Tuesday 2 April 2019

مسرحية شِعرية تحاولُ أن تكون رواية: قراءة في رواية (لا تسقِني وَحدي) لسَعد مكّاوي


     الأكيدُ أنّ أجواء التجربة الصوفية - بما تنطوي عليه من غموض إشاراتها والتباس معانيها وانصبابِها على كُنه علاقة الإنسان بالله وبالعالَم - مُغريةٌ لقطاعٍ كبيرٍ مِمَّن يحترفون الأدب. وذلك أنَّ الأدب هو الفن الذي مادّته اللغة، وبما أنَّ اللغة علاقةٌ قائمةٌ بين دالٍّ ومدلول، وبما أنَّ الفنَّ بشكلٍ ما أو بآخر مَعنِيٌّ بالبحث عن علاقاتٍ جديدةٍ بين الدّوالّ ومدلولاتها، أو بتعبيرٍ أدقّ: معنيٌّ بإيجاد صيغٍ جديدةٍ للتعبير عمّا هو قائمٌ في عالَم الحِسّ بُغيةَ فهمٍ مباشرٍ حَدْسيٍّ أعمقَ لهذا العالَم، فلكلِّ هذه المُعطَيات تبسُط التجربة الصوفية سُلطانَها على مَن أغوتهم حِرفةُ الأدَب، حيثُ يَعِدُ استحضار التجربة الصوفية بفِردَوسٍ من الرموز التي تُوحي ولا تُصَرِّح، والدّوالِّ التي تُديرُ رءُوسَ قُرّائها في عالَم الحِسّ حتى يفقدوا توازُنَهم ويَظُنُّوا أنهم قد حلَّقُوا بعيدًا إلى عالَم الغَيب. ويحدث هذا بنسبٍ متفاوتةٍ وبأشكالٍ لا حصرَ لها بالتأكيد. 
     عتَبَة الرواية التي بين أيدينا عنوانُها. والعنوان هنا مَصُوغٌ في صيغة النَّهي "لا تَسقِني وَحدي"، لكنّه نَهيٌ يَئولُ إلى رجاءٍ لا محالة، وذلك أنَّ السّاقي بُحكم امتلاكِه الماء – أو أيًّا كان ما يُسقَى – في موقفِ قُوّةٍ، فبيَدِه البذلُ والمنع. والرجاءُ هنا فيه شكلٌ من أشكال إنكار الذّات لصالح المجموع، فهو دعوةٌ اشتراكيّةٌ في فَحواها. فإذا علِمنا أنّ العنوان مقتبسٌ من أبيات شهاب الدّين السُّهرَوَردي الصوفيِّ الكبير صاحب الطريقة السهروردية وأحد أشخاص هذه الرواية، حيث يُنشِد:
"لا تسقِني وحدي فما عوَّدتَني .. أنّي أشِحُّ بها على جُلاّسِي
أنتَ الكريمُ ولا يليقُ تَكَرُّمًا .. أن يَعبُرَ النُّدَماءَ دَورُ الكاسِ"
- وهي رواية كتاب (وفَيات الأعيان) لابن خِلِّكان، وتختلف عنها رواية كتاب (شذرات الذهب في أخبار مَن ذَهب) لابن العِماد الحنبليِّ: "أن يصبِرَ النُّدَماءُ دُون الكاسِ" – تبيّنَ لنا حينئذٍ أنّ العنوان يحملُ رجاءً إلى الله بالإنعام بالمحبّة والوصل على كلِّ السالكين إليه. يُروى في (شذرات الذهب) وفي (طبقات الأولياء) لابن الملقن أنَّ السهرورديَّ حين أنشد هذه الأبيات "تواجدَ الناسُ لذلك وقُطِّعَت شُعورٌ كثيرةٌ ومات جَمعٌ" أو "تاب جمعٌ كبير".
     زمن الرواية غير محدد بدِقّة، إلاّ أنّ الجوّ العام يوحي بأننا في عصر المماليك. شكوى ظُلم الحُكّام وفساد الحياة تشبه تلك الشائعة في كل الأعمال التي تتناول عصر المماليك. إلا أننا لا نستطيع أن نحدد بدِقّةٍ أيَّ حقبةٍ هي من عصر المماليك الطويل، لا سيّما أن الاجتماع الخيالي لأربعةٍ من أقطاب التصوف (شهاب الدين السهروردي وعمر بن الفارض والعز بن عبد السلام وبرهان الدين الجعبري) يعقّد الأمر أكثر، وإن كان يَنحو بنا نحوَ العقود الأولى من قيام دولة المماليك وبعد سقوط الأيوبيين. الخط الأوضح في حركة الرواية يَتبَع رحلة صاحب المواويل الصعيدي (علاء الدين) من بلده الذي انتشر فيه الفساد إلى القاهرة بصحبة رفيقه (مروان) الذي قصُرت به هِمَّتُه فترك (علاء الدين) منتويًا العودة من حيث أتى، فافترسته ذئاب الصحراء، ثُمّ لقاء (علاء الدين) بالأقطاب الأربعة واحدًا وراء الآخَر وتردُّدَه على مجالسهم، وما يعانيه من ضيق زوجته بفقره وضيقِه بسلاطة لسانها وعدم فهمِها ما يَشغله، مرورًا بمثوله في حضرة زوجة الوزير الفاسد (زياد) التي طلبت منه أن يأتي إليها بالخطيب الواعظ برهان الدين الجعبري بحُجّة أنها تريده واعظًا خصوصيًّا – وهي في الحقيقة تشتهي رجولته بعد ما سمعت به – ثُمّ كيد هذه الزوجة لعلاء الدين على إثر رفضِه طلبَها، وموت الوزير (زياد) وخروج الشُّرطة في طلب صاحب المواويل.
     لا نبذل كثيرَ جهدٍ لنتعرّف على صوت (سعد مكّاوي) متخفِّيًا وراء (علاء الدين)، فصاحبُ المواويل قريبٌ في حضوره من الكاتب والشاعر. كما أنّ مفردات اللغة التي يتكلمها (علاء الدين) معاصِرةٌ بدرجةٍ كبيرة: "حاول أن تُريحَ حنجرتَك لتنشِّط مُخَّك، واعلم أن هناك دائمًا بصيصًا من الرجاء على آخِر المَدى"، ممّا يضعُه خارج إطار الزمن، وكأنه بطلٌ للإنسانيةٍ مُتعالٍ على حواجز الوقت. وفي الحقيقة، نجد أصداء كثيرةً في الرّواية من مسرحية (مأساة الحَلاّج) لصلاح عبد الصبور، فمنها تصوير الصوفيّ بصورة المُصلح الاجتماعي الثائر على الظلم، وإنطاقُ الأبطال بلغةٍ شاعريةٍ طيلة الوقت تقريبًا، فضلاً عن المبالغات المسرحية التي اعتدنا أنها تليق أكثر بالمسرح بحُكم كونِه وسيطًا محتاجًا بشكلٍ ما إلى المبالغة (في نمط الحِوار وأداء الشخصيات على الأقل) لتصل رسالتُه. تتجلى هذه المبالغات في جُمَل الحِوار، كما في قول (علاء الدين) للسهروردي في المرّة الأولى التي لقيَه فيها مع (مروان) وهو يوضِّحُ مَهجَرهما وجهةَ رحلتهما: "جئنا يا سيدي من أرض النباتات المتسلقة والقلوب الميتة. إلى أي أرضٍ لا تسودُها طفيلياتٌ تفترسُ حياةَ الأشجار المثمرة"، كما تتعدّى لغةَ الحوار إلى لغة الرّاوي العليم نفسِه، ونجد أمثلةً لهذا في حشد النُّعوت في مثل قولِه: "فقال علاء الدين ونفسُه تفيضُ بالرضا"/ "التقت نظرة السهروردي بنظرة غزالته والابتسام مُشرِقٌ في وجهه الصافي"/ "في حُمّى الرُّوحِ الكوني الساري في الوجود هبَّت نسماتٌ حملَت علاءَ الدين على أجنحتِها الرَّطبة".
     فضلاً عن المبالغة، نجد كثيرًا من التشابُه بين المُعجَم الذي يستخدمه (علاء الدين) ومعاجم مفردات السهروردي وعمر بن الفارض، فضلاً عن مُعجَم الراوي العليمِ نفسِه، ولا يُفلِتُ من إسارِ هذا التشابُه في الشخصية والكلام إلاّ بُرهان الدين الجعبري، فلا نكاد نُحِسُّ أننا أمام شخصيةٍ من لحمٍ ودمٍ بين هذه الأقطاب المحشودة في الرواية إلا مع (الجعبري) الذي يمثّل مشروعًا لشخصيةٍ روائيةٍ فَذّة. ويبدو لي هذا التشابُه – بشكلٍ شخصيٍّ - ضارًّا ببناء الرواية من زاويةٍ محددة. وذلك إيمانًا بضرورة تبايُن التعبير اللُّغوِيّ Heteroglossia، وهو ذلك الاصطلاح الذي صكّه (باختين) ليعبِّرَ به عن التبايُن الضروري في لغات شخصيات العمل الروائي، والذي يعبِّر بقَدرٍ ما عن صراعٍ طبقيٍّ بقدر ما يعبِّر عن اختلافاتٍ فرديةٍ أساسيةٍ، وعليه تُبنى حركيّة الرواية.
    
     من الصعب أن يُغالِب القارئ هاجس التصنيف وهو بصدد قراءة الرواية، وتتأتّى (الواقعية السحرية) قريبًا من طبيعة الأحداث. يخبرُنا التحقيقُ التاريخيُّ بأنّ الاستخدام الأولَ لاصطلاح (الواقعية السحرية) كان على يد الناقد والمؤرِّخ التشكيليِّ الألماني (فرانتس رُوه Franz Roh) في كتابِه (ما بعد التعبيرية: الواقعية السحرية .. مشكلات الفن التشكيلي الأوربي الأحدث)، حيث استطاع (رُوه) في هذا الكتاب تحديد مميزات هذا التيار الجديد في التفاصيل الدقيقة والوضوح الفوتوغرافيِّ إضافةً إلى بيان العناصر السحرية في الواقع. وانسحبَ هذا على غزو الواقعية السحرية عالمَ الأدب.
     فيما يتعلق بـ(لا تسقني وحدي)، لدينا هذا الحشد لأربعة صوفيّةٍ ليس بين أيدينا من التاريخ ما يَدعمُ اجتماعَهم معًا، ولدينا قطيعٌ من الغزلان يُنقِذ زوجتَي (علاء الدين) و(مروان) من هجوم الذئاب في الصحراء، وغزالةٌ تعيش صديقةً للسهروردي في خيمتِه الصحراوية المنفردة، كما لدينا تلك المصارعة بين برهان الدين الجعبري وذئبٍ حقيقيٍّ قُربَ النهاية، حيث يتغلب الجَعبَرِي ويقتل الذئب بيديه العاريتين، وكلُّها عناصر تبدو سحرية. لكننا في المقابل نفتقر إلى الدِّقَّة في وصف الواقع كخلفيةٍ لهذه الأحداث، حتى لو كان واقعًا تاريخيّا، وهو ما يُسقِط زعمَنا للرواية بالواقعية. بالعكس، فقد كانت استراتيجية (سعد مكاوي) في بناء الرواية أشبه باستراتيجية الطائر الذي يحلّقُ عاليًا على ارتفاعٍ لا يسمحُ له بالتقاط تفاصيل الحياة على الأرضِ إلاّ لِمامًا حين يقرر أن ينخفض قليلا. فهناك مثلاً شخصية الوزير (زياد) الوُصولِيّ المنافق الفاسد. لا يحضر الوزير بشحمه ولحمه إلاّ حين ينبري (الحاج عمران) على المقهى لحكاية مشهدٍ يدورُ بين الوزير والسلطانِ على جُلوس المقهى، يبدأ بتهديد السلطان بفضح فساد (زياد) نائب وزير الحِسبة وينتهي بترقيته إلى منصب الوزير. وفي الحقيقة، يبدو هذا الموقِف بصياغة (سعد مكاوي) له أدخَلَ في تقنية (المسرح داخل المسرح) من (الحكاية داخل الحكاية)، حيث تعتبَر الأخيرة تجلّيًا من تجليات ما بعدَ الحداثة، الكثيرة الوُرُود في سرد الواقعية السحرية، أما (المسرح داخل المسرح) فهو المقابل المسرحي لهذا التجلّي. ولِنَكون أكثرَ تحديدًا، فإنّ هذا الموقف في الرواية يُحيلُنا مباشرةً إلى مسرح (سعد الله ونُّوس)، وربما لا نجانبُ الصوابَ كثيرًا إذا قُلنا إنه يبدو امتدادًا لعرض الراوي في مسرحية (مغامرة رأس المملوك جابر) لـ(وَنُّوس)! 
     ختامًا، تبدو (لا تسقني وحدي) حُلمًا راود (سعد مكّاوي)، تكثَّفَت فيه نزوعاتُه الإنسانية الإصلاحية، وأشواقُه الصُّوفيّة، وأرادَ لهذا الحُلم أن يعرف طريقَه إلى عالَم الرواية، لكنّه كان منشغلاً بالتحليق عاليًا أكثر ممّا يَجِب، وربما أملى عليه هذا التحليقَ ذوبانُه في أجواء التجربة الصُّوفيّة التي أرادَ أن يعبِّرَ عنها، فتجسّد هذا الحُلمُ في صورةٍ يمكننا وصفُها بأنها خاطرةٌ مسرحيةٌ شِعريةٌ تحاول الانتماءَ إلى الرواية.
محمد سالم عبادة
22 أكتوبر 2018
نُشِرَ في عدد يناير من مجلة (عالَم الكتاب)

No comments:

Post a Comment