Saturday 25 February 2017

أزمتا الوجود والمعرفة - قراءة في ديوان (الناس انصاص) للشاعرة دعاء فتوح

واجهتُ صعوبةً في تصدير هذه القراءة بفقرةٍ مقتبسَةٍ من إحدى قصائد الديوان تحاولُ أن تلخّصَ مزاجَه العامّ وتنقُلَ أجواءه إلى القارئ، وربما مرَدُّ هذه الصعوبة إلى رؤيتي لهذا الديوان ككُلٍّ يصعب فصلُ جزءٍ منه وتقديمُهُ باعتباره نموذَجًا لمحتواه الشِّعري. الديوان هو الثاني في المسيرة الشِّعرية لصاحبته (دعاء فتوح)، وقد تُوّج بأن كان ضمن القائمة القصيرة لجائزة (أحمد فؤاد نجم) لشعر العامية في موسم 2016.
     بعد الإهداء صدَّرَته الشاعرةُ بمقطع يحاول أن يمسك بتلابيب المحتوى حيث تقول: "مين يختشي مِ الصبح؟ وهوَّ بيعكِس الضّلّ اللي كان في القلب ساكن؟؟" وتقول: "وجد المحبين مختزَل في لحظة الاحتواء ثم.. الارتواء والطرح". في تقديري أنّ السؤال الأول فيه تكريسٌ للكتابة باعتبارها (صُبحًا) يُظهِر إلى عالمِ الوجود بالفعل ما كان مجرد احتمالٍ (موجودٍ بالقوّة) متأرجحٍ بين وعي الكاتب ولاوعيِه. أمّا الجملة الثانية ففيها إحالةٌ إلى شاعرية رحلة اكتشاف الذات ومحبّةِ العالَم، والظلم الذي يختزل الوَجدَ في لحظة ذروة النشوة. وسنجدُ خلال تتبُّعِنا لمسار الديوان أصداءَ هاتين الإحالتين.
     ينقسم الديوان إلى ثلاثة أقسام: (نيجاتيف) و(ألوان رصاص) و(بديهي). في (نيجاتيف) اختارَت أن تفصل بين كل قصيدتين بمقطع مكثَّف ربما يمثل مرحلة انتقال بين جوّي القصيدتين، فمثلاً بين قصيدة (توازي) حيث تقول: "زاوية فاضية. تعليق منظَّم للصُّوَر. أختار لحلمي برواز زتوني. إلخ" وفي القصيدة التالية (نُص صورة) تقول: "أدخُل من نُص حكاية غيري أضيَّع نُصّ حكايتي. أخرُج من نُص حكاية غيري لوحدي. إلخ"، بينما يقول المقطع بينهما: "أرسم لوشّك پورتريه. أغمض عيني واتملي تفاصيل. أمسّد بروحي ع الملامح. تتجسد تاريخ". هنا يتوسطُ المقطعُ المكثَّف المسافةَ المضمونية – إذا جاز التعبير- بين تأمُّل المشهد في حياد في القصيدة الأولى والتورُّط فيه من قريبٍ في القصيدة الثانية.
     المهم أن هذا القسم من الديوان يشير من خلال قصائدِه إلى رحلة الشاعرةِ للبحث عن ذاتِها بشكلٍ ما أو بآخَر، فتارةً ينطلقُ هذا البحثُ من تورُّطِها في أسطورة الآخَر كما في بقية (نُص صورة): " أغرس أحاسيسي ف أرض حزينة. أتشكل وصف جديد. أتعرى بصدق حقيقتي، ميتغيرش الجوهر. يتزود عمري تاريخ مشحون. لما أسِد فراغ اللحظة بجهد. أتفاعل حُب. أتعلم حق وجودي. ما استناش بكرة. فاخرج من نُص حكاية غيري، ما اخافش". وتارةً ينطلقُ من محاولة الاتّصال بدَور الأنثى المستقِرّ في الوجدان الجَمعي، وهو هنا دور الحَكّاءة في (ألف ليلة وليلة) كما في قصيدة (طينة نيّة): "أبويا مات وسابني بيت واقف على عمدان حكايتي. جميلة خالص سيرة البنت ف حكاوي (ألف ليلة وليلة). حكّاية بنت الإيه. بتفهم ف التسالي والونس". إلى أن تقول: "البنت أصل المُعضلة ومُعادلة التصحيح". وتارةً ثالثةً ينطلق البحث عن الذات من حياةِ الشارع بين الرفاق كما في (سقف الشوارع مختلف): " أنا وانتو والمشاريب على المتيسره يُمناه. ثقافة الدواليب نفتحها عَ الأسفلت، ومحاولة أني أخرج وأغير عدسة المعنى البرىء. للشارع الأكثر براءة واتساع. خلّا التفاوض مُستمر. لمسك الخيط. لاستكمال حقيقى للى مش عارفاه". وربما تتوقف هذه الذات المرتحلة في بحثِها عن نفسِها لتتأمّل طَورًا من أطوار تشكُّلِها كما في قصيدة (زي كل الناس): "كل لحظة تكنولوجيا جديدة. تكسِب الحياة تعقيد. تعقيد. يستهلك ملامحي ف لعبة البنت الجميلة. باستقامة القامة اللي تبرز تفاصيل الجمال ف اتجاهين متعاكسين! تعقيد يحوّلني سكن فاضي، مُتاح، مُنهك، غريب عني. يتكلف لحصد إعجاب الجميع". أو لتتأمّل موقفَها إزاءَ أشباح الماضي كما في (وِش سعيد): " مشيوا ف هدوء. ما فضِلش من صوت الوداع غير قلب أطرى من احتمال المشي. وحدي. أهز منديل للي فات. واطلع من عنيا عيال يتشعبطوا علي طرف منديلي اللي كان لسه وحيد. وأتملي بضحك السكك".
     أما قصيدة (استغُمّاية) فهي تمثّل بالفعل تلخيصًا لهذه الحركة الأولى (بلغة الموسيقى الكلاسيكية) من الديوان (نيجاتيف) حيث تقول: "مشروع وجودي سِرّ مرهون بالمواقف" إلى أن تختم القصيدة: "فاطلَع كما وِلدِتني رُوح الأسئلة". هنا ترصُد الشاعرة تخَفِّيَ وجودِها في مواقف حياتها المتتابعة، ومطاردتَها لهذا الوجود فيما يشبه (الاستغُمّاية) بالفعل. باختصارٍ، هنا يصل انشغالُها بالسؤال الوجودي/ الأُنطولوچي إلى غايتِه.
ينتهي هذا القسم بقصيدة (سِلُويتّ) وهو خيالُ الظّلّ وقد فضّلت التعبير عنه بالكلمة الأوربية لطيفة الوقع على الأذُن. هنا تتأملُ ضرورةَ صيرورةِ الذاتِ خلالَ الرحلة واستعصاءَها على الثبات، فتبدأ: "عُمري ما خُضت ف يوم تجربتي لحد الآخِر"/ "دلوقتي باقابل نفسي ف وسط طريق/ أحكي عن بنت اتصالحت ويّا الضحكة" إلى أن تقولَ لمُخاطَبِها: "فاستنّى شوية عشان نتفسَّر" في إشارةٍ إلى حالةِ الإلغاز التي تكتنفُ الموجودَ البشريّ وأنّ حَلّها يكمُنُ فقط في الرِّحلة، لتقول انتهاءً: "تجربتي تلوّن جلدي. ترُصّ ف نفسي رصيد. تغيير السكة بديهي. فاللحظة الفايتة ما بترجعش".
     في القسم الثاني (ألوان رصاص) يستمرّ توسُّط المقاطع المكثفَة بين القصائد في إخلاص لفكرة التلَطُّف بوعي المتلقّي فيما يبدو! هنا يكتنفُ صورةَ الذاتِ تجسُّدٌ ووضوحٌ كأنها اكتست ألوانًا بالفعل. صحيحٌ أن اللون الأولَ كما يشي عنوانُ القصيدة الأولى (رمادي)، لكنّه يبدو مرحلةً لابُدَّ منها في عملية الاكتساء بالألوان بعد النيجاتيف. في القصيدة الأولى تسليمٌ بالعجز عن المعرفةِ التي تصبو إليها روحُها: "ما باملكشي زوايا جديدة للرؤية. روحي ضيقة. مش باتساع المعرفة والناس". أما في القصيدة الثانية (وربّي جلاه) التي تبلُغ فيها الغنائية سقفَها في هذا الديوان (الغنائية كما أفهمُها في معناها الواسع هي الاحتفاءُ بالصورة الشعرية التي لا تدَعُ مُجَرّدًا لا تُلبِسُهُ جسدًا ملموسًا، والاحتفاءُ بالموسيقى الخارجية الظاهرة، فتكاد هذه القصيدةُ تكونُ الوحيدة المنتظمة على عَروضٍ شِعريٍّ واحدٍ لا تخرجُ عنه إلى سواه ولا إلى اللاوَزن، وهو هنا عَرُوضُ البَحر الوافر بتفعيلته المريحة (مُفاعَلَتُنْ/ مفاعِيلُنْ))، فيبلغُ الاحتفاءُ بالحياةِ سقفَه أيضًا ليواكبَ القالَبُ الفَحوَى ويواكبَهما معًا العنوانُ، حيث (تنجلي) جمالياتُ شِعر العامية المصرية بمتكآتِها على جماليات البيان العربي في هذه القصيدة: "باقول لك إيه: تجيش نضحك على النكتة اللي شايلينها ليوم ضيقة؟!/ ساعات الضيقة يسبقها أجل حاسم/ خلاص نفرح مادام العمر مش دايم/ خلاص نفرح ونبقى نحوّش الأحزان" إلى قولِها: "فكل ما فينا بيشابي على قَدْرُه/ ويشبه قَدرْه مسعى يداه/ ودعوة فجر بتوصّل لقلبي رجاه/ وأنا في الدنيا دين معلوم/ ورزق لغيري كان مكتوم/ وربّي جلاه".
     تستمر حالة الاحتفاء بالحياة/ قَبُول القدَر/ الاكتساء بالألوان في قصيدة (وجهة نظر): "في الحقيقة المِشّ دُودُه مِنُّه فيه/ قبول الناس لأقدارهم لُغز مُعجِز". لكن يبقى أنّ الوجودَ متحققٌ دائمًا بطريقةٍ ما في هذا القسم الثاني/ الحركة الثانية من الديوان، ولذا تَفرَغ الشاعرة في قصيدة (ناقص حِتّة) للسؤال المعرفي/ الإپستمولوچي وتحاول أن تُبدِع نظرية المعرفة الخاصةَ بها حين تقول: "هاحكيلك عن عيني حكاية. طول عمري بادوّر على حاجة توسع ضيقها. من ضيقها كنت بشوف الناس انصاص. أجزاء مفصولة بجمعها في عقلي لأشخاص. منضاف على روحهم تفاصيلي فبقيت احتاس. بطّلت أجمع تفاصيلهم واكتفي برحابة ضيق العين. فعرفت بأن الناس بتشوف في العادي انصاص. ظاهر معكوس في عيون الناس!". بالتأكيد لا يمكننا أن نفهم من (العين) مجرَّدَ العضو المنوطِ به الإبصار، فالظاهرُ أنها عينُ الإبصار وعينُ العَقلِ معًا. الشاعرةُ تحكي لنا عن قصتها مع الحواسّ والعقل كوسيلتين لإدراكِ العالَم، ووعيها في لحطةٍ ما بأنّها تُسقِطُ مِن ذاتِها تفاصيلَ على ما تتوهمُ أنها تُدرِكه، وتسليمها في النهاية بقصور الإمكان البشريّ عن الفهم الكامل للعالَم "واكتفي برَحابة ضيق العين". وهذه المفارقَة في (رحابةِ الضيق) لم تتأتَّ لها إلا بعد إدراكِ القصور الفطريّ في وسائل الإدراك، حيث يترتّب عليه أن تسمحَ لعين خيالِها بأن يُكمِل النقص كما يحلو له، وأن تقنعَ بما يفعلُه الخيال، أو تسلّم أمرَها لبارئ الإدراك كما يحدثُ ضمنًا في قصيدة (وربّي جلاه). ربّما يذكّرُنا هذا البيتَ المنسوب إلى لإمام عليٍّ بن أبي طالبٍ كرّم اللهُ وجهَه: "العَجزُ عن درَكِ الإدراكِ إدراكُ/ والبحثُ في سِرِّ ذاتِ السِّرِّ إشراكُ".
     تختمُ الشاعرةُ القسم الثاني بمقطع "مخلوقة من ربكة المفاهيم. ما بين صح وغلط باعيش إنسان. أظلم عشان أطهر روحي من وصمة الأنبيا. أشوف حجمي الحقيقي. أنحني للحق". ثّم قصيدة (مافيش حُسن) حيث يقول مطلعُها: "نفس هوسي الأزلي بالخلود. هو اللي خلاني قررت أتحول مصاص دماء. فأعيش على نفس الدم الفاسد". هنا عودة واعية إلى النيجاتيف بارتباك أسئلتِه ولا تَحَدُّدِ موقفِها الوجوديّ فيه. وهي تقررُ أن هذه العودة تشبُّثٌ منها بالحياة (نفس هوسِها بالخلود)، فربما كان تحقق الوجود وقبول القدَر المعرفيّ بعد ذلك إيذانًا باكتمال الرحلة ومِن ثَمّ الموت!
     لكن ما يستوجبُ النظر في عنوان هذا القسم الثاني هو اختيارُها لألوان (الرصاص) تحديدًا! هل هي مصادفةٌ إبداعيةٌ أم أنّ هناك قصدًا واعيًا؟ في تقديري أنّ هناك سببين ربما يتأرجحان بين وعي الشاعرة ولاوعيها، أولُهما قابليةُ ألوان الرصاص للمحو، وهو ما تحرصُ عليه في ختام هذا القسم كما تسلّمُ بأنّ المحو هو المصيرُ المحتومُ حتى في ذروةِ انتشائها بالحياة في (وربّي جلاه): "عشان الرحلة بتخلّص أكيد ف ميعاد/ فيران بتقرقض الأيام". وثانيهِما سببٌ ألصَقُ بانطباعاتي الشخصيةِ ولا أستطيعُ معه ادعاءَ موضوعيةٍ من أي نوع! وهو سببٌ يتعلقُ بدفءٍ ما، موجودٍ في ألوان الخشب، لا يقتربُ منه إلا دفءُ ألوان الشمع مثلاً! ربّما!
     القسم الثالث والأخير (بديهي) يمثّلُ تخارُجًا من خصوصية جوّ الديوان إلى تكرار الحياة اليومية العادية، لكنه يستبقي من حالةِ الكتابةِ الانتشاءَ بفكرة الحرية: "أسكر من كوني حُرة/ حتى لو حريتي متر*متر". في (معضلة بكرة) تأمُّلٌ ساخرٌ مريرٌ لموقفِ توريثِ أزمة الوجود للأبناء: "وبعد ما ركبنا جميعًا في السفينة/ اكتشفنا إننا نسينا باقي المخلوقات ع الأرض غرقانة/ وعليه مش فاضل عشان نحيا/ سوى أجسادنا ننهش فيها/ فقررنا نجيب ف ولاد عشان نقتات عليهم"! ثم تختم شاعرتُنا الديوان بقصيدة (ف بيت الراحة سِر) حيث تبدأها: "تلاعبني عشرة كوتشينه؟" وحين يحتدم اللعب "ممكن استأذن ثواني لحد بيت الراحة وارجع؟/ في الطريق مش عارفة ارتّب جوه مخي ازاي افوز" ولدى العودة من بيت الراحة: "في اللحظة دي شُفت الورَق من زاوية تانية مُربِحة/ والورق قدامي بقى مكشوف". في تصوُّري أن هذه قصيدةٌ محوريةٌ لفهم المنطلَق الإبداعي للشاعرة ورؤيتها لوظيفة الكتابة، فثَمّ دلالةٌ لاختيار هذه القصيدة بالذات ختامًا للديوان. الظاهرُ أنّ حالة الكتابة بكل تشابكاتِها أقربُ في استسرارِها إلى (بيت الراحة) حيث يتخلص الوعي من فضلاته الزائدة عن حاجته وتطفو الأفكار الملتبسةُ بسحر القلَم إلى سطح الوعي و(تترتّب الأوراق) باصطلاح الكوتشينه! وربما يتراسلُ هذا التصورُ مع مقطعٍ بينيٍّ سابقٍ: "قال لو حابب تعرف حد بجد/ فتش ف زبالته تلاقي حقيقته/ لو دوّرت بصدق ف حاجة رميتها/ حاشُوفني كويس؟!".
     يبقى في النهايةِ أن نتوقفَ عند عنوان الديوان الذي اختارته الشاعرة من بؤرة إحساسها بأزمة المعرفة (الناس انصاص)، ليقِفَ عنوانًا مخاتلاً قد يَشي بأن هذا ديوانٌ بسيطٌ عن الناس، بينما هو في الحقيقةِ ديوانٌ معقَّدٌ متشابكٌ عن النفسِ، مُحيلٌ إلى ذاتِه، لا يتيحُ جمالَه في تقديري لكل عابر سبيلٍ أو طالبِ متعةٍ سريعة، ويفتحُ كنزَه لطالب الجَمال الصبور.
محمد سالم عبادة
2 فبراير 2017   
نُشِر في صحيفة (أخبار الأدب) بتاريخ الأحد 19 فبراير 2017

No comments:

Post a Comment