ الطريقْ/ هو مُنتهاهْ" فقد وضعَه الموجي بالكامل في مقام الراست مكرّسًا ذلك الفرحَ الكامنَ في خلوة الصوفيِّ بربِّه، وهو فرحٌ يجعل الدموعَ تَطفرُ شوقًا إلى التحرُّر الكاملِ من الجسد والعودة إلى الله الذي هو أولُ الطريقِ ومُنتهاه، ويقوّي الموجي هذا الأثرَ المُبكي فرَحًا بركوز الفواصل الآليّة بين أشطُر "عهدُه الوثيق/ شاطئ النجاة/ أولُ الطريق/ هو منتهاه" على درجة "لا نصف بيمول" كما لو كان المقامُ هو "هُزام على درجة لا نصف بيمول" رغم أنه لا يَخرج إلى هذا المقام حقًّا، والهُزامُ مقامٌ مُبكٍ بطبعِه. ثم يتكرر المذهب أخيرًا "والمنى قطوف" والمقدمةُ بالآهات تنشِدُها أمُّ كلثومٍ والجوقةُ معًا، ليكون أولُ الطريق هو منتهاه على الأصعِدةِ كافّة.

     والخلاصةُ أنّ اللحنَ يَنطق بحساسية الموجي المُفرِطة للكلمة، ورهافة شعوره بالمعاني الدينية، فضلًا عن صنعتِه اللحنية المتفردة.

* يا خالق الزهرة:

https://www.youtube.com/watch?v=iRX1ZpznYCw

     هي أغنية ضمن مجموعة مناجَياتٍ شدا بها عبد الحليم حافظ من كلمات عبد الفتاح مصطفى ولحن الموجي وتوزيعه عام 1968، تبدأ جميعًا بالمقدمة نفسِها في مقام الهُزام يعزفُها الكونتراباص منفردًا، بطريقة متقطّعة بالطبع Staccato مع مصاحبة إيقاعية، ما يعطينا شعورًا بأنّ المناجاةَ خارجةٌ من قلبٍ نابضٍ، كما نتصوّر حُزنَ المقام حزنًا على كلّ غفلةٍ عن آيات الله التي تتغنّى بها هذه المناجَيات. وفي هذه الأغنية بالذات ينتقل اللحن بغتةً من المقدمة الجامعة للمجموعة إلى المقدمة القصيرة الخاصة للأغنية، يعزفُها الناي في مقام عجَم عُشَيران، أي أنه سلّم كبير مرتكز على درجة "سي بيمول"، وسريعًا ما يتسلّم منها حليمٌ الغناء مكررًا لفظ الجلالة بين نغمتَي "لا" و"مي بيمول"، وهكذا يهيمِن جوُّ الفرَح من البداية الخاصة للأغنية، وهو فرَح قلب المؤمن الناظر في آيات الله دِقِّها وجِلِّها، ثمّ ينطلِق حليمٌ في خطَّين متوازيَين حسبَما أرادَ توزيعُ الموجي، حيث يُنشِد في السلّم نفسِه في منطقتَي قرارٍ وجوابٍ "يا خالق الزهرة في حضن الجبل من فوق/ لونها ومنظرها آية للجَمال والذوق" تلك الكلمات التي صاغَها الشاعرُ في البحر البسيط "مُستَفعِلُنْ فاعِلُنْ مستفعلُنْ فعِلُنْ" المتجذّر في الوعي الإيقاعي العربي. ونحن نعرف أنّ صوت حليمٍ أقربُ إلى المنطقة المنخفضة الغليظة، أي أنه بتصنيف الأصوات الغربيّ أقربُ إلى الباص Bass، فيما يؤدّي هنا الخطّ العاليَ أو الجَواب بمهارة. والمهمّ أنّ هذا التوازي الذي قرره الموجي يُشعرُنا بأنّ هذا الذي يُناجي اللهَ مأخوذٌ بما يرى من آياته لدرجة أنّ لسانَه يسبقُه وينطلِق مناديًا ربَّه فيما قلبُه منشغلٌ بالمناجاةِ سِرّا. وفي المقام نفسِه يمضي حليم منشدًا: "تطلع وتدبل على دمع الأمل والشوق"، ثم يتحول إلى مقام الصَّبا على درجة ري مع جملة "لا يدرى بيها ولا يعلمها غير الله" إلى قولِه "سبحانك يا ربّ سبحانك" في جوٍّ من اللوعة يكرسُه هذا المَقام، كأنها لوعةٌ على وحدة المخلوق بين الموجودات، فهو في النهاية كمٌّ مهمَلٌ مهما بدا جميلًا، إلا في عين اللهِ خالقِه اللطيف الخبير الذي أذِن له بالوجود فوُجِد ثمّ أذِن له بالموت فمات.    

      والشاهد هنا أنّ حساسية الموجي تتجلى في اختياره التوزيعيّ المتمثل في الخطّين الأدائيين المتزامنَين لصوت حليم، وهو اختيارٌ لم يجئ عبثًا وإنما أدى وظيفةً تعبيريةً ربما لا نَعيها في التلقّي الأوّل وعيًا كاملًا، إلا أنها تجِد طريقَها إلى وجداننا في يُسر. هذا فضلًا عن النقلات المَقاميّة المحسوبة التي تَخلُق الكلماتِ خَلقًا آخَر، وتجسِّمُها تجسيمًا أكادُ أُراهن على أنّ شاعرَنا عبد الفتاح مصطفى قد عجِبَ له حين استمعَ إلى اللحن.

     رحم الله أولئك الذين اشتركوا في صُنع هاتين التحفتين الموسيقيتين الخالدتَين، ورحمَ أستاذنا الموجي الذي مازالَ فنُّه باعثًا على التأمل والتفكير ومُثريًا للوجدان.

نُشِر في موقع (عربي 21) في مارس 2023

محمد سالم عبادة

الأحد 13 شعبان 1444ه – 5 آذار/ مارس 2023 

في ذكرى وفاتِه 12 سبتمبر 1993: مِن ألحان (بليغ) الإسلامية للنقشبندي

 


     لا يرتبط اسم (بليغ حمدي) في وجداننا بتلحين القصيدة الفصيحة، كما لا يقفز إلى أذهاننا بداهةً حين نستحضِر الأغنية الدينية المصرية. إلاّ أنّ غرامه بالتجريب ورهافة إحساسِه النغميّ، إضافةً إلى ما يُشاعُ عن رغبة الرئيس الراحل أنور السادات في أن يتعاونَ لحنُ (بليغ) مع صوت النقشبندي، أدّت هذه الأمور إلى خروج باقةٍ من أكثر الأغاني الإسلامية فَرادةً في تاريخ الأغنية الدينية المصرية.

·        مولايَ إنّي ببابِك:    

https://www.youtube.com/watch?v=3X-V8y3aRHg

     في البدء تنقر الدفوف والرّقّ إيقاع المصمودي الكبير الرصين، ثم تدخل الجوقة مع الوتريات والناي في مقام البياتي على درجة (لا) حيث يُترَك غناء المَذهب للجوقة بطُول الأغنية، ويقسّمُه (بليغ) تقسيمًا دراميًّا واضحًا، فالمفتَتح "مولايَ إني ببابكَ قد بسطتُ يَدي" يُراوِح حول جذع المَقام - بين درجَتَي (صول) و(مي) – ليقفِز إلى الفرع في أعلى المقام مع سؤال الحيرة "مَن لي ألوذُ به" بين درجتَي (صول) الجَواب و(ري)، ليعود مطمئنًّا إلى الجذع وإلى درجة الركوز (لا) مع انتهاء الحيرةِ وتقرير ألاّ ملجأَ إلاّ الله "إلاّكَ يا سنَدي".

     على هذا المِنوال نسجَ (بليغ) ألحانَه الخمسةَ عشرَ للشيخ النقشبنديّ. لا يمكننا أن نصِف أيًّا من هذه الألحان بالصعوبة. إنها موغِلةٌ في البساطة، لكنها بالغة الجَمال. الأغاني قصيرةٌ إجمالاً، ولا نلمح فيها أثرًا لنقلاتٍ مقاميّةٍ، ولا لأي شكلٍ من ِأشكال الهندسة التوافُقيّة (الهارمونية) أو الطِّباق (الكونترابنط) إلاّ أقلَّ القليل، لكنّها حلوةٌ إلى درجةٍ عبقرية.

     لا أتخيّل أنّ الكثير يمكن أن يُقال عن صوت النقشبندي القدير. كان في حنجرته صندوقٌ مُصَوِّتٌ مضبوطٌ ضبطًا ربَّانيّا. ربما ليس في طلاوة صوت الشيخ (نصر الدِّين طوبار) – وهو قمّةٌ أخرى من قمم الإنشاد والابتهالات المصرية – إلاّ أنه متّصِلٌ اتّصالاً وثيقًا بوِجدان المصريين الدّينيّ، بفخامتِه ومَداه العريضِ المتجاوِب مع ما دأب المصريون على الشعور به من هيبةٍ أمامَ مخاطبَة الله. ولعلّ أقربَ مُعادِلٍ له في وعيي الشخصيِّ هو صوتُ المرحوم الشيخ (إبراهيم جلهوم) حين كان يخطبُ الجمعةَ في مسجد السيدة زينب بالقاهرة، باعثًا الهيبة والتوقيرَ في صدور مستمِعِيه.  

     وقد تميَّزَ أداء النقشبنديّ بتَسَرُّبِ قواعد تجويد القرآن إليه بدرجةٍ كبيرةٍ، فنلاحظ حين يقول "ومَن يَعُذ بِكَ لن يَشقَى إلى الأَبَد" أنه يُدغِم نون (لن) في ياء (يَشقَى) كما تقضي بذلك قاعدةُ التجويد، لكنه لا يفعلُ مثل ذلك في "ومَن يَعُذْ"، ولا يُدغِمُ كذلك نون تنوينِ من (عائِذٌ) في واو (وَجِلٌ) في الشطر السابق "بِنُور وجهِكَ إنّي عائذٌ وَجِلٌ".

     كما نلاحظُ أنه يتعاملُ مع المُدود بحرّيةٍ في إضفاء العُرَب، فيراوح حول النغمات الأساسيّة وهو يهبِطُ درجات مقام البياتي، كما يتّضِحُ في الأداء الأول لمَدّ الألِف في كلمة (رِضاك) من شطر "تحلو مرارةُ عيشٍ في رضاكَ..."، لكنّه لا يلجأ أبدًا إلى ترعيد المُدود – بمعنى تغيير طبقة الصوت عُلُوًّا وانخفاضًا كما يفعلُ مُطربو الأوپرا فيما يُسمَّى عندهم بأثر الترعيد tremolo – وهو الأثرُ الذي يحذّرُ منه العلماءُ بتجويد القرآن. ونلاحظ هذا التصرُّف الأدائي في الأداء الثاني الصاعد لكلمة (رضاك).

     بيد أنّ هنا نقلةً مقاميّةً في أداء "مَن لي سِواكَ ومَن سِواكَ " حيث ننتقل إلى العجَم الفرِح، ليعلِن (بليغٌ) بذلك عن الفرَح بحضور الوحدانيّة وانتفاء الملجأ إلا عن الله، عائدًا إلى دفء البياتي مع "كلُّ الخلائقِ ظِلٌّ في يَدِ الصَّمَد". أما النقلة المقامية الثانية فهي مجرد انتقالٍ من البياتي إلى فرعٍ له هو مقام الشُّورِي مع أداء لفظ الجلالة في قولِه "هل يرحَمُ العبدَ بعدَ اللهِ مِن أحدِ؟" حيث يلجأ إلى هبوط سُلّم جنس الحجاز، موحيًا بالإشفاقِ من حالِ مَن ييأسُ من رحمةِ الله. وفي هاتين النقلَتين القصيرَتين يتضافرُ إحساسُ (بليغ) المُرهَفُ بمقتضى الكلام مع أداء النقشبنديّ الفخم القدير ليحفِرا معًا في وِجداننا معنى هذا الاستفهام الإنكاريّ.

     إلا أنّ ملمحًا مهمًّا في أداء الجوقة هو تخلّيها عن مقتضيات النُّطق الفصيح، فهم ينطقون الذالَ في (ألوذُ) زايًا، ويقعون في أخطاء من هذا النوع في كثيرٍ من الأغاني.

 

·        (عليك سلامُ الله):

https://www.youtube.com/watch?v=Hn09Zby2wyQ

      نسمع صوت الجيتار في المقدمة الآلية، ولعلّ هذا الظهور يلخّص عظمة الخطوة التي خَطاها (بليغٌ) بالإنشاد الإسلاميّ، حيث جنّد آلةً ارتبطَت في الوعي العامّ بالأغنية الغربية الحديثة في خلفيّة مُنشِدٍ يخاطبُ النبيّ صلى الله عليه وسلَّم. هو إقدامٌ يذكّرُنا تجنيد المرحوم د. جمال سلامة للپيانو في أغانيه الإسلامية، فضلاً عن استعانته فيها بإمكانات التأليف التوافُقي (الهارموني) والطِّباقي (الكننترابُنطي). تنساب الموسيقى في مقام الحِجازكار على درجة (ري).

     بخلاف (مولايَ إني ببابك) التي صاغَها الشاعر عبد الفتاح مصطفى في البحر البسيط وظهر فيها خطأٌ عَروضيٌّ غريبٌ في شَطرها الافتتاحيّ، فقد كان الأصوب إيقاعيًّا أن يُقالَ "مولايَ إني ببابِكُمْ بَسَطتُ يَدِي" مثَلاً، صاغَ شاعرُنا الكبيرُ هذه القصيدةَ في البحر الطويل "عليكَ سلامُ اللهِ يا خيرَ مَن دَعا/ وأصدقَ مَن لَبَّى وأخَلَصَ مَن سَعَى". وقد قدَّرَ (بليغٌ) أنّ أثرَ اللحن المسكونِ بالشَّوق - نتيجة اختيار المقام الذي جذعه وفرعه جنس الحجاز – سيكون أبلغَ إن أنطَقَ الجوقةَ بلفظ الجلالة وحدَه مرَّتين قبل أن تؤدّي عبارة (سلامُ الله) قافزةً من (صول) إلى (سي بيمول) ثم هابطةً (لا – صول- فا دييز – مي بيمول – ري) لتستقرّ على ركوز المقام.

     وبعد أن يُنشِد الشيخُ "وأعدَلَ مَن ساسَ الحياةَ على الهُدى/ وأحزم من راضَ الخُطوبَ وأشجعَا./ سلاماً رسول الله ما هبَّ مسلمٌ/ وكبَّرَ باسمِ اللهِ جهرًا وأَسمَعا."، يتحول المقام في الفاصل مع عزف الناي منفرِدًا إلى الراست على درجة (صُول).

     والغريبُ أنّ الشيخ يُسقِطُ واو العطف من بداية البيت الثاني "وهبَّ رجالٌ للصلاة ونسوةٌ/ صُفوفًا وُقوفًا في حِمَى اللهِ خُشَّعَا/ إلى قِبلةِ البَيت العتيقِ عيونُهم/ إذا رُتِّلَ القُرآنُ تَنهَلُّ أَدمُعَا."، وهو ما يَشي بأنّ الخطأ العروضيّ الشهير في "مولاي إني ببابكَ" ربّما كان من تدخُّل (بليغ) لا أصليًّا فيما كتبَه الشاعر.

     يعودُ المقامُ بعد قوله "نقيمُ على الإيمانِ والعِلمِ صَرحَنا/ إذا السَّلمُ نادانا أو الرَّوعُ جَمَّعا" إلى الحجازكار في قوله "عليكَ سلامُ اللهِ يا خيرَ مَن دَعا/ وأصدقَ مَن لَبَّى وأخَلَصَ مَن سَعَى".

·        (أُخُوّة الحَق):

https://www.youtube.com/watch?v=svSjctgAY4g

     تبدأ بمقدمة قصيرة للوتريات والجيتار، ويُسكِت (بليغٌ) آلات الإيقاع تمامًا طيلةَ الأغنية. تدخل بعدها الجوقة منشِدةً في مقام الحجازكار على درجة (دو) ما صاغه الشاعر في البحر البسيط "أخوَّةُ الحَقِّ باسمِ اللهِ هادِينا/ ظَلَّت على الدَّهر مِن أغلى معانينا". لكن هنا تتغلّب رغبةُ (بليغ) الجامحة في التجريب على إخلاصِه للكلمات، فيَلوي نُطقَها العربيَّ وتُلغي الجوقة ألف المَدّ الأولى في كلٍّ من (هادينا – معانينا) مكتفيةً بفتحتَي الهاء والعين على الترتيب. وتكون النتيجة لحنًا جميلاً في ذاتِه، بعيدًا عن الكلمات، ولنا أن نجرّب ونضعَ على هذه الجملة اللحنية المُنذِرة التي ترددها الجوقة أيّ كلماتٍ، وسنكتشفُ أنّها لا تنقُصُ شيئًا من جمالِها، وذلك أنها مقطوعة الصِّلةِ أساسًا بقصيدة (عبد الفتاح مصطفى)! وما يزيدُ الأمر غرابةً أنّ النقشبنديّ يخطئ خطأً نحويًّا بيّنًا هو الآخَر حين ينصِب كلمة (نبيّ) في "آخَى نبيُّ الهُدى ما بينَ صُحبَتِه"، وحقُّها الرفعُ على الفاعليّة!

 

     من هذا المرور السريع يتّضح لنا أن تجربة (بليغ حمدي) في تلحين الأغنية الدينية - كما تجسّدَت في تعاونه مع الشاعر عبد الفتاح مصطفى والمُنشد الشيخ النقشبندي – هي تجربةٌ أثبتَت بالتأكيد نجاحَها، بدليل ذيوع بعض أغانيها على الألسُن وتجذُّرها في الوعي الجمعي الديني للمصريين. ولعلّ أهم خصائص تلك التجربة انسيابيّة ألحانِها وبساطتُها ومقدرة (بليغ) على إخراج جُمَلٍ لحنيّةٍ حلوةٍ في ذاتِها وجديرةٍ بالبقاء. إلاّ أنّ من خصائصها السلبيّة قلّة اهتمام (بليغ) بأن يُعطِيَ اللحنُ الكلمات حقَّها من النُّطق الصحيح، وهو ما تجلّى خاصَّةً في مذهب (أخوّة الحقّ)، وفي عدم إشباع ياء (إنِّي) في (مولاي إنّي ببابِك). ربما يكون ضعف علاقة (بليغ) بالقصيدة الفصيحة هو سبب هذا الأمر، قِياسًا إلى علاقة سلفَيه الكبيرَين (رياض السنباطي) و(محمد عبد الوهّاب) بها. إلاّ أنّ التجربة في مجملِها تستحقُّ ما أحرزَته من بقاءٍ كما تستحقُّ دراسةً أكثر استفاضةً لبيانِ نقاط قوتها وضعفها.

محمد سالم عبادة

10 سبتمبر 2021

    نُشِر في موقع (عربي 21) في سبتمبر 2021

 

Tuesday, 18 June 2024

بتاع فَتَّة




اللي سمّاني كِدَه ما كَدَبْش    

يا جَمالها بْرُزّها الأبيَض  ..   لَمّا يُحضُن عِيشُه وِيْفَضفَض 

وَامّا يِحرَق قَلبُه خَلّ وتُوم  ..   وَامّا تتعلِّم مَراكْبُه العُوم

وَامّا تِغرَق فيه وتِتمَخَّض

عن هُبَر يِحلا عَشانها النَّبش

خَيلِة الصايم فِ عِزّ الصّوم  ..   فين حَيِهرَب منها غير ف النوم

حتى يِدَّن مَغرِبُه وحتّى  ..   تُستَباح بَعد الصلاةْ الفَتّة

 

اللي سماني كده ما كدَبش

"فين مزاجك؟ قُول، أبَيتَ اللُّوم  ..   فيه قزايز عندنا بالكُوم

كُلُّه متعتَّق هنا في القَبو  ..   مَيَّه واحدة والطُّعوم شَتَّى"
لأ، ماليش في الخمرة، ما باشربش    

مش حكاية كِبد راح يِمرَض  ..   أو باخاف مِ السُّكْر لا اتنفَّض
أو حالِتّ وتِطوَل اللَّتَّة  ..   وافضح الأسرار فِ وسط القُوم
إنما اللي اتقال لي: "فاجتَنِبُوه"  ..   واللي فات عَ الآية ما يقَرَّبش

 

أيوة سمّيني بتاع فتّة  ..   افتداني ربّنا بالكبش    
صَلِّ وانحَر في بدايْةِ اليُوم  ..   وادخُل العِيد المُبارَك حَبو
الجبين بالذِّكر حَيفَضَّض  ..   والبخور يمحو الذنوب بالهَبو
كُل وما تسرفش واتمضمض  ..   واوصِل الناس اللي في الحِتّة
لَحم كبشك يِسري في الجِتّة  ..   يِمرِي، تشرب رُوحك الفَتّة

"فين مزاجك؟!" لِفّ لي سْجارة  ..   بَسّ وَلَّع مِن نواحي العُقب!
أصل حق الجار على الجارة  ..   تِشفُط الدّخّان ف أضيق تُقب!
صِدر مسكينة مريضِة رَبو  ..   اسمها امُّ فْلان ومالهاش نَقب
دُوسوا هذا العُقب يا بْنِتَّة  ..   خَطُّوا فوقُه سبعة أو سِتّة
واللي حتخَطّي ما راح تتعبش

دا اللي سماني كده ما كدَبش
يا مثقَّف مُستَنير، عضعض  ..   في مشيمِة شِعرك المُجهَض
الخابور حيلِفّ زَيّ رابُوه  ..   عَ الدماغ، يِعمل لها نْجارة
"دا الحشيش الحُرّ .. انتخبُوه"!  ..   والقصايد نازلة تتخضخض
قال لي: "خسران اللي ما يجَرَّبش  ..   اهبِش الإحساس بوَعيَك هَبش"
وامّا شَخَّر، هاجْمِتُه العِتَّة  ..   والنسيج اتحَلّ كالقَتّة
مِن قُرَيِّب كان قصيد مُغمَض  ..   مش تأمُّل .. مُوت، كما اللي جابُوه
الدَغُه وهيهات يقوم يِنهَض  ..   سِيبُه واسمعني مع اللي سابُوه


اسمي شاعر شيخ بتاع فَتَّة  ..   لَم أُفارِق جُبَّتي البَتَّة
كِيفي في القرآن: باقول وَاحفَض  ..   والوُضوء مَوصُول ولا بيُنقَض
إلّا لَمّا تخُمّني الفَتّة  ..   وامّا احَدِّف شِعر زَيّ الدَّبش
واللي سمّاني كِدَه .. ما كَدَبش!

محمد سالم عبادة

الاثنين 24 ديسمبر 2018
من ديواني (آخِر سحابة صيف) الصادر عن مركز نهر النيل للنشر والتوزيع عام 2022م

Monday, 25 December 2023

بولِنغ لبابا نويل Elf Bowling





في هذه اللعبة تقوم مجموعةٌ من الدمى/العفاريت في شكل (بابا نويل) مقام قطع البولينج العشرة المعروفة ، ويحاول اللاعب (بابا نويل بشريٌّ كبير) إسقاطها بتصويب كرة البولينج نحوها.

 ..........................................

العفاريتُ ذاتُ اللِّحَى والعَمائمِ في آخرِ السَّيرِ تصطَفُّ مُنتَظِرَةْ

لا دُمىً، لا بشَرْ!

عاد (پاپا نويلُ) من السنةِ المُدبِرَةْ

واحتَمى بالقَدَرْ

وارتَمَى في جميعِ الحُفَرْ

داعبَتْ كُرةٌ يَدَهُ كي يُصَوِّبَها نحوَ إخوتِهِ من عفاريتِ پاپا نويلَ، فصَوَّبَها، وأطاحَ بكلِّ العفاريتِ في ضَربةٍ مُقمِرَةْ

بَيدَ أنَّ يَدًا غيرَ مفهومةٍ لملمَتْ مَن أُطيحَ بهمْ وأتَتْ بصُفوفٍ أُخَرْ!

والعفاريتُ مُستَبشِرَةْ

غَيرُ معتَذِرَةْ

 

فارتَمى في جميعِ الحُفَرْ

وارتَمَى وانتشَرْ

وانتمى للحَذَرْ

لُعبةٌ خَطِرَةْ!

محمد سالم عبادة

26/12/2009

من ديوان "أواثقٌ أنتَ أنكَ تريدُ الخروج؟" الصادر ضمن كتابي "ديوانان من الشِّعر" رقميًّا عن مؤسسة هنداوي عام 2021

 


Saturday, 20 May 2023

الأبُ والجثمان - من المجموعة القصصية (ما يَحدثُ في هدوء)

 



 

     يكادُ البردُ يقتلُني. أقولُ يكادُ لأنّي واثقٌ أنه لن يستطيعَ قتلي وإن أراد!

     ربما منذُ ألفِ عامٍ فقط كان الناسُ هنا يظنّون أني لا يُصيبُني البردُ ولا يدهمُني الحَرُّ، والحَقَّ أقولُ، كان هذا يُطريني ويُطربُني. والآنَ وأنا أجرّرُ قدمَيَّ مع جُثّة ابني على هذا السرداب- لا يعرفُ أحدُهم ما يحدثُ هنا، ولا يخطرُ ببالِهم أصلاً – أشعرُ ببردٍ ينقُرُ عِظامَ رُوحي ويوجِعُني.

     منذُ ألفٍ فقط من السنين، كنتُ أظنُّ أنّ القوةَ باقيةٌ لي. لكنني الآنَ مُدرِكٌ تمامًا أن ليسَ ثمّةَ ما يميزُني إلاّ الخُلودُ. فأيُّ بُؤسٍ هذا؟! خالدٌ في شيخوختي؟!

     واوَلَداه. وامَلِيكاه. حُزني عليكَ لم يخفُت ساعةً يا مَلِكَ مِصر. يا خالدَ الاسمِ بينَ البشرِ الذاهبينَ إلى النسيان. يا مَن أردتَ أن تَقومَ في النَّهارِ بعدَ موتِكَ لتلتحمَ بأبيك.

     خوفو. سامحني يا وَلَدي على ما أفعلُهُ الآن. جثتُكَ المحنَّطَةُ التي خفَّ وزنُها أصبحَت ثقيلةً على أبيكَ الإله العَجُوز. ولا ينتظرُهُ في الصحراءِ بعدَ أن يخرُجَ بك إلاّ مزيدٌ من البرد. سامحني. أعرفُ أنكَ أخلصتَ لي. وحفظتَ ولاءكَ لي سِرًّا، ولم تنتسِب إلى آلِهة مِصرَ الأخرى لأظلَّ وحدي في قلبِك. ذريتُكُ لم يسيروا في ظلِّكَ وأنتَ تعرف هذا. انتسبوا إلى (رَعْ). وتركوني. تركوا (سِتْ) الواحِدَ في الصحراء. تنوشُهُ الرّيحُ ولا يحتفي باسمِهِ ملِكٌ من بَنيه إلاّ قليلا.

     آهِ. ها أنَذا عند المَخرَجِ من الهرَم. الليلُ مُطبِق. وألوهيّتي لم تُبقِ لي إلاّ الخُلُودَ، فما أقسى هذا البَردَ ياخُوفو!

     تعالَ يا ولدي، امتثِل ليَدَي أبيكَ المرتعشتين، وسامحهُ إن جرّكَ في الرمالِ خارجَ قبرِكَ العظيم. آهِ لو كنتُ مستطيعًا أن أمنحَكَ من خُلودي. إذَن لرأيتَ بلادَكَ تسقُطُ في أيدي الغُزاةِ مرّةً ومرّةً ومرّة. ورعاياكَ ينسون أباكَ ويغرقونَ في النسيانِ وهم أحياءٌ، ويسلّمون أنفسَهم لكلِّ شجاع. لكن. شكرًا للقدَرِ الّذي حرمَكَ الخُلود. أنت الآنَ مستريحٌ من حُزني الذي أحملُهُ منذُ سقوطِ مصرَ الأول والثاني والثالث. غزاةُ الشّرق. يالَغُزاةِ الشّرق! لا يعرفون شيئًا عن (سِت) ملِكِ الصحراء. ومجيئُهم أغرى المصريين بي، فصاروا يكرهونني، ويقولون إنني أنا الشّرّ، وكأنهم نسوا أنهم جاءوا منّي، من الصحراء. ولماذا أقولُ (كأنهم)؟ بل قد نسوا بالفعل. ألم أقُل لك يا ولدي إنهم غرقوا في النسيانِ وهم أحياء؟!

     لو أستقبلُ من حياتي ما استدبرتُه. لكنتُ انتبهتُ إلى (حُور) المخاتل. ذلك الصقر الذي أذاقني الحسرةَ الأولى فزللتُ عن عرشي الذي كان على قلوبِ المصريين قائما.

     أذكرُ بالطبعِ ذلك اليومَ يومَ النحس. أغراني بالاحتكامِ إلى الآلِهة، ولم أكن أدري ما الآلِهة. وافقتُهُ ياولَدي، فقد كان في منقارِهِ المعقوفِ ما يمنعُني من الرفض، وكان في عينيه المدورَتين ما يُغريني بالقَبُول.

   قال: "ستنامُ معي، وسأنامُ معَك. وسترى الآلهةُ أكثرَنا فحولةً وسيكونُ له الأمرُ في مصر".

قبلتُ يا ولدي. وحينُ قذفتُ ماءَ حياتي تلقّاهُ بيدِه، ولم أدرِ ما فعلَ به، لكنّي رأيتُ فيما بعدُ ونحنُ نتحاكمُ لدى الآلهة أنه ألقاهُ في النيل. وحين قذفَ ماءَ حياتِهِ تلقّاهُ هو أيضًا بيدِه ولم أدرِ ما فعلَ به. لكني رأيتُ فيما بعدُ أني قد أكلتُه!

     نعم! أكلتُه ياولدي مع نبتة الخَسّ التي أحبُّها. المخاتلُ نثرَ ماءَ حياتِهِ عليها لأنه يعلمُ أني سآكلُها. وحينَ نُودِيَ ماءُ حياتي أجابَ النهر. ضاعَ ماءُ حياتي ياولدي. وحين نُودِيَ ماءُ حياتِهِ أجابَ مِن أحشائي!

     يالَخُسراني. يالَحسرتي يا ولدي.

     وأنتَ على ذلك عبدتَني وأفردتَني بالولاء. فكيفَ أنساك؟

     ازدحمَ الأكَلَةُ على مصر يا ولدي. غزاةُ الشرق.

     ها نحنُ في وسطِ الصحراءِ أيها الملِك. وأنا جائعٌ مطرودٌ وذنَبي يؤلمني. أظنُّهم سيقولون بعد ألفين من السنينَ في اختفاءِ جثمانِكِ الأقوال. ربما يقولون انتهبَه اللصوصُ مع كنوزِه. ربما يقولون شرّحه الغزاةُ ليعرفوا موضعَ رُوحِه. وسأكونُ أنا قد نُسيتُ تمامًا ومُحِيَ اسمي إلاّ من بقيّةٍ من نقوشٍ على المعابد التي أقامها أبنائي قديما. لكنني سأظلُّ هنا في الصحراء. خالدًا في الظُّلمةِ والبرد. واحدًا في حكايتي وكأنني لم يعبدني آلافُ آلافٍ من أبنائي. لن يخطُرَ ببالِهم أنكَ في أحشائي. فما أنتَ إلاّ بعضُ ماءِ حياتي. وها أنذا جائعٌ وأنتَ لن تشعُرَ بي آكلُكَ يا ولدي.

     امتثِل ليَدَي أبيك المُرتَعِشَتَين يا ولدي، وكُن حنونًا على ما بَقِيَ مِن أسنانِه التي أسقَطَها الغُزاة. كُن بارًّا بأبيكَ (سِتْ). وسامحهُ إن حرمَكَ من البعثِ في النهار، بينما الجوعُ يقرصُهُ في بردِ الصحراء.

 

2016




Saturday, 28 January 2023

من رواية (دليلة) - من الفصل الثاني (المكتبة)

 


     

سحبَت (دليلةُ) يدَها من يدِ المُحَنّيَةِ النوبيةِ باستعلاءِ السّادة .. لم تَبدُ أماراتُ دهشةٍ على وجه المحنّية، وإنّما - لدهشتي أنا – ظلّت ترسُمُ بالحِنّاءِ، ولكن على كفِّها اليُسرَى الّتي كانت تمسكُ بكفِّ (دليلة) .. امرأةٌ مخلصةٌ لما تفعلُه!

   أقتربُ ..

   يخترقُني عطرٌ لا أدري لمَن هُو؟ عطرٌ كأنّه خلاصةُ العالَم الّذي كان .. خلاصةُ كلِّ ما مضى من الزمانِ، منذُ الخليقةِ إلى لحظةٍ راهنة ..

   أقتربُ لأرَى ما ترسُمُهُ وأتوقّعُ أن يكونَ طاووسًا ذَكَرًا أيضًا، لكنّني أرى امرأةً شابّةً هيفاءَ القَدِّ، ترتدي فستانًا وطرحةً، ومن الطّرحةِ يتدلّى اليَشمَكُ الّذي نَحَّتهُ المرأةُ إلى أسفلِ ذَقَنِها، وقد مدّت يُمناها في استعلاءٍ غيرِ مُبال .. لكنّ الطرحةَ غيرُ مكتملةٍ وكأنّها قُدّت من دُبُرٍ قبلَ أن تُرسَم، واليشمكَ غيرُ مكتملٍ وكأنَّ الزمانَ أكلَ عليه وشرِب حتى قاربَ الاهتراء، والفستانَ ملتصقٌ بفخذَيها يصفُ تفاصيلَهما وكأنَّ ريحًا هبَّت في لحظةٍ سابقةٍ على الصورةِ دفعَت بعضَ قماشِهِ بين فخِذَيها ولصقته بهما  .. لا أفهم!

   أنظرُ في وجهِ المُحَنّيةِ النّوبيّة وقد انكبّت بكاملِ تركيزِها على الرّسم .. أتساءلُ: هل ستُخلدينَ إلى الماءِ اليومَ أو غدًا أيتُها العجوزُ السمراءُ، أم انَّ الفتاةَ ستبقى طويلاً على كفِّكِ؟ يُدهشُني أنّها تنظرُ أمامَها وكأنّها تراني، ثُمَّ تضحكُ تضحكُ في مرحٍ بالغٍ، فأُجفِل ..

   مشَت (دليلةُ) من مقعدِها إلى باب الحرملِك، ثُمّ منه إلى باب المكتبة .. مِشيتُها الُهوَينَى الّتي مشَتها (هُرَيرةُ) الأعشى .. هل من خبيرٍ بالأنسابِ يُخبرُني بشجرةِ عائلةِ أبيها؟ أفي جدّاتِها (هُريرةُ) المذكورةُ أم انَّ النساءَ تشابَهنَ علَينا؟ مشَت (دليلةُ) وكأنَّ أفراخَ اليَمامِ نقرَت بيضَها السّاكنَ المتراصَّ في الطريقِ مِن مقعدِ (دليلة) بالحرملِك إلى باب المكتبةِ، واكتسَت بالزّغّب وطارَت، مُخلِّفةً البَيضَ قِشرًا، لتمشيَ عليهِ (دليلةُ) هُوَيناها الّتي تحبُّها ..

   طرقتان على باب المكتبة ..

- ادخُلي يا ابنتي!

   أتاها صوتُ أبيها عَبرَ القَروِ المَطلِيِّ بالأخضرِ الزرعِيِّ في باب المكتبة .. دلَفَت إلى الجالِسَين، والتقت عيناها بعينَي العريس .. لم يَفُتهُ شبَحُ ابتسامتِها قبلَ أن تُطرِق ..

- اجلسي يا ابنتي بجوارِ عريسِك ..

   جلَسَت ..

- دليلة .. عروسي المَصُون .. أما وقد ودّعتِ اليومَ – كما قال الفاضلُ أبوكِ - سنواتِ اللعِبِ إلى سنواتِ الجِدِّ، فإن أولَ ما أحبُّ أن تبتدئي به الحياةَ معي .. هذه!

   قالَها وهو يُبرِزُ من جيبِهِ قلادةً ذهبيةً ثقيلةً، مُحلاةً في منتصفِها بلؤلؤةٍ بيضاويّة.

   نقّلَت (دليلةُ) عينيها بين القلادةِ والعريسِ وأبيها في تردُّدٍ بادٍ، فبادرَها أبوها:

- خُذيها من عريسِكِ يا (دليلة) ..

   تناولَتها .. ثقيلةٌ في يدِها .. تنظرُ إلى القاضي (شهابِ الدّين) في استنكارٍ معاتِب:

- إنّها ثقيلةٌ يا أبي!

   يضحكُ القاضي، ويضحكُ العريس، ويتناولُها من يدِها:

- دَعيني أحيطُ جِيدَكِ بما يستحقُّه.

   تبتعدُ (دليلةُ) خطوةً إلى الوراءِ، وقد أمسكَت بالقلادة من يد العريس:

- لا .. سألبسُها .. أعني .. نعم سألبسُها ولكن ليسَ الآن ..

   يواصلُ أبوها ضحكه في هدوءٍ بينما ترتسمُ الحيرةُ على العريس.

- دعها يا ولَدي كما تشاء .. مازالت الحياةُ أمامكما طويلة ..

   تكوّرَت القلادةُ في كفِّ (دليلة) التي استدارَت وخرَجَت، كما دخَلَت. التفت العريس إلى أرفُف المكتبة المكتظّة بالمخطوطات الصفراء. تابعه القاضي بعينيه. قام (الحسيني) ومشى بمحاذاة أركان المكتبة الأربعة ثُمّ توقّف أمام أحد الأرفُف وسحَب مخطوطين متلاصِقَين وأخذ يقلّب أوراقهما.

- الحسيني: صفراء حَقًّا!

- القاضي (مبتسمًا): فاقعٌ لونُها، تَسُرُّ الناظرين!

     ابتسم (الحسيني) في صمتٍ ثُمّ أردف وهو لا يرفع عينيه عن عنوان كتابٍ مخطوطٍ بين يديه:

- (صناعةُ الموسيقا)؟ لماذا في مكتبتكَ مثلُ هذا الكتاب يا عَمّاه؟

- وماذا في وجوده في مكتبتي؟! هل من بأسٍ على القاضي أن يُلِمَّ بالموسيقا؟

- آه! ربّما يُلِمُّ بها إلمامًا عابرًا كأن يسأل مغنِّيًا عن شيءٍ ذاتَ مَرّة، أمّا أن يعكُفَ على كتابٍ في صناعة الموسيقا ويُنفِقَ من وقتِه في تعلُّمِها، فهذا ما لا أفهمُه!

- يا ولدي، الموسيقا تُخرِجُنا من سأَم حياتِنا. أنت لا تدري مقدار ما يبعثُه فيَّ مجلسُ القضاء من سأَم!

- (الحسيني هازًّا رأسه في اصطناع الموافقة): أعلَم أعلم. والموسيقا رَحبةٌ ومجلسُ القضاء ضيّقٌ، سمعتُ مثلَ ذلك من صديقٍ اعتزلَ التجارةَ وتفرّغَ لدرس الموسيقا ثُمّ اتخذَ الغناءَ والضربَ بالعُود بابًا للرزق.

- (القاضي في لهجةٍ محايدة): بالعكس! الموسيقا ضيّقةٌ فوقَ ما تتصور! إنها تشبهُ برزخًا بين بحرَين، لكنَّ أحدَهما بحرٌ تزاحمَت فيه السفُن والمراكبُ حتى سَدَّت الأفُق، والآخَرَ بَحرٌ هو والسماءُ ماءٌ واحد!

     أعادَ (الحسيني) المخطوطين إلى مكانهما بين الكتُب وهو يختلسُ النظرَ إلى القاضي في ضيقٍ، ثُمّ عادَ إلى مكانِه صامتا.

*          *          *

محمد سالم عبادة

فازت الرواية بالمركز الثاني في مسابقة ربيع مفتاح للرواية المخطوطة عام 2018، وفاز السيناريو المبني عليها بثالثة مسابقة ممدوح الليثي للسيناريو السينمائي في افتتاح مهرجان الإسكندرية السينمائي في العام نفسِه. صدرَت عن دار ميتابوك للنشر والتوزيع برعاية اتحاد الكُتّاب في يوليو 2022

Monday, 23 January 2023

إيّاك نعبد (من المجموعة القصصية: ما يَحدث في هدوء)


 

     مرَّت ستُّ ليالٍ من الشهر الكريم. والليلة هي السابعة. شوارع (البساتين) المحتفيةُ بأكوام القُمامةِ طوالَ العام تحتفي بليالي رمضان بالمصابيح الكهربية منتظمةً في خطوطها بين شرفات المنازل، مُلقِيَةً نورًا يتجاوز محدوديةَ الموجَب والسالب على الشارع ومَن يمرُّون فيه، يتوسطها الفانوس العملاقُ في كل شارع. يذكرُ الكبارُ أنَّ الشوارع كانت تتبارى منذ خمسين عامًا في حجم وزينة وألوان الفانوس العملاق. لم يعد الأمر كذلك بالطبعِ، لكن العادةَ مازالت تتوارثُها الأجيال، ولا تكاد تمرُّ في شارعٍ لا يزدانُ بفانوسٍ عملاقٍ يُحَلِّقُ فوق رأسك.  أُضَحّي كلَّ عامٍ بختم القرآن في التراويح لأحققَ هدفًا آخر لا أظن كثيرين يشاركونني إياه. أحرصُ على صلاة العشاء والتراويح كلَّ ليلةٍ في مسجدٍ مختلفٍ من مساجد البساتين، وربما أصادف من الأئمة والقراء مَن لا ألقاهم طيلة العام إلا في رمضان، فيحملون إلى تلافيف مخي بين طيّات الوقف والمَدِّ والغُنَّةِ ذكرياتٍ من رمضاناتٍ فاتت.

     بين هؤلاء الشيخ (فريد). لم يكن شيخًا من جهة السن، فملامحه تنبئُ عن شابٍّ في منتصف ثلاثينياتِه، لكن من جهة الإمامة. فقد جرت العادةُ على تسمية من يتقدم من تلقاء نفسه للإمامة في الصلاة (شيخًا) بغضِّ النظر عن سنه، أمّا من يقدِّمُهُ الآخرون إذا رأوه بالصدفة فهو (عمّ فلان). كان الشيخ (فريد) حليقًا، وضّاء البسمة، نحيلاً متواضع الملبس الذي يتكون دائمًا من قميصٍ وبنطالٍ وربما كنزةٍ صوفيةٍ أثناء الشتاء إن صادف رمضان الشتاء. كان شَعره يميل إلى الشُّقرة، وعيناه عسليتان. وَثيقو العلاقة بكرة القدم الأوربية يعرفون جيدًا كَم يشبه (محمد شول) نجم (بايرن ميونيخ) بطل ألمانيا ذا الأصل التركي. كانت قراءة الشيخ (فريد) مضبوطةً بأحكام التجويد، ولم تكن خامةُ صوته عبقرية. عَهِدتُه صوتًا منهكًا بطبعه طوال الأعوام الماضية، وكما سبق أن أشرتُ، فإني لم أكن أراه إلا كل رمضان إن صليتُ في مسجد (العرب) أو (الذاكرين) أو (نور النبوة). كأنَّ متاعبَ العام كلِّهِ تحُلُّ عليه فتظهر كلَّ رمضان. لكنَّ حديثَهُ في جلسة الاستراحة بين الركعات الأربعة الأولى والآخِرَةِ من صلاة القيام كان حديثًا شائقًا دائمًا. كان يستطيع اجتذاب مسامع وقلوب وأفكار المصلين في بساطةٍ ودون صياح. وكنتُ أحبُّ في (محمد شول) حركته القياديةَ في خط وسط (بايرن ميونيخ) دون كثيرِ جلَبَة. وكنتُ أحبُّ الشيخ (فريد) قبل هذا العام، كما أحبُّ (محمد شول) بالضبط.

 الغريب في أمر الشيخ (فريد) هذا العامَ أني حين صليتُ التراويح خلفه في الليلة الثانية في مسجد (العرب)، فوجئتُ بأنَّ قراءته للفاتحة اعتراها تغيرٌ غريب. باعتباري طالبًا بالسنة النهائيةِ في كلية الطب، أعرف أن هذه القراءة تندرج تحت عَرَضٍ قد نسميه (الكلام المتعثر)، يحدث حين يكون هناك اختلالٌ بوظائف المُخَيخ الاتِّزانية. كان غريبًا أن يتقدم الشيخُ (فريد) للإمامة وهو يعرف من نفسِهِ هذا التغير. أليس في المصلين مثلاً من يستطيع قراءةَ الفاتحة بصورةٍ سليمة؟!  كان يمدُّ ما لا يُمَدُّ ويقصُرُ ما لا يُقصَرُ، وينطق حروفًا غير سويَّةٍ طوال الفاتحة. كنتُ مستاءً جدًّا. ما هذا يا شيخ (فـ..) !! لكن مهلاً! توقَّفَ الشيخ لنقرأ الفاتحة من بعده، ثم شرع في قراءة آياتٍ من سورة البقرة، وكان كما عهدته في السنوات الماضية سليمَ القراءة مبرَّءًا من كل نقص. ما هذا؟!

 تكرَّرَ الأمر في كل الركعات، وكان كلُّ متجاوِرَين ينظران إلى بعضهما بين كل ركعتين من التراويح في دهشةٍ ثم يتابعان الصلاةَ حين ترتفع تكبيرة الإحرام من فم الشيخ (فريد).

 لم أسمع استفسارًا من أيٍّ من المصلّين بعد انتهاء التراويح بشأن السبع المثاني إذ يتلوها الإمام. وفي الليلة الخامسة كنتُ أصلي العشاء في مسجد (الذاكرين)، ولمحتُ الشيخَ (فريد) بين المصلين في الصف الأول. نسيتُ أن أخبركم بأن هيئة الشيخ (فريد) لم تتغير كثيرا. مازال على قميصه وبنطاله ونحوله وشُقرَتِه، لكنَّ نورًا ما بعينيه وابتسامتِهِ – كنتُ أحسبُهُ انعكاسًا لمصابيح الموجَبِ والسالب – خفَتَ قليلاً عن ذي قبل. بعد أن صلَّينا العشاء خلف الإمام الأصليِّ للمسجد، تقدَّم الشيخُ (فريد) لِيَؤُمَّنا لصلاة التراويح. تقدَّم من تلقاء نفسه. وكان مثلَ ما كان في الليلة الثانية. لم أكن قد نسيتُ ما حدث منذ ثلاث ليالٍ، لكن كان لديَّ بارقةُ أملٍ في أن تكون حاله قد تحسنت وتعافى مما ألمَّ به. لكن الشيخ (فريد) قرأ كما قرأ منذ ثلاثٍ، يُعرِضُ هذا ويُعرضُ هذا، وهو ماضٍ في قراءته المتعثرة للفاتحة، ثم قراءته السليمة فيما تلاه من آيات (آلِ عِمران). بلغ العجب مني مبلغَه في تلك الليلة. لكني لم أسأل أحدًا خشيةَ أن أكونَ خوّاضًا في عِرضِ الرجلِ بما يكره.

 الليلة هي السابعة بتوقيت النور. خطوتُ فوق عتبة (الذاكرين) وانتظمتُ في الصفِّ بالفعل إذ كان الناسُ قد بدأوا صلاةَ العشاء خلف الإمام الأصلي. انتهت الصلاة وصلَّينا ركعتَي النفلِ فُرادَى، ثم وقفنا في صفوفنا من جديدٍ انتظارًا للتراويح. التفتَ الإمام خلفه فوجد الشيخَ (فريد) واقفًا مطأطئَ الرأس في الصف الأول. تراجع الإمام وأخذ ساعد الشيخ (فريد) ودفعه نحو مُصلَّى الإمام، ودفع آخرون الشيخَ (فريد) كذلك ممَّن يحيطون به في الصف الأول.

 كبَّر تكبيرة الإحرام. وقرأ الفاتحة كما قرأها في الليلتين الثانية والخامسة اللتَين صلَّيتُ فيهما خلفَه، ثم سكت فقرأْنا، ثم شرع في تلاوة سورة الأنعام، فقرأها كما كان يقرأ في الأعوام الفائتة، ثم فعل مثل ذلك في كل الركعات حتى ختمنا صلاة القيام.

 ثم قام الشيخُ (فريد) وأمسك (الميكروفون) وقال:

-       "السلام عليكم ورحمة الله. أيها الأحباب. هذه فاتحةُ الكتاب".

 ثم قرأ الفاتحة سليمةً كما قرأ البقرة وآل عمران والأنعام وغيرها مما لم أشهدهُ معه من المشاهد هذا العام، وكما كان يقرأ كلَّ الآيات في العام الماضي، ثم قال:

-       "لكني لا أستطيعُ أن أقرأها في الصلاة إلا كما فعَلْت. فسامحوني"!

 قام الأحباب وسلّموا على الشيخ (فريد) ومنهم من عانقَه، وانصرف كلٌّ إلى مُنصَرَفِه كما انصرف الشيخ (فريد) نفسه، ولم يبقَ في المسجد إلاّيَ وخادمُ المسجد. سلمتُ عليه فردّ بابتسامته المستسلمة، فسألتُه:

-       "هو إيه اللي حصل للشيخ فريد؟ أنا ظنيتُه مريض واللهِ لحد ما سمعنا منه الفاتحة دلوقتِ بعد الصلاة. مش فاهم يقصد إيه بإنه غير قادر على القراية في الصلاة إلا بالشكل دا. إيه اللي صابُه؟"

 قطَّب خادم المسجد جبينَه وأشار إليَّ بأصابعِ يُمناه الخمسةِ ممدودةً قائلاً:

-       "ما تخُوضْش يابني. عباد الله أسرار، واللهُ أعلم بحالُه. ما تخوضش".

 هززتُ رأسي مستسلمًا وسلمتُ على الرجل وخرجت.

 في طريق عودتي إلى البيت، كان (فريد) ماشيًا في الجهة المقابلة مُسرعَ الخطو كعادته، نحيلاً كدأبه، أشقرَ كما ألِفتُهُ. ألقيتُ عليه السلامَ فردَّهُ بأحسنَ منه. ورأيتُ عينيه. كانتا مختلفتين عن الأعوام الفائتة. خَفَتَ النور؟ كان خافتًا حين رأيته منذ قليلٍ في الصف الأول قبل أن يستقبل القِبلةَ إماما. أمّا الآنَ فقد غاب تماما.

.........................

محمد سالم عبادة

2011

فازت المجموعة بالمركز الثالث في المسابقة الأدبية المركزية لهيئة قصور الثقافة في موسم 2020/2021 ونُشِرَت ضمن سلسلة الفائزين في مارس 2022.