Wednesday 27 May 2015

عِبادةُ العالَم، ورحلةُ رسولِ الآلِهة: قراءةٌ في ديوان (التغريد بطريقة برايل) لهرمس (محمد مجدي)



- اختار (محمد مجدي) لنفسه هذا الاسم المستعار الآتيَ من أعماق الأسطورة الإغريقية .. (هرمس) رسولُ الآلهةِ وابنُ (زيوس) ..
- عنوان الديوان عبورٌ على عبورٍ، وقفزٌ على قفز .. طريقة (برايل) هي الكتابةُ البارزةُ التي يُتحايَلُ بها على الحروفِ لكي تصلَ إلى المكفوفين فيدركونها باللمس بديلاً عن الرؤية .. والتغريدُ فعلُ إصاتةٍ محلِّقٌ بينَ الضرورةِ والاختيار .. فالطائرُ المغرِّدُ لا يعرفُ هل غرَّدَ صادرًا عن اختيارهِ الحُرِّ، أم دفعته الظروفُ والأقدارُ إلى التغريدِ ولم يكن أمامه حلٌّ آخَر! وتلقّي فعل التغريدِ يكون بالسَّمع، تلك الحاسّة المرهفةِ المنوطةِ بالمثيراتِ الأكثر أثيريةً ورهافة (موجات الصوت) .. فحين يغرِّدُ (هرمس) بطريقة (برايل) فإنَّهُ يعبرُ بفعلهِ هذا أثيريةَ الصوتِ المُطلَقِ مباشرةً إلى طينيةِ الحرفِ الملموسِ البارز في كتابةِ (برايل)، دون أن يمُرَّ بمرحلة الكتابة غير البارزة المُدرَكَة بحاسة البصر .. إنه يسقطُ سقوطًا مُدَوِّيًا من الأثيرِ إلى الطينِ المحروقِ، ليستطيعَ التواصُلَ مع قارئه .. عنوانٌ قاسٍ، ما من شَكٍّ في هذا، وهو يحملُ سخريتَهُ المريرةَ داخلَهُ ويقبلُها كواقِعٍ، فالعنوانُ كأنهُ يَسِمُ (كتالوجًا) مخصوصًا في إنجازِ مهمةٍ أدائيةٍ بعينِها .. رُبَّما يحاولُ (هرمس) أن يعلمَنا كيف نغرِّدُ نحنُ أيضًا بطريقة برايل!

 * في رأيي أنَّ الديوانَ توثيقٌ لسِتِّ مراحِلَ في رحلةٍ هرمسيةٍ إلى المعرفة والاكتمالِ والحقيقةِ ، ترتبطُ في مرونةٍ بالتأريخِ الزمنيِّ للقصائد ..
    1- فالمرحلةُ الأولى كانت بين الناسِ غارقةً في تفاصيلِ واقعهم إلاّ أنَّ إرهاصاتٍ بوشكِ بدءِ رحلةٍ كانت موجودةً ، ولا يمثِّلُ هذه المرحلةَ إلا قصيدةٌ واحدةٌ هي (مقاطِعُ لصاحبةِ القُبّة) المؤرَّخةُ بعام 2005 ومن الإرهاصاتِ المشارِ إليها قولُهُ لملهمتِهِ في ثنايا القصيدة: "سأقولُ لكِ إنَّ الوجودَ إثمٌ موغِلٌ/ وأذهب" ..
   2-  أما المرحلةُ الثانيةُ فهي السخطُ على هذا الواقعِ والتذمُّرُ بهِ بعد تحقُّقِ الخِذلانِ التامِّ من وسائلِ السابقينَ لتحقيق المعرفةِ والوصولِ إلى الحقيقةِ وتغيير العالَمِ إلى صورتِهِ المثاليةِ الماثلةِ في الوعيِ الشِّعريِّ الجَمعِيّ، ويمثلُ هذه المرحلةَ قصيدةُ (ترنُّحٌ على سفحِ الأفُق) المؤرخة بعام 2006.
   3- والمرحلةُ الثالثةُ لا يمكن برأيي تحديدُ بدايتِها وإن كان من اليسيرِ إدراكُ آثارِها الشِّعريةِ المتفرقةِ في الديوان كقصائدِ (فصلٌ في اللصوصية – القاهرة عشيةَ الثورة – أغنيةٌ داميةٌ صغيرة – الريحُ شَعر الرسولةِ الطويل) فمن بينِ هذه القصائدِ ما يشبهُ نتاجاتٍ ثانويةً للارتحالِ في الذات/العالَم بعيدًا عن مفرداتِ الواقعِ اليوميِّ اللاشِعريِّ، خصوصًا تلك التجاربَ ذاتَ المعمارِ المُحكَم كـ(أغنيةٍ داميةٍ صغيرة)، ومنها ما يمثلُ رُؤيا تعترضُ سبيلَ صاحبِ الرحلةِ أو نبوءةً هرمسيةً كـ(القاهرةِ عشيةَ الثورة) .. وينتمي لهذه المرحلةِ أيضًا قصيدةٌ محوريةٌ في الديوان هي (الكلامُ يحترقُ .. الكلامُ يذوبُ) فهي تجسِّدُ لحظةَ هِزَّةِ اللذَّة Orgasm في هذه الرحلة .. وهي تمتدُّ في مدىً زمنيٍّ من 2007 إلى 2009 بحسبِ تواريخ القصائد ..
   4- المرحلةُ الرابعةُ هي قربُ نهايةِ الرحلةِ وتحققُ الغُربةِ في قصيدة (بركبةٍ داميةٍ) التي يفتتَحُ بها الديوانُ، ثُمَّ الإيغالُ في الغربةِ كما في قصيدة (أغنيةٌ للكلابِ والغُربة) ..
   5- المرحلةُ الخامسةُ هي كمالُ اليأسِ من تحققِ المعرفةِ واجتلاءِ الحقيقةِ، وتجسدُها قصيدةُ (التغريد بطريقةِ برايل) ..
   6- والمرحلةُ السادسةُ والأخيرةُ تمثِّلُ عودةَ رسولِ الآلهةِ (هرمس) إلى عالمِ الناسِ وجيوبُهُ ملأى بالنجومِ المكسورةِ من رحلتِهِ ، وطولُ الرحلةِ ومقدارُ ما لاقاهُ من عجائبِها أنساهُ بدايتَها ، وتتجسدُ هذه المرحلةُ في قصيدتَي (حكايةٌ زرقاءُ ممتلئةٌ سيوفًا ودماء) و(أغنيةٌ تومِضُ مرتينِ ثلاثًا وتنطفئ) المؤرَّختَين بعام 2011 ، وهي رُبَّما تمثِّلُ إرهاصًا بديوانٍ مُقبِلٍ أو مرحلةً انتقاليةً بينَ ديوانٍ تَمَّ وآخَرَ آخذٍ في التشكُّل ..

وفيما يلي، سنحاولُ استعراضَ القصائدِ بشكلٍ أفقيٍّ ونتناسى بشكلٍ جزئيٍّ هذا التصنيفَ المرحليَّ الذي أملَته علينا قراءتُنا:

- (بركبةٍ دامية): يفتتح الشاعر قصيدته بالتبرُّؤِ من الكتابة عن الأشياء حيث يقولُ: "لن أكتبَ عن أي شيء/النمورُ لا تلبس جلود ضحاياها/والصياد واقفٌ على الهواء/لن أكتبَ عن أي شيءٍ/إننا لا نكتبُ إلا عن أنفسنا/حين تهزّها رائحةُ الجنون." وفي هذا المفتتَحِ لعبٌ على الذوقِ الجَمعِيِّ في قوله (النمورُ لا تلبسُ جلودَ ضحاياها) .. نحنُ نعرفُ أنَّ صيادي النمورِ هم الذين يلبسونَ جلودَها، وبالطبعِ لا يلبسُ النمرُ جلدَ ضحيتِه، لكنَّ (هرمس) يوحِّدُ بينَ الأشياءِ بما هي موضوعاتٌ لإدراكِ الشاعرِ من ناحيةِ، وضحايا النمر من ناحية، كما يوحِّدُ ضمنًا بين الشاعرِ وبين النمرِ فالأولُ يفترسُ وعيُهُ الأشياءَ كما يفعلُ الثاني بأسنانه .. هذا التشبيهُ الضمنيُّ كما يُسمَّى في بلاغتنا القديمةِ يفتحُ أعيُنَنا على خاصيةٍ في شعريةِ هرمس؛ هي اكتشافُ معانٍ شديدةِ العُمقِ من خلالِ تأمُّلِ حقائقَ طبيعيةٍ مستهلَكةٍ، وهي الوظيفةُ الشِّعريةُ التي رُبَّما لا يضطلعُ بها على أكملِ وجهٍ إلا التشبيهُ الضِّمنيٌّ الذي يسمو على المفرداتِ ليصلَ إلى تجسيدٍ حيٍّ لصورةٍ متكاملة .. ثم يقفزُ مرةً أخرى في السطر التالي (والصيادُ واقفٌ في الهواء) ليتَّحِدَ بصيادِ النمورِ، الذي افترست رَميتُهُ حياةَ النمرِ، لكنه لم يُهرَع على إثرِ الإصابةِ إلى النمرِ ليأخُذَ جلدَهُ هو الآخَرُ، بل توقفَ (في الهواءِ) متعاليًا على الحدَث .. لقد اصطادَ النمِرَ لكنَّهُ لن يتقمَّصَه .. كما أدرك (هرمس) الأشياءَ وقرَّرَ ألاّ يتقمَّصَها .. وهنا يُراوحُنا (هرمس) بين توحُّدِهِ مع دور النمرِ وتوحُّدِهِ مع دور صائدِ النمِرِ ، مما يُبرِزُ خاصيةً أخرى هامةً في شعرهِ المجموعِ بين دفتي هذا الديوان ، وأعني بها حالةً من المثاليةِ الموضوعيةِ تقتربُ من وَحدةِ الوجود .. الشاعرُ هو النمرُ، وهو صائدُ النمرِ، لا تضارُبَ في ذلك .. هو متوحِّدٌ مع العالَم رغم تصريحِهِ بأنه لن يكتُبَ إلا عن نفسِه. ربما نفسُهُ هي العالَم .. وحين يختم هذا المقطعَ بقولِه: "إننا لا نكتبُ إلا عن أنفسِنا حين تهزها رائحة الجنون" فهو يدفعُنا إلى تأمُّلِ مدركاتِنا من جديد .. ألها وجودٌ موضوعيٌّ منفصلٌ في النهايةِ عن عمليةِ إدراكِنا؟ أم أنها هلاوسُنا (رائحةُ الجنون) تتجسدُ أمامَنا فلا نملكُ إلا الكتابةَ عنها؟!
  بعد هذه التقدمة يتفرّغ (هرمس) للحديثِ عن نفسِهِ التي قرر ألاّ يتحدثَ إلا عنها، فإذا هو يفاجئنا برَدِّها إلى العالَم، حيث يقول: "قلبي قطعةٌ من اللحم/ ورُوحي أيقونةٌ قديمةٌ ورثتُهاعن الأسلاف/ وعصافيرُ من حُزنٍ حَطَّتْ مبتهجةًَ بلا سبب" .. جُمَلٌ تقريريةٌ قاسيةٌ تثُلُّ عرشَ البلاغةِ القديمةِ في تُؤَدَةٍ لا مبالِيَةٍ ، فالقلبُ محلُّ المشاعرِ عند أجيالٍ من الشعراءِ ما هو إلا قطعةُ لحم ، والرُّوحُ جُمّاعٌ لنماذجَ أوليةٍ Archetypes تشكَّلَت عبرَ أعمار الأسلافِ وليس له فضلٌ ولا مثلبةٌ فيما هي عليه الآن، وهي عصافيرُ مادتُها هي الحزنُ إلاّ أنها حطّت في بهجةٍ غيرِ مُبَرَّرَةٍ، ولعلَّ في هذا تناصًّا بعيدًا مع بيتِ الأخطل الصغير: "يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً. كعاشق خطّ سطراً في الهوى ومحا"، فليسَ وراءَ هذه الحركةِ الباديةِ إلا حيادٌ صافٍ متشائم ..
  يقولُ (هرمس) أيضا: " يالَشِقْوتنا يالَجمالِ شِقوَتِنا/ فزجاجُ النورِ مكسرٌ في كفوفنا/ ونسمي ذلك بالكلمات / فنقولُ الحنينُ ولا نشعرُ بالعار/ نَقولُ الوِحدة/ ولا نتجمدُ لفورِنا".. نمضي مع تسفيهِ أحلامِنا وتكسيرِ أوثاننا إلى هنا، حيثُ يكشفُ لنا (هرمس) عن كُنهِ كلماتِنا التي نتشدّقُ بها ويلصِقُها كلامُنا ببعضها .. إن هِيَ إلاّ وسيطٌ كانَ يُفترَضُ فيه أن يَشِفَّ ما وراءهُ (زجاجُ النور) لكنَّهُ تكسَّرَ وتبعثرَ في كفوفِنا، رُبَّما بابتعادِنا عن ينابيعِ المعاني الأُوَلِ، وبأجيالٍ من المتكلمينَ صنعوا أجيالاً من الإزاحاتِ الدّلاليةِ، ففقدت الكلماتُ علاقاتِها المباشرةَ بالمعاني، لكنّنا موغِلُونَ في العمى، فنقولُ (الحنينُ) ولا نلتفتُ إلى أنَّ محضَ استخدامِ هذه الكلمةِ يفصِلُنا عمّا نحنُّ إليه فلا نشعرُ بعارِ هذا العمى نصفِ الإرادِيِّ ، ونقولُ (الوِحدةُ) ولا يسفعُنا بردُها القارسُ فكأنه لا وِحدةَ هناكَ ، وكيفَ تكونُ الوِحدةُ ونحنُ لم نتجمَّد لفورِنا؟! .. يُسمّي (هرمس) هذه الورطةَ المتمحورةَ حولَ فقدانِ الدوالِّ مدلولاتِها تدريجيًّا: "شِقوةً جميلة" .. هي شِقوةٌ لأنهُ يشعرُ بمعاناتِها وتؤرِّقُهُ، وهي جميلةٌ لأنها توفِّرُ على كلِّ هؤلاء الناسِ فيضًا من مشاعر الإثمِ والجمودِ والعار .. ورطةٌ معرفيةٌ لا ينوءُ بحَملِها إلاّ من أوقعَتهم أقدارُهُم تحتَ نَيرِها!
 بعد ذلك يُهيبُ (هرمس) بالصمتِ أن يَحضُرَ ويعلِّمَ المصطفّين في انتظارِهِ أو في غير انتظارِه: " فتعالَ أيها الصمتُ بأجنحتك وبالمناسر/وعلّمنا لحنك/ووقوفنا أمام الجدار/ومباغتةَ الموسيقا لأعضائنا/و إسرافَنا في السخرية و الموت على أنفسِنا" .. الصمتُ هنا طائرٌ جارحٌ كما تدلُّ على ذلك لفظةُ (المناسِر)، وهي تقابلُ (المناقيرَ) للطيور غير الجوارح .. لماذا لجأَ (هرمس) إلى هذه الاستعارةِ المكنية؟! رُبَّما لأنَّ دورَ الصمتِ هنا هو قلبُ الأوضاعِ الراهنةِ التي كرّست الورطةَ المعرفيةَ المُشارَ إليها آنفا .. سينتهكُ الصمتُ بحلولِهِ فينا كلَّ هذا الزيفِ والدوالَّ الفارغةَ وسيعلمنا لحنَه الصادقَ الكئيب، وكيف نقفُ احترامًا أمامَ جدارِ ما لا نعلمُ، غيرَ محاولين اختراقَه ..
  يُكثِرُ (هرمس) من الالتفاتِ في هذه الصلاة! بعد الفقرةِ السابقة مباشرةً يقولُ مخاطبًا جماعةً تظهرُ فجأةً في النَّصّ: " بيتُكُم بعيدٌ ياجيرةَ الركض/وهوسَ الندرة/يا جوقةَ القمرِ المنفرطة/بيتكم بعيدٌ/وسفينةُ العالم مكسورة." مَن هؤلاء؟ إنهم مَن ضاقوا ذَرعًا كـ(هرمس) بزَيف الكلامِ وخواء الدّوالّ وإحالتِها إلى أنفسها .. إنهم من ينوءون مثلَهُ بذاتِ الورطةِ المعرفية .. إنهم (جيرةُ الرَّكض) نحوَ مثلٍ أعلى جديدٍ ربَّما هو الصمتُ/ السَّوادُ/ الكآبةُ الصافية، وهُم (هَوَسُ النُّدرَةِ) المتفلِّتون من عِقالِ ما تكالَبُ عليه الجموعُ، وهم في النهاية (جوقةُ القمرِ المنفرطةُ) التي تعلَّقَت بهذا الكيانِ المتعالي (القمر) الذي ما إن يكتمِل في فلَكِهِ حتى يعويَ المذءوبونَ وتحيضَ العذارَى ويصدحَ المغنّون .. هم جوقتُهُ الذين يُنشِدون أغانيَهُ إلا أنها جوقةٌ لم تجتمع يومًا في صعيدٍ واحد .. ورغم ذلك فلهم بيتٌ ما لكنَّهُ بعيدٌ وما من وسيلةٍ إليه إلا هذا العالَمُ فهو السفينةُ، لكن لا أملَ في الوصولِ، فالسفينةُ مكسورةٌ، والعالَمُ يدورُ حولَ لُبِّهِ الفارغ ..
  يختم (هرمس) القصيدة بقوله: " لا يحزنني شيءٌ ما/كل ما هنالك/أن الليلَ يأتي مبكرًا/كلما اقتربَ الشتاءُ/فأجلسُ هنا/وأفكرُ أن لي روحًا/بدراجةٍ/وركبةٍ دامية." هنا تمهيدٌ تقريريٌّ يُفضي إلى صورةٍ ختاميةٍ تحملُ عنوان النَّصِّ أخيرا .. يتبرأُ (هرمس) من الحزنِ الذي لا تخطئُهُ الذائقةُ في سطور القصيدةِ، لكنَّه يقرر أنه يجترُّ ظاهرياتِ رُوحِهِ كلّما طال الليلُ مع مقدمِ الشتاء .. تلك الرُّوحُ الطِّفلةُ ذاتُ الدّرّاجةِ والرُّكبةِ التي أدماها اللَّعِب .. استعارةٌ مكنيةٌ جديدةٌ – وعذرًا لمن يكرهون اصطلاحاتِ البلاغةِ القديمة – تُطلِعُنا على معاناةِ هذه الرُّوح التي عرَكَت العالَمَ في طفولتِها حتى دَمِيَت ولم يبقَ لها إلاّ التأمُّلُ في حيادٍ كئيب .. إنهاعاطفةٌ أعمقُ بكثيرٍ من الحزن، ولا يختلجُ الفرحُ والحزنُ وما سواهُما إلاعلى سطحِها الذي لا يدَعُ كثيرين ينفَذُونَ إلى ذلك العُمق.
- (مقاطعُ لصاحبةِ القُبَّة): بعكس القصيدة الأولى ، يغرقُ (هرمس) هنا في تفاصيلِ الحياةِ القاهريةِ بكلِّ محلِّيّتها ، فالفتاةُ التي يُغنّيها تسكنُ قريبًا من (صاحبةِ القُبّة) التي نرجّحُ أنها (السيدةُ زينب) لأنَّهُ يسردُ تفاصيلَ عن حواري (عابدين) الظليلةِ وسوق (الاثنين) .. القصيدةُ صباحيةٌ نؤومٌ إن جازَ التعبيرُ ، فليسَ فيها كآبةُ الليلِ الناضحةُ في القصيدةِ الأولى ، وسرديَّتُها تليقُ بالصباح الذي تتضحُ فيه التفاصيلُ وتشغلُنا كما تشغلُ الشاعرَ عن محاولةِ إدراكِ الكلياتِ والماوراءاتِ كما هو الحالُ في قصيدة (بركبةٍ دامية) ، وهي نؤومٌ كبطلَيها – أعني الشاعرَ وفتاتَهُ المُغنَّاةَ – لأنَّ الذاتَ الشاعرةَ فيها تستسلمُ لحالةٍ من اللامعرفةِ واللاتحدُّد ، ممتزجَين بخدَر الاستيقاظ متأخرًا من النوم .. نلمحُ هذا في تعابيرَ مثل: " وتشابكت أكفنا/لكنني كنتُ غائبًا/في دوائر الضوء
على إسفلتِ حواري عابدين الظليلة." و"وتفاصيل خط الاستواء/الذي عجنكِ بالماء و الشمس/حتى صرتِ فاكهة ًلذيذة/لا أعرف اسمها الاستوائيّ/لكنني أشتهيها."و" تصرّينَ على ارتباككِ كلما التصقت عيناي بعريكِ الشمسي /عرفتُ شعابَكِ/إلا أنني أكسر بوصلة العرفان/وأسلُكُ متحسسا بداهةَ جسدِكِ /أتوهُ/أصلْ."

- (الرِّيحُ شَعرُ الرسولةِ الطَّويل): القصيدةُ ليلةٌ خريفيةٌ تستدعي لدى القارئِ مأثورًا إسلاميًّا عتيدًا عن ليلةِ القَدر من طرفٍ خَفِيٍّ حيثُ يقولُ (هرمس): "في ليلةٍ خريفيةٍ ينامُ الأطفالُ شبعانين/ تهدأ الكلابُ وتحلَمُ القططُ بالمطرِ/ الأشجارُ التي لا تموتُ واقفةٌ في الريح / الريحُ تلك: شَعرُ رسولةِ طَويل.".. إنها ليلةٌ مفارقةٌ للمألوفِ، رُبَّما فقط في وعي الشاعر، ذلك الوعي الذي اكتشفَ أن الريحَ الخريفيةَ التي تعابثُ الشجرَ الذي لا يموتُ إن هِيَ إلاّ خصلاتُ شَعرٍ : "خصلاتٌ تنسحبُ على جسدي / خصلاتُ الرِّيح / أفتحُ كفّي ممسكًا بكُرَةٍ لا مرئيةٍ من شَعرِها".. ويختم القصيدة القصيرةَ بقوله: "أقولُ: أنا ساحرٌ."فلهذا أدركَ ماهيَّةَ الرِّيح وأمسكَ بكُرَةٍ منها .. فلماذا إذَن هو شَعرُ (رسولة)؟! تلك الكلمةُ التي لم تتكرر كثيرًا في أيِّ سياقٍ أسطوريٍّ أو نبوئِيٍّ في الموروث الثقافيِّ البشريِّ كلِّه؟ الريحُ شَعرٌ طويلٌ لأنثى ، ويكونُ الشَّعرُ عادةً طويلاً في الأنثى دون الذَّكَر! لكنَّ هذه الأنثى تضطلعُ بمهمةٍ جليلةٍ فهي تحملُ رسالةً ما إلى هذه الكائناتِ التي اشتملت عليها القصيدةُ، أعني الأطفالَ والكلاب والقططَ والأشجار .. يشبع أطفالُ القصيدةِ أولاً وينامون، ثُمَّ تهدأ الكلابُ وتستسلم القطط لأحلامِها في السطر الثاني ، ثُمَّ تقفُ الأشجارُ مستسلمةً لعبثِ الريحِ ولا تموتُ رُغمَ ذلك .. كلُّها حوادثُ تتقدَّمُ بهذه الكائناتِ إلى سكونٍ وليس إلى اضطرابٍ أو مزيدٍ من الحركة .. إنها الرسالةُ التي ينتظرُها (هرمس) بالصمتِ منذ القصيدة الأولى المفتاحية (بركبةٍ دامية) .. جاءت الرسولةُ بالسكون ، وأدركَ مجيئها رسولُ الآلهة .. نحن بإزاءِ قصيدة الرُّؤيا .. ألهذا لم يُذَيِّلها (هرمس) بسنةِ كتابتِها كبقيةِ القصائد؟! ألِتَظَلَّ متعاليةً على الزمن باسطةً كفَّيها إلى قصائد الديوان علَّ الرؤيا تتحقّق؟!

- (الكلام يحترقُ الكلامُ يذوب): بعد الرُّؤيا تبدأ الصلاة .. يبدأ (هرمس) القصيدةَ بسؤالٍ ذاهبٍ في الغموضِ  "من يا فَوْرةَ النّارِ في النّايْ؟ ".. يُخَيِّلُ إلينا السؤالُ اللحنَ نارًا تشبُّ ذاتَ لحظةٍ في النايِ وتفورُ، ولهذا وجاهتُهُ بالتأكيدِ إذا تمثَّلنا ارتعاشَ اللحنِ وحركاتِهِ وأنصافَ نغماتِهِ المتأخرةَ الزائدةَ عن متنِهِ الأصليِّ Acciaccatura التي تشبهُ بالفعلِ ذُؤاباتِ النارِ وشراراتِها المتطايرةَ في كلِّ اتجاه .. ثم يشفع (هرمس) سؤاله بسؤال " مَن يا قطراتها الكوْن" .. تركيبُ السؤالِ منفتحٌ على تأويلَين، فهل يسأل (هرمس) قطراتِ النارِ عن كُنهِ الكونِ ، والكونُ هناعاقل؟ أم أنَّه يسألُ قطراتِ النارِ التي شكّلت الكونَ عن شيءٍ مازالَ مجهولا؟ في الحالَتين يُكرِّسُ هذا التركيبُ المفتوحُ للسؤالَين ، بالإضافةِ إلى تأخير بيانِ المسؤولِ عنهُ العاقلِ ، يُكرّسان غموضًا صوفيًّا ونزوعًا عرفانِيًّا لا يتذرَّعُ بالمألوفِ من التراكيبِ النحويةِ لأنّه يعي مدى مفارقةِ موضوعهِ الذي يسألُ عنه .. فهاهُنا شكلٌ ومضمونٌ مفارقانِ للمألوف يحملُ كلاهُما صاحبَه .. يسترسلُ (هرمس) بعد ذلك في أسئلتهِ المفارقة: " أهيَ فمُكِ الفاغرُ بالعشق/مَتى سوّاكِ الثقيلُ الثقيل/متى الخفيفُ غنّاكِ فجُنَّ/ولماذا نضجَ لحْمي على عينِكِ" .. وهي أسئلةٌ حرص (هرمس) في كتابتِهاعلى ألا يُنهِيَها بعلامة الاستفهام الترقيمية ، ليتركها محتملةً التقرير ومخاتلةَ أداةِ الاستفهام .. إنه يسألُ عن كيانٍ مؤنّثٍ غامضٍ ربّما هو فم النار المفتوح بالعشقِ .. ثُمَّ هو يضيفُ إلينا مجموعةً من التقاريرِ عن هذا الكيانِ ، فقد سوّاهُ الثقيلُ المبالغُ في ثقلِهِ ، وقد غنّاهُ الخفيفُ فجُنّ .. نحن بإزاء لغزٍ مقدّسٍ يحتفي بالنار التي نَضِجَ لحمُ الشاعرِ على عينِها .. ثُمّ يقولُ (هرمس) في مقطعٍ تالٍ: " وأنتِ يا نحلةَ العَسَلْ/ مَا ولَعُكِ في الزهرة / و الزّهرةُ مَا كُفرُها بالخشبِ / و ما هرطقاتُها بالعطر / ومَن يكفّ دلالها عنّي". حيثُ تتضحُ خصيصةٌ أخرى لكتابةِ (هرمس) وهي استيلادُ الأسئلة من أسئلةٍ والسطور من سطور .. ثم يعود (هرمس) ليغازل تيمةَ معاناةِ الإدراكِ ومعرفةِ الحقيقة في قوله: "يا لَونُ فارقتُكَ لأراكَ / يا صَوتُ فارقتُكَ لأسمعَ". يقولُ فيما بعد: " حديثيَ عنكِ أكذوبةٌ فاقطعيني إليكِ / اختمي على اللسانِ كلامَكِ / ليظنّني العابِرُ ساحرًا أو مخبولا". إنها مناجاةٌ في موقفٍ نِفَّرِيٍّ بين يدي كيانٍ مفارقٍ أعظم، حيثُ نكتشفُ أنَّ القولَ بالمعرفةِ حجابٌ دون المعرفة .. إنها صلاةٌ صوفيةٌ أصيلةٌ تنتهي بقولِهِ: "ألا إنَّ الكلامَ احترقَ / ألا إنَّ الكلامَ ذاب" .. إنها النارُ قد آتت ثمرتَها في نهاية الصلاةِ ، فاحترقَ الكلامُ/ ذابَ ، وبقيت معرفةٌ عميقةٌ لا يُعبَّرُ عنها بكلام ..

- (أغنية الشاهق العطشان): بعد أن صلّى (هرمس) للنار في القصيدة السابقة ، يغني هنا للماء .. مسرحُ القصيدةِ عربةُ المترو حيث الماءُ مسكوبٌ على أرضيتها النظيفةِ صباحًا، يقرأُ الحكمة .. والماءُ في القصيدةِ هو الذاتُ الشاعرةُ وهو انعكاسُها على العالمِ كذلك .. نلمحُ هذا في قولَي الشاعر:  "يا ماءُ يا مرآةُ/ أراكَ تراني / وتَجلِسُ تقرأُ الحكمةَ / وهُم يتبارزونَ / في الكُتُبِ / تَشربُني عيونُهم / و أسكَرُ". الماءُ في القصيدةِ هو العالَمُ بأسرِهِ متبدّيًا لحِسّ الشاعرِ المختلفِ من خلال عربة مترو ، في المقطع: " المَسكونُ الممسوسُ القاسمُ  المَصروعُ
السّائلُ القالِبُ المنقَلبُ العَكُوسُ الشاهقُ العطشانُ" ..
إنه مقطعٌ يتذرَّعُ بوفرةٍ من الأخبار لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ (هو) ، وماذا عسى أن يكون (هُوَ) إلاّ الماءُ؟ فهل يجوز أن يكون الماءُ ذاتُهُ هو العطشان؟؟ نعم ، إن كانت الذاتُ هي العالَمَ وقد سلّم الشاعرُ رُوحَهُ إلى الكون .. إنها مثاليةُ الفيلسوف (شيلنغ) الموضوعيةُ المتصوفةُ التي تعبدُ العالَمَ وتقدسُه ..

- غرباء: أذكرُ ليلةَ ألقى (هرمس) هذه القصيدةَ في النادي الأدبيِّ لساقية الصاوي عام 2006! كُنّا نحنُ – جماعةَ سيميا – قد قررنا أن نقتحمَ لقاء الأدباءِ هناكَ ، وأثارت القصيدةُ ما أثارته من جدلٍ كالعادةِ ، وقرر السيميائيُّون اعتبار مقطعٍ من القصيدةِ شعارًا لجماعتهم: "لسنا جماعةً/حزبًا/عِرقًا. و لا نضمنُ لكمَ ملاجئَ منَ التشيّؤِ الضاربِ في الخارج. ولا من الوعي/العطشِ ، الذي يلعقُ الفراغْ. ولن نبسُطَ أمامَكُمْ رؤيتَنا - رؤانا نفقتْ مذ صرنا . لِذا : لن نساعِدُكُم إن صِرتُمْ مِنّا فقط . . . ستصيرونَ ، ولاشَيء". يقول (هرمس) في مقطعٍ آخر من نفس القصيدة: " لكلٍ منّا لغةٌ ، وبعضُنا لا لغةَ لهْ .. هكذا لا نكلّمُ غالبًا بعضنا الآخر . وإذا تكلّمنا ، لا نقولُ شيئا!".. إنهم الغرباء الذين يتحدثُ عنهم (هرمس) في قصيدةٍ سابقةٍ فيقولُ عنهم (جوقة القمر المنفرطة) .. غارقونَ في الصمتِ كدأبهِم ، فهو أنشودتُهُم ..

- أغنيةٌ للكلابِ والغُربة: هنا يقفزُ (هرمس) خطوةً أخرى في اتجاهِ الغربة .. يبدأ القصيدةَ باقتباسٍ من (بودلير) عن الكلاب .. لماذا اختار (بودلير) و(هرمس) الكلابَ بين كل الكائنات لتصبح أيقونةً للغربة؟ أظنُّها تلك الأعيُنَ المسكونةَ بشوقٍ عميقٍ إلى الكلامِ ، الكلام الذي لا يطاوعُ الكلابَ إلا نُباحا! نذكر من القصيدة الأولى (بركبةٍ دامية) غناءَ (هرمس) لجيرةِ الرَّكضِ وجُوقةِ القمرِ المنفرطة وهوسِ النُّدرة .. هنا يقولُ: "سأُري المليحةَ كيفَ في دَمِها عواءٌ لم يُنجَز
/ وأمحو الخجلَ عن وجهِ الهلالِ/ سأشيرُ للمُظلِمِ مِنهُ وأعوي". لقد نسيَ (هرمس) أو تناسى جوقةَ القمر المنفرطة ، وشردَ وحيدًا وهو يشيرُ إلى المظلمِ من الهلالِ مواصلاً عُواءَه .. لقد رضيَ الإغراقَ في الوِحدةِ وكأنّما خبا حنينُهُ إلى كلِّ صُحبةٍ من البشر .. لكنَّ وِحدتَهُ لا تلبثُ أن تنخُسَهُ فيحنَّ من جديدٍ لرفيقِ سيرٍ فيقول: "في يومٍ ما سيأنَسُ لي صبيّ مَنذورٌ / ويغنّي معي / سيقبَلُ أن يُؤاخي بينَ الكلاب والشجر / بينَ الذئابِ و المُحيطِ / بينَ الأحذيةِ و القطارات / بينَ الغُرباءِ والغرباء". الرفقةُ المنتَظَرةُ الآنَ مُريدٌ صَبِيٌّ يتفهّمُ سيولةَ العالَمِ ووَحدةَ الوجودِ كما يفهمُها الشاعرُ ، ويرى بقيةَ الغرباءِ بعينٍ محايدةٍ متعاليةٍ فيؤاخي بينهم على اختلافِ أسبابِ غربتِهم .. نحن بإزاءِ غربةٍ على غربةٍ في هذه القصيدة .. ولهذا يختمُ القصيدة بقوله: "أغنّي للرؤية و المشّاء الوحيد/ في ليل الشتاء/ يعدّ الشهب/ ويراجِعُ تاريخَ الندرة !". هذه المراجعةُ لتاريخِ النُّدرةِ تحيلُنا بدورِها إلى قصيدة (بركبةٍ دامية) التي يحيي فيها الشاعرُ (جيرةَ الركضِ وهوسَ النُّدرة) .. فهو هنا يتعالى عليهم وينظرُ إليهم في حيادٍ إلهيٍّ ويغتربُ عنهم إلى أقصى الاغتراب ..
-
كوخٌ فارغ: يختار (هرمس) هنا الكتابةَ في شكل الفقراتِ الطويلةِ نسبيًّا ، مقارنةً بشكل السطور القصيرةِ في القصائد السابقة. ورُبَّما يكونُ هذا مناسبًا لحالةِ المونولوج الذي يلقيهِ على مسامعِ آخرَ يبدو متخيّلاً في القصيدة. كأنما يخاطبُ (هرمس) رُوحَه .. إنه يجابهُ هذا الآخرَ بما يفترضُ أن يكون حقائقَ محبِطةً ويعطيهِ حريتَهُ كما يقول: "القلوبُ تُؤكَلُ أولاً ثُمَّ الأرواحُ تُصَبُّ في الكؤوس، ولكَ ألاّ تسكرَ في ندامتي، ولك أن تقفزَ من النافذةِ ولا تعودَ مرةً أخرى، هل تشعرُ بالإهانةِ؟ وماذا عن وِحدتِكَ الخارقةِ؟ ألستُ أنا أيضًا آكلُ قلبًا وأشربُ روحًا وحيدًا على هذه المائدةِ الأزلية؟."يختم القصيدةَ بقوله: "في هذه الأحيان ستتحولُ روحُكَ لملايينِ الذّرّاتِ، في كبديَ السكران". يعني هذا أنه سيشربُ هذه الرُّوحَ وسيسكرُ بها .. إنها عزلةٌ اختياريةٌ في هذا الكوخِ "يوجدُ كوخٌ من القصبِ يكونُ خاليًا في كلِّ المواسم"، حيثُ يأكلُ الشاعرُ قلبهُ ويشربُ رُوحَهُ حتى يتماهى الرُّوحُ والجسدُ ويحلّ في كبدهِ بالتحديد!

- ترنُّحٌ على سفحِ الأفق: هي القصيدةُ الأطولُ في الديوان، والأعقدُ في بنائها، وهي مُؤرَّخةٌ بعام 2006 ، وغرابتُها تبدأ من عنوانِها .. السفحُ أسفلُ الجبل ، والأفُقُ معنىً يصعبُ تحديدُهُ تمامًا ، إلاّ أنّ (سفح الأفقِ) يفترضُ إحداثِيّاتٍ فانتازيةً يصلُ فيها الشاعرُ إلى منتهى بصرِهِ ، ولمّا كان في الأمرِ ترنُّحٌ ، فإنَّ هذا يعني اضطرابًا عميقًا عصفَ بهذا الواصلِ إلى منتهى بصرِه .. كما أنَّ كلمةَ (سفح) تحملُ بين مدلولاتِها اللُّغَوِيّةِ (السَّفْكَ) ، فحين يُسفَكُ الأفقُ (كأنَّهُ مادةٌ سائلةٌ ظلّت محفوظةً بمكانها زمنًا ثُمَّ أُذِنَ لها أن تنسابَ عُنوة) ، فلابُدَّ أن يترنَّحَ الناظرُ إلى هذا الأفقِ المسفوكِ، وهو ما يحدثُ هنا بالفعل! القصيدةُ مفعمةٌ بالخذلانِ وإحباطِ الجهدِ من السطرِ الأولِ حيثُ يقول: "أبحثُ عنّي  / في أفواهِكم / بينَ تشنجاتِ زوايا شفاهكم / وعلى أرففٍ مغبرّةٍ في أخاديدِ جباهكم / ويعييني البحثُ /فآوي لكفّي / لتعصمني من طوفانِ أبجدياتكم العقيمة / فأغرقُ معكم. أيها المغرقون ." إنها بدايةُ اليأسِ من الوصفاتِ الجاهزةِ للمعرفةِ لدى الناس ، فلا سبيلَ إلى الحقيقةِ عبرَ كلامهم أو ما يبدو كأنه حكمةُ السنينَ على أرففٍ غابرةٍ في أخاديدِ جباههم ، فينكفئُ الشاعرُ على تأمُّلِ ذاتِهِ ليَخرُجَ من طوفانِ الكلامِ الذي لا يسمن ولا يُغني من جوع .. إنها بدايةُ الرحلةِ الهرمسية لمعرفة الحقيقة ، ولهذا يقولُ في الفقرة التالية: "خذلتمونا/ لازالت السحاباتُ حُبلى لا تلدُ / خذلتمونا/ الضِّلِّيلُ يشُمُّ الوطنَ في كل طلل / خذلتمونا/ ها ثيرانُ الأفقِ تجرّ سواقِيَ وهمّيةً / لم يبقَ منهاسوى الوجعِ / خذلتمونا / وها نحنُ/ نولدُ/ ونموتُ".
لا شيءَ حقيقيًّا يتغيرُ وكأنَّ الرحلةَ إلى المعرفةِ عبرَ حكمةِ الآخرينَ ماهِيَ إلاّ ركضٌ في المكانِ ، فالسحاباتُ حُبلى لا تلد .. يستدعي (هرمس) هنا (امرأَ القيسِ) بلقبِهِ ودورِهِ: " الضِّلِّيلُ يشُمُّ الوطنَ في كل طلل" .. يحتملُ سياقُ القصيدةِ خيبةَ أملٍ عميقةً في تاريخِ الشِّعر كذلك ، فإن كان الشِّعرُ بادّعاءِ عبَدَتِهِ طريقًا لمعرفةِ الحقيقةِ / الوطنِ ، فلا شيءَ تحقّقَ على اليقين .. اتّكأنا على ما قالَهُ الأقدمونَ ولم نعرف ، سلَكنا طريقَهم ولم نَصِل ، فامرؤُ القيسِ أولُ من بكى الأطلالَ مازالَ يتحسّسُ وطنَهُ في كلِّ طلَلٍ إلى الآن . إنها خيبةُ أملٍ عميقة .. يختمُ القصيدةَ بفقرةٍ قاسيةٍ: "ستبترونَ أصابعَكم/ وتقولون: عضّها البرد/ ستسمُلُون عيُونَكم / وتقولون: يريدوننا عُميًا / ستقطعون شرايينَكم/ وتقولون: اليأسُ ساحقٌ/ ستبتلعون ألسنتَكم / وتخرسونَ للأبد". كأنها نبوءةٌ لما سيحدثُ في نهايةِ المطاف .. سييأسُ كلُّ من اتّكأوا على موروثِ المعرفةِ الجاهزِ من متَّكأِهِم ويستسلمونَ للضياع .. أو كأنّها دعوةٌ عليهم لئلاّ يجدوا طريقَ الحقيقةِ أبدًا جزاءً لإضلالِهم السالكينَ إلى المعرفة .. القصيدةُ – برأيي – تحلُّ مكانةً وُسطى بين قصائد الديوانِ ، فكأنَّها مقدمةُ رحلةِ المعرفةِ الحقيقيةِ التي يغنيها (هرمس) فيما بعد ..

 - فصلٌ في اللُّصوصِيَّة: يترك (هرمس) العِنانَ للتداعي الحُرِّ كما يبدو لنا في هذه القصيدة بعد أول بضعة أسطُرٍ حيث يقول: "لا يستقيمُ لديّ البابُ إلا على فتْحهِ بمفتاحهِ| فبآخر فبالكتف وبالمطرقة|إلا فالنوافذُ وقضبان الحبس والحَفْر|لا تترك البابَ مفتوحًا وتمضِ|لن يغلقه الامتنانُ بعدك". فكأنَّهُ يقدم لنا تصوُّرَهُ عن البابِ من خلال متتاليةٍ لعرض وسائلِ فتحه تنتهي بالعُدولِ عن البابِ إلى النوافذِ وقضبان الحبسِ وحفرِ الجدارِ ، ثُمَّ يقدِّمُ نصيحةً أخيرةً للمتلقي: ألاّ يمضيَ إلا بعدَ أن يغلقَ الباب! ثُمَّ يَعدِلُ (هرمس) عن باب القصيدِ إلى النافذةِ ليترُكَ أفكارَهُ الآنِيَّةَ تسرقُ كلُّ فكرةٍ أختَها في تتابُعٍ شديد السرعةِ بعد هذه الفِقرَةِ ، فيُحدثُ مواءمةً مضمونيةً بينَ المقدمةِ المتّسقةِ مع ذاتها وما يليها من تداعٍ حُرٍّ فيقولُ مثلاً: "سيادة شطرنج العالم العام!|البراميلُ تحت الأعمدة|جاهزةٌ للعب|الأبواب مغلّقةُ على رنة قداحتك الجدلية|طيّباتُ التطرّف الآتية من حيث لا تدري من نيران|دم الطريق السريع|كأفكار الهرب|عبر حرائق الفئران |أوالموانئ القريبة | وقطارات الطاعون ". القصيدةُ مثالٌ حَيٌّ على التخلّي عن الاتّكاءِ على القوالبِ الجاهزةِ للتعبيرِ وعلى العدولِ عن سلوك الطرقِ التي عبّدَها الأسلافُ لمعرفةِ الحقيقة .. إنها النموذجُ التعبيريُّ الذي يتفتّقُ عنه بالضرورةِ كلُّ هذا السُّخطِ في قصيدة (ترنُّح على سفح الأفق) ..
- القاهرةُ عشيةَ الثورة: إنها قصيدةٌ عن الثورة! مؤرخةٌ بعام 2007 .. إنها رؤيا قصيرةٌ يقولُ فيها: "هنالك شجرٌ يطيرُ/ شجرٌ كثيرٌ يغادرُ شوارعَ القاهرةِ / أذرعٌ خشبيةٌ مورقةٌ تصعدُ/ أسمعُ أنينًا خشبيًا للجذور المنفلتةِ/ الأرضُ تمطرُ أشجارًا / الأفقُ يتحولَقُ/ الأفقُ مدفعٌ أحمر/ الطيورُ تنوحُ في الأعالي/ والنهرُ يتلوّى". إنها صورةٌ كاملةٌ تبدو مشهدًا سينمائيًّا في فيلم (سيد الخواتم)! ولأنَّ الرؤيةَ المسيطرةَ على الديوانِ رؤيةٌ تقدسُ العالَمَ و(تؤاخي بين غربائهِ) ولا ترى فارقًا عميقًا بين الكائناتِ ، فالناسُ الذين هم وحداتُ كلِّ ثورةٍ هم هنا أشجارٌ تطير .. إنها الثورةُ قادمةً كما تبدّى لوعيٍ أكولٍ للعالَمِ شغوفٍ بهِ كوعي (هرمس) ..
- أغنيةٌ داميةٌ صغيرة: هنا أيضًا نجد المواءمةَ المضمونيةَ بين المقدمة الواضحةِ التعيُّنِ وما يتلوها من سطورٍ حيث يقولُ: "سأكتب قصيدةً تتجاهلُ أحداثَ الساعةِ/ وسأغرقُها بالانفجاراتِ الصُّوَرِيَّةِ والبراكينِ اللغوية". فيما يشبهُ البيانَ الافتتاحِيَّ الذي يلخّصُ برنامجَ الحفلِ القادم! ثُمَّ يقولُ: "أتكلمُ عن الساعةِ اللدِنَةِ، عندما انفجرت رأسيَ الاستشهاديةُ في سوقٍ للخُضارِ/ ووقوفِ صلصتيَ البشريةِ لوهلةٍ في الهواءِ جوارَ أشلاءِ القتلى" .. لقد ورّطنا (هرمس) في أحداثِ الساعةِ الداميةِ لكنَّهُ أعادَ ابتكارَها داخلَ لوحتهِ الشِّعريةِ مُحيلاً قراءَهُ إلى لوحة (الساعات اللدنة) لـ(سلفادور دالي) وهي واحدةٌ من أشهر لوحاتِه .. استدعى (دالي) بأثرِهِ الخالدِ وكان في هذا مواءمةٌ أخرى مع المقدمةِ ، فـ(دالي) في لوحاته (الحرب الأهلية) و(الساعات اللدنة) وغيرهما كان يتجاهلُ أحداثَ الساعةِ ويغرقُ فيها في آنٍ ؛ يفجِّرُ لوحته بالإشاراتِ إلى تلك الأحداثِ لكن بعد أن يخلقها خلقًا آخر .. دعنا نلتفت إلى مواءمةٍ شكليةٍ مضمونيةٍ ثالثةٍ في نفس الفقرةِ ، أعني قولَهُ: "عندما انفجرت رأسي الاستشهاديةُ في سوقٍ للخضار"، فالرأسُ استشهاديةٌ لأنها أتت بلازمةٍ من لوازمِ الاستشهاديين (التفجُّرُ في مكانٍ عامٍّ) ، وهي استشهاديةٌ لأنها استشهدت بلوحةِ (دالي) من طرفٍ خَفِيٍّ، وبهذا نشهدُ بحواسِّنا تلك الانفجاراتِ الصوريةَ والبراكينَ اللغويةَ التي وعدنا بها (هرمس) في مفتتحه ..

- حكايةٌ زرقاءُ ممتلئةٌ سيوفًا ودماءً: هذا النص هو الأحدثُ مؤرَّخًا بعام 2011.. وهو في رأيي يمثلُ مرحلةً ما بعد نضجِ الرؤيةِ واكتمالِ الغربةِ الذّين تعبر عنهما قصائد مثل (بركبةٍ دامية – أغنيةٌ للكلابِ والغربة) .. إنها مرحلةُ التسليمِ بما هو واقعٌ والاعترافِ بصعوبةِ الإبحارِ في الغربةِ خارجَ الشِّعرِ المجرَّد .. هنا يرصدُ (هرمس) حركةَ الناسِ في الواقعِ ، بل في أشدِّ مواسمِ الواقعِ واقعيةً (إن كانت الواقعيةُ معادلاً نقديًّا للزحامِ والثرثرةِ والعرَق!) فيقول: "في الصيف يمتلئ الشارع بأناس ذهبيين يستطيعون المزاح رغم فداحة الوجود يتبادلون النكات ويمسكون بأطراف الأحاديث فيعقبون السؤال بالرد. أنا أسود وتأتاء ولص نجوم. كلما أردت الكلام انكسرت نجمة وجيوبي مملوءة نجوما مكسرة". لقد عاد رسولُ الآلهةِ إلى الناسِ وخالطهم من جديدٍ ، لكنَّ رحلتَهُ الطويلةَ إلى المعرفةِ تركتهُ كما يصفُ نفسَه: "أسودَ وتأتاءَ ولِصَّ نجوم" .. تلك النجوم المكسورةُ الممتلئُ بها جيبُهُ هي علاماتُ المعرفةِ والاكتمالِ التي أرادَ اصطيادَها لكنَّها لم تستقِمْ لهُ كما أمر .. يقولُ: "حكايتي زرقاءُ وممتلئةٌ بالسيوفِ والدماء" .. إنَّ هذا ما يحدِّثُ به نفسه بعد أن يقطعَ أنه لن يوريَ لامرأةٍ حكايتَه .. لن تصدِّقَ امرأةٌ ما مرَّ بهِ ، فأزرقُ الحكايةِ يشيرُ إلى ذلك الصفاءِ الذي طاردَهُ منذ البدايةِ ، لكنّ السيوفَ والدماءَ انغرزت فيها حتى أنَّه في نهاية الرحلةِ لا يعرفُ إن كان قد حصَّلَ السماءَ أم لم يفعل .. يختم القصيدةَ بقوله: " سأخبُرها أن النجومَ وقعَت من يدي على الأرضِ وانكسرَت فاحتفظتُ بها وأنَّ الكلابَ أحيانًا ما تتبعُني كما أتبعُ البدرَ وأعودُ وحيدًا وقد صادَني النسيمُ مسكونًا بالحَرِّ والملحِ فُأخرجُ النجومَ المكسورةَ من حقِيبتي وأضعُها في كؤوسِ مياهٍ لأراها تنمو مِن جديد ". هذا الفعلُ الأخيرُ الذي يستمسكُ من خلالِهِ بأملِ المعرفةِ والاكتمالِ ، حيثُ يضعُ النجوم في كؤوس الماءِ ويرقبُ نموَّها بعد تكسرِها ، هذا الفعلُ هو المؤشِّرُ على ما يأتي ، فرُبَّما يظلُّ رسولُ الآلهةِ عالِقًا في هذه المرحلةِ ، ورُبَّما يجتازُها إلى ما لا نعلم!

- التغريدُ بطريقةِ برايل: القصيدةُ التي تحملُ عنوانَ الديوان .. إنها تشبهُ نواحًا على العالَمِ الغارقِ في زيفِهِ المبتعدِ بالتدريجِ عن منبعهِ الأولِ أو حالِهِ الأولى من النقاء .. رؤيا أپوكاليپسيةٌ لكنّها لا تتنبأُ بنهايةٍ بقدرٍ ما تُخَلِّدُ العالَمَ فيما هو فيهِ الآنَ حيثُ يقولُ (هرمس) متناصًّا مع التراثين الوثنِيِّ والتوحيديٍّ (الموجودِ في الكتبِ السماويةِ) للعالَم: "ولا أجسادَ تصعدُ لتولِّعَ بالغضبِ الأقدسِ نارَ الإكليلِ وتغرسَهُ في الأرضِ/ ويُنادَى: "لم يُنادِ أحدٌ ولم يَقُل أحد"".. إنه ينفي القداسةَ عن الحالِ الراهنةِ للعالَمِ ويُؤَبِّنُ زمنَها الذي كانَ ، فالطيورُ تغردُ الآنَ بطريقةِ برايل ، حيث لم يعد أحدٌ يفهمُ تغريدَها الأول!
  في هذه القصيدةِ يستعينُ (هرمس) بما يُسمَّى في (البديع) القديمِ باتفاقِ الفواصِلِ في قوله: "أشهِدُكَ يا غروبُ أني رأيت الحربَ تصرخُ في الشّبابيك/ والموت مكسورًا على عباراته في القلوب/ وأني الصاحي لأسأل عن الوقت/ الواقف لأبادِلَ موتًا بموت/ الماشي لأبقر الصمت". في كلمات (الوقت-موت-الصمت) .. إنه موقفٌ شكليٌّ يتجاوبُ مع الحالِ التي تشبهُ المرثيةَ Lamentation في العهد القديم ..
- أغنيةٌ تومضُ مرتينِ ثلاثًا وتنطفئ: هذه التجربة هي الأخرى مؤرّخةٌ بعام 2011 وتنتمي لمرحلة العودة .. "هنالك فقط كومةٌ من ذبولٍ ما أو حفرةٌ من الضبابِ الشفيف، تسببُ لك إحساسًا ساحقًا من شيءٍ ما، ليس الوِحدةَ أو الحُزنَ- الوحدةُ والحزنُ توقفا عن الحدوثِ، أصبحا مِقبَضَين على جانبَي البابِ المؤدِّي إلى الرُّوح". وكذلك: "لا تستطيع تتبع ذكرياتك لنقطة محددة تواطأ فيها الكون- شيخك المزعوم- ضدك؛ ليست هناك لافتات أو مخارج، الوقوف تماما يبدو باردًا و صلدا كالحقيقة، كالموت، حتى الكآبة الصافية، التي شدتك من كمك إلى سهول السماء والمروج والخيال" .. في هاتين الفقرَتَين تركيزٌ لمرحلة العودةِ إلى الواقعِ ، حتى أنَّ ما سبقَ من الرحلةِ يبدو ضبابيًّا وغامضًا وغير محدد المعالِمِ ، فالكونُ شيخُ هرمس المزعومُ (في تكريسٍ لعبادةِ العالَمِ) تواطأ ضدَّهُ وهو لا يستطيع تذكُّرَ بداية إدراكهِ لهذا التواطؤ ..


No comments:

Post a Comment