Thursday 12 March 2015

الصدقُ والدهشةُ والجُنون .. قراءةٌ في المجموعة القصصية (التحديق في العيون) للقاصّ (إبراهيم عادل)

هي المجموعة القصصية الأولى للكاتب (إبراهيم عادل)، بعد كتابه الأول (المسحوق والأرض الصّلبة) الذي صنّفه بنفسِه كـ(نُصوصٍ) متجاوزًا مفاهيم القوالب الأدبية المتعارَف عليها سنة 2008. والمجموعةُ ممتلئةٌ بدهشةٍ طفوليّةٍ إزاءَ كلّ ما يمُتُّ بصِلةٍ إلى الحدثِ اليوميّ .. فَتارةً تأخذُ هذه الدهشةُ شكلَ رغبةٍ جَمُوحٍ في كسرِ الإيهامِ القصصِيّ، وتارةً شكلَ تماهٍ مع بطلٍ يواجهُ العالَمَ عاريًا من القدرةِ على فهمِ الكذِب، ورُبّما تأخذُ شكلَ تقمُّصٍ للغةِ المَروِيّاتِ التُّراثِيّةِ في سَردِ وقائعَ تنتمي إلى حياتِنا اليومية .. وفي بعضِ القصص لا يبلُغُ الحدَثُ ذِروَةً دراميّةً ما، بل لا يكادُ يتّجهُ إلى تعقُّدٍ من أيّ نوع، ورُبّما يعكِسُ هذا زاويةَ رؤيةٍ يُصِرُّ عليها الكاتبُ، لا يُرَى منها إلاّ سَيّالٌ من التفاصيلِ المتتابعةِ الّتي لا يُفهَمُ منها سببٌ ونتيجةٌ، وهو ما يُذَكِّرُنا بموقف كلٍّ من الأشاعِرَةِ و(ديفيد هيوم) من مشكلةِ العِلّة والمعلولِ، حيثُ ليسَ ثَمَّ إلاّ اقترانٌ بين الأحداثِ جَرَت به العادة ولا شيءَ وراءَه .. ربّما تعبّر عن هذا الموقِفِ فقرةٌ من القصة الافتتاحية (ممارسة إنسانية): "حسنًا .. الأحداثُ من البداية مرتَّبَةٌ بذِهني جيّدًا، أعلمُ أني نسيتُ الماءَ على النار حتى شممتُ رائحةَ احتراقِ البَرّاد، وبعدها وضعتُ الماءَ مرّةً أخرى لسلقِ البطاطس، ثُمّ قمتُ مرةً أخرى على رائحةِ احتراقِها!".. وتسترسلُ القصةُ في التوسّعِ في النسيانِ الذي ينسفُ الأحداثَ ذاتَها فضلاً عن ترتيبِها حتى تتلاشى في النهايةِ الحقيقةُ تمامًا، لا أقولُ الحقيقةُ الموضوعيّةُ لأنّها لا وجودَ لها هنا، وإنّا أعني تلاشيَ أيّ أثرٍ لحقيقةٍ ذاتيّةٍ حتى بتلاشي ذاكرةِ الرّاوي البطل الذي يسألُ في نهاية القصةِ: "أين المشكلة؟ أين أنا الآن؟ أينَ هُم؟؟ هل جئتَ معهم عندي؟" فيردّ الصديق بهدوءٍ: "لا" ويطلُبُ 2 (يَنسُون)، في لفتةٍ بديعيّةٍ - مقصودةِ السذاجةِ فيما يبدو – إلى اتّساعِ النسيان، كمحاولةٍ للسخريةِ من الموقفِ الإنسانيّ برُمّتِه ..
     يتكرّر هذا الموقفُ الشّكّيّ في القصة التالية (ذِراعٌ واحدةٌ طويلة)، لكنّ الأحداثَ هنا قابلةٌ للترتيبِ في اتجاهاتٍ عِدّةٍ وفقَ تفسيراتٍ عِدّةٍ، فالبطلُ الّذي يُجَرِّدُ من نفسِهِ راويًا يتحدثُ إليهِ يسرِدُ وقائعَ ركوبِهِ حافلةً وجلوسِ فتاةٍ بجوارِهِ، ولَعِبِها بهاتفِها المحمولِ ونومِهِ حتى وصولِهِ إلى وِجهَتِه، ثُمّ يفاجئنا في السطرِ الأخيرِ بما يَشي بأنّ الأمرَ كُلّه ربّما كان حلمًا في رأسِ مَغشِيٍّ عليهِ أمامَ سيارةٍ كادَت تدهسُه، وربّما كان حقيقةً انتهَت بأنّه نزل من الحافلةِ وكادت ترتطمُ به سيارة ..
     ربّما تكونُ أنضجُ قصص المجموعةِ معمارًا بحسبِ المعاييرِ التقليديّة لمعمارِ القصّة هي تلك المعنوَنة (بين فيلمٍ ومُظاهَرَة) .. هنا البطلُ (عليّ) يعاني تأخرًا عقليًّا – بحسب تقديم الكاتب – يجعلُهُ يصدّقُ كل ما يراهُ في التلفازِ باعتبارِهِ حقيقةً، وهو واقعٌ تحتَ وصايةِ أخيه الرحيم (عُمَر) الذي ينجحُ جزئيًّا في حلّ هذه المشكلة المزمنة بالتنسيق مع إدارةِ التليفزيون لإرساءِ تعامُلٍ مباشرٍ بين ممثلي المسلسلات والأفلام من ناحيةٍ و(علي) من ناحيةٍ أخرى .. يتعقّدُ الأمرُ تدريجيًّا فيما يشبهُ مواكبةً تاريخيّةً لتطور أداءِ التليفزيون كمؤسسةٍ إعلاميّةٍ، فلا يستطيعُ (علي) اقتراحَ حلولٍ لأزمات الشعوب التي تنقلُها إليه نشراتُ الأخبار مثلاً، قبلَ أن تنفتح القنواتُ الفضائيةُ في طوفانِها المعروف، والذي يؤدي إلى ما تُختتمُ به القصةُ من تفوُّه (علي) بجُمَلٍ تبدو خليطًا من مسلسلاتٍ خليجيةٍ ونشراتِ أخبارٍ ومبارياتِ كرةِ القدَم .. هنا يقدّمُ (إبراهيم عادل) بطلَهُ إنسانًا غيرَ قادرٍ على الكذِب وغير قادرٍ بالتالي على تفهُّمِ ذلك الاتفاقِ الضمنيّ المعروفِ بينَ مقدّمي الفن التمثيليّ ومتلقّيه على تصديقِ حفنةِ الأكاذيبِ المنتميةِ إلى التمثيليةِ مؤقتًا مع استبطانِ حقيقةِ كذبِها .. ويَطرحُ بالتالي من طرفٍ خفيٍّ إشكاليةَ دورِ الكذِب في استمرار وتراكُم وتعقُّد الحضارة، هذا إذا اتفقنا على أنّ الفنّ نتيجةٌ مهمّةٌ ومُعطىً مهمٌّ في الوقتِ ذاتِه للحضارة .. في تقديري أنّ هذه القصةَ هي أكثرُ قصص المجموعةِ تراسُلاً مع عنوانِها، ربّما أكثرَ من القصة حاملةِ نفس العنوانِ (التحديق في العيون) .. هذا لأنّ التحديقَ في العيونِ - بحمولتِهِ الإنسانيّة المعروفةِ من الرغبةِ في تبيُّنِ الصدقِ من الكذِبِ – حاضرٌ بقوّةٍ في هذا النّصّ الذي يلتصقُ فيه البطلُ بشاشةِ عرضِ العالَمِ، لكنّه محرومٌ من نعمةِ فهمِ الكذبِ، حتى ينتهيَ به المطافُ مضطربًا تمامًا قبلَ موتِه، وهي ما يُحيلُنا إلى الحمولةِ الإنسانيةِ الأكثر تطرُّفًا لفعلِ التحديقِ في العيون، وأعني الجُنون .. ربّما يكونُ الصدقُ المطلَقُ طريقًا ممهَّدًا إلى الجنون!
     أمّا في قصصٍ مثل (ثبات نسبيّ) و(الّذي سافرَ وعادَ) فكسرُ الإيهامِ هُنا على أشُدِّه .. ففي الأولى يقطعُ الكاتبُ تيارَ الحكيِ ليتحدثَ إلى القرّاءِ ويحكيَ عن حوارٍ لهُ مع ناشِرِه ويعودَ إلى حكايتِهِ مشيرًا إلى بطلِها بلفظ (البطلِ الافتراضِيّ) وهو ما يقوّضُ الإيهامَ القصصيَّ تمامًا .. وفي الثانيةِ يُراوِحُ بينَ كلامِ البطلِ عن رحلتِهِ إلى أمريكا وكلام ما يبدو أنّه جهازُ أمنِ الدولة، وأخيرًا يُشيرُ إلى ما حُكِيَ باعتبارِهِ قصةً قصيرةً نُشِرَت في عددٍ من الصحفِ والمجلاّت .. هنا تبدو ضراوةُ الحرصِ على كسرِ الإيهامِ مظهرًا آخَرَ من مظاهِرِ الرغبةِ في الصدقِ والدهشةِ من استمرارِ القصِّ وتلقّي القَصَص .. الكاتبُ ببساطةٍ يُحَدِّقُ في عيونِ قُرّائِهِ حتى تنفصِمَ نفسُهُ الكاتبةُ بينَ حكايةٍ وقطعِها والتعليقِ عليها والسخريةِ منها في دائرةٍ لا تنتهي، وهو ما يُفضي بفعلِ التحديقِ هذا إلى طرَفِهِ الأقصى المذكورِ آنِفًا: الجُنون .. 
     لا يفوتُنا أن نشيرَ في النهايةِ إلى هذا الكمّ الفادحِ من الأخطاء اللُّغَوِيّة الواردةِ في المجموعة. فخبرُ (أنّ) المرفوعُ وجوبًا نُصِبَ في قولِهِ "لم يتخيل أبدًا أنهما نقيضَين" في صفحة 28، والمُضافُ في التعبيرِ الشهيرِ (بادئَ ذِي بَدءٍ) ينفصلُ تمامًا عن المضافِ إليه في قوله "بادئًا ذِي بدء" في صفحة 58، والبدلُ المرفوعُ كالمُبدَلِ منهُ نُصِبَ أو جُرَّ في قولِه "روى ابنُ عليٍّ البقّالُ وأحمد ومحمد صاحِبَيه" في صفحة 65، والفاعلُ منصوبٌ في قولِه "لم يعهد عليهِ الكذِبَ أحدًا" في صفحة 66 .. وهكذا! وهو ما يُثيرُ ريبةً مبرَّرةً بشأنِ وجودِ المُراجِع اللُّغَوِيِّ في عملية إخراجِ هذا الكتابِ إلى النُّور!

محمد سالم عبادة

2 مارس 2015

No comments:

Post a Comment