Saturday 24 November 2018

الترجمة إلى العامية: همومٌ ورؤية



     في المقدمة الضافية التي كتبَها لترجمتِه لمسرحية (دكتور فاوستُسْ) لكريستوفر مارلو، أثار الدكتور عبد الواحد لؤلؤة مشكلة الترجمة إلى العامّيّةِ العربيةِ بشكلٍ يصعُبُ أن يمُرَّ القارئُ به مرورَ الكِرام. مثَّلَت الشخصيّاتُ الثانوية في المسرحية - المنتميةُ إلى طبقاتٍ اجتماعيةٍ دُنيا – مشكلةً في طبيعةِ الحِوار المتوقَّع أن يَصدُرَ عنها في وعي الدكتور لؤلؤة. فالرجُل ترجمَ المسرحيةَ في معظمِها إلى العربية الفصحى، ولإضفاء مزيجٍ من الكوميديا والواقعيّة على أجوائها قرّرَ أن يترجمَ حوارَ هذه الشخصيات إلى العامية، فواجَهَته مشكلة: "أيَّ العامّيّاتِ نَختار وعلى أي أساس؟!"، وعمَّقَ المشكلةَ أنَّ سلسلة المسرح العالَميّ الكويتيّة التي ترجمَ لمصلحتِها هذه المسرحيةَ موجَّهَةٌ إلى قُرّاء العربيةِ من المُحيطِ إلى الخليج. اختار الدكتور لؤلؤة في النهايةِ عامّيّةً (وُسطَى)، أقربَ ما تكونُ إلى فُصحى متخففةٍ من بعض قواعدِها، ليلائمَ جمهورَ السلسلةِ العريضَ بعامّيّاتِه المختلفة.
     يَجُرُّنا هذا الموقفُ إلى مصطلَحٍ شائعٍ في علم اللسانيّات الاجتماعي Sociolinguistics هو (ازدواجُ اللسان) Diglossia. أولُ مَن وصفَ الحالَ اللُّغَويَّةَ العربية بهذا الوصف كان المستشرق الفرنسي (وِيّام مارسيه) William MarÇais عام 1930، وكان يعني تحديدًا حال أهل المغرب العربي، حيث يستخدمون لهجةً لحديثِهم اليوميِّ العاديِّ تختلف كثيرًا عن اللغة العربية المعياريّة التي يجعلونها للمخاطبات الرسمية والأدب والتعليم، ولا يتكلمُها أحدٌ بصفتِها (لُغَةَ أُمّ) Mother's Tongue. ليس من الصعبِ بالطبعِ أن نجزِمَ بأنَّ هذا الوصف ينطبق على كلِّ مَن يعتبرون العربيةَ الفصحى لغتَهم الرسميّة في بقعتِنا من العالَم، وليس المغاربة فقط!
     في الحقيقةِ يُثارُ السؤالُ بشكلٍ أعنفَ وأكثرَ جذريَّةً هكذا: هل نقولُ (اللهجة المصرية) مثَلاً؟ أم الأصوَبُ أن نقول (اللغةُ المصرية الحديثة)؟ وبالتأكيد لإجابتِنا مردودٌ يتعلّقُ بحجم وطبيعةِ الترجمةِ المتوقَّعَةِ من اللغاتِ الأخرى إلى اللهجة/ اللغة المصرية.
     نعودُ إلى علم اللسانيات الاجتماعي لعلَّنا نظفرُ بإجابةٍ مُرضِيَةٍ أو نقتربُ منها مؤقتًا على الأقلّ. المصطلحان الأكثر استخدامًا للتعبير عن وضع اللغتين في حالة الازدواج اللساني هما: النسخة العليا H والنسخة السُّفلَى L. العُليا هي بالطبع تلك المستخدمة في الأدب والمواقف الرسميّة، العربية الفصحى في حالتِنا، والسُّفلَى هي المستخدمة في الحديث اليومي، المصرية عندنا. بَيدَ أنَّ لُغَوِيًّأ ألمانيًّا مهمًّا هو هاينتْسْ كْلُسْ Heinz Kloss (1904 – 1987) استخدم اصطلاحين بديلَين، ينطويان على دلالةٍ عميقة، هما اللسان الخارجي Exoglossia للنسخة العليا، واللسانُ الداخلي Endoglossia للسفلى، ولا يَخفَى أنَّ المقطعين exo&endo يشيران إلى ما للنسخة السفلى من رصيدٍ عاطفيٍّ عند مستخدميها باعتبارِها لغة الأمِّ الحقيقيةَ لهم، وفي المقابلِ ما يكتنزُه استخدام العُليا/ الفصحى من التصنُّع واللاطبيعيّة.
     في الواقعِ يأتي إسهامُ (كْلُسْ) الثريُّ ليُلقِيَ ضوءًا جديدًا على طبيعةِ مشكلتِنا اللغوية العربية، فقد نحتَ الرجلُ اصطلاحَين آخرَين أكثرَ أهميةً هما:
- اللغة المتباعِدة Abstandsprache: ويعني بها أية نسخةٍ أو مجموعة نسخٍ من لغةٍ ما، تفترقُ عن غيرِها بشكلٍ واضحٍ لا لبسَ فيه، إلاّ أنّ (كْلُسْ) عادَ فأشارَ إلى درجاتٍ مختلفةٍ من التباعُد بين كلِّ زوجَين من النسخ اللغوية المتقاربة!
- اللغةُ المتمَدِّدة Ausbausprache: أي نسخةً من النسخ المنتمية إلى متَّصَلٍ لَهْجِيٍّ معيَّن Dialect Continuum يتمُّ تطويرُها إلى لغةٍ معيارية Standard Language. وتحدَّثَ عالِمُنا عن مراحلَ محددةٍ لهذا التطوُّر، فأولاً تُستخدَمُ اللغة المتمددة في الفولكلور، ثُمَّ في الشِّعر (شِعر العامّيّة)، ثُمّ في السَّرد التخييلي النثريّ (الرواية والقصّة)، ثُمَّ تأتي مرحلةٌ حاسمةٌ حين تستخدَم هذه العامّيّة المتمددة في السَّرد غير التخييلي، حيث يُتوَقَّعُ بعد ذلك أن يَسهُلَ اختراقُها دوائرَ المخاطبات الحكومية الرسمية والتعليم والخطاب العلمي والتقني.
    والمهمُّ في آليّات (تمدُّد) اللغات بهذا الشَّكل هو قيامُها بوظائفَ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ معينةٍ تُكَرِّسُ استخدامَها بشكلٍ مستقِلٍّ عن قريباتِها من النسخ اللغوية.
    قبلَ أن نهبطَ إلى الواقع اللغويِّ العربيِّ، نذكرُ المثَل المعاصِر الذي غالبًا يقترنُ بالحديثِ عن اللغات المتمددة، وهو الحالة الاسكَندِنافية. عبرَ هذه البقعةِ من شمال أوربّا ينتشر المتَصلُ اللهجِيّ الاسكندنافي، ويتألَف من نسخٍ لغويةٍ مختلفةٍ يُطلَق عليها (مجموعة اللغات الجرمانية الشَّمالية) أو (لغات الشَّمال Norse Languages) اختصارًا. ورغم تحقُّق عامل الفَهم المتبادَل Mutual Intelligibility بين من يتحدثون هذه النسخ المختلفة، فإنَّ صعود التيارات القومية الرومانسيّة بدءًا من نهايات القرن الثامن عشر واكتمالاً في التاسع عشر (قَرن القوميات الأوربية بامتياز) عمل على تكريس النسخ الثلاث الأكبر من هذه المجموعة المتجانسة (السويدية والنرويجية والدنماركية) باعتبارها (لُغاتٍ) قوميةً، لا لهجاتٍ للغةٍ واحدة.
     فماذا عن الحالةِ العربية؟!
     يُشارُ إلى ما نحنُ فيه لُغَوِيًّا باعتبارِه هو الآخَر مُتَّصَلاً لَهجِيًّا، ومن الملاحظات المُطَّرِدَة في المتَّصلات اللهجية أنَّ أصحاب اللهجات المتقاربة جغرافيًّا يتمتعون فيما بينهم بقدرٍ أكبر من الفهم المتبادَل، ومع التباعُد الجغرافيِّ تتراكمُ الفُروقُ بين اللهجاتِ حتّى تصِلَ إلى صعوبةٍ شديدةٍ في فهم الآخَر. يمكننا أن نفهمَ هذا حين نتصورُ لقاءً بين قاهريٍّ وبيروتيٍّ مثلاً، في مقابلِ لقاءٍ بين عُمانِيٍّ ومغربيّ. في الحالة الأولى يتوافق القرب الجغرافيُّ مع القُرب اللغوي فيتمتع الطرفان بقَدرٍ معقولٍ من الفهم المتبادَل، وعكس ذلك بالضبط يُتوَقَّعُ في الحالةِ الثانية. لهذا تبدو مشكلة الدكتور (لؤلؤة) مُبَرَّرةً تماما!
     فماذا إذا تناولنا الحالة المصريةَ تحديدًا؟!
     تعدَّدت محاولاتُ تقعيد العامية المصرية ورفعِها إلى مصاف اللغات المعيارية، حتى لم يعُد الحديثُ عنها مدهشا. لكن ما لم يفقِد إدهاشَه بالنسبةِ لي على الأقلِّ هو تحقُّقُ المرحلة الحاسمة من مراحل (التمدُّد) التي تحدثَ عنها (كْلُسْ) في الآونةِ الأخيرة، بظهور (ويكيبيديا المصري) من ناحيةٍ، وشيوع محاولة ترجمة سُوَرٍ من القرآن إلى العامية المصرية بعد ثورة 25 يناير بقليل.
     أجدُني أتساءلُ عن جدوى قولِنا: "ويكيبيديا مصري هي النسخة المصري بتاعة الموسوعة الحُرّة، وفيها 18251 مقاله دلوقتي" بدلاً من: "هي النسخة المصرية من الموسوعة الحرة، وفيها 18251 مقالةً الآن". أعني أنني لا أتصور أن أقلَّ الناس حظًّا من التعليم والقدرة على القراءة في مصر يمكن ألاّ يفهم النسخة الفصيحة من الجملة السابقة!
     كذلك يبدو التساؤلُ مشروعًا جدًّا حين نقرأُ الفاتحة بالعامية المصرية، لينتهي النصُّ المقدس بـ(ولا سِكّة التايهين) بدلاً من (ولا الضالّين)! صحيحٌ أنَّ مقولةَ الإمام عليٍّ في نقطةِ الباء من (بسم الله الرحمن الرحيم) شائعةٌ، وصحيحٌ أن للمفسِّرين اختلافاتهم بالطبع، لكنّ ملايين المسلمين المتدينين الذين يقرأون الفاتحة يوميًّا سبع عشرة مرّةً على الأقل في صلاتِهم لم يشتكوا قطيعةً معرفيةً مستحكِمةً مع نَصِّها لينتظروا الترجمةَ إلى العامية! فكيف نفهمُ هذا؟!
     رأيي المتواضِع يتّفق مع الحكمة الخالِدة التي أشاعَها اللُّغَوِيُّ الرُّوسي (ماكس فاينرايش Max Weinreich) في أربعينيات القرن العشرين. أعني الحكمة التي تقولُ: "اللغة ما هي إلا لهجة، بجيش وأسطول!". قال (فاينرايش) عن هذه الحكمة إنها تعبِّر عن الأزمة الاجتماعية للغة اليديش (لغة يهود أوربا الأشكنازيين) باعتبارِها مَحكِيَّةً ومكتوبةً من دون جيشٍ أو أسطولٍ يحميها، وبالتالي فهي لا تتمتعُ بالصفة الرسمية – وقتذاك – على أي صعيد. وفي التأويل الأوسع لهذه المقولة، نجدُها تعبِّرُ عن اعتباطيّة الفصل بين وضعَي اللغة واللهجة، حيثُ لا يبدو على أرض الواقعِ أيُّ مُسَوِّغٍ لاعتبارِ نسخةٍ لغويةٍ ما لغةً – لا لهجةً - إلاّ وصولُ الإرادة السياسية والتوافق الاجتماعيِّ بشأن ترسيمِها إلى حدٍّ حرِجٍ، عنده تُعتبَر هذه النسخةُ لُغةً مستقِلَّةً، لا مُجرَّدَ لهجة. ولنا في المثال الاسكندنافي نموذجٌ صارخ!
     الشاهدُ من هذه المقولةِ أنَّ المسألة خاضعةٌ في المقام الأول لصراع الإرادات، لا لحقائق ملموسةٍ بوضوحٍ في دراسة الظواهر اللسانية كما تبدو على أرض الواقع. المنادون بترسيم العامية المصرية لغةً مستقلّةً – لا لهجةً عربيةً – يمثلون إرادة القومية المصرية، وهم مرتبطون أكثر من غيرِهم بمقولة (الاحتلال) العربيِّ لمصر منذ عام 21 للهجرة. والمنادون بـ(بقائها) لهجةً عربيةً يتبنَّون في العادة خطابًا إمّا قوميًّا عربيًّا أو إسلاميًّا، وإن لم يَعُوا ذلك!
     لكن تبقى المشكلة الأكثر استعصاءً على الحلّ أمام إرادة ترسيم العامّيّة هي النص المقدس المركزيَّ للغة العربية. ماذا سيبقى من الصِّدق في آية "بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ" حين نترجمُها إلى المصرية إلى "بِلُغَة عربي واضحة" مثلاً؟!
     تجذبُنا هذه النقطةُ إلى رأيٍ أوردَه اللغويُّ الألمانيُّ الكبير (فلوريان كولماس Florian Coulmas) في كتابه (اللغة والاقتصاد) الذي ترجمَه د.أحمد عوض (إلى العربية الفصحى!) ضمن سلسلة عالَم المعرفة. يُورِد (كولماس) أولاً نقدَ (ماكس فيبر Max Weber) لتفسير الماركسيّة للتحوّل الرأسماليِّ الكبير في أوربّا بإرجاعِه إلى عوامل اقتصاديّةٍ بَحتَةٍ ترتكزُ على وسائل الإنتاج، حيثُ يرى (فيبر) أنَّ العنصر المهمَّ الذي أغفلَته الماركسيّةُ هو رُوحُ الحياة الاقتصادية Wirtschaftethik، وهي الإدارة الرشيدة للعمَل، التي يعتبرُها (فيبر) نتيجةً للزُّهد المسيحيِّ الذي رفعَته حركةُ الإصلاح البروتستانتيِّ إلى مستوى المبدأ العامِّ الموجِّه للحياة اليومية. ثُمَّ يعقِّبُ (كولماس) على رأي (فيبر) بأنَّ النصوصَ التي فحصَها الأخيرُ ليَخرُجَ منها بوِجهةِ نظرِه هذه كان معظمُها مكتوبًا بالألمانية أو الهولندية أو الإنجليزية، وليس باللاتينية، ورغم ذلك لم يلتفت (فيبر) إلى هذه الحقيقة، ويلخّصُ (كولماس) فكرتَه بقولِه: "فمِن دون صياغة الإنجيل بلُغة عامَّةِ الناسِ فإنَّ إخضاعَ الحياةِ اليوميّةِ للنظامِ الصارِمِ كما أنجَزَته الأخلاقُ البروتستانتيّةُ كان سيُصبِحُ مستحيلاً تماما".    
     المهمُّ من هذه الانعطافة، هل (ترجمةُ) القرآن إلى العاميات العربية، وبينها (اللغةُ) المصرية يمكن أن تؤتِيَ أثرًا مشابهًا؟ في الحقيقةِ يفترِضُ الردُّ بالإيجابِ على هذا السؤالِ أنَّ الهُوَّةَ شاسِعةٌ بالفعل بين سَواد الناس في مصر وبين فهم النص القرآني. مرّةً ثانيةً لا يمكننا أن نُنكِرَ مستويات التلقّي وغموضَ كثيرٍ من الإشارات القرآنية، لكنَّ الحِسَّ المُشترَكَ يأبى أن يجعلَ هذا الغموض ينسحبُ على مستوى الأوامر والنواهي الأخلاقيّة الواضحة في المستوى العامِّ من التلقّي لدى الأُمِّيِّ والمتخصصِ في اللُّغَةِ على حَدٍّ سواء!

     القفزةُ الأخيرةُ لكاتبِ هذا المقال بعيدًا عن موضوعه المباشِر وقبل الختام، تتعلقُ بشهادةٍ شخصيّة. ربما في عام 2007، ألقيتُ تجربةً شِعريةً بالعاميّة المصرية في ندوةٍ شعريّةٍ مجمَّعة. ومن أكثر ردود الأفعال حضورًا في ذاكرتي، تعليقُ شاعر عاميّةٍ مصريٍّ صديقٍ على تجربتي: "مش دي العامّيّة اللي احنا عارفينها!". أثار هذا التعليقُ شهيّتي لملاحظة فرُوق التعبير بيني وبين غيري من المتكلمين بالعامية المصرية! باتّساع الملاحظةِ تبيَّنتُ أنَّ العاميةَ المصريةَ كما تفترقُ عن غيرِها من العاميات العربية، فإنها هي بحد ذاتِها كِيانٌ متفلِّتٌ جدًّا، لأنَّ عاميّة القاهرة غير عامّيّة (بحري) غير عامية الصعيد، ثُمّ إنَّ في القاهرة نفسِها نسخًا لهجيَّةً مختلفةً، ويصل الأمر إلى أنَّ لكلِّ فردٍ مجموعةً من الألفاظ قد لا يفهمها إلاُّ هو وقِلَّةٌ من أخِصَّائه بالفعل!
     الفكرة الحُلوةُ المُرَّة التي قدَّمَها لنا الفيلسوف الأمريكي (ويلارد كواين Willard Quine) في كتابِه المهمّ (الكلمةُ والشيء Word & Object) هي لاتَحَدُّد الترجمة Indeterminacy of Translation. تحت مظلّة هذه الفكرة يوجد مفهومان مهمّان بالنسبة لموضوعِنا. الأولُ هو غموضُ المرجِع Inscrutability of Reference حيثُ المفرداتُ يحملُ كلٌّ منها كثيرًا من المعاني الممكنة، والثاني هو لاتَحَدُّد العبارات الكاملة Holophrastic Indeterminacy حيث ما يصدُقُ على المفردات ينسحبُ على الوحدات اللغوية الأكبر: الجُمَل. تبعًا لهذين المفهومين، ينحَلُّ الفهم الصحيح لأيِّ منطوقٍ – لا في لغةٍ غريبةٍ عنّا فقط، بل في لغة الأمِّ التي نتكلمُها – إلى مجموعةٍ من الاحتمالات، كلُّها صائبةٌ بدرجةٍ ما! وبهذا، يمكننا أن نُعِيدَ بناء تعقيب الشاعر الصديق على تجربتي الشِّعرية بتعديل ضمائره ليُصبِح: "مش دي العامّيّة اللي أنا عارفها" بدلاً من "اللي احنا عارفينها"!
     لهذا أتوقَّعُ أن تُعمِّقَ ترجمةُ نصٍّ مركزيٍّ كالقرآن إلى العامية المصريةِ أزمةَ المعنى، لا أن تَحُلَّها.
     انتهاءً، أجِدُني مُضطَرًّا إلى تلخيص موقفي من مسألة ترسيم العامية المصرية وممكنات الترجمةِ إليها. حين يقرأ المرءً روايةً ضخمةً كـ(بيت كئيب Bleak House) لتشارلز ديكنز، أو مسرحيةً مثل (بيجماليون) لبرنارد شو، يجد الحِوار متراوحًا بين مستوياتٍ مختلفةٍ من العامّيّة كما يمكن أن نتوقعَها على أرض الواقع، رغم أنّ مَتنَ السرد عند (ديكنز)، ومقدمةَ المسرحية عند (شو) تتطابقان مع الإنجليزية المعيارية. في تقديري أنَّ هذا الحَلَّ يجذبُ العامّيّات إلى مظلة اللغة الفصحى باعتبارها تجلّياتٍ مختلفةً لنفس النظام اللغوي. وعلى ذلك، تبدو لي مناورةُ الدكتور (عبد الواحد لؤلؤة) التي صدَّرتُ بها المقال موفَّقةً جدًّا من الناحية النظرية على الأقل. رغم هذا الانحيازِ الواضحِ من ناحيتي، أتوقَّعُ أن تسيرَ الأمورُ في الاتجاه المضاد، وتكتسب دعوى ترسيم العامّيّات العربية -وبالتالي الترجمة إليها بشكلٍ كاملٍ- أنصارًا جُدُدًا يومًا بعد يوم، حتى تُكتَبَ لها الغَلَبَةُ في صراع الإرادات. فمزيدٌ من تعقُّد الحضارةِ يعني مزيدًا من اللغاتِ، وتبدو حكايةُ بُرج بابل الواردةُ في العهد القديم أقربَ إلى النبوءة المستقبليةِ منها إلى الحكاية القديمة. استقراءُ محطّات مسار الحضارةِ يُخبرُنا بذلك، أو هكذا يبدو لي!
محمد سالم عبادة
21 أبريل 2018
نُشِر في عدد أبريل 2018 من مجلة عالَم الكتاب 

No comments:

Post a Comment