Tuesday 8 June 2021

ثوراتُ الفنّ المضادّة: 2- چيم كاري .. قناعٌ بشريٌّ لبطلٍ كارتونيّ

 


      مازلنا مع ثوراتِ الفنّ المضادّة التي بدأنا الحديثَ عنها في المقال السابقِ بـ(مايكل چاكسون) نموذجًا في الغناءِ والرّقص، وننتقِلُ في هذا المقالِ إلى السِّينِما، وتحديدًا إلى التمثيلِ الكوميديّ، حيثُ ينصَبُّ حديثُنا على الفنّان الكنَدِيّ الأمريكيّ (چيم كاري) أحد أهمِّ كوميديانات هوليوود .. بدأ حياتَه الفنيةَ المعروفةَ قائمًا بكوميديا الوقوف Stand-up Comedy واشتُهِرَ بقدرته على تقليدِ حركاتِ كبار الممثّلين، ومَن رآه على خشبةِ المسرحِ يُولي الجمهورَ ظهرَهُ قليلاً ليعود بتعبيراتِ وجهِ واهتزازاتِ جسَدِ (چيمس دين) - بطلِ أفلام الستينيات الأشهر – لن ينسى هذه الخبرةَ أبدا!

     في واحدةٍ من أهمِّ محاولاتِ الفلسفةِ لتفسيرِ ظاهرةِ الفكاهةِ، يَخلُصُ الفيلسوفُ الفرنسيُّ العظيمُ (هنري برجسون) في كتابِهِ (الضحِك .. البحثُ في دلالةِ المُضحِك) إلى أنَّ الباعِثَ على الضحكِ يكونُ دائمًا فُقدانَ المرونةِ الإنسانيّة لصالِحِ التحوُّلِ إلى صرامةِ الآليّة، وهو يستعرضُ مع قارئه عشراتِ المواقفِ التي تطفحُ بها المسرحياتُ الكوميديّة وغيرُها ليُبَرهِنَ على صحةِ نتيجتِه، فبَخيلُ (موليير) يُضحِكُنا لأنه يجاوزُ الحدَّ المعقولَ (الإنسانيَّ) من الحِرصِ ليتحولَ إلى ما يشبهُ مِسخًا آليًّا وظيفتُهُ الحفاظُ على المال، والكاريكاتير لوجهٍ بشريٍّ يُضحِكُنا لأنّه يُبالِغُ في إبرازِ ما استحَت الطبيعةُ أن تُبرِزَهُ من ملامحِ الشخصِ الغريبةِ، ففنّانُ الكاريكاتير تلتقطُ عيناهُ في دُربةٍ أنفَ ذا الأنفِ الطويلِ ويرسُمُهُ موغلاً في الطُّولِ حتى كأنَّهُ خرجَ في صورةِ الكاريكاتير من قبضةِ الطبيعةِ الحانية ليَخضعَ لقصورِهِ الذاتيِّ كتُرسٍ مخلوعٍ في ماكينةٍ معطلَةٍ فيستطيلَ زيادةً حتى يجاوزَ الحدَّ الإنسانيّ ..

     كانت الثورةُ التي اجتاحَت السينما – ذلك الاختراعَ الوليدَ في بدايةِ القرنِ العشرين – هي الرسوم المتحركة .. الكارتون .. أشخاصٌ وكائناتٌ من ورَقٍ تفعلُ ما تفعلُهُ كائناتُ اللحمِ والدمِ وأكثرَ منه .. ولأنها كائناتٌ متحررةٌ من رِبقةِ اللحمِ والدمِ، فإنَّ حركاتِها إلى حركاتِنا تُعَدُّ مبالَغَةً أصيلةً لا فِرارَ منها .. إذا ضحِكَ الإنسانُ على شاشةِ السينما وضحكَ رسمٌ متحركٌ لإنسانٍ في فيلمِ كارتون، غلبَت ضحكةُ الثاني الذي من طبيعتِهِ المبالغةُ في تعابيرِه .. ولأنَّ إدراكَ الأطفالِ لدقائقِ التعبيرات البشريةِ هو بالضرورةِ أقلُّ من إدراكِ الناضجينَ بحُكم عمرهم العقليّ، فإنَّ انجذابَ الأطفالِ لأفلام الرسومِ المتحركةِ لا يُقارَنُ، حيثُ جَنةٌ متفتحةٌ أمامَ إدراكِهم البريءِ بالفعل.  

     ونعرفُ من أدبياتِ التمثيلِ المسرحيِّ أنه كذلك ينطوي على قدرٍ من المبالَغةِ بحُكمِ الطبيعةِ الخاصةِ للوسيطِ، حيثُ الجمهورُ بعيدٌ فيزيقيًّا عن الممثلين، وبالتالي لابُدَّ من إظهار التعبيراتِ المختلفةِ بقدرٍ من المبالغة .. ولذا يُعاني ممثّلو المسرح المحنَّكُونَ صعوبةً حين ينتقلون للعمل في السينما، حيثُ التعبيراتُ تقدَّرُ بقدرِها الحقيقيِّ وليسَت (أكبرَ من الواقع Bigger than Life) كما في المسرح .. يُذكَرُ أنَّ (هنري فوندا) مثلاً وجدَ صعوبةً شديدةً في القيامِ للسينما بنفس الدور الذي لعبه على المسرح في مسرحية/ فيلم (اثنا عشرَ رجلاً غاضِبا 12 Angry Men) ..

     نعودُ إلى بطلِنا (چيم كاري) ..

     الثابتُ أنَّ أفلامَه متكررةُ الفوزِ بجائزةِ (اختيار الأطفالِ كأحسنِ فيلم) تحديدًا .. وهو ما يُثيرُ سؤالاً عن السِرِّ في هذا التكرارِ، أيكمُنُ في طبيعةِ الحبكةِ أم خصائصِ الصورةِ مثَلاً، أم في شخصِ الممثِّل؟!

     دعونا نتأمّل (چيم) في مشهدٍ من (كاذبٌ كاذِب Liar Liar)، واقفًا في المحكمةِ كمُحامٍ يستجوِبُ رجلاً متهَمًا بممارسةِ الفاحشةِ مع موكِّلَتِه .. لا يُمكِنُ بحالٍ أن نقولَ عن طوفانِ الحركةِ والكلامِ الذي يخرُجُ من هذا المحامي إنَّهُ مبالغةٌ مسرحيّة .. المبالغةُ المسرحيةُ في غير موضعِها على المسرحِ تبدو فجّةً ومصطنعةً، بينما هذه المبالغةُ أمامَنا تبدو متماشيةً مع سياقٍ عامٍّ يرسُمُهُ (چيم) لدورِهِ في هذا الفيلم، كما يرسمُهُ حولَ كلِّ أدوارِهِ تقريبًا إذا كسَرنا الجدارَ الخامسَ كما يقولُ أهلُ الصنعةِ وتأمّلنا مجملَ أدوارِه .. هو سياقٌ كارتونِيٌّ (يُبالِغُ في المبالغةِ) إذا جازَ التعبير ..

     في مشهدٍ من (سلسلةٌ من الأحداثِ التعيسةِ لـ(ليموني سنيكيت) Lemony Snicket's A Series of Unfortunate Events) يجلسُ (چيم) في دورِ (الكونت أولاف) الممثلِ السيءِ ليقولَ لبطانتِهِ: "من سيقومُ بدور الكونت الأكثر وسامةً في العالَم؟!" .. يقولُها وهو يَفرِدُ رِجلَهُ في حركةٍ تختزلُ وتستدعي آلافَ الصفحاتِ المرسومةِ للكونت (دراكيولا) كما تصورَهُ (برام ستوكر) ببنطالِ حُلّتِه الضيقِ الأنيق .. حركةٌ بسيطةٌ واعيةٌ وعيًا خارقًا، أسمّيهِ بالأحرى (وَعيًا أَكُولاً) لما أَظهرَهُ من نهَم صاحبِهِ لاستيعابِ الظواهرِ وتشخيصِها بالتالي .. وهو تشخيصٌ كارتونيٌّ أيضًا لأنه (يُبالِغُ في المبالغةِ) جَريًا على نفس طريقةِ أداءِ (چيم) التي أصبَحَت علامةً على حضورِه.

     في الحقيقةِ يبدو أنَّ رَبطَ أداء (چيم) الكوميديِّ بعالَم الرسوم المتحركةِ ليسَ جديدًا كُلَّ الجِدَّة، فإن كان هذا المقالُ يتَّخِذُ من هذا الرَّبطِ ركيزةً ينبَني عليها تحليلُنا لفرادةِ نموذجِ (چيم) وخصوصيّةِ شخصيّتِه ككوميديان، فقد كانت هناك إرهاصاتٌ لهذا الرَّبطِ مِن قَبلُ، على الأقلِّ فيما أورَدَته الدكتورة (كيرستن تومپسون) في الفصل العاشر (التحريك Animation) من المجلّد الأول من كتاب (الكوميديا: دليلٌ جغرافيٌ وتاريخي Comedy: A Geographical & Historical Guide ) الّذي حرّرَه (موريس تشارني)، حيثُ تُشيرُ (تومپسون) إلى فيلم (القناع The Mask) الذي يجسّدُ فيه (چيم) شخصيّةً كارتونيّةً أساسًا، تتمتّعُ في الفيلم بخصائصِ أبطالِ الكارتون الحركيّة كاللقطات المتطرّفة extreme takes (العيون التي تجحَظُ حتى تغادر جماجم أصحابِها/ الأطراف التي تطير من أجسام أصحابها لتعود إليها/ إلخ)، ومطّاطيّة الأعضاء rubberhosing (كالرءوس القادرة على الانتفاخ كالبالونات والأرجُل المتمددة كالجوارب المطاطية rubberhoses) .. وفي رأيِي المتواضعِ أنّ علاقةَ (چيم) بعالَم الكارتون لا تقتصرُ على هذا المَلمَحِ فقط، وإنما هو يستثمرُ خصائصَ الكارتون المعتمد على المبالَغَة في كثيرٍ مِن آليّاتِ الإضحاكِ المُشتَرَكة بينَ عالمَي الكارتون والسينما الحيّة .. في الفصلِ نفسِهِ من الكتابِ المذكورِ سابقًا تُعَدِّدُ (تومپسون) عشرةَ عناصر اعتمدَ عليها الإضحاكُ في الكارتون .. وليس علينا إلاّ أن نجدَ من الذاكرةِ مباشرةً نموذجًا واحدًا لكلِّ عنصُرٍ استَثمرَ فيه (چيم) مُيُولَه الكارتونيّة .. فأوّلاً هناك كوميديا الشخصيّة personality، ونجدُه في (غبيّ وأغبى Dumb & Dumber) يرسمُ شخصيّةَ الغبيّ بملامحِ الوجهِ المبالَغِ فيها، ابتداءً من طريقةِ تصفيف الشَّعر البسيطةِ التي تنمُّ عن استسهالِ صاحبِها الشديد، إلى بروز الأسنانِ عند ذوي الاحتياجاتِ الذِّهنيّةِ الخاصّةِ ممّن تسببت الأمراضُ الوراثيّةُ في إعاقتِهم ..

     وثانيًا، هناك كوميديا الدعائم غير الحيّة Props المعتمدة على مفارقاتٍ حركيّةٍ تقومُ بها الأجهزةُ والآلاتُ المرسومةُ في المشهد الكارتونيّ .. وفي (إيس فنتورا: حين تنادي الطبيعة Ace Ventura: When Nature Calls) نرى (چيم) خارجًا من مؤخّرةِ نموذجِ الخرتيت الآليّ الذي يقودُهُ بنفسِهِ للتّخَفّي، فيعتقدُ الحاضرون في المشهد أنّهم إزاءَ لحظةِ ولادةِ خرتيتٍ صغير، لتُثيرَ المفارقةُ الكارتونيّةُ لدينا ما تثيرهُ من الضحك ..

     وثالثًا، هناك الإحالاتُ الثقافيّةُ والتّناصّ Cultural References & Intertextuality .. نتذكّرُ بسهولةٍ مشهدًا من (غبي وأغبى) حيثُ يقولُ (چيم) لصديقه (چِفْ دانيِلز/ هاري) عن شخصٍ ما: "لقد أكلتُ كَبِدَهُ مع طبقٍ جانبيٍّ من الفول المدمَّس والكيانتي chianti"، وهو اقتباسٌ لأحدِ أشهرِ أسطُر حِوار فيلم (صمت الحِملان Silence of Lambs)، قالَه (أنتوني هوپكِنز) لـ(چودي فوستر) محذِّرًا إيّاها من الإلحاحِ عليهِ بالأسئلة .. المهمُّ أنّ (چيم) و(چِفْ) يُتبِعانِ هذا السَّطرَ بحركة مصمصةِ الشِّفاهِ التي قامَ بها السّير (هوپكِنزْ) في ذلك المَشهدِ العَلامة، لكن بمزيدِ مبالَغَةٍ كارتونيّةٍ لا تُخطئُها العَين ..

     بالتأكيدِ لا يمكنُ أن نتنقَّصَ الأدوارَ المِحوريّةَ للمُخرجين وكُتّابِ السيناريو وفنّاني الماكياچ والمُصَوّرين وغيرهم من ممثلي العناصر الهامّة في إنتاجِ أفلامِ (چيم كاري)، لكن يَبقَى المُعَوَّلُ الأساسيُّ في الثورةِ الأدائيّةِ التي نحنُ بصَدَدِها على الممثّلِ نفسِهِ الذي استفادَ بالتأكيدِ من كُلِّ تُراثِ كوميديا المبالَغَة السابقِ عليه – سواءٌ بشكلٍ واعٍ أو غيرِ ذلك – من أوّلِ متوارَثاتِ الكوميديا المسرحية الإيطاليّة Commedia dell'Arte التي تسرّبَت إلى الممارسة الكوميدية السينمائية، إلى كوميديا الرسوم المتحركة، وأضافَ بصمتَه الخاصّةَ التي احتفَت بشكلٍ لا يُجحَدُ بالمبالغَة الكارتونيّة ..

     هي ثورةٌ مضادّةٌ لأنّ صاحبَها يمثِّلُ غزوَ (الكارتون) لعالَم الفيلم البشريّ .. مبالغةٌ في المبالغةِ، تفترضُ متلقِّيًا يتأمَّلُها فيختزلُ لاوعيُهُ في كلِّ لحظةٍ تاريخَ السينما وظهورَ الكارتون وغلَبَتَهُ القائمةَ أمامَهُ فتتولّدُ لديهِ قابليّةٌ للضحِك، وحين يحدثُ هذا فهو يقبلُ بالتبعيةِ اتفاقًا ضمنيًّا مع (چيم) على أن يرتدَّ طِفلاً يُدرِكُ التعابيرَ من خلالِ الإمعانِ في المبالغة، وهنا لا يملِكُ المشاهِدُ إلاّ أن ينفجِرَ في الضحِك حينَ يُفقِدُ (چيم) شخصياتِهِ حدودَ عَجزِها الإنسانيِّ/ مُرونتِها كما يَعرِفُ البَشَرُ أنفُسَهم، ويَغمِسُها في عالَم الكارتون الساحر ..

 

محمد سالم عبادة

9 أكتوبر 2016

نُشِرَ في العدد الثامن من مجلة (فنون) الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 2017

 

No comments:

Post a Comment