Friday 15 February 2019

الحُبُّ مَلاذًا من الانقراض: قراءة في فيلم فوتوكوپي


     تمتاز السرديّات (الأفلام والمسرحيات والأعمال الأدبية) التي تتخذ أبطالَها من الكُتّاب بأثرٍ خاص: من الصعب أن يُقاوِم المتلقّي إغراء التوحيد بين صانع السردية (المؤلّف/ المُخرج) وبطلِها الخيالي الذي يحترف الكتابة. لكنّ هذه الحِيلة الشائعة لدى الكُتّاب للتعبير عن حياتهم وهمومهم وآرائهم فيما يكتبون تعرّض كتاباتِهم لمجازفةٍ من الناحية الأخرى، فبقدر ما يستطيع المتلقّي تمييز صوت الكاتب في شخصية بطلِه، يشعر بهُوّة تفصِله عن البطل/ البطلة، حيث يشعر المتلقّي بنفسِه غالبًا واقفًا على الطرف السلبيّ الأضعف في العملية الإبداعية، بينما البطل الكاتب واقفٌ على الطرف النقيض (الإيجابي/ الفاعِل/ الأقوى).
     في (فوتوكوپي) – إنتاج 2017 – يخطو السينارست (هيثم دبور) خطوةً واسعةً باتجاه المُشاهِد، حين يُنزِل بطلَه الكاتب (محمود فوتوكوپي) من عَلياء الكتابة الإبداعية إلى دَورَين متواضِعَين، أحدهما في الزمن الحاضر للفيلم وهو دور صاحب مكتب الكمبيوتر الذي يكتُب الوثائق التي يطلُب منه زبائنُه كتابتَها، والآخَر ماضٍ نعرفه من سياق الفيلم وهو دور موظف بقسم الجَمع في إحدى الجرائد، مسئول عن كتابة المقالات والتقارير الصحفية التي يُنجِزها محررو الجريدة على الكمبيوتر تمهيدًا لظهورها. بهذه الخطوة يستبقي (دبور) لبطلِه ظِلاًّ خافتًا من بطولة الكتابة، بينما يُجرِّده من بريقِها، أو هو بالأحرى يضحّي له بهذا البريق ليمنح المشاهِد البسيط المزيد من القدرة على الالتحام التلقائي بالبطَل.
     رغم هذه التضحية، يبقى ظِلّ البطولة ماثلاً في عِدّة مقابلات درامية تظهر في الفيلم، أولها المقابلة بين محترف الكتابة محمود/ محمود حميدة، وحُسني/ بيومي فؤاد, المالك الذي يؤجر منه محمود مكتبَه. الثنائية التقليدية التي تضع رجُل الكتابة النبيل ذا الأخلاق الكريمة –وربما المثقف عمومًا- في موقف الفقر والعوَز، في مقابل رجُل المال الوضيع الانتهازي النهِم للمال, هذه الثنائية حاضرةٌ هنا بقوة. كذلك نجد مقابلةً أخرى بين محمود الذي لا يتَّسِع مكتبه إلا للكتابة – بكل ما تنطوي عليه من سموّ قد يربطها به المُشاهد – والشاب أسامة/ علي الطيب، صاحب السايبر الذي يعُجّ محلّه بأجهزة الكمبيوتر حيث لا مكان إلا للعب المراهقين. في هذه المقابلة تحضر الفجوة بين الأجيال والتغريب الذي تُحدِثه التكنولوجيا، وهما كذلك موضوعان شائعان في الدراما على إطلاقِها. إلا أن السيناريو لا يبخل على جيل أسامة بإنسانية حاضرة في المعاملة الطيبة التي يلقاها محمود من أسامة كما لو كان في مكان والده المتوفى. المقابلة الثالثة التي تحتل هنا موقعًا هامشيًّا وإن كان حضورُها يعزز بطولة الكاتب محمود فوتوكوپي هي مقابلته مع السلطة، ممثَّلةً مرةً في سلطة شرطة المصنفات التي تصادر أجهزة الكمبيوتر من مكتبه لورود بلاغٍ بشأن استخدامِه برامج كمبيوتر غير أصلية، ويضطر لدفع مبلغٍ ما لاستعادة أجهزتِه، ومرةً في البيروقراطية الحكومية التي تعطِّل حصولَه على معاشِه لثلاثة أشهر من الجريدة التي كان يعمل بها. هنا الكاتب – وإن كان مجرد كاتب بسيط ينسخ المقالات أو الوثائق على الكمبيوتر – مازال محتفظًا بظلّ بطولة الكُتّاب في مواجهة تغول رأس المال (حسني) واستهتار الأجيال الجديدة (أسامة) وفساد السلطة (الشرطة وبيروقراطية الجريدة الحكومية).
     غزل دبور خيوط السيناريو بحيث تورّط المُشاهِد في محبة أبطال العمل العاديين والتعاطف معهم إلى أقصى درجة. فمِن ناحيةٍ، لدينا الست صفية/ شيرين رضا، الأرملة التي يعيش ابنها كريم خارج البلاد ولا يبدو أنه يهتمّ بها. نعرف هذا من مكالماتهما الهاتفية المتكررة التي حرص الفيلم على إظهار طرف الأُمّ فقط منها مع استبعاد الابن تمامًا، وبهذا تتحول هذه المكالمات في لاوعي المُشاهِد إلى مونولوجات ويتحول الابن العاقّ إلى طيف خافت تمامًا، نصطدم بأثره الوحيد السلبي قُرب النهاية حين يعود إلى مصر على أثر مكالمةٍ مِن أحد جيران أُمّه، يخبره فيها بأنها مُقبلة على الزواج من محمود فوتوكوپي، فيطرد أُمَّه من شقتها، ولا نعرف هذا إلا من حكيِها لمحمود وهي تبكي أمام مكتبه. الجانب الآخَر المثير لتعاطف المُشاهِد في صفية هو معرفتنا بفقدها أحد ثدييها لإصابته بورم خبيث، وتعرضها لخبرة المتابعة نصف السنوية لحالة الثدي الآخَر مع تجدد خوفها من تكرار الإصابة بالورَم فيه. يُسَرّب إلينا الفيلم معلومة هذا الفقد لأول مرة بشكل رهيف مع أول مشهد لدخول صفية بيتَها وتغييرها ملابسها وسقوط الثدي الاصطناعي على الأرض.
     من ناحيةٍ أخرى، هناك أسامة/ علي الطيب، الذي يُطلِعنا على حكاية فقده لأبيه وهو يربط الكرافتة لمحمود فوتوكوپي حين يطلب منه ذلك، حيث يخبر محمود بأنه كان يقوم بهذا الدور يوميًا صباحًا مع والده بعد وفاة والدته، إلى أن تأخر ذات صباحٍ في النهوض من نومه فأسرع إلى غرفة أبيه ليجده قد مات.
     وأخيرًا لدينا محمود نفسُه، وهو شخصية محاطة بحِيَل الكتابة التي تورِّطُنا في محبتِه بـ(صنعة لطافة) كما يُقال، ففضلاً عمّا أسلفنا ذِكرَه من استبقاء ظل بطولة الكتابة والتضحية ببريقِها، نكتشف إلى أي مدى يُشبه عم محمود آباءنا البسطاء، فهو من منتصف الفيلم - حيث يدخل الإنترنت إلى مكتبِه - إلى نهاية الفيلم لا يستطيع أن يميّز جيّدًا بين النيجر/ بلد زبونه الأول الأفريقي عثمان، ونيجيريا البلد الأشهر لدى المصريين بسبب تألق منتخباتها في كرة القدم، ونجدُه كذلك يسقط بسهولة ككثيرٍ من المصريين في فخّ الريبة والعنصرية الكوميدية الهادئة والاحتراز من الأجانب حين يحرّضه عبد العزيز/ أحمد داش على التحرّي جيّدًا عن بلد عثمان خوفًا من أن يكون جاسوسًا، وحين يعترض عم محمود على أساس أنه لا توجد عداوات أفريقية لمصر، يقنعه عبد العزيز بوجهة نظره ببساطةٍ مُذَكِّرًا إياه بالتنمُّر الأفريقي المُحيط بأخبار سد النهضة! كذلك فإن حقيقة عزوبته بعد أن جاوز الستّين، وهي تيمة أخرى شائعة في الدراما، وتردد جارتِه الشابة بسنت/ عايدة الكاشف على شقته للاطمئنان عليه تورطنا في التعاطف مع موقفه الوجودي برُمّته، فهو رجل يعاني إحساسًا ثقيلاً بأنه موشِكٌ على الفَناء، ولهذا يمسّ البحث الذي ينسخه على الكمبيوتر لأحد زبائنه – والذي يتحدث عن انقراض الديناصورات – وترًا حسّاسًا لديه، ويخلق بالتالي تيمةً أخرى شديدة الطرافة في الفيلم، هي هوس عم محمود بالبحث عن سبب انقراض الديناصورات، حتى أنه يتوقف طويلاً أمام خبر منشور في صفحة جريدة يفرشها على مائدته ليأكل عليها، حيث يتعلق الخبر بمخاوف من انقراض الحُوت الأزرق أكبر الحيوانات الثديية، فيقتطع الخبر ويحتفظ به!  
     أخيرًا، هناك اسم الشهرة نفسُه الذي نعرف به عم محمود، والذي تُصَرح صفية لابنها في تسجيلٍ صوتيٍّ بأنها لا تعرف غيرَه لهذا الرجُل الذي تقدم للزواج بها: (فوتوكوپي). فكأن الدور الذي ارتضاه لنفسه بعد تقاعُدِه من الجريدة يطبعُ حياتَه كلَّها بطابَعِه، فهو في الحقيقة فوتوكوپي أو صورة طِبق الأصل من قطاع عريض من أهلنا الذين لهم نفس ظروفِه، وهو بالتالي جديرٌ بما نظهره نحوه من تعاطُف.   
     نقطة أخيرة بشأن السيناريو المنسوج بإحكام، تتعلق بحِيلة يستخدمها (دبور) ببراعة لرَبط مصيري بطلَي الفيلم محمود وصفية. هذه الحيلة هي ما تحكيه صفية للصيدلانية داليا من انتظارِها اليومي للفقرة الغنائية لفريد الأطرش، لعلّ الراديو يذيع تسجيلاً نادرًا لإحدى پروفات أغنيته (قلبي ومفتاحه) يغني فيها كوپليه "يا مسهّر دمعي على خدودي/ كرّهني غيابك في وجودي/ وان سبتك أدبل على عُودي/ وارجع من غير ما تقول عُودي"، وتعلّق صفية بأن هذا الكوپليه بضمير المخاطَبة في نهايته (عُودي) دليل على أن الأغنية وُضِعَت أصلاً لليلى مراد وخطفها منها فريد الأطرش الذي حذف الفقرة كلَّها في النسخة الرسمية من الأغنية. قُرب النهاية نكتشف أنّ عم محمود هو الآخَر يعرف هذه الفقرة ويحب هذه النسخة النادرة من الأغنية، وحين تُبدي صفية اندهاشَها لهذا، يجيبها محمود: "أنا قديم يا ست صفية"، فتصبح هذه المعرفة الخاصة الإيزوتيريّة بالأغنية سببًا جديدًا في تقوية مشاعر صفية تجاه محمود وربما قبولِها عرضه للزواج. وفي الحقيقة يُحسِن (دبور) استخدام هذه المعلومة العابرة في بناء السيناريو وتوثيق حبكتِه.  
نجح المخرج (تامر عشري) في تجربته السينمائية الأولى مع الفيلم الروائي الطويل نجاحًا موازيًا لنجاح (دبور) في أولى سيناريوهاته الطويلة، فقد وظّف إمكانات ممثليه على الوجه الأمثل واهتمّ بإبراز أدقّ التفاصيل في تصميم مشاهدِه وتنفيذها، فعلى سبيل المثال هناك علَم فريق برشلونه معلَّقًا على الحائط وراء أسامة الذي يستلقي على أريكة داخل السايبر ويدخّن سيجارة ملفوفة، وهي التفصيلة الواقعية التي نجدُ مثيلاتِها بالفعل داخل مقاهي الإنترنت والپلِايستيشن، وهناك اهتزاز ضوء اللمبة التي تضيء لافتة مكتب فوتوكوپي، حيث ينصح الصبي البواب عبد العزيز عم محمود بإطفائها حتى لا تحترق، فيرفض عم محمود معللاً ذلك بأنه لا يحب أن تبدو لافِتَتُه مُظلمة. وهي تفصيلة بالَغة الرهافة توحي لنا مقدَّمًا بكل ما سنكتشفه من هشاشة الموقِف الوجودي لعم محمود، وتمسُّكِه بالحياة رغم ذلك.
     على مستوى الأداء، كان محمود حميدة تجسيدًا شديد الواقعية للدَّور كما يمكن أن نتخيلَه مرسومًا على الورَق، وجاء أداؤه الهادئ ذو الانفعالات المحسوبة موازيًا لهدوء أحداث الفيلم ودورانها حول شخصيتين في مرحلة هادئة من عمريهما. كذلك تفوقت شيرين رضا على نفسها في دور صفية. أما بيومي فؤاد فقد جسّد دور حُسني رغم صِغَرِه في مقدرة أضافت إيجابيًّا إلى رصيده المتزايد من أدوار الشرّير الكوميدي. بالنسبة لأحمد داش، فالفيلم يعتبَر استمرارًا لتألقه المبكر في فيلم (لا مؤاخذة) الذي قام ببطولتِه، ويمكننا تخيلُه هنا بطلاً لقصةٍ فرعيةٍ في الفيلم لا نراها ولكن نرى آثارَها في تلك (اللماضة) التي تظهر في حديثه مع كلٍّ من محمود وصفية وأسامة. كذلك يبدو دور أسامة فارقًا في مسيرة علي الطيب السينمائية إلى الآن، والذي تألق تليفزيونيًا عام 2010 ككوميديان ستاند-اپ من خلال البرنامج الرمضاني (ضحكني شكرًا).
     جاءت الموسيقى التصويرية لـ(ليال وطفة) أُحادية المقام، فقد اندرجت بالكامل تقريبًا في النهاوند الكُردي (سُلّم صغير طبيعي)، واعتمدت بشكلٍ أساسيٍّ على الپيانو والعود، تؤازرهما الوتريات أحيانًا، ولا نكاد نلحظ أي خروج على مقام النهاوند إلا على يد فريد الأطرش في جُملتي (وان سبتك أدبل على عُودي وارجع من غير ما تقول عُودي) حيث يُعرِّجُ سريعًا على البياتي كما في بقية كوپليهات الأغنية ليعود إلى اللحن الأساسي للمذهب في مقام النهاوند ويقفل به. وبشكلٍ ما يمكن أن تبدو أُحادية المقام لموسيقى (وطفة) التصويرية قاصدةً إلى الاتّكاء على اللحن الأساسي لأغنية (قلبي ومفتاحه) التي تحتلُّ موقعًا مركزيًّا في أحداث الفيلم، فتبدو التتابعات النغمية كلها في الفيلم كأنها دوائر متحدة المركز حول هذه الأغنية التي تمثل حجَرًا ألقى به (هيثم دبور) في صفحة السيناريو.  لهذا يبدو الفيلم عملاً متكامل العناصر بدرجةٍ كبيرة.
.... 
محمد سالم عبادة
نُشِر في عدد ديسمبر 2018 من مجلة الثقافة الجديدة


No comments:

Post a Comment