Thursday 8 April 2021

سقوط دولة الفوازير: فكرة من فلسفة الدِّين!

 

* بماذا تُخبرُنا اللغة؟!:

     تُخبرُنا الجولة السريعة في معاجم اللغة العربية بأنّ الجذر اللغوي (فَزَرَ) –وهو جذر كلمةِ فازورة (أو فَزُّورة) بمعني لُغزٍ أو أُحجِيَة- يرتبط دائمًا بالكَسر أو الشَّقّ، ما يَفترض أنّ المتلقّي حين يهُمّ بحَلّ الفازورة إنما يَكسِرُ قشرتَها وصولاً إلى المعنى. وبتطبيقِ مبدأ الاشتقاق الكبير الذي أخذَه فيلسوفُ اللغة العربية (أبو الفتح عثمانُ بنُ جِنّي) عن أستاذِه (أبي عليٍّ الفارسيِّ) وطوَّرَه ونماه في كتابه العُمدة (الخصائص)، يمكننا أن نضع أيديَنا على علاقاتٍ وفيرةٍ بين الكلمات المبنية بهذه الحروف الثلاثة (الفاء والزاي والراء)، فكلمة (فَرَزَ) مثلاً تحملُ معنى تمييز المجموعات الجزئية عن بعضِها البعض، وصولاً إلى (الفِرْز) بمعنى القطعة. وكلُّ (فَزرٍ) أو كسرٍ يَنتُجُ عنه مجموعةٌ من القِطَع أو (الفُرُوز)، فكأنَّ الفِعلَين (فَزَرَ) و(فَرَز) متّصلان برابطٍ خفيٍّ لا يصعُبُ أن نكشفَ عنه. وقُل مثلَ ذلك في الجذر (زَرَفَ) بمعنى اقتربَ مُسرِعًا، فهو يتجاوبُ مع فكرة الإنجاز الموجودة في كُلٍّ من (فَزَرَ) و(فَرَز)، وكذلك (زَفَرَ) بمعنى (أخَرَجَ نَفَسَه)، فكأنَّ الإنسانَ حين يَزفِرُ يكسِرُ كيانَه الذي يبدو متماسكًا لِيُخرِجَ معنى حياتِه ملخَّصًا في النفَس، أو هو (يَفرِزُ) هذا النَّفَسَ الذي (يَزفِرُه) كما يَفرِزُ العَرَق. وهكذا تتجاوب معاني التباديل والتوافيق الصادرة عن مجموعة هذه الحروف الثلاثة، وهذا هو جوهر نظرية الاشتقاق الكبير لابنِ جِنِّي!

     هل ابتعدنا كثيرًا عن موضوع الفوازير؟!

* حلاوة الرُّوح:

     في فوازير (ماونتن فيو) لرمضان 1439ه/ 2018م القائمة على النجمين ماجد الكدواني ودنيا سمير غانم، لا نصادف الكثير من الجهد التمثيلي من ناحية الكدواني ودنيا، فالممثلان المتمتعان بشعبيةٍ كبيرةٍ -والمشهود لهما بمقدرة أدائية محترمة وخفّة ظِلٍّ موفورة وحضورٍ آسِرٍ أمام الكاميرا- لا يُخرِجان من طاقتهما الإبداعية إلا أقلّ القليل. سيناريو الحلقات السبع الموغلة في القِصَر يتلخّص في أنّ الكدواني ودنيا يظهران في المقدمة بشخصيتِيهما الحقيقيتين، باعتبارهما ضيفين في مهرجان سينمائي إيطالي (ربما يكون مهرجان فينيسيا باعتباره الأشهر)، وتضطرُّهما الظروف لأن يستقلاّ موتوسيكل بكابينة للّحاق ببرنامج المهرجان، وتتلف فرامل الموتوسيكل فيتعرضان لحادث يُفقِدُهما الذاكرة، ويكتشفان في جيوبهما ميداليتي آي-سيتي I-City وهو أحد المشروعات العقارية لشركة ماونتن فيو، ومن خلال الحلقات السبع يُكشَف عن مزايا سبعٍ لهذا المشروع، والفزورة هي استخلاص المزايا من الحلقات. وجائزة الفزورة الواحدة إيصال بمائة ألف جنيه تُخصَم من إجمالي قيمة الوحدة السكنية حين يتعاقد الفائز على شرائها، وصولاً إلى الإيصال الأعظم بمليون جنيه، يُمَثل الجائزة الكبرى للفوازير. 

    ربما يمثل هذا الظهور الخاطف للفوازير وسط حمّى المسلسلات الرمضانية شيئًا أقربَ إلى حلاوة الرُّوح بالنسبة لتقليد فوازير رمضان الذي بدأ في الإذاعة المصرية مع آمال فهمي وسامية صادق عام 1960 لينتقل سريعًا إلى التليفزيون في العام التالي، ويشهد طفراتٍ متعاقبةً مع بطولات ثلاثي أضواء المسرح ثُمّ نيللي ثم فؤاد المهندس وسمير غانم وشريهان مرورًا بعبد المنعم مدبولي ويحيى الفخراني مع صابرين وهالة فؤاد وفوازير الكاريكاتير مع الإعلامية سوزان حسن، ووصولاً إلى نادين ونيللي كريم.

     مسألة سقوط دولة الفوازير تُناقَش في الإعلام المصري كلَّ عامٍ تقريبًا مع دخول رمضان، ويُرجِع كثيرون سبب هذا السقوط إلى عوامل بعينِها، ربما أكثرُها تردُّدًا في هذه المناقشات ارتفاعُ الميزانية المتوقَّعَة لإحياء هذا التقليد التليفزيوني الذي يعتمدُ على مزيجٍ من فنون الاستعراض والموسيقى والدراما وغيرِها، فضلاً عن نضوب مَعين المواهب الجبّارة التي قد تضارع موهبتَي نيللي وشريهان تحديدًا في جمع الغناء والأداء الحركي إلى التمثيل إلى خفّة الظِلّ، أو تضارع مواهب الشعراء والموسيقيين ومصممي الرقصات ومصممي الملابس والديكور والمخرجين وكتّاب السيناريو الذين صنعوا مجد دولة الفوازير من الستينيات إلى تسعينيات القرن الماضي.  

     بشكلٍ شخصيٍّ لا أرتاحُ لحصر الأسباب فيما سبق ذِكرُه. يوجد سببٌ آخَر بسيطٌ ومباشِرٌ قد ينساه المناقشون لهذا السقوط، هو بُطلان موضة الفوازير. لكن يبقى السؤالُ وراء هذا السبب الساذَج بدَورِه: لماذا بَطَلت موضة الفوازير؟!

*قفزةٌ إلى فلسفة الدين:

     ربما مِن أهمِّ إسهامات فيلسوف الأديان الروماني مِرتْشِيا إلياد Mircea Eliade (1907-1986) فِكرة تَجَلّي المُقَدَّس Hierophany التي تعني تلك الظُّهورات التي تنسبُها النصوصُ المقدسَة والأساطيرُ إلى الإله (أو الآلِهة) والملائكة والكائنات العُلوِيّة الغيبية، والتي تغزو فيها عالَمَنا/ عالَم الشهادة المُدَنَّس. وتتأسس الأديانُ إجمالاً على هذه الفكرة. وفي رأي (إلياد) فإنّ تجلّي المقدَّس هو الذي يؤسس العالَم وجوديًّا، فهو الذي يمنحه قيمةً وتوجُّهًا وغاية. يقول إلياد في كتابه (المُقَدَّس والمُدَنَّس The Sacred and The Profane) ما معناهُ إنّ العالَم المدنَّس للخبرة اللادينية على حالتِه النقيّة لا يمكن تقسيمُه إلا بشكلٍ هندسيٍّ حياديٍّ بارد، فبِنيَتُه الداخلية غير قادرة على خلق أيّ تمايُزٍ قِيمِيّ Qualitative Differentiation، ومِن ثَمَّ فهو لا يُعطي الإنسانَ أيَّ نموذجٍ سلوكيٍّ للاقتداء. ويُعضِّد إلياد هذه الفكرة بفكرة العَود الأبدي في الممارسة الدينية Eternal Return، والتي تختلف عن مفهوم العَود الأبدي الفلسفي (تكرار حدوث العالَم عددًا لانهائيًّا من المرّات)، فالعَود الأبدي الذي يقصده إلياد في فلسفتِه هو ذلك المُعتقَد لدى المؤمنين بدِينٍ ما، أنهم يصبحون قادرين على المشاركة في الأحداث الأصلية لتجلّي المُقَدَّس في دينِهم من خلال اتباعِ طقوسٍ معيَّنة.

     بالنسبة للحالة الإسلامية، يحتلُّ رمضان موقعًا مركزيًّا مهمًّا في مفهوم تجلّي المقدَّس، فالثابِتُ إسلاميًّا أنَّ الظهور الأول لمَلَك الوحي جبريل للنبي محمد –صلى الله عليه وسلَّم- كان في رمضان، وبالتحديد في ليلة القَدر. ولِذا يحتفل المسلمون بالشهر بطقوسٍ تطهُّريّةٍ أهمُّها الصوم والصلاة وقراءة القرآن والصدقة، ويتكثّف هذا السلوك الإسلاميُّ في العشر الأواخر من رمضان تحرِّيًا لذِكرى ليلة القَدر التي يُمنَحُ بركتَها من يُعينُه الله على أن يسمُو بسلوكِه إلى درجةٍ يرضاها (فهو بشكلٍ ما أو بآخر يصبح مشاركًا في الحدَث الأصلي لتلقّي الوحي القرآني، انطلاقًا من رأي إلياد). وفي الحقيقة، يصبح هذا الشهرُ المقدَّس إسلاميًّا قادرًا على إعطاء المعنى للزَّمَن نفسِه بهذا التمييز الذي يُحيط به في الموروث الإسلامي، فالسنة القمرية التي تشبه أيامُها بعضَها -ولا يميّز الإنسانُ منها وقتًا على غيرِه- تتوقف لمجيء رمضان، ويلتفت المسلم لحقيقة مرور الزَّمَن وانقضاء العُمر بالتالي، من خلال طقس الصوم بمراقبته ميعادَي الإمساك والفِطر يوميًّا، فضلاً عن ارتقاب بداية ونهاية الشهر، كما يتحدد له في رمضان النموذَجُ السلوكيّ المطلوبُ الاقتداءُ به على مدار الحياة.

* نعودُ إلى الفوازير!

     يبدو أنّ ارتباطَ الفوازير برمضان في مصر على الأقل أقدَم من ظهور الإذاعة والتليفزيون، فكما يحكي (إدوارد لين) في كتابه (المصريون المُحدَثُون)، كان أهلُ الريف يتحلّقون في رمضان حول الحكّائين ليسردوا حكاياتِهم مشفوعةً بالفوازير البسيطة. الفزورة باعتبارِها لغزًا تقليدٌ إنسانيٌّ بالطبع، متجاوزٌ لحدود الجغرافيا، لكننا مازلنا نلمس -مع ما نشهده من سقوط موضة الفوازير التليفزيونية هذه الأيام- بقاء هذا التقليد في أشكاله البسيطة في بعض الصحف والمجلاّت، فضلاً عن ممارستِه حتى في بعض مساجد القاهرة بعد صلاة التراويح! هل لهذا الارتباط علاقةٌ بالمقدمة المعجمية لمقالِنا، التي تكشفُ عن أنّ حل الفازورة هو التنقيبُ عن المعنى؟ وإذا كانت الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب، فهل يُلقي هذا ضوءًا على مركزية رمضان في الممارسة الإسلامية باعتباره مانحًا المعنى للزَّمَن وبالتالي للعالَم كُلِّه؟

     في تقديري أن هذا الارتباط بين الفازورة ورمضان وتمحوُر الاثنين حول فكرة منح المعنى، كل هذا حاضرٌ في اللاوعي الجمعي Collective Unconscious للجماعة المسلمة التي كرَّسَت تقليد الفوازير الرمضانية في هذه البقعة من العالَم، تمامًا كما تفترض نظرية الاشتقاق الكبير -التي ذَكَرنا طرَفًا منها في بداية المقال- حضورًا لذلك التراسُل بين معاني تباديل وتوافيق المادّة الصوتية الواحدة –أو الجذر اللُّغَوي- في اللاوعي الجمعي للجماعة العربية الأولى التي اصطلحَت على وضع اللغة.

     فلماذا إذن سقطت الفوازير؟ أو لِنَكُنْ أكثر تحديدًا: لماذا سقطت موضة الفوازير التليفزيونية باعتبارها نوعًا خاصًّا هجينًا من الفن التليفزيوني مميِّزًا لهذا الشهر؟

     يبدو لي أنّ تبنّي الإذاعة والتليفزيون لتقليد الفوازير الرمضانية منذ الستينيات كان ينطوي في داخلِه على عمليتين تبدُوان متناقضتين. أُولاهما هي علمنة الدِّين Secularization of Religion بمعنى تحويل المناسبة الدينية إلى مناسبة دنيوية مرتبطة بطقوس احتفالية معيَّنة، وهذه العملية هي الأوضَح لدى قطاعٍ عريضٍ من أثِمّة المساجد مثَلا. نلاحظ هذا في دأَبِهم القديم المتَّصِل إلى الآن على حَضّ المُصَلّين على اعتزال التليفزيون ومقاطعة برامجِه في رمضان. العملية الثانية التي لا ينتبهُ لها هذا القِطاع من المجتمع على الأقلّ هي عمليةٌ في الاتجاه المضاد، بمعنى تديين المجال الدنيوي، وانسحاب المعنى الذي يمنحُه رمضان للزَّمَن على برنامج التليفزيون، فما يَحدُث بالفعل هو أنّ نمطًا خاصًّا من الدراما والاستعراض وغير ذلك ممّا يكوِّن فنّ الفوازير يميّز برنامج التليفزيون في هذا الشهر.

     في ضوء هذه الرؤية، يبدو سقوط دولة الفوازير انكماشًا لذلك المعنى الذي يمنحُه رمضان للزمن لدى صانعي برنامج التليفزيون، وبمعنىً أدَقّ، يبدو الأمرُ تراجُعًا لسطوة الدِّين وهيمنتِه على تفكير المشتغلين بالفنّ. ما حدث في العِقد الأخير مواكِبًا لانفجار عدد قنوات التليفزيون الفضائية هو انفجارٌ مماثِلٌ في عدد المسلسلات التي تخصص عرضَها الأول لشهر رمضان، في مقابل انكماشٍ واضحٍ للفوازير. صحيحٌ أن فكرة تخصيص العرض الأول لرمضان تُعَدُّ بِدَورِها شكلاً من أشكال تديين الفنّ أو المجال الدنيوي، لكن بالتأكيد بدرجةٍ أقلّ من تخصيص فنِّ بعينِه لهذا الشهر لا يُعرَضُ إلاّ خِلالَه. نستطيعُ أن نعبِّرَ في أمانٍ عن هذه العملية باعتبارِها ازديادًا في عَلمنة رمضان في مقابلِ الانكماش في تديين الفنّ.

     ربما نلمسُ شواهِدَ أخرى على هذه العلمنة في انكماش نسبة المسلسلات المصرية المهتمّة بتاريخ العُصور الإسلامية السابقة ممّا يُشارُ إليه بالمسلسلات الدينية. كذلك فإنّ حلاوة الرُّوح التي أشَرنا إليها سابقًا في حديثِنا عن فوازير ماونتن فيو لهذا العام، هي في الحقيقة فوازير تستهدفُ شريحةً عُليا مميَّزَةً في المجتمع، فمن نافلة القول أنّ المهتمّين بحلّ هذه الفوازير هم من يملكون ثمن شراء الوحدات السكنية الممتازة لمشروعات ماونتن فيو ويرغبون في الاستفادة من الخصم الذي تقدمه الفوازير. هذا في مقابل تراث الفوازير الرمضانية الطويل الموجَّه لكل قطاعات المجتمع دون تفرقةٍ في أغلب الأحيان. يمثل هذا بدوره شكلاً صُلبًا من الرأسمالية لا يهتمُّ كثيرًا بمفاهيم الخير والصدقَة والتكافل التي كانت ترتبط قديمًا بتقليد الفوازير التليفزيونية والإذاعية.

     ختامًا، يبدو أنّ سقوط فنِّ مهتمٍّ بفكرة الكشف عن المعنى كالفوازير يمثّل اتجاهًا عامًّا في المجتمع إلى فقدان الثِّقة في حقيقة وجود المعنى. ورجوعًا إلى فلسفة إلياد، يجسّد هذا بدوره انكماشًا يائسًا لسطوة الدِّين بصفتِه مانِحَ المعنى لفضاءات الزمان والمكان للموجود البشري. هي درجةٌ قاسيةٌ من العلمنة، التي يعتبرُها فلاسفةٌ متباينون في مواقفهم إزاء دور الدِّين في المجتمع -مثل ماركس من ناحيةٍ وماكس فيبر من ناحيةٍ مضادة- عمليةً تسير في اتجاهٍ واحد: العلمنة ثم مزيد من العلمنة، وهكذا إلى النهاية.

 ........................

محمد سالم عبادة

16/6/2018

...................

نُشِرَ في موقع (منشور) في 2 أغسطس 2018.

https://manshoor.com/art/end-of-tv-fawazeer-era/ 

1 comment:

  1. Borgata Hotel Casino & Spa Announces Return of Casino
    Borgata Hotel Casino & Spa will be returning to 충청북도 출장안마 Atlantic City 대구광역 출장샵 this 하남 출장마사지 spring. 김포 출장마사지 The casino, which opened on July 1, 충청남도 출장안마 2005,

    ReplyDelete