Monday 23 January 2023

إيّاك نعبد (من المجموعة القصصية: ما يَحدث في هدوء)


 

     مرَّت ستُّ ليالٍ من الشهر الكريم. والليلة هي السابعة. شوارع (البساتين) المحتفيةُ بأكوام القُمامةِ طوالَ العام تحتفي بليالي رمضان بالمصابيح الكهربية منتظمةً في خطوطها بين شرفات المنازل، مُلقِيَةً نورًا يتجاوز محدوديةَ الموجَب والسالب على الشارع ومَن يمرُّون فيه، يتوسطها الفانوس العملاقُ في كل شارع. يذكرُ الكبارُ أنَّ الشوارع كانت تتبارى منذ خمسين عامًا في حجم وزينة وألوان الفانوس العملاق. لم يعد الأمر كذلك بالطبعِ، لكن العادةَ مازالت تتوارثُها الأجيال، ولا تكاد تمرُّ في شارعٍ لا يزدانُ بفانوسٍ عملاقٍ يُحَلِّقُ فوق رأسك.  أُضَحّي كلَّ عامٍ بختم القرآن في التراويح لأحققَ هدفًا آخر لا أظن كثيرين يشاركونني إياه. أحرصُ على صلاة العشاء والتراويح كلَّ ليلةٍ في مسجدٍ مختلفٍ من مساجد البساتين، وربما أصادف من الأئمة والقراء مَن لا ألقاهم طيلة العام إلا في رمضان، فيحملون إلى تلافيف مخي بين طيّات الوقف والمَدِّ والغُنَّةِ ذكرياتٍ من رمضاناتٍ فاتت.

     بين هؤلاء الشيخ (فريد). لم يكن شيخًا من جهة السن، فملامحه تنبئُ عن شابٍّ في منتصف ثلاثينياتِه، لكن من جهة الإمامة. فقد جرت العادةُ على تسمية من يتقدم من تلقاء نفسه للإمامة في الصلاة (شيخًا) بغضِّ النظر عن سنه، أمّا من يقدِّمُهُ الآخرون إذا رأوه بالصدفة فهو (عمّ فلان). كان الشيخ (فريد) حليقًا، وضّاء البسمة، نحيلاً متواضع الملبس الذي يتكون دائمًا من قميصٍ وبنطالٍ وربما كنزةٍ صوفيةٍ أثناء الشتاء إن صادف رمضان الشتاء. كان شَعره يميل إلى الشُّقرة، وعيناه عسليتان. وَثيقو العلاقة بكرة القدم الأوربية يعرفون جيدًا كَم يشبه (محمد شول) نجم (بايرن ميونيخ) بطل ألمانيا ذا الأصل التركي. كانت قراءة الشيخ (فريد) مضبوطةً بأحكام التجويد، ولم تكن خامةُ صوته عبقرية. عَهِدتُه صوتًا منهكًا بطبعه طوال الأعوام الماضية، وكما سبق أن أشرتُ، فإني لم أكن أراه إلا كل رمضان إن صليتُ في مسجد (العرب) أو (الذاكرين) أو (نور النبوة). كأنَّ متاعبَ العام كلِّهِ تحُلُّ عليه فتظهر كلَّ رمضان. لكنَّ حديثَهُ في جلسة الاستراحة بين الركعات الأربعة الأولى والآخِرَةِ من صلاة القيام كان حديثًا شائقًا دائمًا. كان يستطيع اجتذاب مسامع وقلوب وأفكار المصلين في بساطةٍ ودون صياح. وكنتُ أحبُّ في (محمد شول) حركته القياديةَ في خط وسط (بايرن ميونيخ) دون كثيرِ جلَبَة. وكنتُ أحبُّ الشيخ (فريد) قبل هذا العام، كما أحبُّ (محمد شول) بالضبط.

 الغريب في أمر الشيخ (فريد) هذا العامَ أني حين صليتُ التراويح خلفه في الليلة الثانية في مسجد (العرب)، فوجئتُ بأنَّ قراءته للفاتحة اعتراها تغيرٌ غريب. باعتباري طالبًا بالسنة النهائيةِ في كلية الطب، أعرف أن هذه القراءة تندرج تحت عَرَضٍ قد نسميه (الكلام المتعثر)، يحدث حين يكون هناك اختلالٌ بوظائف المُخَيخ الاتِّزانية. كان غريبًا أن يتقدم الشيخُ (فريد) للإمامة وهو يعرف من نفسِهِ هذا التغير. أليس في المصلين مثلاً من يستطيع قراءةَ الفاتحة بصورةٍ سليمة؟!  كان يمدُّ ما لا يُمَدُّ ويقصُرُ ما لا يُقصَرُ، وينطق حروفًا غير سويَّةٍ طوال الفاتحة. كنتُ مستاءً جدًّا. ما هذا يا شيخ (فـ..) !! لكن مهلاً! توقَّفَ الشيخ لنقرأ الفاتحة من بعده، ثم شرع في قراءة آياتٍ من سورة البقرة، وكان كما عهدته في السنوات الماضية سليمَ القراءة مبرَّءًا من كل نقص. ما هذا؟!

 تكرَّرَ الأمر في كل الركعات، وكان كلُّ متجاوِرَين ينظران إلى بعضهما بين كل ركعتين من التراويح في دهشةٍ ثم يتابعان الصلاةَ حين ترتفع تكبيرة الإحرام من فم الشيخ (فريد).

 لم أسمع استفسارًا من أيٍّ من المصلّين بعد انتهاء التراويح بشأن السبع المثاني إذ يتلوها الإمام. وفي الليلة الخامسة كنتُ أصلي العشاء في مسجد (الذاكرين)، ولمحتُ الشيخَ (فريد) بين المصلين في الصف الأول. نسيتُ أن أخبركم بأن هيئة الشيخ (فريد) لم تتغير كثيرا. مازال على قميصه وبنطاله ونحوله وشُقرَتِه، لكنَّ نورًا ما بعينيه وابتسامتِهِ – كنتُ أحسبُهُ انعكاسًا لمصابيح الموجَبِ والسالب – خفَتَ قليلاً عن ذي قبل. بعد أن صلَّينا العشاء خلف الإمام الأصليِّ للمسجد، تقدَّم الشيخُ (فريد) لِيَؤُمَّنا لصلاة التراويح. تقدَّم من تلقاء نفسه. وكان مثلَ ما كان في الليلة الثانية. لم أكن قد نسيتُ ما حدث منذ ثلاث ليالٍ، لكن كان لديَّ بارقةُ أملٍ في أن تكون حاله قد تحسنت وتعافى مما ألمَّ به. لكن الشيخ (فريد) قرأ كما قرأ منذ ثلاثٍ، يُعرِضُ هذا ويُعرضُ هذا، وهو ماضٍ في قراءته المتعثرة للفاتحة، ثم قراءته السليمة فيما تلاه من آيات (آلِ عِمران). بلغ العجب مني مبلغَه في تلك الليلة. لكني لم أسأل أحدًا خشيةَ أن أكونَ خوّاضًا في عِرضِ الرجلِ بما يكره.

 الليلة هي السابعة بتوقيت النور. خطوتُ فوق عتبة (الذاكرين) وانتظمتُ في الصفِّ بالفعل إذ كان الناسُ قد بدأوا صلاةَ العشاء خلف الإمام الأصلي. انتهت الصلاة وصلَّينا ركعتَي النفلِ فُرادَى، ثم وقفنا في صفوفنا من جديدٍ انتظارًا للتراويح. التفتَ الإمام خلفه فوجد الشيخَ (فريد) واقفًا مطأطئَ الرأس في الصف الأول. تراجع الإمام وأخذ ساعد الشيخ (فريد) ودفعه نحو مُصلَّى الإمام، ودفع آخرون الشيخَ (فريد) كذلك ممَّن يحيطون به في الصف الأول.

 كبَّر تكبيرة الإحرام. وقرأ الفاتحة كما قرأها في الليلتين الثانية والخامسة اللتَين صلَّيتُ فيهما خلفَه، ثم سكت فقرأْنا، ثم شرع في تلاوة سورة الأنعام، فقرأها كما كان يقرأ في الأعوام الفائتة، ثم فعل مثل ذلك في كل الركعات حتى ختمنا صلاة القيام.

 ثم قام الشيخُ (فريد) وأمسك (الميكروفون) وقال:

-       "السلام عليكم ورحمة الله. أيها الأحباب. هذه فاتحةُ الكتاب".

 ثم قرأ الفاتحة سليمةً كما قرأ البقرة وآل عمران والأنعام وغيرها مما لم أشهدهُ معه من المشاهد هذا العام، وكما كان يقرأ كلَّ الآيات في العام الماضي، ثم قال:

-       "لكني لا أستطيعُ أن أقرأها في الصلاة إلا كما فعَلْت. فسامحوني"!

 قام الأحباب وسلّموا على الشيخ (فريد) ومنهم من عانقَه، وانصرف كلٌّ إلى مُنصَرَفِه كما انصرف الشيخ (فريد) نفسه، ولم يبقَ في المسجد إلاّيَ وخادمُ المسجد. سلمتُ عليه فردّ بابتسامته المستسلمة، فسألتُه:

-       "هو إيه اللي حصل للشيخ فريد؟ أنا ظنيتُه مريض واللهِ لحد ما سمعنا منه الفاتحة دلوقتِ بعد الصلاة. مش فاهم يقصد إيه بإنه غير قادر على القراية في الصلاة إلا بالشكل دا. إيه اللي صابُه؟"

 قطَّب خادم المسجد جبينَه وأشار إليَّ بأصابعِ يُمناه الخمسةِ ممدودةً قائلاً:

-       "ما تخُوضْش يابني. عباد الله أسرار، واللهُ أعلم بحالُه. ما تخوضش".

 هززتُ رأسي مستسلمًا وسلمتُ على الرجل وخرجت.

 في طريق عودتي إلى البيت، كان (فريد) ماشيًا في الجهة المقابلة مُسرعَ الخطو كعادته، نحيلاً كدأبه، أشقرَ كما ألِفتُهُ. ألقيتُ عليه السلامَ فردَّهُ بأحسنَ منه. ورأيتُ عينيه. كانتا مختلفتين عن الأعوام الفائتة. خَفَتَ النور؟ كان خافتًا حين رأيته منذ قليلٍ في الصف الأول قبل أن يستقبل القِبلةَ إماما. أمّا الآنَ فقد غاب تماما.

.........................

محمد سالم عبادة

2011

فازت المجموعة بالمركز الثالث في المسابقة الأدبية المركزية لهيئة قصور الثقافة في موسم 2020/2021 ونُشِرَت ضمن سلسلة الفائزين في مارس 2022.

No comments:

Post a Comment