Saturday 28 January 2023

من رواية (دليلة) - من الفصل الثاني (المكتبة)

 


     

سحبَت (دليلةُ) يدَها من يدِ المُحَنّيَةِ النوبيةِ باستعلاءِ السّادة .. لم تَبدُ أماراتُ دهشةٍ على وجه المحنّية، وإنّما - لدهشتي أنا – ظلّت ترسُمُ بالحِنّاءِ، ولكن على كفِّها اليُسرَى الّتي كانت تمسكُ بكفِّ (دليلة) .. امرأةٌ مخلصةٌ لما تفعلُه!

   أقتربُ ..

   يخترقُني عطرٌ لا أدري لمَن هُو؟ عطرٌ كأنّه خلاصةُ العالَم الّذي كان .. خلاصةُ كلِّ ما مضى من الزمانِ، منذُ الخليقةِ إلى لحظةٍ راهنة ..

   أقتربُ لأرَى ما ترسُمُهُ وأتوقّعُ أن يكونَ طاووسًا ذَكَرًا أيضًا، لكنّني أرى امرأةً شابّةً هيفاءَ القَدِّ، ترتدي فستانًا وطرحةً، ومن الطّرحةِ يتدلّى اليَشمَكُ الّذي نَحَّتهُ المرأةُ إلى أسفلِ ذَقَنِها، وقد مدّت يُمناها في استعلاءٍ غيرِ مُبال .. لكنّ الطرحةَ غيرُ مكتملةٍ وكأنّها قُدّت من دُبُرٍ قبلَ أن تُرسَم، واليشمكَ غيرُ مكتملٍ وكأنَّ الزمانَ أكلَ عليه وشرِب حتى قاربَ الاهتراء، والفستانَ ملتصقٌ بفخذَيها يصفُ تفاصيلَهما وكأنَّ ريحًا هبَّت في لحظةٍ سابقةٍ على الصورةِ دفعَت بعضَ قماشِهِ بين فخِذَيها ولصقته بهما  .. لا أفهم!

   أنظرُ في وجهِ المُحَنّيةِ النّوبيّة وقد انكبّت بكاملِ تركيزِها على الرّسم .. أتساءلُ: هل ستُخلدينَ إلى الماءِ اليومَ أو غدًا أيتُها العجوزُ السمراءُ، أم انَّ الفتاةَ ستبقى طويلاً على كفِّكِ؟ يُدهشُني أنّها تنظرُ أمامَها وكأنّها تراني، ثُمَّ تضحكُ تضحكُ في مرحٍ بالغٍ، فأُجفِل ..

   مشَت (دليلةُ) من مقعدِها إلى باب الحرملِك، ثُمّ منه إلى باب المكتبة .. مِشيتُها الُهوَينَى الّتي مشَتها (هُرَيرةُ) الأعشى .. هل من خبيرٍ بالأنسابِ يُخبرُني بشجرةِ عائلةِ أبيها؟ أفي جدّاتِها (هُريرةُ) المذكورةُ أم انَّ النساءَ تشابَهنَ علَينا؟ مشَت (دليلةُ) وكأنَّ أفراخَ اليَمامِ نقرَت بيضَها السّاكنَ المتراصَّ في الطريقِ مِن مقعدِ (دليلة) بالحرملِك إلى باب المكتبةِ، واكتسَت بالزّغّب وطارَت، مُخلِّفةً البَيضَ قِشرًا، لتمشيَ عليهِ (دليلةُ) هُوَيناها الّتي تحبُّها ..

   طرقتان على باب المكتبة ..

- ادخُلي يا ابنتي!

   أتاها صوتُ أبيها عَبرَ القَروِ المَطلِيِّ بالأخضرِ الزرعِيِّ في باب المكتبة .. دلَفَت إلى الجالِسَين، والتقت عيناها بعينَي العريس .. لم يَفُتهُ شبَحُ ابتسامتِها قبلَ أن تُطرِق ..

- اجلسي يا ابنتي بجوارِ عريسِك ..

   جلَسَت ..

- دليلة .. عروسي المَصُون .. أما وقد ودّعتِ اليومَ – كما قال الفاضلُ أبوكِ - سنواتِ اللعِبِ إلى سنواتِ الجِدِّ، فإن أولَ ما أحبُّ أن تبتدئي به الحياةَ معي .. هذه!

   قالَها وهو يُبرِزُ من جيبِهِ قلادةً ذهبيةً ثقيلةً، مُحلاةً في منتصفِها بلؤلؤةٍ بيضاويّة.

   نقّلَت (دليلةُ) عينيها بين القلادةِ والعريسِ وأبيها في تردُّدٍ بادٍ، فبادرَها أبوها:

- خُذيها من عريسِكِ يا (دليلة) ..

   تناولَتها .. ثقيلةٌ في يدِها .. تنظرُ إلى القاضي (شهابِ الدّين) في استنكارٍ معاتِب:

- إنّها ثقيلةٌ يا أبي!

   يضحكُ القاضي، ويضحكُ العريس، ويتناولُها من يدِها:

- دَعيني أحيطُ جِيدَكِ بما يستحقُّه.

   تبتعدُ (دليلةُ) خطوةً إلى الوراءِ، وقد أمسكَت بالقلادة من يد العريس:

- لا .. سألبسُها .. أعني .. نعم سألبسُها ولكن ليسَ الآن ..

   يواصلُ أبوها ضحكه في هدوءٍ بينما ترتسمُ الحيرةُ على العريس.

- دعها يا ولَدي كما تشاء .. مازالت الحياةُ أمامكما طويلة ..

   تكوّرَت القلادةُ في كفِّ (دليلة) التي استدارَت وخرَجَت، كما دخَلَت. التفت العريس إلى أرفُف المكتبة المكتظّة بالمخطوطات الصفراء. تابعه القاضي بعينيه. قام (الحسيني) ومشى بمحاذاة أركان المكتبة الأربعة ثُمّ توقّف أمام أحد الأرفُف وسحَب مخطوطين متلاصِقَين وأخذ يقلّب أوراقهما.

- الحسيني: صفراء حَقًّا!

- القاضي (مبتسمًا): فاقعٌ لونُها، تَسُرُّ الناظرين!

     ابتسم (الحسيني) في صمتٍ ثُمّ أردف وهو لا يرفع عينيه عن عنوان كتابٍ مخطوطٍ بين يديه:

- (صناعةُ الموسيقا)؟ لماذا في مكتبتكَ مثلُ هذا الكتاب يا عَمّاه؟

- وماذا في وجوده في مكتبتي؟! هل من بأسٍ على القاضي أن يُلِمَّ بالموسيقا؟

- آه! ربّما يُلِمُّ بها إلمامًا عابرًا كأن يسأل مغنِّيًا عن شيءٍ ذاتَ مَرّة، أمّا أن يعكُفَ على كتابٍ في صناعة الموسيقا ويُنفِقَ من وقتِه في تعلُّمِها، فهذا ما لا أفهمُه!

- يا ولدي، الموسيقا تُخرِجُنا من سأَم حياتِنا. أنت لا تدري مقدار ما يبعثُه فيَّ مجلسُ القضاء من سأَم!

- (الحسيني هازًّا رأسه في اصطناع الموافقة): أعلَم أعلم. والموسيقا رَحبةٌ ومجلسُ القضاء ضيّقٌ، سمعتُ مثلَ ذلك من صديقٍ اعتزلَ التجارةَ وتفرّغَ لدرس الموسيقا ثُمّ اتخذَ الغناءَ والضربَ بالعُود بابًا للرزق.

- (القاضي في لهجةٍ محايدة): بالعكس! الموسيقا ضيّقةٌ فوقَ ما تتصور! إنها تشبهُ برزخًا بين بحرَين، لكنَّ أحدَهما بحرٌ تزاحمَت فيه السفُن والمراكبُ حتى سَدَّت الأفُق، والآخَرَ بَحرٌ هو والسماءُ ماءٌ واحد!

     أعادَ (الحسيني) المخطوطين إلى مكانهما بين الكتُب وهو يختلسُ النظرَ إلى القاضي في ضيقٍ، ثُمّ عادَ إلى مكانِه صامتا.

*          *          *

محمد سالم عبادة

فازت الرواية بالمركز الثاني في مسابقة ربيع مفتاح للرواية المخطوطة عام 2018، وفاز السيناريو المبني عليها بثالثة مسابقة ممدوح الليثي للسيناريو السينمائي في افتتاح مهرجان الإسكندرية السينمائي في العام نفسِه. صدرَت عن دار ميتابوك للنشر والتوزيع برعاية اتحاد الكُتّاب في يوليو 2022

No comments:

Post a Comment