Thursday 17 June 2021

ثوراتُ الفنّ المضادّة: 3- ما بعد قصيدةِ النَّثر؟! – نعَم، ما قبلَها!

 

في المقال الافتتاحي من هذه السلسلةِ تطرّقنا إلى ظهور قصيدة النثر باعتبارِهِ ثورةً مضادّةً في فنّ الشِّعر، انطلاقًا من أنّ صُدفةَ اكتشافِ الإنسانِ للقافيةِ ثُمّ الوزن مثّلَت ثورةً في علاقتِهِ بالكلامِ وهيَّأتْ لفَنّ القولِ الأول (الشِّعر) أن يَظهَر. وأرى أنّه من غيرِ المُفيدِ أن يُسهِبَ المقالُ الحاليُّ في تتبُّعِ بداياتِ قصيدةِ النثرِ وصولاً إلى (شارل بودلير) ثُمّ إلى إرهاصاتِها في (الشِّعر المنثورِ) للرومانسيين الفرنسيين، أو في المرويّات المتناثرة في كتبِ التراثِ العربيّ عن (حسان بن ثابتٍ) وغيرِه ممَّن شهدوا بالشاعرية لأشخاصٍ نطقوا شِعرًا لا وزنَ فيه ولا قافية، فالكتاباتُ الزاخِرةُ بهذا الموضوع يعجزُ عنها الإحصاء. ربما سيكون هذا المقالُ في جزءٍ منه على الأقلِّ شهادةً شخصيّةً باعتبارِ كاتبِهِ مشاركًا بتجربةٍ متواضعةٍ في المشهدِ الشِّعريِّ العربيّ من قريبٍ أحيانًا، ومتابعًا من بعيدٍ أحيانا.

     في مقالها (التفكيرُ في الشِّعر بصوتٍ عالٍ) الذي ناقشَت فيه ثلاثةَ كتُبٍ لكاتبِ هذا المَقالِ بينَها ديوانٌ في شِعر الفصحى، قالت الشاعرةُ الكبيرةُ (غادة نبيل): "لو جاز القول أنا أرى الكون أقرب لقصيدة نثر من معلّقةٍ، ويمكنه أن يتفلتَ منها ليظلَّ يتعاملُ مع أحدوثاتِه وانفجاراتِه وارتطاماتِه وهو يُعيدُ تَشكيلَ نفسِهِ كُلَّ مَرّةٍ كأشكالٍ لا نهائيةٍ مِن التعبير، هذا الكون لا يحرم نفسه انضباطا محسوبا كى لا تنتهى الحياة، لكنه حتى وهو يريد بلوغ نقطة النهاية، نهاية الوجود يتعلمُ كيف يُحَرر نفسه كلَّ مرّةٍ مادُمنا لم نصل بعد لانتهاء الحياة".

     سيطرت هذه الجملةُ على وعيي طويلاً وخلَصتُ منها إلى سؤالَين:

أولاً: تخبرُنا نظريّةُ الشواش Chaos Theory بأنّ الأشكالَ الكُسَيريّةَ Fractals  - وهي أشكالٌ معقَّدةٌ إلى مالانهاية، وتمتازُ بتشابه الكلِّ مع أجزائهِ على كلِّ المستويات- هي أقربُ إلى الفوضى الجميلة التي تعِدُ بقابليّةٍ محدودةٍ للتنبُّؤِ بالاحتمالاتِ الإحصائية Limited Predictability، وتكادُ تمثّلُ النمطَ الحاكمَ لكلِّ شيءٍ في الكون، وهو ما تسمّيه شاعرتُنا في الجُملة السابقةِ (انضباطًا محسوبًا)! فلماذا لا يكونُ الشكلُ العموديُّ في الشِّعر العربيِّ وما يماثِلُهُ في شعرِ اللغاتِ الأخرى أقربَ للتعبيرِ عن الكونِ في عمومِه؟! لاسيّما أنّه يتمتعُ بهذا التشابُه للكلّ مع أجزائهِ على مستوى الشكل، كما أنَّ وحدةَ القافيةِ تحُدُّ بدرجةٍ ما من إمكانات التنبُّؤِ بنهايةِ كُلِّ بيتٍ دون أن تَحجُرَ عليها!

ثانيًا: وهو سؤالٌ يحاولُ أن يَخطُوَ خطوةً أبعدَ من سابقِه. لماذا أصلاً يجبُ أن تُحاكِيَ القصيدةُ الكون؟! ألا يعودُ بنا هذا القهقرى إلى نظريةِ المحاكاةِ عند أرسطو بشكلٍ ما؟!

     في مقاله (نحوَ تصوُّرٍ عن ما بعد الحداثة) يضعُ الناقدُ المصريُّ الراحلُ د.إيهاب حسن جدولاً اختزاليًّا للفوارقِ بينَ الحداثةِ ومابعدَها في شكلِ مفرداتٍ متقابلةٍ، بينها (التناسُلِيّ/ القضيبيّ) Genital/Phallic في عمود الحداثةِ، وأمامَه (متعددُ الأشكال/ مزدوجُ الجنس) Polymorphous/ Androgynous في عمودِ ما بعد الحداثة، وكذلك (القصد) Purpose في الأوّل وأمامه (اللعِب) Play في الأخير. الشاهدُ أنّ الإبداعَ فيما بعد الحداثةِ يقبلُ كُلَّ الأشكالِ الممكنة ولا يخاصِمُ التراثَ معرفيًّا ولا جماليًّا، كما أنّ المُبدِعَ يتعاقدُ مع ذاتِهِ ومع جمهورِهِ على اللعب الذي تتغيرُ قواعدُهُ مع كلِّ لعبةٍ، وربّما يتبنّى قواعدَ لعِبٍ قديمةً لكي يلعبَ بها لعبةً جديدةً، وهكذا!

     ما نحاولُ تأمُّلَهُ هنا هو عودةُ الشِّعر العموديِّ للظهورِ بقوّةٍ في المشهدِ الشعريِّ العربيّ في العِقدَين الأخيرين، بعد قطيعةٍ معرفيّةٍ وجماليّةٍ معه رفع لواءَها كثيرٌ من أعلام الشعر العربي لا سيّما شعراء قصيدةِ النثرِ منذُ الأربعينياتِ إلى وقتِ كتابةِ هذا المقال. بينَ الأسماءِ البارزةِ عربيًّا في هذه العودةِ من مصر (سيد يوسف) و(سمير فرّاج) و(ضياء الكيلاني) و(أحمد بخيت) و(علاء جانب) و(حسن شهاب الدين) و(شريف أمين) و(أحمد حسن محمد)، ومن العراق (مسار رياض) و(هِزَبر محمود) و(ياس السعيدي)، ومن لبنان (مهدي منصور) ومن المغرب (محمد عريج) و(أحمو الحسن الأحمدي) ومن العربية السعودية (جاسم الصحيح) و(محمد إبراهيم يعقوب) و(حيدر العبد الله) وغيرُهم كثيرون من مختلِف الأقطار العربية. لكثيرٍ منهم إبداعٌ في قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر،كما لبعضهم إبداعٌ في حقولٍ أدبيةٍ غيرِ الشِّعر، إلاّ أنّ إخلاصَهم لقالَب العمودِ الشِّعريِّ جديرٌ بالالتفات والتأمُّل. لماذا يحدثُ هذا الآن؟ وماذا نسمّيه؟ نكوصًا ثقافيًّا عامًّا؟ أم رِدّةً جماليّةً تتجاوبُ والرِدَّةَ المعرفيّةَ المسيطرةَ على هذه البقعةِ من العالَم؟ أم ثورةً مضادّةً للثورةِ المضادّة المتمثلةِ في قصيدة النثر؟!

     تعمدتُ سَوقَ الخِيارَين الأوَّلَين لأنهما كثيرا الدوَران على ألسُن من تبنَّوا موقفًا سلبيًّا من قضية الشِّعر (الموزون)، لكنّ تامُّلَ موقفِ هؤلاء الشعراءِ المذكورين أنفسِهم من قصيدة النثر ومن انفجار القوالب الأدبيةِ عامّةً كفيلٌ بدَحضِ هذين الخيارَين. في حوارٍ لمجلةِ (العربية) معه قال (جاسم الصحيح): "قد يحضُرُ الشِّعرُ وتغيبُ القصيدةُ" يعني تجلّيَ الشِّعر في قوالبَ أدبيةٍ غير القصيدة، وهو ما يشي بسَعَةِ أفقٍ وانفتاحٍ على كل مسارب الأدب. كذلك نجدُ لـ(حسن شهاب) إنتاجًا كبيرًا في قصيدةِ النثرِ منه ما نُشِرَ في مجلة (الشِّعر) المصرية، بجوارِ إنتاجِهِ المعروفِ في القصيدة العمودية. وفي الحقيقةِ ثَمَّ وعيٌ حادٌّ لدى كَثرةٍ من الشعراءِ بحالةِ الاستقطابِ المُفتعَلَةِ بين قصيدة النثر وأربابِها من ناحيةٍ، وأربابِ القصيدة الموزونة عموديّةً وتفعيليةً من ناحية، ربما يعبّر عنه (أحمد بخيت) شِعرًا في قصيدته (حارسُ الضوء) من ديوانه (الأخيرُ أوّلاً): "كتبتُ عن الخوفِ تعويذةً .. تليقُ بآخِرِ مُهرٍ حرُونْ/ ومِن حقِّ حُرّاسِ وَهمِ الحداثَةِ إقصاؤها عن رصيفِ الفُنونْ/ ففي العُودِ مُتَّسَعٌ للجميعِ .. وفي اللحنِ يُمتَحَنُ العازِفُونْ". إنها أبياتٌ تشبهُ بيانًا شديدَ اللهجةِ موجَّهًا إلى من يُقصُون الشِّعرَ الموزونَ خاصّةً العموديَّ خارجَ ساحةِ الإبداع. ربما اختارَ (بخيت) مفردةَ (الحداثَةِ) لارتباطِها أساسًا بفكرةِ تشظّي العمل الإبداعيِّ، حتى إنَّ (ما بعد الحداثة) في إحدى نسخِها تعتمدُ هي الأخرى فكرةَ (انهيارِ السرديّاتِ الكُبرى) كما قدَّمَها (چان-فرانسوا ليوتار) في كتابِهِ (حالةُ ما بعد الحداثة: تقريرٌ عن المعرفة) عامَ 1979. وأذكُرُ بشكلٍ شخصيٍّ وَقعةً حدثَت في ندوةٍ لمناقشةِ ديوانِ الشاعرة العراقيّة نجاة عبد الله (مناجم الأرَق) – وهو ديوانٌ يضمُّ قصائدَ نثرٍ ومضيّةً متماسَّةً مع قصيدةِ الهايكو اليابانية – حين انبرى ناقدٌ مصريٌّ لتدشين الديوانِ مصرِّحًا بأنّ مِثلَ هذه التجاربِ وحدَها هو ما يستحقُّ الالتفاتَ بصفتِهِ شِعرًا، وأنّ أولئكَ الذين مازالوا يقيمونَ بناء قصيدةٍ عموديةٍ يحاولُ الشموخَ هم خارج دائرة الإبداع! والواقعُ أنّه بهذا التصريحِ وقعَ في خلطٍ شائعٍ في تلقّي مبدأ انهيارِ السرديات الكبرى كما يقعُ غيرُهُ في خلطٍ مشابهٍ في تلقّي كلّ الأوصاف النقديّة المُكَرَّسَة. فَـ(ليوتار) صاغَ هذا المبدأَ استجابةً لواقعٍ إبداعيٍّ وثقافيٍّ حاولَ وصفَه في لحظتِهِ التاريخيةِ المتعيِّنة، ولم يكن يقصدُ توجيهَ الأدبِ الذي سيُكتَبُ من بعدهِ كُلِّهِ وِجهَةً بعينِها!

     الحقُّ أنّ تجاوُزَ مُسَلَّماتِ (الحداثة) الشِّعريّة يسمحُ بالتجريبِ في كلّ القوالب والأشكال وخارجَها أيضًا (وبالتالي خلق قوالب جديدة)، وهو تجاوزٌ لِلَطميّاتِ الحداثةِ على الإنسانيةِ والعالَم، فمِن حقّ كُلّ شاعرٍ أن يبنِيَ العالَمَ داخِلَ نَصِّهِ حسبَما يتراءى له. وهذا الانفتاحُ الإبداعيُّ الذي لا يخلو من تفاؤُلٍ يتراسَلُ فيه الشِّعرُ مع الفنونِ كافَّةً، وربّما يكونُ تيارُ الواقعية المُفرِطة Hyperrealism في الفنون البصريّة واحدًا من أهمّ تجلّياتِ هذا التجاوُز حيثُ لا يخلو العملُ المُفرِطُ في سخريتِهِ من الواقعِ من نزعةٍ تفاؤليّةٍ ضمنيّةٍ تبشّرُ بتغييرٍ محتمَلٍ إلى الأفضل.

     الخلاصةُ أنّ هذا المقالَ يرى المرحلةَ اللاحقةَ على تسيُّدِ قصيدةِ النثرِ ورفض أربابِها ما سِواها، يراها تحتفي بتجاوُرٍ بين القوالب الشِّعرية المختلفة لا يُستَبعَدُ فيهِ الآخَرُ، وربما يُراوِحُ فيها الشاعرُ بين هذه القوالبِ جيئةً وذَهابًا داخل النصّ الواحدِ بما يخدُمُ قضيتَه الجَماليّة ويُسهِمُ في إنشاء عالَمِه الخاصّ. ويرى المقالُ أنّ اللحظةَ التاريخيةَ التي صرّحَ فيها الشاعرُ الكبيرُ الراحل (حلمي سالم) خلالَ لقاءٍ تليفزيونيٍّ بأنّ اليمينَ المحافظَ للمشهدِ الشعريِّ تمثلُهُ القصيدةُ العمودية، والوسطَ تمثلُهُ قصيدةُ التفعيلة، واليسارَ التقدُّمِيَّ تمثِّلُهُ قصيدةُ النثرِ، يرى أنّ هذه اللحظةَ ليست نهايةَ تاريخِ المشهدِ الشِّعريِّ العربيِّ، فما هي إلاّ لحظةٌ عابرةٌ، والأقربُ إلى تصوّرِ كاتبِ المقالِ أنّ اليمين والوسطَ واليسارَ المُشارَ إليها تمثّلُ ما يشبهُ القضيةَ وعكسَها Thesis and Anti-Thesis في الجدل الثلاثيّ الهيجلِيّ، ومحكومٌ عليها ببزوغ مُرَكَّبٍ منها Synthesis كما ينتهي دائمًا كلُّ جَدَل! 

...................

محمد سالم عُبادة

نُشِر في مجلة (فنون) الصادرة عن الهيئة المصرية العامّة للكتاب

في كانون الثاني/ يناير 2017


No comments:

Post a Comment