Friday 2 April 2021

زمن القلش! - هل هو عُطلٌ في ماكينة الكلام؟!

 https://www.youtube.com/watch?v=H5I_DNMtknI

     ربّما ليست هذه أقدم قلشة في تاريخ السينما المصرية كما يقول عنوان المقطَع على يوتيوب. لكنّها على كلّ حالٍ تصلح مقدمةً لهذا المقال بشكلٍ اعتباطيٍّ تمامًا.

     في كتابه العلامة (الضحك: البحث في دلالة المُضحِك Le Rire. Essai sur la signification du comique) يَخلُص الفيلسوف (هنري برجسون) إلى أنَّ تحوُّلَ الحياة إلى نظامٍ آليٍّ هو أصل الإضحاك في كل أنواعِه ومهما تعددت طرائقُه ومواقفُه. ما يحدُث في مقطع الفيديو السابق هو أن (محمد رضا) يُحوِّل مجرى الكلام اتّكاءً على تشابُه كلمتين هما (دهب) بمعنى الذهب (المعدن النفيس) و(ذهب) الفعل الماضي. الطبيعيّ أن يتصفَ الكلامُ بالحيوية والانسياب التلقائي تبعًا للموقف، وهو ما يحدث في المشهد حتى تقول نيللي الجملة الأخيرة، ثُمّ نكتشف مع جملة "دهب مع الرِّيح" لمحمد رضا أنّ هناك آليّةً كامنةً في الكلام كانت تنتظر من يَكشف عنها. هذه الآليّة تعبّر عن نفسها من خلال فقدان الكلام لوظيفته الاتصالية وكأنَّ (آلةَ) الكلام – لا الكائن الحي المسمَّى (كلامًا) – تعطَّلت في هذه اللحظة!

     هكذا تتحدد طبيعة القلش! عُطلٌ يَحدُث في ماكينة الكلام يلفِت انتباهَنا إلى أنها ماكينةٌ وليستَ كائنًا حَيًّا كما ظننّاه. وبهذا يصبح القلش نوعًا شديد الخصوصية من النكتة. فالنكتة المعتادة تستخدم الكلام كوسيط لنقل مشهد – يمكن أن ينقُلَه المسرح أو السينما أو غيرُهما من الوسائط – ينبُع فيه الإضحاك من آليّةٍ نكتشفُها في تيار الحياة عبر موقفٍ محدّد (مثل موقف: الغبي اللي دخل امتحان فطلع التاني، حيث ينكسر المنطِق وتتعطل طبيعة الأمور في تآمُر غريب لإثبات غباء بطل النكتة). أمّا في القلشة فلا يوجدُ مشهدٌ يُحاول القلاّش أن يستحضرَه أمام خيالِنا، وبهذا يصبح الكلامُ مادةَ القلشة ولحمتَها وسداها، لا مجرّد وسيطٍ لنقل موقفٍ متخَيَّل.

     ولهذا قد تطول النكتة وقد تقصُر حسب الموقف المتخَيَّل فيها، أمّا القلشة فالطبيعيُّ أن تكون شديدة القِصَر، حيث العُطل يحدث في وظيفة الكلمة الواحدة داخل الجُملة. بالطبع يوجد شكلٌ هجينٌ من مادّة الإضحاك يجمع النكتة التقليدية مع القلشة، مثل النكتة القديمة البايخة "مرّة واحد جه يقعد على قهوة قعد على شاي"، وفي الغالب تميل مثل هذه النُّكَت إلى القِصَر الشديد ولا تتمتع بقوّة الإضحاك التلقائيّة التي يتمتع بها القلش. ويَلحَق بهذه الموادّ الهجينة نمَط خاصّ من النُّكَت المُحَمَّلة بالتساؤلات اللُّغَوِيّة، مثل النكت التي ظهرَت في تسعينيات القرن العشرين بين شباب الجامعة في مصر، ومنها:

" – شايف الـsubstitution اللي واقفة في البلكونة؟!

  - يعني إيه بلكونة؟!".

     عودًا إلى برجسون، يقترحُ كتابُه المُشارُ إليه في بداية المقال دورًا أخلاقيًّا للضحِك، ففي تلقِّي مسرحيةٍ كوميديةٍ كـ(البخيل) لموليير مثلاً، نضحك من فُقدان (آرپاجون) بطل المسرحية مُرونةَ الحياة وتحوُّلِه ضمنيًّا إلى آلةٍ مهمتُها الحفاظ على المال بكل الطرُق، وفي هذا الضحك عقابٌ افتراضيٌّ لخصلة البُخل، وبهذا يصبح الضحكُ وسيلةَ المجتمع للحفاظ على حيويته ككُلٍّ وحيوية أفرادِه.

     إذا قفزنا من هذا الاقتراح إلى طبيعة القلش كما بَسَطناها منذ قليلٍ، فسنشعر بالحيرة أمام ظاهرة الضحك من القلش. القلاّش يقف على الكلمات ويجرّدها من مرونتِها بمحض إرادته ليُضحِكَنا، فأيُّ عقابٍ في الضحك هنا؟ وما مردودُ الضحكِ في إعادة الحيوية إلى الكلمات؟!

     ينقذُنا من مأزق هذا السؤال فيلسوفٌ آخَر هو (سارتر)!  

     في كتابه (ما الأدب؟ Qu'est-ce que la littérature?) يَبسُط (سارتر) عقيدتَه بخصوص الفَرق بين الأنواع الأدبية السردية (من رواية وقصّة ومسرح) من ناحيةٍ، والشِّعر من ناحيةٍ أخرى. عنده أنّ السَّردَ بالضرورة مُلتَزِمٌ ووثيقُ الصِّلة بالسياقاتِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ والتاريخيةِ لكاتبِه، وبالتالي فهو (دالٌّ على شيء)، بينما في الشِّعر – كما في الفن التشكيلي والموسيقى الخالصة – يصبح العملُ نفسُه هو (الشيء) محلّ التأمُّلِ والتأويلِ الجماليّ. ويصف (سارتر) الشاعرَ بأنه يعيش خارج اللغة، ولا يستخدمُها بالطرُق التي اصطلح الآخَرون على استخدامها بها، وإنما ينتزعُ المفردات من سياقِها المتعارَفِ عليه ليُبدِعَ لها سياقاتٍ بديلةً جديدةً، وهو بهذا (يَخدُم) اللغةَ في مقابل الروائي الذي (يستخدمُها). وفي هذه العقيدة الفلسفية نجد عند (سارتر) أصداء من الفيلسوف المثالي الإيطالي (بندتّو كروتشه) الذي اعتقدَ أنَّ الشِّعر أسبَق في الوجود من النثر، على اعتبار أنّ النشاط الإنساني الأول في إطلاق أسماء جديدةٍ على الموجودات أدخَلُ في الشِّعر منه في النثر.

     صحيحٌ أنَّ هذه النقطةَ عند (سارتر) انتُقِدَت كثيرًا على اعتبار أنَّ المثال الشِّعريَّ الذي تأمَّلَه  ليَخرُجَ بهذه التعميمات كان شِعرَ الرمزيين الفرنسيين من (فيرلان) إلى (فاليري) خاصةً، وهم المشهورون بانتزاع المفردات من سياقاتها اللغوية المعتادة، إلاّ أنَّ للتعميم وجاهتَه رغم ذلك، فحتى في أكثر النصوص الشِّعرية تماسُكًا من ناحيةِ المَشهدية تظلُّ مقاومةُ الشاعر لإغراء الإخلاص لجمال اللغة المحض أضعفَ من مقاومة الروائي والكاتب المسرحي!

     الشاهدُ مِن تأمُّلِ هذه التفرقة بين الشعر والسرد عند (سارتر) أنَّ ما يحدث في القلش أقرب ما يكون إلى ما يحدث في الشِّعر! حين يرُدّ (محمد رضا) على (نيللي) في مقطع الفيديو قائلاً "دهب مع الريح"، لا يَنصُبُ أمامَ عينِ خيالِنا مشهدًا بعينِه، وإنما يُخلِص لِلُّغَة في ذاتِها ويُخَلِّصُها من حالة الوسيطيّة لتُصبحَ هدفَه الوحيد. لا يعود هناك شكلٌ ومضمونٌ لمادة الإضحاك، فالشكل هو المضمون، تمامًا كما في الموسيقى الخالصة، وفي الشِّعر كذلك عند (سارتر) ومَن قال برأيِه!

 

     بعيدًا عن هذا التأمُّل الفلسفي لظاهرة القلش، لن نخسر شيئًا إذا راجَعنا مادة (قلش) في (لسان العرب)، لنجد أنّ المفردةَ الوحيدةَ المتولِّدةَ من هذه المادة هناك هي (أَقلَش)، ويعرِّفُها ابنُ منظور صاحب اللسان بأنها "اسمٌ أعجميٌّ وهو دخيلٌ، لأنه ليس في كلام العرب شِينٌ بعد لامٍ في كلمةٍ عربيةٍ مَحضة، إنما الشيناتُ كلُّها في كلامهم قبل اللامات". أمّا في قاموس المعاني فنجد في تعريف كلمة (قَلاّش): "اسم علَمٍ تُركِيٌّ معناه الداهية المحتال، وورد كذلك في اللغتين الفارسية والكُردية بمعنى التافه، العاطل المحتال".

     شخصيًّا، لا أعرفُ إن كانت مفردة القلش - قبل أن تكتسب في السنوات الأخيرة معناها الذي ندور حولَه في هذا المقال – كانت تُتَداوَل بعيدًا عن التعليق على مباريات كرة القدَم، حيث اللاعب (يقلش) الكرة إذا خرجت من ركلتِه في غير الاتجاه الذي أرادَها فيه. اصطدمتُ بالمعنى الجديد للمرّة الأولى في لقاءٍ مع صديقٍ – ربما بعد 25 يناير – وصفَ ما أفعلُه بتلقائيّةٍ بأنه (قلش)، واستخدم جملة "انت قلاّش؟ ويتحب تاكل جُلاّش؟" لأعرفَ فيما بعد أن (أحمد مكي) قالها في فيلم (طير انت).

     المهم أنّ هذا الاستخدام الجديد للمفردة، والذي يَستَحضِرُ دائمًا مَشهدَ اللاعبِ الذي يَركَلُ الكُرةَ فلا تطاوعُ إرادتَه، يوقعُنا في مفارقةٍ دالّةٍ، مفادُها أنَّ الفِعل الحافلَ بالقصديّةِ المتمثّلَ في انتزاع الكلمات مِن سياقِها الطبيعي وإفقادِها مرونتَها، يوصَفُ بمفردةٍ ترتبطُ في خيالِنا باللاقصدية والاعتباط (في عصيان الكرة لقدم اللاعب)! هل هي بالفعل مفارقةٌ دالّة؟! ربما نعودُ إلى دلالتِها بعد قليل!

     قفزًا إلى ما قبل ظهور هذا المعنى مباشرةً، نجد أنّ (القفشة) كانت هي المفردة الدالّة على سرعة البديهة وخِفّة الدَّم لعقودٍ طويلةٍ عند المصريين خاصة. فكثيرون يتحدثون عن قفشات أم كلثوم وقفشات كثير من المشاهير. والقفشُ في (لسان العرب) يُطلَقُ على النكاح والأكل في شِدَّةٍ كما يُطلَق على الجَمع، والأقرب للمعنى المقصود هنا هو الجَمعُ أو الاصطياد، فالقفشَجي – كما اعتاد المصريون تسميتَه – هو ذلك الذي يصطاد التفاصيل التي يغفل عنها الآخَرون وينسج حولَها نكتةً تُحيلُ المستمعين إلى موقفٍ مضحكٍ متخَيَّل، ونتمسّك بهذا التعريف حتى ولو خلَطَ بعضُ الناس بين القفشة والقلشة كما في الرابط التالي!

http://www.arablite.com/2017/11/02/%D9%82%D9%84%D8%B4-%D8%A3%D9%85-%D9%83%D9%84%D8%AB%D9%88%D9%85-%D9%87%D9%84-%D9%83%D8%A7%D9%86%D8%AA-%D9%82%D9%81%D8%B4%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AA-%D8%A8%D8%AA%D8%B6%D8%AD%D9%83-%D9%81/

     نقطتان بخصوص القفشة مهمّتان هنا: الأولى أنّها تَستخدِمُ اللغةَ كوسيطٍ لاستحضار مضمونٍ مشهديٍّ متخَيَّل، لا كما في القلشة، والثانية أنّ الأسلافَ سمَّوا من اشتُهِر بهذا الفعل: (قفشَجي)! المقطع (جي) له ظروفه التاريخية لأنه يدلّ على النسَبِ للحِرفةِ في اللغة التركية التي تأثرت بها العاميةُ المصريةُ وكثيرٌ من العامّيّات العربية لظروفِ وقوعِ كثيرٍ مِن الأقطار العربية تحت الحكم العثماني. وهو بهذا يَفتَرِضُ أنّ (القفشجي) يَمتَهِنُ (القفشَ)، فكأنه يتكسّبُ به، والشاهدُ هو القصديّة الّتي توحي بها التسمية.

     أمّا (القلاّش) فهي مجرد صيغة مبالغة من (قَلَشَ) – ذلك الفعل المستحدَث – لا تفترضُ في ذاتِها قصديّةً من أي نوع، فربما يكون هذا القلاّش مريضًا ولا يستطيعُ فكاكًا من دافعٍ مبهَمٍ لديه يحثُّه على مواصلة القلش!

     نعودُ هنا إلى المفارقة التي أرجَأنا الحديثَ عنها منذ قليل. هنا ترتبط استعارةُ مفردةِ (القلش) من ملاعب كرة القدم (حيثُ تعصي الكرةُ قَصْدَ اللاعب)، بالتواطؤ المجتمعي على اختيار صيغة المبالغة – المحايدة بخصوص القصدية أو عدمِها – لتسمية فاعل القلش، فلم نجد كثيرين يسمُّونَه (قلشَجي) مثلاً على غرار (قفشَجي)!

     لا أحبُّ أن أبدُو قافزًا من مقدماتٍ بسيطة إلى نتائجَ هائلةٍ غيرٍ مناسبةٍ للمَقام، لكن يبدو لي أنَّ لهذا التآمُر اللاواعي على إظهار هذا الفعلِ - الحافلِ بالقصديّة والمُدَمِّرِ للُّغة كوسيطٍ للتواصُل من أجل الإضحاك – بمظهر الفعل العبثي اللاإرادي، علاقةً وثيقةً بتزايُد إحساس مجتمعاتِنا بالعبثية. ربما تكون العبثية سياسيّةً ومجتمعيّةً عند الغالبية العظمى من الناس، وربما تكون عبثيةً كونيةً عند قِلَّةٍ منهم، إلاّ أنها هناك حاضرةٌ بالتأكيد!

     ختامًا، أزعُم أنّ ظاهرةَ تفشّي تعاطي القلش في المجتمَع تؤهِّل القلش كظاهرةٍ جَماليّةٍ لدخول حلبة المنافسة مع الرواية والدراما في الجدَل النقدي العربي الذي أدارَه أستاذنا د.جابر عصفور بمقولته (زمن الرواية) وأستاذنا د.حسن عطيّة بمقولته المضادة (بل هو زمن الدراما). فالقلش مِن ناحيةٍ ليس بعيدًا عن الشِّعر إذا تأمَّلناه تأملاً فلسفيًّا كما فعلنا استنادًا إلى رؤية كلٍّ من (كروتشه) و(سارتر)، وهو من ناحيةٍ أخرى أكثر ارتباطًا من الروايةِ والدراما والشِّعرِ نفسِه بواقع الحياةِ لأنّه يُولَدُ لحظيًّا وتلقائيًّا في أكثر الحوارات يوميّةً وعاديّةً، وهو أخيرًا لا يعدو كونَه فَنًّا بما فيه من الموهبةِ القابلةِ للتدريب والصَّقل والعمَل وبقدرتِه المشهودةِ على الإضحاكِ كالكوميديا الدرامية وربما أكثر في بعض المواقف. ربما هو أقرب إلى الفنونِ الزائلةِ الآنَ كالجرافيتي، لكن مَن يدري؟ ألا يمكن أن نجد مشروعًا اليوم أو غدًا لجمع قلشاتٍ أضحكَت الناس كثيرًا في كتاب؟ أنثولوچيا لأهمّ القلاّشين في مصر مثلاً؟! مَن يدري؟! ربما تتكرّس قريبًا مقولةُ (زمن القلش) بشكلٍ رسميّ!

 

محمد سالم عبادة

14 مارس 2018

نُشِر على موقع (منشور) في 21 مارس 2018

https://manshoor.com/life/comedy-pun-egypt/

 

       

No comments:

Post a Comment