Thursday 12 April 2012

قراءةٌ في مجموعة (الرجال –y) لكريم الصياد



  لا أدري كيف أبدأ!
المشكلةُ أنّ مداخلي للتعرُّضِ لمقاربةِ عملٍ أدبيٍّ ما كانت غالِبًا تحومُ حولَ الشذَراتِ المعرفيةِ المنتشرةِ في هذا العمل .. أعني إحالاتِهِ إلى غيرِهِ بما يفتحُ أفُقَ النصِّ على ما سبقه وما عايشَهُ من نصوصٍ أدبيةٍ وغيرِ أدبية .. وهذه مشكلةٌ حقيقيةٌ لأن مجموعة (الرجال-y) تتكئُ على زخمٍ معرفيٍّ مهولٍ وإحالاتٍ لا حصرَ لها .. من أين أبدأ؟ رُبَّما أسهمَ في هذه الحيرةِ أنني لم أقرأ المجموعةَ مرةً واحدةً أبدا! ورُبَّما أسهمَ فيها كذلك صداقتي لـ(كريم الصياد) ومَسّي لمنطلقاتِهِ الفكرية وتأثُّراتِه .. كنتُ ألتمسُ من كلِّ هذا أن يعينَني على تقديم قراءةٍ ممنهجةٍ ، لكن يبدو أنَّ الرياحَ تأتي بما لا تشتهي السفنُ بالفعل!
  دعنا نبدأ من الواجهة .. العنوان .. فكّرتُ أن أرجئَ التعرُّضَ للواجهة إلى النهايةِ لأستكشفَ منطقها من داخل العمل ، لكنَّني انزلقتُ إلى حيرتي السابقِ ذِكرُها ..
.  .  .  .  .
 * ما الرِّجالُ Y؟! :

  تُحيلُنا الفقرةُ المطبوعةُ على الغلافِ الخلفيِّ للمجموعةِ ، والمقتبسةُ من القصةِ الأخيرةِ التي تحملُ الاسمَ ذاتَهُ ، تُحيلُنا إلى فيلم (X-men) .. في الفيلم ، تنتابُ الطفراتُ الشريطَ الوراثيَّ الإنسانيَّ لتفرزَ رجالاً خارقين ، بشكلٍ غير معقولٍ وغير علميٍّ كما تقولُ الفقرة .. بينما في القصةِ التي بين أيدينا ، يتميزُ غزوُ الطفراتِ بالعشوائيةٍ المطلقة ، فتفرزُ رجالاً ذئابًا ورجالاً حِملانًا ونساءًا فراشاتٍ ، إلى آخر الاحتمالاتِ اللانهائية من المسوخِ التي – بحسب كلام الفقرة – تشيرُ إلى "حالةٍ من (السَّخْطِ) البيولوجيِّ العامّ."
      X .. ذلك الحرفُ اللغز .. يستخدمه الأنجلوساكسون للدَّلالةِ على الافتقارِ إلى تعريف ، كما في المعادلاتِ الرِّياضية ذات المجاهيل ، حيثُ الرمزُ الذي يطلَقُ على المجهولِ الأولِ دائمًا هو X .. ويستخدمونَهُ للإشارةِ إلى المحورِ الأفقيِّ في الرسومِ البيانيةِ ، فهو معادلُهُم للمحورِ (السِّينيِّ) في اللسانِ العربي .. وللدَّلالة على التَّميُّزِ وخرقِ العادة ، كما في X-men ، وكما في تصنيفِ الأفلام X-rated (الأفلام التي تعرض لقطاتٍ جنسيةً صريحة) .. وهو أخيرًا – وليسَ آخِرًا – الاسمُ الذي ارتضاهُ علماءُ الوراثةِ لأحدِ الصِّبغِيَّين الجنسيين ؛ XY .. وهو الصِّبغِيُّ (الكروموسوم) الذي لا يمكن أن تقومَ حياةٌ بشريةٌ بدونِه .. فهو موجودٌ في الذكر والأنثى ، لكن مع وجود Y في الذكَر ، ووجود X آخَر في الأنثى ..
  وبالرُّجوعِ إلى كلماتِ القصة الأخيرةِ المفتاحيةِ في المجموعة ، فإنَّ الرَّاويّ البطلَ العالِمَ يعتنقُ نظريةَ (إمپيذوقليس) عن العَود الأبدي .. العالَمُ يتأرجحُ أبدًا بين حالتَي المجالِ والإعصار ؛ بين السيادةِ التامةِ للتجاذبِ الطبيعيِّ بين الموجوداتِ ، والسيطرةِ الكاملةِ للتنافُرِ بين هذه الموجودات .. وكلا الحالَتين النقيتين لا تسمحُ بوجود الحياة .. ففي حالةِ الفيلم X-men ، فإنَّ النظريةَ تفترضُ وصولَ العالمِ لحالةٍ وسطى من الاتِّزانِ بين النقيضين ، نتجَ عنها ظهورُ الرجالِ الخارقين ذوي (الحياةِ) الكاملة .. أمّا في الرجال-y ، فالعالمُ بسبيلِهِ إلى الوصولِ إلى قطبِ المجالِ (سيادة التجاذب التامة) ، ولذا تظهرُ المسوخُ المشارُ إليها آنفًا (الرجل الثعبان والرجلُ العنكبوت والرجلُ القنفذ) ، فكلٌّ منها كان في المرحلةِ السابقةِ مباشرةً كائنين متمايزين ، اندمَجا بفعل التجاذبِ الحتمي في كيانٍ واحد ..
  في (الرجال-y) لا حياةَ هنالك .. (الرجالُ Y ) لا تنطوي أشرطتُهم الوراثيةُ على الصبغيِّ X واهبِ الحياة .. إنهم Y مجرَّدة .. مجردُ مسوخٍ لا حياةَ لها .. وهم بعكس الرجال X ، يمثلونَ جنوحًا إلى القبح .. (سَخْطٌ) بيولوجيٌّ حقيقيّ .. بينما تُعبَدُ الأنثى صاحبةُ الحياةِ الكاملة XX ، ويقتربُ منها الرجالُ X ، يتمرّغُ في وحلِ الطبيعةِ الرجالُ Y .. وحالةُ (السَّخْط) هذه هي حالةٌ من (السُّخطِ) كذلك بضَمِّ السين .. كراهية .. تنافرٌ مسيطرٌ أو تجاذبٌ قاتل .. ويفسِّرُ هذا أن نمضيَ مع (إمپيذوقليس) في نظريته التي تجعلُ من الحب والكراهية مرادفين للتجاذب والتنافر يحركان العالَمَ بين قطبَي المجالِ والإعصار ..
  هكذا تتضِحُ أرجوحةُ الكلماتِ Word Play/ Pun التي يعتليها عنوانُ المجموعةِ الفريد ..
  لا يمكننا – بصددِ الحديثِ عن العنوانِ – إغفالُ النبرةِ المتعاليةِ التي يعتنقُها .. مجرَّدُ الإصرارِ على تسميةِ القصةِ والمجموعةِ كلِّها باسمٍ يحتفي بحرفٍ إنجليزيٍّ يُكَرِّسُ رؤيةً متعاليةً للعالَم ، خاصةً أنّ لغة الكتابةِ عربيةٌ كما هو واضح! الإنجليزيةُ لغةُ العالَم ، ولغةُ من لا لغةَ له ، كما يقولُ (كريم الصّيّاد) نفسُهُ على لسانِ المستشرقِ السويديِّ/الشيطان في روايتهِ الوَمضيَّةِ (مقشَعِرّات) التي يُفترَضُ صدورُها قريبًا ضمنَ كتابه (صِدام الحفريات).
  ولهذا فتبنّي حرفِها الشيطانيِّ Y يمثلُ -بشكلٍ ما- نقطةً متعاليةً على الظّرفِ الحاليِّ للحياةِ بكلِّ ما يعنيهِ هذا من محليةٍ ووقتية .. لماذا Y حرفٌ شيطانيّ؟ لما ذكرناهُ آنفًا من التضادّ القائم بينه وبين X في الوعي الجمعيِّ ، الرياضيِّ وغيرِه ، ولسببٍ آخر .. إنه المعادلُ الصَّوتِيُّ للسؤالِ الشيطانيِّ الذي تدورُ عليهِ المعرفةُ بأسرها: Why?
لماذا؟!
  هكذا يشيرُ (كريم) إلى الهَمِّ الإپِستِمُولوجيِّ الذي يُؤرِّقُهُ وهو واقفٌ خلفَ مجموعته القصصية .. نعم ، أرى الكون ذاهبًا آيِبًا بين الإعصارِ والمجالِ بلا بدايةٍ ولا نهاية .. أرجوحةٌ ترتكزُ على محورٍ واحدٍ هلاميٍّ شيطانيٍّ اسمُهُ التغيُّرُ .. فلماذا؟؟ لماذا كلُّ هذا؟؟ السؤالُ باكٍ ، وقاسٍ ، وباردٌ إلى درجةٍ لا تحتملُها العينُ ، ودموعُهُ ليستَ شفافةً كدموعِ الأسئلةِ المشغولةِ بقصص الحبِّ ، وليست دمويةً قانيةً كدموعِ الأسئلةِ المشغولةِ بهمومِ الوطن ، لكنَّها سوداءُ قاتمةٌ ، لأنَّها ... دموعٌ ملعونة ..
 
  ختامُ قولِنا على العنوانِ ، ما علاقةُ قصص المجموعةِ به؟ أعني لماذا تُصَدَّرُ به المجموعةُ دون غيره من عناوين القصص الخمسَ عشرةَ المحتواةِ فيها؟
  تحتفي القصصُ كلُّها بالمسخ (السَّخط) على حد تعبير (كريم) في الفقرةِ المذكورةِ أولا .. ففي (الترسيب) يتحولُ المريضُ بين يدَي طبيبِهِ إلى (بسكويت) هشِّ يأكلُهُ النمل ، وفي (روتيلاّ ديورا) تتحولُ الأمُّ إلى حشرةٍ أو يحدثُ العكسُ ، وفي (علاء الدين) يتحوَّلُ الهيكلُ العظميُّ لطالب طبٍّ مات بالسرطانِ إلى طالبِ طبٍّ يدرسُ عليهِ التشريحَ (أو العكس) ، و في (تجربة د.فانٍ) يتحولُ الجعرانُ إلى قلبٍ والقلبُ إلى وحشٍ مخيفٍ والمُخُّ (الرُّوحُ) إلى كائنٍ مستقلٍّ بعيدًا عن جسد صاحبه .. وهكذا وهكذا إلى آخر قصص المجموعة .. ولذا كان العنوانُ الذي يُكَرِّسُ فكرةَ المسخ في صراحةٍ هو الأنسبَ لعنونةِ هذا الكتاب ..
.  .  .  .  .
  * التَّشَبُّع / التَّشَبُّح ، ولا جدوى المعرفة :

  في رأيي أنَّ هذا واحدٌ من أهمِّ المحاورِ التي يدور عليها القَصُّ في هذه المجموعة .. ولأبدأ بـ(لا جدوى المعرفة)..
  في مقابل السؤال المعرفيِّ الذي يتساءلُ عن الغاية ، والذي قلنا أنَّ العنوانَ يتّحدُ به
Why?
يوجدُ تراكمٌ معرفيٌّ جزئيٌّ في كلِّ قصة .. تبدأ القصةُ المفردةُ بمجموعةٍ من الملاحظاتِ تثيرُ لغزًا ما ، وتتجمَّعُ الخيوطُ في يد البطل /الرّاوي رويدًا رويدًا، وقرب النهايةِ يكتملُ حلُّ اللغز .. لكنَّ النهايةَ لا تقبعُ أبدًا عند حلِّ اللغز .. بل تتجاوزُهُ إلى وقوع الكارثة ..! فالكارثةُ حتميةٌ في حكاياتِ (كريم) ، ولا يُغني حذرٌ من قدَر! دائمًا يُدركُ البطلُ / الراوي الآليةَ التي من خلالِها تتشكلُ الكارثةُ ، لكنَّهُ دائمًا أيضًا يقفُ عاجزًا إزاءَ تمام حدوثِها .. فالمعرفةُ وازديادُ المعرفةِ وازديادُ ازديادِها تبدو القيمةَ الإيجابيةَ الوحيدةَ في عالم (كريم) القصصيّ هنا (متعةٌ مستقلةٌ عن النفع) ، لأنها في النهايةِ لا تُسمنُ ولا تُغني من جوعٍ ، بل يقفُ هو مكتوفَ اليدينِ أمام النهاية المفزعة .. هذا ما يحدثُ مثلاً في (علاء الدين) حيثُ يكتشفُ طبيعةَ الهيكلِ العظميِّ الملقى أمامَه ، لكنَّهُ يُصرِّحُ لنفسِهِ ولنا في يأسٍ مُقَدَّس:
"من قالَ إنني سأنجو لمجرَّدِ أنني أعرف؟!"
وهو عينُ ما يحدثُ في (تشرنُبروف) حيث يعرفُ البطلُ الرّاوي المنقسمُ على ذاتِهِ (والفُصامِيُّ طبقًا لإشاراتِ الصفحةِ الأخيرةِ من القصة، حيث يبدو أنَّ هلاوسَهُ تتجسدُ أمامَهُ وتذوبُ شخصيتُهُ في شخصيةِ الجسيم تحت الذّرّيّ الذي اكتشفه) ، أقولُ إنه يعرفُ ما سيحدثُ للبشريةِ جَرّاءَ هذا الاكتشاف ، وهو كارثةٌ محتومةٌ بدأت مبشراتُها بحادث (المفاعل النووي) في تشرنوبل .. لكنَّهُ لا يملكُ فكاكًا من هذا المصير .. بل لم يبقَ أمامَهُ سوى الاستسلامِ للاسكيزوفرينيا ..
  ولأنَّ المعرفةَ تبقى مِن بعدُ قيمةً وحيدةً لأنّها المعادلُ الموضوعيُّ الوحيدُ المتبقّي للمتعة ، رُبَّما لا يروقُ هذا القَصُّ الثائرُ مجتمَعًا موغلاً في التمسُّكِ بأهدابِ مقولاتِ السابقين وأفعالِهم (فالنَّهَمُ المعرفيُّ ثورةٌ لا تهدأ) .. إنها الورطةُ الكبرى ، متمثلةً في أنَّ (كريم) يذهبُ بالفنِّ في تصورِهِ المثاليِّ (قيمةٌ مطلقةٌ تحيلُ إلى ذاتِها ولا ترجو التزلُّفَ إلى الأخلاقِ أو ما سواها من دوائر الممارسة الإنسانية) إلى أبعدِ مدى .. ولهذا فنُّهُ اغترابيٌّ أصيلٌ عبقريّ ..
المهم ..
  نعودُ إلى اصطلاحنا (التشبُّع / التشبُّح) .. رُبَّما يذكرُ بعضُنا المسرحيةَ العظيمةَ (الأشباح) لهنريك إبسن .. بختامِها يدركُ البطلُ أنَّهُ مجرَّدُ شبحٍ لأبيه (والمعنى مجازيٌّ) من منطلَقِ أنه يكرر أخطاءَهُ طيلةَ الوقتِ ، بل ويتحمَّلُ نتائجَ ممارساتِهِ فكأنَّهُ امتدادٌ غيرُ فاعلٍ له .. يُدرِكُ أنه غيرُ قادرٍ على الفعل .. وهنا مبعثُ الرعبِ الوجوديِّ الذي يجعلُنا نقشَعِرُّ في نهاية تلك المسرحية .. في قصص المجموعة التي بين أيدينا ، يحدثُ مثلُ ذلك .. لا يتجسَّدُ الشبحُ إلاّ مع تمام المعرفة .. فالبطلُ في (روتيلاّ ديورا) لا يُدرِكُهُ الرعبُ الوجوديُّ الكاملُ ولا يدركُ موقفَهُ الشبحيَّ إلا حين (يتشبَّعُ) بالمعرفةِ بسلوك الحشرة الحمراء الجافية التي تُظهِرُ سلوكًا عدائيًّا تجاهَ أولادِها .. والبطلُ في (علاء الدين) لا يدركُ أنَّه (مثلَ بطلِ أشباح إبسن) يكرر حياةَ صاحب الهيكلِ الجاثمِ أمامَهُ إلا مع تشبُّعِهِ بمعرفة (علاء الدين) وسيرة حياتِه .. وهكذا .. وكما يتبيّنُ من هذه الفقرةِ من مقاربتنا ، فالأمران متشابكان للغاية : التشبُّعُ بالعرفة يؤدي إلى تشبُّحٍ حقيقيٍّ ، عندَهُ يدرِكُ البطلُ الشبحُ لا جدوى المعرفة ..
.  .  .  .  .
  * الذاتُ مركزُ العالَم ، ونسويةُ الثورة :

  بين أيدينا خمسَ عشرةَ قصةً ، كلُّها محكيةٌ بطريقة الشخصِ الأول : الرّاوي / البطل .. وهذا يعكسُ رؤيةً ذاتيةً للعالَمِ تستحضِرُ (فِشْتَه Fichte) طيلةَ الوقت .. فلأنَّ موضوعَات الحكاياتِ متعاليةٌ على اللحظة والمكانِ ورُبَّما الظرف التاريخيّ ، كما أنّها متعاليةٌ على السياقِ العامّ للأدب في هذه البقعةِ من العالَم ، بل وهي متعاليةٌ على السياقِ العامّ للخيالِ العلميِّ بما هو ارتماءٌ في حضن أحد القطبَين للتصور عن المستقبل : يوتوپيا أو ديستوپيا ، أقولُ: لكلِّ هذا ، كانت الرؤيةُ الشخصيةُ مناسبةً كمرجعٍ للحَكي .. إنها مثاليةٌ ذاتيةٌ ، لا تُبَشِّرُ بشيءٍ ، لكنَّها ترصُدُ حدوثَ الكارثةِ ريثَما تخلُقُها ..
  لكن لنا ثلاثٌ وقفاتٍ عند حديثِنا هذا :
- الأولى عند قصة (الشبكية) .. وأعُدُّها النموذجَ الأقصى للاعتدادِ بهذه الذاتيةِ وهَدمِها في ذاتِ الآن .. الدكتور (هوركهايمر) الألمانِيُّ الذي يلتقي البطلَ في مصحةٍ نفسيةٍ بـ(لندن) يقولُ لبطلِنا: "لكنَّ شبكيَّتَك تملكُ هذه الخاصيةَ الفريدةَ على التخليقِ المادّيّ." إنَّ البطلَ يرى كائناتٍ غريبةً ما أنزلَ اللهُ بها من سلطانٍ ويحكي للناسِ عن هذا ، فيُكَذبونه ويُودَعُ هذه المِصَحَّة ، ثم يلتقي به (هوركهايمر) طبيبُ العيون بالصدفة ، ويأخذ عينةً من نسيجِ شبكيتِهِ ، ويختفي تمامًا بما يُنذِرُ بعبثيةٍ الأمرِ برُمَّتِه ، ثم يعاودُ الظهورَ ويأخذ البطلَ من يده ليُرِيَهُ الكائناتِ التي خلَّقتها شبكيتُهُ وهي تمرحُ كبيرةً في الحجرةِ المقابلةِ ، بعد أن استنسخ خلايا تلك الشبكية الملعونة وفردَها على الحائط !!
  لكنَّ هذا الخَلقَ الخاصَّ يثبتُ لنا في نهاية القصةِ أنَّهُ قادرٌ على جلب الكارثة .. فشبكيةُ البطلِ تختزنُ دورَ شطرنجٍ حاميَ الوطيسِ كان قد لعبه مع أحد الممرِّضين في المصحّة ، والطابياتُ تكتسحُ لندن ، ورأسُ الملك الصّليبيُّ يبدو وسط الغبار ، وهذه هي (المرحلةُ قبل الأخيرة) كما يقول البطل لطبيبه ، قبل أن يأتيَ الله!
  لماذا (لندن) تحديدًا؟!
  ما من إجابةٍ قاطعةٍ بالتأكيد .. لكن .. هل لأنّها ذلك المكانُ الذي مزَّقَهُ صراعُ اللاهوتيين الكاثوليك والپروتستانت يومًا ما ، وسالت الدماءُ فيهِ أنهارًا ، قبلَ أن يزهدَ اللهَ ويُفاخِرَ العالَمَ بأعلى كثافةٍ لـ(اللاإلهيين)، وبينهم مُبَشِّرُو (اللاإلهيةِ) الأشهر ، مثل (ريتشارد دوكنز) و(ستيفن هوكنج)؟
  إذا صدقَ هذا الاحتمالُ ، فإنَّ تجلِّيًا – هو الأعمقُ – لمفهوم (التشبُّع / التّشبُّح) الذي طرحناهُ قبل قليلٍ يتبدّى هنا .. إنَّهُ التشبُّعُ بالقدرة على الخَلق ، حتى يشعر الإنسانُ في النهايةِ بتشبُحِهِ أمامَ قدرةِ الإله ، كما لو كانَ هذا المريضُ اللامريضُ الراوي البطلُ قد تحوَّلَ بتوسُّطِ العلمِ إلى إلهٍ مُؤَقَّتٍ يصدقُ عليه قولُ (پول فاليري):
"في نهاية العالم ، يقولُ اللهُ لنفسه : لقد كان حُلمًا طويلا". وهو تَجَلٍّ يتجاوَبُ والآيةَ القرآنيةَ :
  "حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يتفكَّرُونَ." الآية 24 من سورة (يونُس).

- الوَقفةُ الثانيةُ مع قصة (تشرنُبروف): حين يحكي للرَاوي العالِمُ غيرُ المُعيَّنِ (الذي يشارُ في النهايةِ إلى أنه تشرنوبروف نفسُهُ) عن قصة الاكتشافِ الكارثيِّ ، فيقول:
"لقد اكتشف جسيمًا جديدًا بهذه البساطة، لكنه لاحظَ ما عليهِ من مسلكٍ غريبٍ يختلفُ كلَّ الاختلافِ عن بقيةِ الجسيماتِ تحت الذَّرِّيَّة، كان أكثرَ عشوائيةً في حركته ، بل ويَثبُتُ في مكانِهِ إلى درجةٍ يمكن معهارصدُهُ، ثم يتحركُ بسرعاتٍ متفاوتةٍ ، كان لا يخضعُ لأيِّ قانونٍ فيزيائيٍّ معروفٍ ، ولا غير معروفٍ ، ولا فيزيائي."
  بإزاءِ هذه المثاليةِ الذاتيةِ التي تنبني وتنهدمُ كلَّ حينٍ عبر صفحاتِ المجموعةِ ، يبدو هذا الكشفُ العلميُّ الخياليُّ وعدًا بيقينٍ يبحثُ عنه الكاتب .. من درسَ منّا الفيزياءَ يعرفُ مبدأَ عدمِ التأكُّدِ لـ(هايزنبرغ) ، والذي ينصُّ على استحالةِ الجَزمِ بموقعِ وكتلة ومقدار شحنة أي جسيمٍ على الإطلاقِ لأنَّ الآلياتِ التي يستخدمُها الرّاصِدُ تؤثِّرُ قطعًا على هذه المقادير .. بعدَ هذه الفقرةِ نعرفُ أن (تشرنوبروف) أحالَ البحثَ إلى قسم (المايكروبيولوجي) باعتبارِ أننا نواجهُ كائنًا حيًّا كامنًا داخل الذّرّة .. ثم يشيرُ إليه (تشرنوبروف) في نهاية القصة بعد أن تحرر من عِقالِ الذَّرَّةِ بصفتِهِ إلهًا وثنيًّا متوحشا .. نحنُ أمامَ كاتبٍ يحاولُ جاهدًا الإمستكَ بيقينٍ ما ، وهو على وعيٍ دائمٍ باستحالةِ هذا ، لكنَّهُ يشتهي لمسَ هذا اليقينِ ، ولو أدّى به إلى كارثة .. الكارثةُ تبدو محتومةً مع الإيغالِ في الذاتيةِ واستحالةِ اليقينِ ، فلِمَ لا نستقبلُها بعد يقين؟؟! رُبَّما يكونُ اليقينُ تتويجًا للذة المعرفةِ في النهاية!

-الوقفةُ الثالثةُ مع قصة (الشرنقة) .. لا يتخلّى كريم عن الرّاوي البطل هنا ، لكنَّهُ يجعلُهُ راويةً بطلة .. ومن المُلاحَظ أنَّ هذه هي القصةُ الوحيدةُ التي لا تنتهي بكارثةٍ بين قصص المجموعة ، بل تنتهي بنصرٍ ثَورِيّ ..
  إنّ (شهرزاد) الرَاويةَ البطلةَ عُضوَ الخلية الشيوعية السرية ، متزوجةٌ من (يسري باشا أبو الفتوح) رأسماليِّ مصنع النسيج ، وتخونُهُ وتتواطأُ عليه مع الرفاقِ ، فتضع صناديقَ ديدانِ القَزِّ في غرفةِ نومِهِ وتغيبُ عن الغرفة أسبوعًا ريثَما تنسجُ الديدانُ شرنقةً حولَ الرأسماليِّ المَقيتِ وتُخفيهِ تمامًا عن الوجود !!
  وبين أحاديثِ الرفاقِ نميزُ الكلامَ عن خطرِ (الإخوان) وانقلاب (المنشيفيك) ، كما نلمحُ نبوءَةَ (شهرزاد) بسقوطِ الألقاب .. ألا يُذَكِّرُنا هذا بمصر صبيحةَ انقلابِ (23 يوليو)؟!
 رُبَّما هو سيناريو بديلٌ عن الانقلابِ العسكريِّ ، تحدثُ فيه ثورةٌ شيوعيةٌ حقيقيةٌ تُطيحُ بالرأسماليةِ العتيدةِ وتُرسي ماركسيةً جديدة .. وهو سيناريو مستقبليٌّ كذلك باعتبارِ أنَّهُ ما مِن ألقابٍ سقطت بالفعل منذ ستين عاما! إنّها القِصَّةُ الوحيدةُ التي تظهرُ فيها الأيديولوجيةُ السياسيةُ واضحة .. ومِن خلالِها يقدِمُ (هيثم) أحدُ أفرادِ الخليةِ الشيوعيةِ نقدًا حادًّا للماركسيةِ اللينينيةِ السوفييتيةِ التي أوغلَت في جِذريَّتِها وسلفيَّتِها حتى سفطَت من تلقاء ذاتِها (وهو ما يدعَمُ السيناريو المستقبليَّ وليسَ سيناريو صبيحة 23 يوليو) ..
  هل هذه نسويةٌ يتبنّاها (كريم)؟ .. صحيحٌ أنَّ البطلةَ تقفُ في النهايةِ مكتوفةَ اليدينِ أمامَ الشرنقةِ العالمية التي ينسجُها عمّالُ النسيج / الديدانُ للعالَم ، لكنَّ نصرًا ما وربيعًا محتملاً يبدوان في الأفق ، ولا ننسى أنَّ آخِرَ جملةٍ في القصة : "ومن حولِهِ وفوقَ رءوسِ العُمالِ حلّقَت أسرابٌ هائلةٌ من فَراشاتٍ عملاقةٍ ذاتِ ألوانٍ زاهيةٍ ، جميلةٍ جدّا." .. البطلةُ الأنثى كانت الوحيدةَ بين أبطالِ المجموعة القادرةَ على الفعل ، ومن ثَمَّ على التغيير ، رغم ارتباكِها المؤقَّتِ قربَ النهاية .. يبدو أنَّ الأنثى ليستَ جمالاً مطلقًا فَحسبُ كما يفترض عنوانُ المجموعة ، لكنَّها كذلك ثورةٌ كامنةٌ محتملَةٌ دائما ..
.  .  .  .  .
* دائريَّةُ الزَّمن:
  وهو محورٌ هامٌّ للقَصِّ في بعض قصص المجموعة .. ونعني به تبنّي ذلك التصوُّر أنَّ الزمنَ لا يمثلُهُ خطٌّ مستقيمٌ ، وإنّما دائرةٌ مغلقةٌ تتصلُ لحظاتُها فلا نعرفُ لها بدايةً من نهاية .. أو هو كما يُنسَبُ القولُ لابنِ عربيٍّ : "مكانٌ سائلٌ ، والمكانُ زمانٌ متجمِّد." .. وهو تصورٌ يلتقي بنسبيةِ (أينشتاين) ..
  يتجلّى هذا التصورُ كأروعِ ما يكونُ في قصةِ (أپاسيوناتا) .. العنوانُ يشيرُ إلى سوناتا الپيانو الثالثة والعشرين لبيتهوفن ..
  الرّاوي كما نعرفُ من حديثهِ مع شخصيةِ (فرانتس شوبرت) الموسيقار الشهير تلميذ (بيتهوفن) ، صحافيٌّ في صحيفةٍ تُدعَى (المداراتِ الجديدة) ، رأى (شوبرت) تنهمرُ دموعُهُ وهما في حفلٍ يعزفُ فيه (بيتهوفن) سوناتتَه ..
فقرّرَ أن يسألَهُ عن رأيه في السوناتة ، فاقتادَهُ (شوبرت) إلى حانةٍ ما ، وقصَّ عليه قصةَ تأليف (بيتهوفن) لهذه السوناتةِ التي لا يعرفُها أحدٌ إلا (شوبرت) بزعمِه .. يحكي (شوبرت) عن أستاذهِ أنَّه – بعكس ما يشيعُ من أنّ تاريخ بداية تأليفه لهذه السوناتة كان عام 1804 – بدأ في تأليفِها عام 1796 ، قبل أن تظهرَ عليه أولى أعراضِ الصَّمَم .. وبعد أن وضع الحركةَ الأولى منها في ليلةٍ وأوى إلى فِراشِهِ ، أقلقه من نومه في منتصف الليلِ أن يسمعَ السوناتةَ تُعزَفُ بالكاملِ في بيته .. نهض من فراشِهِ واتجهَ إلى حيثُ الپيانو ، ليجدَ (بيتهوفن) آخَرَ يشبهه تمامًا لكنَّهُ يكبرُهُ سنًّا وحجمًا ويفوقُهُ أناقةً منهمكًا في عزفِها!
  نعرفُ تدريجيًّا أنَّ (بيتهوفن) آمنَ تمامًا بقول (فيثاغورَس) أنَّ الموسيقى هي القانونُ الذي يحكمُ العالَم ، وشاء القدَرُ أن يَسمعَ شذرةً من هذا القانونِ أثناءِ نزهتِهِ الخلويةِ بجوار النهرِ غداةَ تأليفِهِ للسوناتة ، فيُخمِّنَ الباقي .. وبفعلِهِ هذا فتحَ البوابةَ الخفيةَ التي من خلالِها قابلَ في بيتِهِ في هذه الليلةِ (بيتهوفن) الشيخ ، و(بيتهوفن) الرَّضيعَ ، و(بيتهوفن) المراهقِ ، وغيرَهم .. لقدَ كسرَ استرسالَ الدائرة ، كسرَ استرسالَ الزَّمَن فرأى دائريتَهُ بعينيه!
  إنَّ المسألةَ كشفٌ يشبهُ الكشفَ الصُّوفِيَّ .. اطّلاعٌ غيرُ متعمَّدٍ على الغيب .. لكنَّ الصُّوفِيَّ الفنّانَ يواجهُ العقوبةَ / القَدَرَ على رهافةِ حسِّهِ ، فالـ(بيتهوفنون) المجتمعونَ في البيتِ في هذه اللحظةِ النادرةِ من الحياةِ يقررونَ أن يسلبوا (بيتهوفنَ) اللحظةِ المتعينةِ سمعَهُ ، لئلاّ يغلقَ البابَ ويعيدَهم إلى الظلام! إنه معنىً متفلِّتٌ مراوغٌ شاعريّ .. كيف يمكنُ أن يحدثَ هذا؟ نكادُ نبكي ونحنُ نرى (بيتهوفن) الطِّفلَ في ركن قاعةِ الپيانو يضعُ رأسَهُ بين كفيهِ صارخًا: "أنا أكرهُ الظَّلام." لقد كان محبوسًا في لحظتِهِ لا يستطيعُ مغادرتَها حتى فتحَ (بيتهوفن) عام 1796 البوابةَ وسمحَ له بالعبور .. إنَّهُ الفعلُ الذي ينتصرُ للحنين .. النوستالجيا تنتصرُ على الحتمية .. أنا ابنُ التاسعةِ والعشرينَ سأعيشُ جنبًا إلى جنبٍ مع أنا ابنِ الخامسةِ وأنا ابنِ الرابعةِ والخمسينَ (إن أدركتُ هذه السِنَّ بالطبع) ، وهكذا !!
  ولأنَّ القصةَ موسيقيةٌ جدًّا ، فالكارثةُ (الصَّمَمُ) لا تأتي مرةً واحدةً كنقطةٍ ، أو كسكتةٍ مفاجئةٍ على المدرَّجِ بلغةِ الموسيقى ، لكنَّها تنفرِشُ على مساحةٍ زمنيةٍ تبدأُ منذ تلك الليلةِ الفريدةِ حين يُصدِرُ (بيتهوفن) الشيخُ حُكمَهُ ويوافقهُ (البيتهوفِنون) ونفاجأُ بـ(بيتهوفن) اللحظةِ المتعيِّنةِ يستصرخُهُم: "ماذا تقولونَ عليكمُ اللعنة؟" فيرفعونَ أصواتَهم: "هل تسمعُنا؟" ، وتستمرُّ الكارثةُ في التشكُّلِ والصَّمَمُ في الاستيلاءِ على (بيتهوفن) – مسيحِ الموسيقى – حتى يرحلَ عن عالَمِنا ، كما لو كانت سنواتُهُ منذ هذه اللحظةِ تخضعُ لاصطلاحِ diminuendo أو decrescendo الموسيقيِّ (تتجهُ نحوَ الخفوت والتلاشي) ..
 ثمَّةَ كارثةٌ أخرى في القصةِ تقترحُها الصفحةُ الأخيرةُ منها .. وذلك حين يسألُ الراوي (شوبرت) في استخفاف:
-"وموتسارت أيضًا زارَهُ موتسارت طفل ومراهق وشابّ وشيخ؟"
فيجيبُهُ (شوبرت): "بل وامرأةٌ أيضًا."
فيسخرُ الرّاوي:
- "هاها .. وامرأةٌ كذلك؟!"
فيقولُ (شوبرت) مُغضَبًا قبل أن يترُكَه:
- "إنَّ لكلٍّ منّا في ذلك العالَمِ كافةَ التنويعاتِ البشريةِ الممكنة، هناك (بيتهوفن) امرأةٌ لكنَّها لم توجَد بعد، ويومًا ستظهرُ في هذا العالَم، .......".
هي هذه الجملةُ الأخيرة .. لماذا يُقرِّرُ (شوبرت) أنَّ هناك (موتسارت) امرأةً زارَت (موتسارت) ، بينما لم يحدث هذا مع (بيتهوفن)؟
  موسيقى (موتسارت) لها ذلك الطابَعُ الطفوليُّ الناعِمُ الأملسُ الذي يظلُّ مع الأنثى بعد اكتمالِ أنوثتِها .. أمّا موسيقى (بيتهوفن) فهي احتفاءٌ بما يتأبّى على الاحتواء .. إنّها ذلكَ اللاركوعُ ، الانتصابُ الذُّكورِيُّ الذي يخرقُ الطبيعةَ إلى الفَنّ .. الموسيقيُّ (بيتهوفن) رجلٌ من (الرجالِ – Y) .. وهو رُبَّما يكونُ المَثَلَ الوحيدَ بينهم على إمكان تحققِ الجمالِ مع اكتمالِ الرجولة .. إنه المثلُ الأعلى الذي قصَّرَ عنه بقيةُ الرجال – Y فأصبحوا مسوخًا شائهة .. ولهذا لم تظهر له امرأة .. فإن ظهرَت ... فإن ظهرَت فهي الثورة .. الكارثةُ اللاكارثة .. ستحلِّقُ الفراشاتُ العملاقةُ على الرؤوس ، وستلتفُّ موجوداتُ العالَمِ القديمِ في شرنقةٍ عملاقة ..
هاه؟ ألا يُحيلُنا هذا إلى قصةِ (الشرنقة) من جديد؟
  فإن تذَرَّعنا أخيرًا باللاهوتِ المسيحيِّ في استكناهِ (بيتهوفن) ، كان علينا أن نذكر أقانيمَ الموسيقى الثلاثةَ : (باخ) بتأسيسيّتِه وموسيقاهُ الثريةِ الملونةِ التي تشبهُ الرُّوحَ القدُسَ في جلائها وغموضِها ، و(موتسارت) بمحاكاته التامة للطبيعةِ فكأنَّهُ يقفُ بالفنِّ موازيًا لها ولا نقطةَ تقاطُعٍ بينهما فهو (الآبُ) الذي رفضَهُ (سپينوزا) ، و(بيتهوفن) بموسيقاهُ التي خرقت هذه الطبيعةَ وأسّسَ لملكوتٍ جديدٍ ، فكأنَّهُ (الابن) !

سرقنا الكلامُ عن (أپاسيوناتا) ، ولا يخفَى أنَّ سببَ ذلكَ موقعُها المركزيُّ من قصص المجموعةِ ، والمبنيُّ على مركزيةِ (بيتهوفن) بين الرجالِ – Y ..

  نعودُ إلى استعراضٍ سريعٍ لدائريةِ الزمنِ في بعض قصص المجموعة :
- في (القوقعة) ثمةً لعنةٌ تتوارثُها بناتُ سلالةٍ ما!
  (فادية) الأمُّ (فعلَت ما فعلَته منذ عشرة أعوامٍ) كما في افتتاحيةِ القصةِ بشكلٍ غامضٍ ، فتسبّبَت في غرقِ أبيها بينما تضعُ يديها على عينيه وتختبرُهُ – وهي بنتُ الرابعة – "أنا مين؟!" ، ثم يلتصقُ بها يقينٌ ما على أنَّ حيوانًا قشريًّا يعيشُ في أذنِها ، وتطلبُ مساعدةَ طبيبٍ نفسيٍّ يعالجُها ويحيلُها إلى طبيب الأذن والأنف والحنجرةِ ليثبتَ لها أنَّ ما تراهُ خارجًا من أذنها أمام المرآةِ وتعتقدُ في وجوده محضُ هلوسةٍ وضلالة ، ثم يتزوَّجُها الطبيبُ النفسي.
  و(فادية) الابنةُ كما نعلمُ في نهايةِ القصةِ تسببت في تعثُّرِ أبيها في حديقةِ الفيلاّ – وهي في الرابعةِ كذلك – ليموتَ متأثرًا بعَثرتِهِ ، وتعتقدُ أنَّ حيوانًا رخويًّا يشبه (الحلزونَ) الذي يعيشُ في الحدائقِ يسكنُ أذنَها ، وتطلبُ مساعدةَ طبيبٍ نفسيٍّ آخر (د.محمد شوكت) يحيلُها إلى طبيب الأنف والأذن والحنجرةِ عينِهِ ليثبتَ لها أنَّ ما تراهُ وتعتقدُهُ هلوسةٌ وضلالة ، ونعلمُ من مذكراتِ طبيب الأنف والأذن والحنجرةِ أنَّ (د.محمد شوكت) ينوي الزواجَ من (فادية) الابنة !!
  قصةٌ شبيهةٌ بهذه توجدُ بينَ الأعمالِ الكاملةِ لـ(إدغار آلن پو) ، وهي (موريلاّ) ، حيثُ ترثُ (موريلاّ) الابنةُ لعنةَ (موريلاّ) الأمِّ ، ولكن بطريقةٍ مختلفة ..
  ثمةَ دائريةٌ كامنةٌ في الزمنِ في مثلِ هذا النوعِ من الحبكة ، ولذا فاسمُ القصةِ (القوقعة) لايشيرُ إلى قوقعةِ الأذنِ الداخليةِ لـ(فادية) الأمِّ ، بقدر ما يشيرُ إلى حالةِ الدورانِ في الزمنِ والمتاهةِ القائمةِ في تكرارِ الأحداث ..
- في (علاء الدين) كما أسلَفنا القَولَ ، يدركُ الراوي البطلُ ، طالبُ الطبِّ ، أنّ الهيكلَ العظميَّ الذي يذاكرُ عليهِ التشريحَ هو هيكلُهُ العظميُّ ، وهذا من واقعِ نوعيةِ الكسورِ التي يعانيها في جمجمتِهِ وساقيهِ ، ويعانيها الهيكلُ كذلك ، باإضافةِ إلى سيرةِ حياةِ (علاء الدين) طالب الطبِّ صاحب الهيكل الذي مات قبل بضعةِ أعوامٍ وتكرهُ الممرضة .. لا ندري متى يبدأ الحدثُ ومتى ينتهي .. إنه لا يبدأُ .. ولا ينتهي !!
.  .  .  .  .

* أسماءُ الشخصيات ..
  في بعض القصص لا توجد أسماءٌ محددةٌ للشخصيات .. لكننا نصطدمُ بأسماءٍ دالّةٍ في بعضِها الآخَر ، ولنستعرض بعضًا منها هنا:
 - في قصة (علاء الدين): الاسمُ الذي اختاره الراوي البطلُ طالبُ الطبِّ للهيكلِ الذي اشتراهُ بشكلٍ (اعتباطيٍّ) هو (علاءُ الدين) .. يُحيلُ هذا الاسمُ إلى الشخصيةِ الأسطوريةِ الموجودةِ في تراثِ الحكيِ العربيِّ ، مرتبطةً بالمغامرة والأهوالِ والانتصارِ في النهاية .. لكنَّ (مغامرةَ) علاء الدين هنا مغامرةٌ قدريةٌ لم يَختَر أن يخوضَها ، كما أنَّه لن يحقق فيها نصرًا من أي نوع .. سيموتُ بالسرطانِ بعد أن يصابَ في حادثِ سيارةٍ ، ليتحولَ إلى هيكلٍ عظميٍّ يقتنيه ويدرسُ عليهِ طالبُ طبٍّ آخرَ سيلاقي نفسَ مصيرهِ ، وربَّما كان هو نفسه (علاء الدين) .. إنه يدورُ في مكانِهِ ، معاقبًا على جُرمٍ لا يدري ما هو .. وهو يعرفُ كنه العقابِ ويعرفُ المصيرَ لكن لا فكاك ..
- في قصة (تجربةُ د.فانٍ) نجدُ ذلك الاسمَ السِّحريَّ للطبيبِ الساحر (فانٍ بن عبد العزيز) .. إنَّهُ يستلُّ قلبَ الراوي / البطلِ من صدرِهِ ، ويضعُ مكانَهُ جعرانًا ، ليضعَ القلبَ في محلولٍ ما حتى يكبر ويشيرَ وحشًا ، وبينما هو يفعلُ ذلك يلقي على مسامعِ البطلِ قصيدةَ نثرٍ يقولُ فيها:
"سأريكَ عالمًا أكثرَ أملاً .. سأريكَ عالمًا الأرضُ فيهِ كرةٌ وتسبحُ فيه حول شمسِ ، والشمسُ حولَ شمسٍ ، والشموسُ حولَ لُبِّ الكون .. وأنا وأنتَ جلطتان .. نسدُّ شريانَ الكونِ فيخبو ضوءُ النجوم .. نسري في شريانِ الكونِ ، فيعودُ الضوءُ إلى العالم."
  ويتذكَّرُ البطلُ هذا فيقولُ لنفسه: "بل إنه يصرفُ الناسَ عن عمودِ الشعرِ وراحَ يُنشِدُهُم شعرَهُ المنثورَ القبيح."
  نحن أمامَ طبيبٍ ساحرٍ يقدمُ لبطلِنا المعرفةَ بينما يسلبُهُ قلبَهُ عنوة .. هكذا يكشفُ له حقائقَ الفلَكِ في قصيدة نثرٍ ، ثُمَّ يُطلِعُهُ على حقيقتِهِ الحقيرةِ وينفي عنه تضخُّمَ أناهُ ومركزيتَها الزائفةَ (وأنا وأنتَ جلطتان ......) ، ويُبَشِّرُهُ بفتحٍ معرفيٍّ إن هو أسقطَ عنه حجابَ الأنا (نسري في شريانِ الكونِ فيعودُ الضوءُ إلى العالَم."
  ولأنَّهُ يفعلُ ذلك ، ولأنَّه يسرفُ الناسَ عن عمودِ الشِّعر (اللوغوس) ويتلو عليهم قصائدَ النثرِ المتحررةَ من المركز والشكلِ والنظامِ ، فهو الشيطان ..
أو ..:
  رُبَّما هو ابنُ الشيطان .. الشيطانُ مُنظَرٌ ، واسمُهُ (عزازيل) كما نعرفُ من أدبياتِ الديانات السماوية .. أمّا هذا فـ(فانٍ) بنُ (عبدِ العزيز / عزازيل) .. هو فانٍ لأنَّهُ ليسَ إلا التجسُّدَ الإنسانيَّ للشيطان .. إنه بعثُ الأسطورةِ وموتُها معًا .. هو الـÜbermensch الذي بشّر به (نيتشه) .. وريثُ الشيطانِ والإلهِ معا .. ولهذا أيضًا حرَّرَ البطلَ من جسدِهِ / قيدِهِ في نهايةِ القصة ليفعلَ ما يحلو له ويمارسَ طفولةَ حياتِهِ السوپرالجديدة (فيلعب مع الأولاد في الشوارع) ..!
- في (القوقعة) : نجدُ أنَّ الأمَّ والبنتَ صاحبتَي اللعنة تحملان الاسمَ نفسَهُ (فادية) .. ويالَهُ من اسم! هذا الاسمُ بكلٍّ ما يحملُهُ من التضحيةِ ونُكرانِ الذاتِ والفِداءِ ، يقفُ على السطورِ ضاحكًا ضحكةً خبيثةً مما تفعلُهُ صاحبتاهُ الأمُّ والابنةُ ، رُبّما رغمًا عنهما .. يتقشَّرُ الاسمُ عن المُسَمَّى مرتينِ في قوقعةٍ زمنيةٍ لعينة ، فلا يترُكُ إلا عبثًا ضاحكًا في يأس ..
- في (الشرنقة) : للبطلةِ الراوية اسمٌ أسطوريٌّ هي الأخرى .. إنّها (شهرزاد) .. انتزعَها (كريم) من أحضانِ (شهريار) في (ألف ليلةٍ وليلة) ، واستغلَّ ميراثَها الحَكَوِيَّ في الليالي الألفِ ، ليجعلَهاراويةَ قصتِهِ المختارة .. واستغلَّ ثورتَها المحتملةَ طيلةَ الليالي الألفِ - والتي وجدَت متنفَّسًا في فعلِ الحكيِ الذي تؤجِّلُ بهِ فناءَها وتؤكِّدُ به وجودَها ليلةً بعدَ ليلةٍ – ليُخرجَها إلى رحابةِ المشاركةِ في الفعلِ ، فهي التي خدّرَت مشاعرَ الرأسمالِيِّ الذكورِيِّ المتسلِّطِ المستغلِّ (يسري باشا أبو الفتوح) ، وهي التي وضعت صناديقَ دود القزِّ في غرفة نومه .. ما أهمَّ عبارتَها حين تقولُ لقائد الخلية الشيوعية: "كلهم يعرف علاقتي بك يا عبيد .. وأنا في نظرهم مناضلة .. كلُّ شهرزاد مناضلةٌ بالفِطرة." إنها عبارةٌ مفتاحيةٌ لفَهم ما تنطوي عليه هذه الأنثى من ثورةٍ ؛ محتملةٍ قبل القصةِ ، وواقعةٍ في القصة ..
- في (أپاسيوناتا): يحكي (شوبرت) للرّاوي عن الـ(بيتهوفنين) الموجودين معًا أمام الپيانو في الليلةِ الموعودة .. فيقول: (لودفيج الوليد الباكي – لودفيج الشاب – لودفيج المراهق) .. استخدامُ الاسمِ الأولِ لـ(بيتهوفن) يوحي بتلك الحميميةِ النادرةِ مع شخصِهِ ، والتي نجدُها في غير هذا العمل في قليلٍ من الآثارِ الأدبيةِ المحتفيةِ ببيتهوفن ، ومن بينِها (البرتقالةُ الآليةُ) لـ(أنتوني بيرچس) ، حيث يشيرُ البطلُ دائمًا إلى بيتهوفن باسمه الأول .. تلك علاقةٌ خاصةٌ بين (كريم) وبين (بيتهوفن) ..
- في (موعد قبلَ الميلاد): تكادُ تكونُ دلالةُ التوأمتَين مباشرةً فهما (يُمنى) و(يُسرَا) .. فـ(يُمنى) هي الفتاةُ التي ضحّى الطبيبُ بأختِها (يسرا) لكي تولدَ حيةً ، ويقابلَها الرّاوي البطلُ ويُحِبَّها ، قبل أن يعرف بأمر أختِها التي احتفظت بها الأسرةُ في مرطبانٍ جنينًا مكتملاً لم يُؤذَن له في دخول الدنيا حيّا .. (يُمنى) هي ذلك الوَعيُ المُخترَقُ بالكاملِ ، مخترَقٌ حتى الثُّمالةِ بكيانٍ غائبٍ حاضرٍ هو (يُسرا) .. حين يباغتُ الرّاوي الجنينَ المحفوظَ في المرطبانِ داخلَ حجرةِ النوم المظلمةِ ، يتجمَّدُ مذهولاً أمامَ المرطبانِ ويصفُ لنا جنينًا مبتسمًا ابتسامةً غامضةً تقصدُهُ ولا تقصدُهُ ، وتعقدُ ساعدَيها على صدرها كالموناليزا .. هي هكذا لأنّها تجسّدُ سطوةَ اللاوعي المتناهيةَ على (يُمنى). كيانٌ خافٍ جَلِيٌّ ينتقمُ لمصيرِهِ وهو ميت!
- في (الشبكية): يأتي اسمُ طبيبِ (العيون) الذي يأخذُ عينةً من شبكية البطل ويستنسخُها ويفحصُها : (هوركهايمر) ، وهو اسمُ الفيلسوفِ وعالم الاجتماعِ الألمانيُّ الشهيرُ المنتمي إلى مدرسة (فرانكفورت) ، وهو أهمُّ مؤسسي (النظرية النقدية) وصاحبُ كتاب (كسوفِ العقل) الذي يستعرضُ من خلالِهِ تصوُّرَهُ عن انتقالِ الفلسفةِ الغربيةِ عبرَ تاريخِها من العقلِ الموضوعيِّ إلى العقلِ الذاتيِّ إلى العقلِ الأداتيِّ حيثُ تصلُ فكرةُ (الصدقِ) في الأخيرِ إلى أقصى ما يمكنُ أن تصلَ إليه من اعتمادِ التفضيلِ الشخصيِّ والانعتاقِ من التصوراتِ المطلقة وما كان يعتبرَ (حقائقَ موضوعية) .. رُبَّما لهذا المُنجَزِ الفكريِّ استخدمَ (كريم) اسمَ الرجلِ هنا .. فطبيبُ العيونِ في القصةِ سينحو بذاتيةِ الوجودِ إلى أقصاها ، فيُعطي مسوِّغًا لأن تتجسَّدَ على أرضِ الواقعِ أكثرُ تصوراتِ البطلِ / الرّاوي شخصانيةً وذاتية .. إنه اللحظةُ الفارقةُ التي عندها تتحولُ الرغبةُ المكبوتةُ في الخلقِ ، إلى خَلق ، ومن ثَمَّ إلى كارثة !!
- في (بئر لَملَم) : ليسَ من قبيلِ المصادفةِ أنَّ الشابَّ الملعون (المنطويَ على قدرٍ لا بأسَ بهِ من الأصالةِ الذاتيةِ) اسمُهُ (إسماعيل) ، وأنَّ أمه (هاجَر) .. (إسماعيلُ) الذي رُزِقَته أمُّهُ على كِبَرٍ يقلِبُ النظرةَ الإسلاميةَ لـ(إسماعيلَ) النبي عليه السلام .. فالأخيرُ غلامٌ طائعٌ للأبِ ، يستسلم لسِكّينِهِ أثناءَ الذبحِ طالما أنّ الآمِرَ الله .. أمّا الأولُ فهو يتناولُ المقدساتِ بالسخريةِ طيلةَ الوقتِ ، يعصي أمه حين تستجدي منه الطاعة والعودةَ إلى الله .. وهي ليست فقط (هاجَر) زوجَ (إبراهيم) وأمَّ (إسماعيل) عليهما السلامُ ، بل هي (إيزيسُ) الإلهةُ المصريةُ مُحبطَةَ المسعى .. جمعت (إيزيسُ) فُتاتَ زوجِها (أوزيريس) المبعثرةَ من الدلتا إلى النوبة ، وأعادت إليه الحياة بسحرِها وغنائها ، فعادَ النورُ إلى العالَمِ ، وحبلَت منه بـ(حورِس) .. أمّا الحاجّةُ (هاجَر) / إيزيسُ قصتنا ، فمحكومٌ عليها بإخفاقِ محاولاتِها لجمعِ قطع الزجاجِ التي تحولَ إليها ابنُها وإعادةِ الرُّوحِ إليها .. ولا يفوتُنا هُنا أن نذكُرَ التأثُّرَ الواضحَ في هذه القصةِ بفيلم (دوني داركو) .. فمشهدُ الحاجّة (هاجَر) بشَعرها الأشيبِ المهوَّشِ وملابسِها الرثَّةِ وهي تحفِرُ الأرضَ بحثًا عن شيْ مجهولٍ في بداية القصةِ يُعيدُنا إلى
Grandma Death
أو الجَدّة (موت) التي تبحثُ كلَّ يومٍ في الفيلم عن رسالةٍ لا تصلُ أبدًا ، ومشهدُ الجزءِ من السقفِ الذي ينهارُ في حجرةِ (إسماعيل) يُعيدُنا إلى ذاتِ المشهدِ في حجرةِ (دوني داركو) .. القصةُ تجمعُ خيوطَها من هذه المصادر الثلاثةِ (قصة هاجر والنبي إسماعيل – أسطورة إيزيس وأوزيريس – فيلم دوني داركو) ، ورُبَّما ممّا وراء ذلك!
- في (الموت قيصريًّا) : تلك القصةِ المتأرجحةِ بين الحلم والواقعِ ، نجدُ (إسماعيلَ) آخَرَ هو الشيخُ الملتحي الذي يعملُ في المَذبَحِ مع الرّاوي البطل .. إن مهمتَهُ تنحصرُ في شق الذبائحِ وتقطيعِها بالمنشار الكهربي المستدير .. يصفُ الرّاوي بسمتَهُ بأنها (هلاليةٌ) تبدو كلما أوشكَ على شق الذبيحة .. الشيخُ (إسماعيلُ) معادلٌ موضوعيٌّ لرغبةِ الرّاوي / البطل في الانتقامِ من اليهود الصهاينةِ على بَقر بطن أمه بالسونكي قبلَ أن تلدَه .. وهو رمزٌ إسلاميٌّ حتى النخاع ، من لحيته التي تلفُّ وجهه المكتنزَ ، إلى اسمه المرتبطِ بجد نبي الإسلام عليهما الصلاة والسلامُ وأبي العرب ، إلى بسمته الهلاليةِ بما للهلالِ من مكانةٍ في الوعي الجَمعيِّ الإسلامي ..
.  .  .  .  .

* الاشتباكُ مع المأثورِ الإسلامي:
  وهو محورٌ أوضحُ من أن نبينَه .. لن يخفى على القارئ في إيماءاتنا السابقةِ ، كما لن يخفى على قارئ المجموعة بالطبع .. وهذا الاشتباكُ يتراوَحُ بين الثورةِ والهدمِ والقلبِ من ناحيةٍ ، وبين التسليمِ المؤمنِ من ناحيةٍ أخرى ..
  - ففي قصةِ (بئرِ لَملَم) مثلاً ، كما أسلَفنا القولَ ، يقلبُ (كريم الصياد) التصور الراسخ في الوعي الإسلامي عن (إسماعيل) ليخلق (إسماعيلَ) جديدًا ثائرًا ملعونًا محكومًا عليه بسرطان الزجاج!
  يُعيدُنا هذا إلى سُورةِ الأعرافِ حيثُ يصفُ القرآنُ حالَ المكذبين بالله: "إن في صُدورِهِم إلا كِبرٌ ما هم ببالِغيه."
  إنه هذا الكِبر .. (إسماعيلُ) القصةِ التي بينَ أيدينا ، الفتى العاصي المتأبّي على أوامرِ اللهِ ، تصيبُهُ لعنةٌ ما هي إلاّ تجسيدٌ لمجازِ حالِه .. فالزجاجُ كيانٌ مسلوبُ الماء ، لا يقبلُ الانثناءَ ولا التشكيل ، ومآلُهُ إلى الانكسار .. وهو ما يحدثُ بالفعل!
- وفي قصة (الموت قيصريًّا): تنبني القصةُ على الحديث النبويِّ الواردِ في صحيح مسلمٍ : " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله . إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ." .. ويكادُ الحدثُ الواردُ في هذا الحديثِ أن يكونَ من أركانِ علم آخِر الزمان
Eschatology
في الإسلامِ بمعظمِ أطيافِهِ من السلفيةِ الأرثوذكسيةِ إلى الصوفية .. والاشتباكُ هنا ينتهي إلى تسليمٍ مؤمنٍ بالمأثور ، حيثُ يقعُ الأخُ الأصغرُ المولودُ لأمٍّ يهوديةٍ على المنشار الكهربيِّ ليموتَ بجراحِهِ ، رغم إصرار أمِّهِ على أن تبعث بخشب أثاث البيتِ كله من الخارجِ (من ألمانيا) ، ليكون مصنوعًا من خشب الغرقد! القصةُ تحتفي بحبكةِ المؤامرةِ ، والثغرةِ المزروعةِ داخلَها ، التي تمكّنُ الطرفَ المُتَآمَرَ عليه من الانتصارِ في النهاية ..
- في قصة (اللؤلؤة .. أو ذرَّةُ رمالٍ من سِجِّيل) ، يأخذ الاشتباكُ شكلَ التسليمِ التدريجيّ كذلك .. فالكاتبُ المزعومُ للنَّصِّ (أشواعُ بنُ دارع) مترجمُ (أبرهةَ) الحبشيِّ إلى العربيةِ ومنها ، يروي قصة مداهمةِ الكعبةِ ولقاء أبرهة بعبد المطَّلِبِ ، ثم ينطلقُ منها لمذكراتِهِ بعد العودة إلى (أكسوم) ونمو اللؤلؤةِ داخلَهُ وداخلَ زوجتَيه ، حتى يصل في السطرِ الأخيرِ من القصةِ إلى أن يقول رغمَ آلامه وإصابته بالشلل التام: "لكنني كنتُ سعيدًا .. ورَبِّ الكعبةِ كنتُ سعيدا"!
  إنَّ (أشواعَ بن دارعٍ) هو المعادلُ الموضوعيُّ للرَّجُلِ – Y الذي تحلُّ به اللعنةُ ، ثُمَّ يُشفَى منها تدريجيًّا ، ويستقبلُ موتَهُ سعيدًا عائدًا إلى الحالةِ المعياريةِ السليمةِ من المَسخ والسَّخط ، وهي حالةُ (الرَّجُلِ) فقط .. وليسَ الرَّجُلَ – Y !

*   *   *   *   *

كان هذا غيضًا من فيضٍ عمّا يمكن أن يزخرَنا به خمسةَ عشرَ نصًّا بديعًا ، احتوتها هذه المجموعة .. وأزعمُ أنَّ ثراءَ هذه المجموعةِ يتركُ كُلَّ من يتعرَّضُ لمقاربتِها شاعرًا بالعجز والتقصير وهو يكتبُ عنها .. أعترفُ بأنَّني أتعمَّدُ الانتهاءَ من تدوينِ ملاحظاتي عن المجموعةِ هنا ، وأنَّ في هذا كثيرًا من العَسف .. لكن ، ما يشفعُ لي ، هو أنني أتناولُ نصوصًا بهذه الثراءِ ، هي بالتأكيدِ أهمُّ من محاولةِ مبتدئٍ دائمٍ مثلي .. واللهُ من وراء القصد!





  

No comments:

Post a Comment