Sunday 5 February 2017

عُكّازُ التأويل: قراءةٌ في كتاب (السيرةُ الذاتيةُ لعُكّاز) لأحمد حسن أبي إلياسين

  
   "اللهمّ فقّههُ في الدّينِ وعَلِّمهُ التّأويلَ". كذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلّمَ لابن عبّاسٍ وهو طِفلٌ كما جاءَ في الأثَر. وهي دعوةٌ ربّما لن نجدَ لها مثيلاً في دعاءِ النبيّ للمسلمين الأوائل، ممّا يشي بأهمّيّةٍ كبيرةٍ للتأويلِ كان النبيُّ يستشرفُها ويَرجو أن يحوزَها ابنُ عمِّهَ الذي عَهِدَ بهِ أبوهُ إليه. اهتمّ التراثُ الإسلاميُّ كثيرًا بمسألة الفرق بين التفسيرِ والتأويل، فتناولَها السيوطيُّ في (الإتقان) والشوكانيُّ في (البرهان في علوم القرآن) وغيرُهما، وذهبَ أكثرُ المُنَظِّرين إلى أنّ التفسيرَ أكثرَه في جلاء الألفاظِ والتأويلَ أكثرَه في جلاء المعاني .. وإذا شئنا مقاربةً أخرى لهذا الفرق، فربّما يكونُ مناسبًا أن نستعينَ بمصطلَح البلاغيّ العظيم عبد القاهر الجُرجانيّ (المعاني الثواني) أو (معنى المعنى)، حيثُ يهتمُّ التفسيرُ مثلاً في آيةِ سُورةِ النّجم "تلكَ إذًا قسمةٌ ضيزَى" ببيانِ أصلِ الكلمةِ الغريبةِ الأخيرة، بينما يذهَبُ التأويلُ إلى مناسبةِ غرابةِ الكلمةِ لاستنكارِ القرآنِ تلكَ القِسمةَ (على ما ذهبَ الشعراويُّ رحمَهُ اللهُ وغيرُه إليه). هذا للتبسيطِ الذي يكادُ يكونُ مُخِلّاً وعلى من يريدُ الاستزادةَ أن يعودَ إلى عديدِ المصادرِ التراثيةِ المهتمةِ بهذا الفارق. لكنّ ثمّةَ ما يمكنُ أن نختمَ بهِ هذه الفقرةَ من أقوالِ التراثيين وهو جديرٌ بالذِكرِ لطرافتِه، وأعني أنّ الجذرَ اللُّغَوِيَّ (فَسَرَ) بما يعنيهِ من كشفٍ هو مقلوبُ جذرِ (سَفَرَ) المستعمَلِ في  قولِك: "سَفَرَت المرأةُ" أي كشفَت وجهَها، ولهذا علاقةٌ بنظريةِ الاشتقاقِ الكبيرِ عند (أبي الفتح عثمان بن جِنّي) صاحب (الخصائص).
     اهتمّت المصادرُ الغربيةُ كذلك بالتفرقةِ بين التفسير Exegesis من حيثُ هو استخراجٌ للمعاني من النصوصِ، لاسِيَّما المُقدَّسَةَ (القيادةُ إلى الخارجِ هو معنى الأصل اليونانيّ للمفردة)، والتأويل/الهرمنوطيقا Hermeneutics بما هُو اجتهادٌ في فهم النصّ بتعلقاتِه بالحاضر (المفردةُ اليونانيةُ مشتقّةٌ من اسمِ (هرمِس) رسولِ الآلِهة)، وربّما يكونُ كاشفًا أن نستعينَ بتعريفِ وظيفةِ الهرمنوطيقيّ كما أوردها الفيلسوفُ الكنديُّ المعاصر (چان كروندان) في كتابه (مقدمةٌ في الهرمنوطيقا الفلسفية): "الرسالةُ الإلهيةُ تُستقبَلُ بالضرورةِ بقدرٍ من الشّكّ الضمنيِّ في صِدقِها. وهذا الالتباسُ هو ضربٌ من الجُنونِ يُلِمُّ بمستقبِل الرِّسالة. فقط الهرمنوطيقي (الشخص الذي يمتلكُ طريقةً عقلانيةً في الفهمِ) يمكنُهُ أن يميِّزَ صدقَ الرسالةِ مِن كَذِبِها". وأخيرًا فهناك التحشِيَةُ (وهي مجردُ ترجمةٍ ركيكةٍ مِن قِبَلي لمصطلح Eisegesis الذي يعني التفسيرَ مع فرضِ القناعاتِ القبلِيّةِ للمُفَسِّر على النّصّ، والأصلُ اليونانيُّ للمفردة يعني القيادةَ إلى الداخل، ومبرّرُ ترجمَتي المقترَحةِ هذه ما تستتبعه المفردة العربية من إدخالِ مادةٍ جديدةٍ إلى متنِ أخرى قديمةٍ أو حَشوٍ، رغمَ أنّ معناها المُتعارَفَ عليهِ عربيًّا يشملُ التفسيرَ دون شُبهةِ التعنُّت في لَيّ عنُقِ النّصّ).
     استدعَت هذا التقديمَ بفِقرَتَيهِ ندوةُ مناقشةِ الكتابِ الذي نحنُ بصدَدِه، والتي عُقِدَت برابطة الأدب الإسلاميّ وكان أستاذُنا أ.د.حسام عقل أحدَ المناقشين، وطرحَ مشكلةَ تجنيسِ هذا العمَل، بينَ السّيرةِ الذاتيّةِ والتفسيرِ والتأويلِ والتحشيةِ على النص القرآنيّ (والأقربُ إلى تصوُّري أنه عنَى بالتحشيةِ المفهومَ المستقِرَّ للمفردةِ في التراثِ العربيّ)، وخَلُصَ إلى أنّ العملَ هو مزيجٌ مِن هذا كُلِّهِ ومتروكٌ للأجيالِ المُقبِلَةِ أن تُسَمِّيَه .. ربّما يَطرَحُ اختيارَ (السيرةِ الذاتيّة) عنوانُ الكتابِ (السيرةُ الذاتيّةُ لعُكّاز) فضلاً عن إيرادِ المؤلِّفِ أحداثًا تعرّضَ لها بنفسِهِ أو تعرّضَ لها معارِفُه. لكنّ مقدمةَ الكتابِ تشرحُ لنا مرادَهُ المباشِرَ من العُكّاز حين يقول: "لقد مشيتُ طويلاً في سورةِ الضحى، أنفقتُ عكاكيزَ حِبرٍ .. أكثرُ من عكازٍ توكأَ عليّ وهشَّ بي على غنمِ الاتجاهات"، وكذلك في فقرةٍ قُربَ ختامِ الكتابِ ينصحُ فيها مَن يحاولُ مثلَهُ تَلَقِّيَ القُرآنِ أن يستعينَ بقلَمٍ لتقييدِ طيورِ الإشاراتِ القرآنيةِ، مستشهِدًا برمزيّةٍ يكتشفُها هُوَ لهُدهُدِ سليمانَ في سورةِ (سبأ) ورمزيةِ الكتابِ في أمرِ سليمان: "اذهَب بكتابي هذا فألقِهْ إليهِم". فمقصودُهُ من العنوانِ إذَن أقربُ إلى تتبُّعِ مسلَكِهِ الرُّوحِيِّ خلالَ إنجازِهِ هذه القراءةَ القرآنية مصاحِبًا قلمَه. ولا يفوتُنا أنّ أحدَ التفاسيرِ المُكَرَّسَةِ في الوعي الجمعيِّ الإسلاميِّ –أعني القرطُبِيّ- أدرَجَ فيه صاحبُهُ أحداثًا شخصيّةً مرَّ بها، يَحضرُني منها قولُهُ في تفسيرِ آية سورة الإسراء: "فإذا قرأتَ القرآنَ جعلنا بينكَ وبين الذين لا يؤمنون بالآخِرةِ حجابًا مستورا": "ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مِثلُ هذا. وذلك أني هربتُ أمام العدو وانحزتُ إلى ناحيةٍ عنه، فلم ألبثْ أن خرجَ في طلبي فارسان وأنا في فضاءٍ مِن الأرض قاعدٌ ليس يَسترُني عنهما شيءٌ، وأنا أقرأُ أولَ سورةِ يس وغيرَ ذلك مِن القرآن; فعَبَرا علي ثُمّ رجعا من حيث جاءا وأحدُهما يقولُ للآخَر: هذا دَيبَلَة; يَعنون شيطانا. وأعمى الله أبصارَهم فلَم يَرَوْني". والشاهدُ أنّ إدراجَ (أحمد حسن محمد) لأحداثٍ عايشَها في متنِ قراءتِهِ لا يُخرِجُها في رأيي المتواضع عن الإخلاص لدائرةِ التفسيرِ والتأويل.
     يَحسُنُ بنا أن نؤكِّدَ أنّه لا تأويلَ دون المرور على التفسير، فالتأويلُ أشبهُ بقراءةٍ ثانيةٍ أعمقَ للنصّ تحاولُ استكشافَ شبكةِ علاقاتِ عناصرِه ببعضِها ومن ثَمّ اكتناهَ بِنيَتِه. وهذا ما يحاولُهُ بدأبٍ كاتبُنا. ويعضِّدُ هذا أولُ خصائصِ مُنجَزِهِ الذي بين أيدينا، والتي سنستعرضُها في عُجالَةٍ لضيق المقام:
1-             تراسُلُ آياتِ القرآنِ في وعي الكاتب. أعني كُلَّ مقتضياتِ المفردةِ (تراسُلٍ) مِن إرسالٍ واستقبالٍ وإعادةِ إرسال. مثَلاً مقدمةُ سورةِ المُدّثِر مع آية (والضُّحى) حيثُ يقولُ: "إن كان الضحى ساعةَ عملٍ، وعملُ النبي هو أن ينذِر القوم فيمنحهم طاقة (قم فأنذر)، وأن يتزّود بطاقة إيجابية بدلَ التي يفقدها في عملية شحنه للْآخرين )وربك فكبر) ومقاومتهم لهذا الشحن بطاقة سالبة يهاجمون بها النبي، وأن يتخلص مما علق به من طاقاتهم السلبية أثناء نقل طاقتهِ الإيجابية إليهم (وثيابَكَ فطهر) ...إلخ". وكذلك مقدمةُ (المُزَّمِّل) مع (والليلِ إذا سَجَى): "حيث يأمر الله نبيه أن يقيم الليل (قُم اللَّيلَ إِلاّ قَلِيًلا * نِصَفه أَو انْقص مِنهُ قَلِيًلا * أَو ِزْد َعلَيِه َوَرتّْل الْقْرآن تَرتِيًلا(، لماذا؟ (إِنَّا َسنُلِقي َعليَك قَوًلاً ثَقيًلاً)، وفي الليل فيما يبدو مسار طاقات كوني سماوي عجيب يجعل عملية الشحن الديني أقوى وأشد أثرًا (إِن نَاشئَةَ اللَّيل ِهي أشدُّ وَطْئًا وأَقْومُ قِيًلا)، فاشحن طاقتك واستعدّ للضحى وما فيه من شغلٍ نبوي محتاجٍ إلى طاقة كبيرة. وهنا يمكن أن نقرأ )َوالُضحى*َواللّيل إِذا َسجى) في سورة نزلَت بعد فترة انقطاع الوحي الثانية بطريقة دلالية تحتوي على سورتين نزلتا بعد فترة انقطاع الوحي الْأولى". وهذا التراسُلُ يقتضي معايشةً استثنائيّةً من الكاتبِ لنصوص القرآن الكريم، تذكّرني – مع فارق عُمق التلَقّي- بحديث الشيخ الشعراويّ عن شيوخ الكتاتيب وتوجيههم تلاميذَهم لإدراك متشابهات القرآن والتمييزِ بينها بمفاتيحَ حروفيّةٍ بالغةِ الدِّقّة.
2-             الإغراقُ في شاعريّةِ الأسلوب، ونحنُ هنا إزاء شاعريّةٍ خاصّةٍ بـ(أحمد حسن محمد) الشاعر حاصد الجوائز (ولعلَّ أشهرَها جائزةُ البابطين للإبداع الشِّعريّ التي كان أصغرَ الفائزين بها منذُ إنشائِها، عن ديوانه (مدينةٌ شرقَ الوريد) عام 2010)، حيثُ الصُّورةُ مُرَكَّبَةٌ إلى أقصى درجاتِ التركيب فمِن مقدمتِه (فاتحةُ التلقّي) يقول: "وتحت ظلِّ سنبلةٍ قرآنيةٍ أخرجتُ من زوّادتي قريةً ورغيفَين بسطتُها أمامي بحجمِ قصيدتين من شِعري القديم، مَرّ بي ضالٌّ قديمٌ يرتدي بعض ملامحي ويكلمني بصوتي". وكذلك في فقرةٍ معنونةٍ باستفهامٍ استنكاريٍّ (اللهُ يريدُ أن يعذّبَكَ؟ وأمثلةٌ أخرى) يقول: "فلا تكن جنينًا رخًوا، وامتص ما يمكنك من عظام التجربِة، فلكلِّ حَملٍ نهايةٌ، وحين تولد من رحم التجربِة، لابُد أن تكون قويِّا وأن تكون قد حصلتَ على خبرة جنينية جيدة تجعلك تجتاز كل اختبارات الحمل القادمِة بثقة، لتولَد أقوى وأصفى ضحكةً كأي طفل قوي وسيم".
3-             درجةٌ من درجاتِ القطيعةِ المعرفيّةِ مع تراثِ المعرفةِ الإنسانيةِ الغربيةِ، تتجلّى في اتهاماتٍ مُضمَرَةٍ أحيانًا وصريحةٍ أحيانًا لمباحث الوجود والمعرفة والألوهيةِ في الفلسفةِ الغربيةِ بالتسطيح، ومثلها موجَّهة إلى علم النفس الذي تقَعَّدَ في صورتِهِ الحاليّةِ المكرَّسَةِ حولَ العالَمِ في أوربّا وأمريكا. يواكبُ هذه الاتهاماتِ دعوتُهُ المتكررةُ إلى نشوءِ علمِ نفسٍ إسلاميٍّ أو قرآنيٍّ يتأسسُ على قراءةٍ متجددةٍ للقرآن. كما يواكبُها شكلٌ من أشكالِ التعميمِ المتسرِّعِ أحيانًا في إلصاقِ معتقَدٍ بعينِه بطائفةٍ بعينِها كما في حديثِهِ عن تناسُخِ الأرواحِ واعتقاد (الفلاسفةِ) فيه. ربما هو مجازٌ مُرسَلٌ علاقتُهُ الكليّة فأطلقَ اللفظةَ وأرادَ بعضَ الفلاسفة! لكن على أيةِ حال، علينا أن نتخيلَ موقفًا افتراضيًّا يقرأ فيه أحدُ دارسي الفلسفةِ المعاصرةِ في أوربّا هذا العملَ ليصطدمَ بهجومِهِ المُلمِح المُصَرِّحِ على الفلسفة والمشتغلين بها، مع ملاحظةِ أنَّ الفكرَ الإسلاميَّ (أعني الذي وصلَ إليه مفكرون مسلمون) قد يتشابَهُ بدرجاتٍ متفاوتةٍ مع أفكارِ فلاسفةٍ غربيين، وللمسلمين مرتكَزاتُهم القرآنيةُ في فكرِهم ذلك (كتشابُهِ إبطالِ ديفيد هيوم لمقولةِ السبب والنتيجةِ مثَلاً مع ما يقولُ به الأشاعرةُ المسلمون واتخاذِهم هذا الإبطالَ ذريعةً لفهمِ عدم احتراق إبراهيم بالنار، وكذلك تشابه ما وصلَ إليه الباحثُ نفسُهُ من تحليله لموقف المجيء بعرش بلقيس إلى سليمان حين قال: "هذا من فضل ربّي ليبلوَني أأشكُرُ أم أكفُرُ" مع النتيجةِ التي ساقَها (سارتر) في (نظريةٌ عن الانفعالات) مِن أنَّ التعبيرَ الجسديَّ عن الفرحِ هو ضربٌ من السِّحرِ يعوّضُ به الشخصُ الفَرِحُ كسلَهُ عن القيامِ بمهماتِه المترتبةِ على الموقف المُفرح، فهُنا سليمانُ أدركَ حقيقةَ الموقفِ الابتلائيَّةَ ولم يَنسَقْ إلى السِّحر!)، فصحيحٌ أنّ سياقَي هذه الأفكارِ الغربيَّ والإسلاميّ مختلفان، إلاّ أنّ هذه التشابهات قد تمثّلُ مُنطلَقًا للحوار مع الآخَر، لاسيّما أنّ القرآن مُتَعالٍ على الشرقِ والغرب كما قد نلمحُ من آيةِ (اللهُ نُورُ السماواتِ والأرضِ) من سورةِ النُّور! وربّما في هذا التَّتَرُّسِ بالنصِّ القرآنيِّ في مواجهةِ تياراتِ المعرفةِ الإنسانيةِ المختلفةَ امتدادًا لمفهومِ الولاءِ والبَراءِ عند التيار السلفيِّ الإسلاميّ (وهذا المفهومُ في حقيقتِه ما هو إلاّ صيغةٌ رياضيةٌ بسيطةٌ لبيانِ انتماء العناصر إلى المجموعاتِ المختلفة!). لكن قد تكونُ هذه الدرجةُ من القطيعةِ المعرفيّة هامّةً لعكوفِ باحثِنا على النصّ القرآنيِّ يهذا الإخلاص، وربّما لولاها لما أتحفَنا بقراءةٍ عميقةٍ كهذه تَثري طَيفَ المعرفةِ الإنسانيّةِ المُتنوِّعْ.
4-             بخلافِ النقطةِ السابقةِ نجدُ الكاتبَ مُغرَمًا بأدبياتِ المعرفةِ التجريبيةِ الغربية، فيُكثِرُ من استخدام الاصطلاحات التركيبية المستخدمة بكثرةٍ في العلوم البحتة والتطبيقيّة في صيغتِها الغربية كقولِه "سَنتي-يُتم"، "مفتاحٌ أكسيجينيٌّ في باب سورة الضحى (عائل)"، "السلّم الكهرو-استكباري" وغيرها كثير، ممّا يُذَكِّرُني بكتاب "اغتصاب مفكري ما بعد الحداثةِ للعِلم" للفيزيائيّ والرياضيّ الأمريكيّ (آلان سوكال) والفيزيائي وفيلسوف العلم البلچيكي (چان بريكمونت)حيثُ ينتقدُ اجتراءَ نُقّادِ الأدبِ والفلاسفةِ على اصطلاحات العلم التجريبي بطُول الكتاب! فبعضُها موفَّقٌ في موضعِه وبعضُها ربّما ساقَه للسخريةِ، ولكن هي ظاهرةٌ جديرةٌ بالتسجيلِ على كلّ حال!
5-             دعوةُ الباحثِ إلى الفرديّةِ في تلقّي النصّين القرآنيّ والنبويّ. هو يقفُ بالمرصاد لكلِّ ما مِن شأنِهِ إحاطةُ محاولاتِ السابقين بهالاتِ القداسةِ ومأسَسَتُها ومصادرةُ الحقّ في الاجتهاد. وهو يقفُ في هذا موقفًا قريبًا من مفكّرين معاصرين متفاوتي الحظوظ من الجِدّيّة، لكنّه يشترطُ على الباحثينَ لضمانِ وصولِهم إلى نتائجَ ألاّ يكون قُصاراهم إثارةَ الأسئلة، وإنما عليهم أن يبحثوا بأنفسهم عن إجاباتٍ لها، وإلاّ فستكونُ نتيجةُ نشاطِهم الأوَّلِيِّ هي الهَدمَ بالتأكيد، والهَدمُ – حين يتعلّقُ الأمرُ بالنصوص المركزيةِ في الإسلام – يعني مباشرَةً رفضَ كل حديثٍ اتفقَ المحدِّثُون على نسبتِه إلى النبي إذا لم يوافق النظرةَ الأولى لدى الباحث، وصولاً إلى رفضِ نبوةِ النبيِّ نفسِه ومِن ثَمّ رفضِ القرآن جُملةً وتفصيلا.
6-             ترتبطُ هذه النقطةُ بالثالثةِ (نقطة القطيعة المعرفية). أعني هُنا حرصَ الباحثِ على تقديمِ مُنتَجٍ مفاهيميٍّ إسلاميٍّ في مقابلِ كثيرٍ من المفاهيمِ الرائجة عالَمِيًّا، فهو يقترحُ بديلاً عن (تناسُخ الأرواح) الشائعِ في دياناتٍ ومذاهب مختلفةٍ مفهومًا يسمّيه تقريبًا (تناسُخَ الذاكرةِ الجسديّة) يتعلّقُ بالسلاسلِ الغذائيّة المعروفة في البيولوچي، ويتمحورُ حولَ اكتسابِ الآكلِ صِفاتٍ من جسدِ المأكول، ويمضي خُطوةً بهذا الاقتراحِ ليفسّرَ بهِ مثَلاً وصفَ القرآنِ للمُعاقَبين بالنارِ في الآخِرةِ وحديثِهم فيها. يعترفُ الباحثُ بأنّ دلائلَهُ نقليّةٌ عن سلَفٍ كابنِ خلدونَ الذي فسَّرَ طبائعَ الشعوبِ بطبيعةِ ما تأكلُه، فضلاً عن طرائقَ معينةٍ في فهمِ الحديثِ النبويّ. يبقى الاقتراحُ في الحقيقةِ مُثيرًا للخيال، وتحديدًا الخيالَ العِلميّ في ظلّ صعوبةِ إثباتِه أو نفيِه بطُرُق العلمِ التجريبيّ المعروفةِ حالِيّا.
7-             درجةٌ من الپراجماتية الدَّعَوِيّة لا يمكنُ إغفالُها، ونعني بها استغلالَ الباحثِ وحشدَهُ لكلِّ إمكانياتِ النّصّ القرآنيّ في الدعوةِ للتحلُّقِ حولَ مائدةِ الإسلام، وربما تكونُ بعضُ هذه الإمكانياتِ عارضةً وليست أصلِيّةً من منظورٍ ما. المثَلُ الأبرزُ هو استعانتُهُ برَسم حرف الثاء الذي تنتهي به آخِرُ كلماتِ سورةِ الضحى (فحَدِّثْ) حيثُ يرصُدُ مشابهتَه لطبَقِ فاكهةٍ مُقَدَّمٍ إلى مُتَلَقّي السورة. وهو رصدٌ متماشٍ جدًّا مع سياقِ قراءتِه للسورة رغم أنّ رسم الثاء بنقاطها الثلاثِ أمرٌ طرأ على رسم الحروف العربية مع نصر بن عاصمٍ وسِواهُ كما يقولُ التاريخ.
8-             الربطُ الدائمُ الذي ينجِزهُ الباحثُ بينَ القرآنِ وبينَ حقلَي التنميةِ البشريّةِ والتربية. هنا نزعةٌ پيداجوجيةٌ أراها مُحَقِّقةً للمفهومِ الواضحِ من قولِ الله تعالى في القرآن: "إنَّ هذا القُرآنَ يَهدِي للّتي هِيَ أقوَمُ".
9-             نزعةٌ صوفيّةٌ ربّما لن يسمّيَها الباحثُ بهذا الاسم، إلاّ أننا نلمحُها في تقاطعاتٍ لقراءته مع أدبياتٍ في التصوفِ الإسلاميّ، على غرار ما يُورِدُهُ من رمزية الطيور في قَصَصِ إبراهيم وسُليمان مثَلاً، وفي رُؤاهُ الشخصيّةِ وحوادثِ واقعِه، مع (منطق الطَّير) لفريد الدين العطّار النيسابوري، وكذلك ما يركِّزُ عليه من الجَوهَرِ الحِكمِيِّ لمواقفِ الأنبياءِ في القرآنِ مع (فُصُوصِ الحِكَم) لمُحيي الدينِ بن عرَبيٍّ، حيثُ هناك نجدُ فصوصَ حِكَمٍ موسويّةٍ وسليمانيةٍ وغيرَها. 
     في النهايةِ نحنُ أمامَ وعيٍ مختلفٍ في طريقةِ تلقّيهِ للنص الإسلامي المركزيّ، وهو مختلفٌ بما تستوجبُهُ الكلمةُ من اختلافٍ عن طرُقِ الإسلاميين التقليديةِ المُكَرَّسَةِ تراثيًّا، وطُرُقِ العَلمانيّين المتفاوتةِ الحظوظ مِن الاجتراءِ على هذا النصِّ إلى حدِّ الاستهزاءِ به والسّلام. ولهذا كُلِّهِ فهي محاولةُ تَلَقٍّ جديرةٌ بالقراءةِ والاشتباكِ معها، وتحريكِ الماءِ الآسِنِ في الفكرِ الإسلاميّ.

محمد سالم عبادة

4 ديسمبر 2016
نُشِرت في عدد يناير 2017 من مجلة (عالَم الكتاب) المصرية

No comments:

Post a Comment